نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

عالم السياسة والاقتصاد والقانون

هذه المدونة تعبر عن الكثير من الأبحاث التي قدمتها

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 مايو 2010

الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث ج2

العوامل المؤثرة على الوحدة الوطنية
أولاً: العوامل الإيجابية المؤثرة على الوحدة الوطنية:
ثمة عوامل إيجابية عديدة تساهم في تقوية الوحدة الوطنية في الدولة، وتساعد على بروزها، وإن عدم وجود إحدى هذه العوامل أو مجموعة منها أو جميعها، سيزيد من ضعف الوحدة الوطنية في الدولة، وأهم هذه العوامل هي:
1- دور النظام السياسي في تحقيق الوحدة الوطنية من خلال عدة وسائل أهمها( ):
- الأدوات العسكرية من خلال الجيش الذي يسهم في تحقيق التكامل بين أفراد الشعب الواحد.
- الأدوات الثقافية من خلال إيجاد نظام واحد للقيم ، فعلى سبيل المثال اتبعت نيجيريا التي تتألف من أكثر من 50 ألف مجموعة سكانية (عرقية ، دينية ، عشائرية ، إقليمية ...... الخ) أسلوب ، الاهتمام بالمتاحف التراثية لنيجيريا، فرغم أن بعض المتاحف لا يمثل سوى ا 0/0 من السكان ، إلا أنه يساهم في إحساس الفرد النيجيري أنه ذو تاريخ موحد وعريق ، مما يساهم إيجابا في تحقيق الوحدة الوطنية في الدولة( ) .
- الأدوات الاقتصادية: من خلال المساواة بين أفراد الشعب وخلق حالة من الرضى بغض النظر عن الأصول السلالية.
- الأدوات السياسية والإدارية: من خلال خلق قنوات الاتصال الحكومية والسياسية الفعالة والقادرة على إقامة الصلة بين المواطنين والدولة، وضمان تمثيل الأقليات القومية الإثنية المختلفة في هذه المؤسسات.
كما أن قيام القائد السياسي بإقامة مؤسسات مركزية قوية، ومحافظة على الوحدة الوطنية، ومساهمته في تطوير المجتمع، وأنظمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وترفعه فوق الاعتبارات الطائفية ، والعشائرية ، والإقليمية ، والعرقية ، والمصلحية، سيكون له، دور في إيمان الشعب به والتفافه حوله، مما يساهم في زيادة قوة الوحدة الوطنية، إضافة إلى أن فعالية الجهاز الإداري في السلطة التنفيذية للدولة، له دور في تنفيذ مخططات الدولة وقراراها، فدوره في التنفيذ سيؤدي إلى تقوية فكرة الوحدة الوطنية، كما أن له دور في تجميع فئات الشعب بغرسه لمشاعر الولاء للوطن والانتماء إليه من خلال تحقيقه للعدل بين الجميع( ).
كما يقع على الدولة عاتق أن تسعى لإنهاء الولاءات العصبوية من خلال تبني علاقات سياسية واجتماعية أعلى من البناء العصبوي وهذا يتحقق من خلال( ) :
• فك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوية في المجتمع.
• تفكيك بنى العصبيات.
• إعادة الشعور بالاطمئنان والثقة وبالتوازن إلى الجميع على نحو ينتهي معه الخوف من الآخر ويتولد فيه الشعور بأن الدولة هي دولة الجميع، والوطن كيان مشترك للجميع، وبذلك تتولد كل أسباب الحماسة للمشاركة الإيجابية والفعالة في تطوير الحياة الوطنية على قاعدة الشعور بالاندماج الاجتماعي، فتتحول المنافسة السياسية بدلاً من حرب أهلية إلى مباراة سياسية نظيفة، يحكمها القانون الذي يرضى الجميع، بكل قواعده والتي يوافق ويجمع عليها بشكل طوعي حر، ويتحقق ذلك من خلال تصحيح قواعد السلطة في الدولة، واعتماد الحداثة السياسة (التنمية السياسية)، واتخاذ موقع الحياد الكامل مع جميع الفئات، وعلى هذا الأساس تستطيع أن تمارس دوراً توحيدياً وتمنع الأحزاب من استغلال العصبيات في العمل السياسي من خلال الدستور والقانون والأمن وأن تجرم من يقدم على ذلك.


2- التمازح العنصري بين أفراد الشعب:
ويكون ذلك من خلال التزاوج والتداخل بين أفراد الشعب بكل مكوناته العرقية والدينية المختلفة ، ورغم أن هذه العملية قد تطول لتؤتي ثمارها إلا أنها يجب أن تتم من خلال التوافق والتراضي( )، وأن يسبقها عملية استيعاب لهذه الأقليات العرقية، بهدف الوصول تدريجياً إلى امتصاص وهضم هذه العناصر الحضارية والثقافية وتياراتها الاجتماعية المغايرة للأغلبية أو للعناصر الأصلية، في بوتقة واحدة، مثل الولايات المتحدة، واستراليا، ونيوزلندا، الذين استطاعوا صهر جميع العناصر الوافدة في بوتقة واحدة.
3- التوافق الديني والطائفي والعرقي بين أفراد الشعب: إن الانتماء لطائفة أو لدين معين يولد نوعاً من الشعور بالوحدة بين الأفراد الذين ينتمون إليه، ويثير في نفوسهم بعض العواطف والنزاعات الخاصة التي يكون لها تأثير كبير على أفكارهم وأعمالهم، فالدين كان له الدور الأكبر في وحدة المسلمين في المعارك الكبرى ، وله الدور الأكبر في تحقيق إمبراطوريتهم الشاسعة( ) .
أيضاً انتماء أفراد الشعب لعرق واحد يساهم في شعور الأفراد بالوحدة فيما بينهم، بسبب سماتهم البيولوجية أو اللغوية أو الدينية أو العادات ؛ فيشعر الجميع أنهم ينتمون إلى هوية مشتركة مختلفة عن الآخرين( ) ، وهذا ينمي روح الوطنية عندهم، فانتماء الدويلات الألمانية قبل الوحدة الألمانية لعرق واحد هو العرق الآري قد ساهم في وحدة ألمانيا.
4- دور التعليم والثقافة والتربية في تحقيق الوحدة الوطنية:
للتعليم والتربية دور في تحقيق الوحدة الوطنية من خلال التعريف بتاريخ البلاد والأمم، ودراسة النظام السياسي، والشعوب والدول، وتعريف الأفراد بحقوق وطنهم وحقوقهم، وهذا سيحدث نوعاً من الوعي لدى أفراد الشعب، بأنهم ينتمون لدولة واحدة، تتخطى الجماعات الصغيرة، كالعائلة أو القبيلة أو القرية، ووسيلة ذلك هي المدرسة التي تساعد على إحساس مشترك بالوحدة الوطنية، وأن يحل الولاء للدولة محل الولاء للقومية. فالمدرسة تغرس في نفوس طلابها روح الحوار والمناقشة في كل ما كون عليه خلاف في الرأي، وهذا سيعودهم على المناقشة لأمورهم الهامة، وسيطور الإحساس بالتسامح إزاء الآخرين المخالفين لهم، خاصة إذا عملت المدرسة على إسقاط كل ما من شأنه أن يزيد الحساسيات بين فئات المجتمع، في مناهجها المدرسية، حتى وإن كانت تلك الأحداث صحيحة( )، وحقيقة تاريخية، لأن القلوب لا تتفق إلا إذا اعتادت الوئام منذ الصغر.
كما أن الثقافة الواحدة بما تشمله من أدب وعلم وتربية ؛ تعبر عن الجانب المادي والروحي في المجتمع، على اعتبار أن الحياة الاقتصادية، والاجتماعية للأفراد تتأثر بمعتقداتهم الجماعية وأسلوبهم ووسيلتهم في تنظيم سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وفنونهم، كما يكون تناقل الثقافة من جيل لآخر ، وتأثر الأجيال بها من خلال اكتساب الفرد للخصائص الثقافية لجماعة أخرى، بالاتصال والتفاعل، وهذا سيجعلها مصدر قوة دافعة لإحداث التماسك والترابط داخل الجماعة، وقياداتها الذين يتصرفون وفق ثقافتهم الخاصة، كما تؤثر الثقافة في سلوك الفرد وقيمة السياسية( )، ولها دور في تحقيق التناسق والانسجام في أداء مختلف المؤسسات والتنظيمات المشرفة على النظام السياسي، وعلى استراتيجيته في تحقيق الوحدة الوطنية.
5- دور اللغة والأعراف والعادات والتقاليد في تحقيق الوحدة الوطنية:
للغة دور مهم لتحقيق الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب، لأنها تقاربهم في الفكر وتجعلهم يتماثلون ويتعاطفون أكثر من سواهم ممن يتكلم لغات أخرى وتصبح هذه اللغة سمة مميزة لهم من خلال جعلهم متماثلي التفكير والشعور بالانتماء داخل جماعة واحدة؛ لأن اللغة هي واسطة التفاهم ووسيلة التفكير ونقل الأفكار والمكتسبات من السلف إلى الخلف، وهي العامل الأول في تنمية وتقوية الروابط العاطفية والفكرية بين الفرد والجماعة، فهي تزيد مجالات النشاط الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وبذلك تساهم في فعالية الوحدة الوطنية( ).
كما أن توافق عادات أفراد المجتمع سيحدث التجانس في تصرفاتهم ويقوي الروابط بينهم، إضافة إلى أن الأعراف التي يشترك فيها أبناء الشعب، من أفكار وآراء ومعتقدات نشأت عبر تاريخهم المشترك، وهذا سينعكس على أعمالهم وسلوكهم ، ويخضع الأفراد لها في فكرهم وعقائدهم، فهي تمثل دستور لهم له قوة التوحيد عندهم، لكنه دستور غير مكتوب، إلا أنه يساهم في تمسكهم به، وبالتالي سيساعد على تحقيق الوحدة الوطنية في المجتمع، أيضاً التقاليد بما تمثله من مجموعة من قواعد السلوك الخاصة، عندما يشترك فيها أفراد المجتمع، فإنها تساعد على حل الصراعات والنزاعات فيه، وهذا يؤدي على زيادة قوة الوحدة الوطنية أيضاً ( ).
6- دور التاريخ المشترك والأقاليم المشترك، في تحقيق الوحدة الوطنية:
يستمد أفراد الشعب من خلال التاريخ، ذكرياتهم وأحاسيسهم من ذكرياته وأحداثه فالذكريات التاريخية، واستعادتها تساعد على تقريب النفوس، وتوحيد الصفوف لمواجهة المصير المشترك في المستقبل، ولاسيما في مقاومة العدوان على أرض الوطن، ذلك العدوان الموجه ضد الشعب بكل مقدساته القومية التي تربط بين الشعب وأجداده، وهذا ما فعله كل من بسمارك وغاليباردي، عندما وحدا ألمانيا وإيطاليا( ).
كما أن وجود الشعب في إقليم واحد وعدم اتساع رقعة البلاد، وقصر المسافة بين الأقاليم التابعة للعاصمة التي فيها السلطة المركزية، يحول دون انفصال أجزاء الدولة، ويمنع أفراد الأقاليم من التفكير في الانفصال( )، كما أن هذا القرب سيؤدي لبروز جماعة من الشعب الواحد التي تتماثل في العادات والطباع بين المواطنين؛ بسبب عدم وجود عوائق وفواصل طبيعية، وسيزيد من الاتصال والاندماج والمصالح المشتركة.
7- دور وسائل الاتصال الجماهيري في تحقيق الوحدة الوطنية:
إن وسائل الاتصال الجماهيري من تلفزيون وراديو وصحف وسينما ومسرح، لها دور كبير في تخفيف حدة الصراعات والتناقضات الداخلية، ولها دور كبير في تقوية الشعور بالولاء والانتماء للدولة ككل، فهي تعمل على إقناع فئات الدولة المتمايزة، بأن الوطن فوق الاعتبارات العرقية والطائفية، ولا يوجد أي تعارض فيه ضد مصالحها، وتبرز كل ما هو مشترك بينها من لغة وتاريخ، وإقليم ومصالح، مما يزيد الثقة داخل المجتمع، وينهي روح التعاون بينهم، ويكون ذلك من خلال النخبة المثقفة داخل المجتمع( ).
كما أن هذا الجهاز له دور كبير في تزويد الشعب بآراء القيادات السياسية في الدولة، وتعظيم تصرفاتها إلى حد قبول الشعب بها، وهذا يجعلهم يقبلون بتلك القرارات، كما يبين حدود الاختلاف بين الشؤون العامة والشؤون الخاصة، ويزود القيادة السياسية، برغبات وتطلعات أفراد الشعب، إزاء العمليات السياسية( )، وعلى هذا الأساس فله دور كبير في تضييق الهوة بين النخبة والجماهير، وله دوره في التنشية السياسية والتأثير على اتجاهات ومشاعر الشعب، وتنمية إدراكهم لدولتهم، وزيادة محبتهم بوطنهم، ومواجهة الدعاية الخارجية الضارة بالوطن.
8- دور المصالح الاقتصادية والأيديولوجية والسياسية بين أفراد الشعب في تحقيق الوحدة الوطنية:
إن وجود المصالح الاقتصادية المشتركة بين أفراد الشعب سيعزز ترابطهم ويزيد من قوة وحدتهم الوطنية، كما أن وجود تنمية اقتصادية في الدولة سيسهم في تمسك الأفراد نظامهم السياسي ، فاتفاقية (الزلفرين) بين الدويلات الألمانية هي التي وحدت الاتحادات الجمركية بينهم، وهذا ما ساهم في الوحدة الألمانية عام 1870( ) ، وبالعكس من ذلك فضعف التنمية الاقتصادية ، والعلاقات الاقتصادية بين الجورجيين و الأبخاز ضمن الدولة الجورجية بعد استقلالها عن الاتحاد السوفياتي ؛ جعل الأبخاز يطالبون بالانفصال عن جسم الدولة ، وتكوين دولة خاصة بهم( ) .
أيضاً ارتباط أفراد الشعب بأيديولوجية واحدة، أو بأيديولوجيات متقاربة؛ بحيث تحقق تلك الأيديولوجيات المصالح بين أعضائها، وتؤدي لسياسات مشتركة أو تهتم بقضايا مشتركة، تهم الوطن وتساعد على تنميتة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، سيساهم ذلك في تحقيق الوحدة الوطنية( ).
ثانياً : العوامل السلبية المؤثرة على الوحدة الوطنية :
1- عدم التوافق الديني والطائفي و الإثنى والعشائري بين أفراد الشعب:
إن وجود عدة أديان في الدولة، واستغلال السلطة السياسية للدين ؛ بغرض اللعب به كأداة في يدها، سيؤدي إلى صراعات دينية داخل الدولة، كما تؤدي الطائفية بما تعنيه من عزله دينيه لأفراد المجتمع، للقيام بتفكيك المجتمعات ؛ بسبب تكتل كل طائفة على نفسها، وهذا التكتل سيؤدي إلى اختلاف ثقافي وفوارق اجتماعية، وسيحدث صراعاً طائفياً في المجتمع( )، بسبب العزلة التي تفرضها الطائفية على أفرادها، وجعلها إياهم يتعصبون، بما تحدثه من تأثير على عاطفة الفرد وتحركاته، وبما تنتجه من خوف وشك من الآخرين ؛ بسبب شعورهم بخطر الآخرين من أبناء الشعب المخالفين لهم بالعقيدة، فلا تخلو طائفة من وجود بعض الأشخاص ضعاف النفوس والوطنية، ممن يعملون لخلق حالة الخلل داخل المجتمع، ثم يأتي آخرون ويربطون الاختلاف الطائفي باختلاف الرأي والصراع في الحياة العامة، فكان من نتائج ذلك أن دعت بعض القوى الحزبية في الدولة إلى تبني العلمانية للحفاظ على وحدة المجتمع.
كما أن النزعة الفردية لدى البدو تؤثر سلباً في سلوكهم الاجتماعي، حيث تحدث التنافس على الحكم والديكتاتورية في الحكم، فقلَّ على البدوي أن يسلِّم الواحد منهم الحكم لغيره، ويميل البدوي إلى الحرب، ويعتبر قبلية هي مجتمعه المنفصل عن باقي المجتمع( ).
كما أن وجود عدة قوميات إثنية في المجتمع سيقود الفرد إلى ولاء مزدوج فولاءه الأولي سيكون لصالح مجموعته الصغيرة، أما الآخر فنحو الوطن أو الأمة، وهذا يعيق الولاء للوطن، وينفي وجود رأي عام موحد تجاه المشاكل العامة، كما أن ذلك يؤدي إلى ابتعاد أبناء الوطن عن التعاضد و التناصر ، و إرساء المصلحة المشتركة( )، وهذا يؤدي إلى إعاقة التجانس والانصهار ين أبناء الشعب ، ومن الممكن أن يؤدي إلى دعوات انفصالية في الدولة الواحدة ، وقد يقود إلى حرب أهلية مدمرة بين أبناء الوطن الواحد ، وعلى ذلك يقول لاسكي: " دولة مكونة من عدة قوميات ليست سوى وحش مولد ليس هناك تبرير لوجوده"( ) ، وأكبر مثال على ذلك ما حدث في أفغانستان التي تتكون من عدة قوميات ، ومذاهب دينية ، إضافة إلى عشائر مختلفة ،وعلى هذا الأساس اتجه ولاء الفرد فيها أولاً لعشيرته ، ومن ثم لطائفته وقوميته ، وتسبب في حدوث حرب أهلية مدمرة فيه؛ مما سهل التدخل الخارجي وغزوها من قبل السوفييت أولاً ، وبعد انتهاء الحرب الباردة ، سيطرت فئات دينية متطرفة –طلبان- على الحكم بعد حرب أهلية جديدة دارت رحاها بين منظمة طالبان ، وقوات أحد الزعماء الأفغان وهو برهان الدين رباني ، لكن هذا النظام لم يستطع تحقيق الوحدة الوطنية في البلاد فكان من أسبابه تحالف فئات من المجموعات العرقية و القومية و العشائرية المعارضة لطلبان مع الولايات المتحدة وحلفائها ، و استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2000 ؛ لإسقاط نظام طالبان ، و إقامة نظام آخر تؤيده الولايات المتحدة في ظل نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة نفسها( ) .
2- عدم وجود شرعية للنظام السياسي:
وذلك إذا فقد النظام أحد عناصر الشخصية، التي حددها كارل دويتش ب ( ):
- اعتراف الأحزاب والجماعات السياسية كلها بالقوانين.
- تكون القوانين واضحة، ليس بها غموض، ومتناسقة ليس بها تناقض.
- يدرك الجميع أن القوانين ليس بها تميز لفئة ما.
- تتوفر الثقة لدى كل فرد بأن الجميع سوف يخضعون ويتمسكون بالقوانين.
- يكون من السهل معرفة هؤلاء الذين يخرجون على القوانين.
- يكون التمسك بالقانون مقبولاً من وجهة النظر الاجتماعيـة.
- يصبح التمسك بالقانون قيمة أو تقليداً يحمده ويكافئه الجميع.
- تعترف القيادة السياسية بنيَّتها تطبيق القوانين.

وعدم تحقق هذه العناصر، سينقص من شرعية النظام السياسي، وسيضعف الوحدة الوطنية في المجتمع، ويتيح المجال أمام الثورات الاجتماعية، التي تؤدي إلى تصديع المجتمع، لأن أعداء الوطن سيحاولون التسلل من خلال هذه الثورات لإثارة الفرقة والشكوك، وتأليب فئات الشعب ضد بعضها البعض( )؛ حيث أن نظرية العمل الثوري هي أخطر ما يواجه الثورات الاجتماعية، وأخطر ما يهدر الوحدة الوطنية، فإذا كان أبناء الوطن يتفقون في وقت من الأوقات على فساد النظام الاجتماعي القائم وعلى ضرورة التخلص منه ، فإن أشق الأشياء على النفس أن تحدد على وجه اليقين، الصورة المتكاملة للمجتمع الجديد، والذي يجب أن يحل محل المجتمع المنهار لرفع المظالم، وتوزيع أفضل لقيم المجتمع، وإرساء دعائم العدل في المعاملات العامة والخاصة، ولكن يجب أن يكون ذلك على أسس علمية ، وعملية لتنفيذ هذه الإجراءات عملياً، ومن خلال جعل المواطنين تحت فكر واحد محدد المعالم( ).
ومن السمات التي تظهر عدم وجود وحدة وطنية بسبب النظام السياسي( ) :
1- وجود الاغتيالات السياسية ضد رجال الدولة.
2- الإضرابات العامة التي تقوم بها مختلف القطاعات، ووجود حرب عصابات.
3- وجود أزمة حكومية داخل البناء السياسي.
4- وجود عمليات التطهير داخل أجهزة الدولة.
5- وجود أعمال شغب داخل الدولة.
6- وجود مظاهرات معادية للحكومة.
7- وجود حرب أهلية من خلال العنف المحلي وعمليات القتل.
8- وجود اغتيالات وثورات داخل الدولة.
3- أثر الحرب النفسية، والتدخلات والحروب الخارجية على الوحدة الوطنية:
الحرب النفسية هي الحرب التي تعتمد على نقل أفكار ومعلومات معينة إلى العدو، من شأنها أن تضعف روحه المعنوية، وتهبط إصراره على مواصلة القتال، وتجعله يعتقد أن من الأفضل أن ينهي الحرب على أية صورة، وتقوم نظريتها على أن الإنسان هو محور المعركة والقتال، وأن الأسلحة والمعدات العسكرية هي وسائل المعاونة على التفوق أو النصر فلا قيمة للتفوق المادي مهما كانت أشكاله ودرجاته، إذا لم يصاحبه تفوق معنوي للفرد المحارب وغير المحارب، وأهدافها هي( ):
1- التأثير على الكفاءة القتالية للعدو بإشعال أوجه الضعف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية الموجودة لديه، وبث اليأس من النصر في نفوس القوات المحاربة.
2- التأثير على الآراء والانفعالات والاتجاهات والسلوك بالنسبة للعدو وبما يساعد على الهزيمة في المستقبل.
3- التحكم في معتقدات وأفعال العدو باستخدام وسائل الاتصال المختلفة، لكي تحرض على التمارض والهروب والفتنة والاستسلام، وفقدان الثقة بالقيادة والأسلحة ، وإثارة الشك حول أحقية أهداف حرب العدو، وزعزعة الإيمان في النصر، وخلق فجوة بين القيادة والشعب، وتشجيع الحركات المقاومة داخل مناطق العدو، وخلق فجوة بين نظام الدولة، والأنظمة الصديقة له، مما يحول دون مساعدتهم.
وتمارس الحرب النفسية ضد جميع أفراد الشعب مدينين وعسكريين، وفي جميع الأوقات سواء كان ذلك في السلم أم في الحرب ، ولكنها تصبح أكثر خطورة قبيل الحرب وأثنائها، من خلال وسائلها العديدة مثل الدعاية والإشاعة، والحرب الاقتصادية والقتال الفعلي.
وقد زاد دور الحرب النفسية ؛ بسبب ما طرأ من تغيرات على المعدات والأسلحة والفنون القتالية، بما يؤثر على سلوك ونفسية المقاتل في الظروف القتالية، حيث أكد الكثير من علماء النفس الحربين تأثير هذه الحرب على نفسية المقاتل وجعله عاجزاً عندما يتعرض لصدمة العدو بسبب الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات، حيث يفقد الجنود تحت تأثير الفزع القدرة على التفكير والتصرف الذاتي، فيتجاهلون، أوامر القيادة ولا ينفذونها، كما تؤثر على شعب الوطن بدعايتها، بما يحدث القلق والاضطراب، وإضعاف التماسك الداخلي وتحطيم الروح المعنوية( ).
كما مارس الاستعمار الذي سيطر على بعض الدول سياسة " فرق تسد " ؛ من أجل تحقيق مصالحه وأهدافه فيها، فعلى سبيل المثال: مارست الإدارة الاستعمارية الفرنسية سياسية المحاباة لصالح أبناء الأقليات الزنجية الموريتانية على حساب الأغلبية العربية، إذ فتحوا لهم أبواب التعليم في المدارس الفرنسية التي أهلتهم لتسلم المناصب الإدارية والخدمية العامة، حتى حصلوا على نسبة من الوظائف أكثر من نسبتهم العددية في عموم موريتانيا( )، أيضاً قضية الأقليات في الوطن العربي، جرى ويجري استغلالها من أجل المصالح الغربية في المنطقة العربية، فتعمل هذه الدول على قاعدة التلاعب بحق الأقليات في تقرير مصيرها وتوظيف ذلك في سياستها الخارجية من خلال دعوتها للانفصال عن هوية المنطقة، وإعادة تشكيل هواياتها الخاصة، بدعوى أن هناك ثمة تمايز تاريخي بين شعوب المنطقة، وضرورة تدخل الدول الغربية من أجل حقوق الأقليات وأن هذه التدخلات هي تدخلات إنسانية مشروعة( ):
كما أن بسط النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الأجنبي في الدولة من خلال الضغط الاقتصادي، أو خلق الحروب والفتن المحلية، أو القتال والحروب العسكرية، أو من خلال المعاهدات غير المتكافئة، من أجل تطويع الإدارات وهذا يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الدولة الضعيفة، التي عليها النفوذ، وتضطر إلى القبول بالشروط التي تفرضها الدول التي تريد فرض نفوذها، مثل معاهدات بريطانيا مع أمراء وشيوخ دول الخليج( ) ، أو ما تمارسه الدول الغربية ضد المصالح الاقتصادية في دول جنوب شرق أسيا مثل مانيمار (بورما ) ، التي لم تستطع تحقيق استقلالها الاقتصادي عن الغرب بالرغم من نجاحها في تحقيق الاستقلال الوطني وهذا ما أثر سلباً على وحدتها الوطنية( ) .
كما أن وجود احتلال للدولة من قبل دولة أخرى، يحارب وجود أي وحدة وطنية فيها من خلال خلقه لطبقات موالية له، إقامة إدارة ـ في الدولة المحتلة ـ يمنحها السلطات والقدرات التي تكفل له السيطرة الكاملة على الدولة، واستتباب كل نواحي الحياة فيه، وعلى هذا الأساس يلجأ المستعمر إلى عدة وسائل للقضاء على الوحدة الوطنية منها( ):
- تقسيم البلاد إلى أقاليم متمايزة اعتماداً على النزعة الإقليمية أو الطائفية أو العرقية (كما فعلت فرنسا عند احتلالها لسورية عام 1920).
- التفرقة بين أبناء الوطن الواحد عرقياً أو طائفياً، كما فعلت بريطانيا عندما احتلت العراق فلعبت بورقة كردي عربي، وورقة سني شيعي.
- تشويه صورة الأمة في الدولة المستعمرة، بادعائه أنه جاء لتمدينها، ونشر الحضارة فيها.
ويلجأ مع أعوانه من أنظمة حاكمة ، أو من خلال قواعده إلى العنف من أجل نشر حالة الخوف والقلق واليأس والتمزق الداخلي، ويشجع الحروب الداخلية التي تكون من خلال الصدام المسلح بين فئات الشعب المختلفة، مما يؤدي إلا تفكك الروابط الاجتماعية، وانهيار العلاقات الشخصية( )، وبذلك يسهم في هدم الوحدة الوطنية وإنهاءها.
4- الصراع الحزبي والطبقي: والتباعد الإقليمي بين أفراد الدولة :
إن أخلاق الارتزاق السياسي والرغبة السلطوية الجامحة لدى كثير من الأحزاب السياسية، كانت السبب في الزج بالعصبيات في العمل السياسي، مما نتج عنه خروج السياسة عن قواعدها الطبيعية، للتحول إلى حرب إفناء، وإلغاء واستنزاف متبادل، وتشتيت لجهود أفراد المجتمع، وإحداث التفرقة فيما بينهم( ).
كما أن وجود طبقات في المجتمع يساهم في إذكاء حالة التوتر بين أبناء المجتمع الواحد، خاصة عندما يشتد الصراع الطبقي نتيجة وجود ظلم اجتماعي، داخل الدولة، وقد يشتد مخاض الثورة الاجتماعية ؛ بسبب هذا الصراع، ويؤدي فيما بعد إلى ولادة الثورات الاجتماعية والانقلابات والتوترات داخل الدول ؛ مما يضعف الوحدة الوطنية ، وهذا ما أكده وزير الاقتصاد الكندي فرانك ميلر ، من أن من أساسيات الوحدة الوطنية في كندا كان وجود المساواة الاقتصادية فيها ، إضافة لما حققه النظام السياسي عبر مسيرته الطويلة من إنجازات اقتصادية ساهمت في رفع الدخل الفردي و القومي( ) .
أيضاً العزل الجغرافي أو البعد الجغرافي عن العاصمة ووجود وصعوبة في الاتصال بين منطقة ما، والعاصمة قد يساهم في انفصال أجزاء المجتمع الواحد عن بعضه البعض، مما يسهم في إضعاف الوحدة الوطنية، خاصة عندما تدرك جماعات تلك المناطق أنها بعيدة عن السلطة المركزية، فتتشجع على الانفصال( ) ، لذلك رأت الكثير من الدول أنه من سبل الحفاظ على الوحدة الوطنية تأمين المواصلات بين الأقاليم ، بحيث يصح الانفصال شيئاً من المستحيل ، كما أن زيادة المواصلات بين الأقاليم يساهم في رفع كفاءة الإنتاج الاقتصادي في الدولة وينشط اقتصادها( ) .
نخلص من هذا المبحث أن مفهوم الوحدة الوطنية قد اختلف بين الباحثين الاجتماعيين والسياسيين، لكن هذا الاختلاف لا يعود إلى أنه مفهوماً غير محدد، بل على العكس من ذلك، فقد اتفق جميع الباحثين على جوهره، وأهدافه، فبيَّنوا أنه كل ما في شأنه أن يجمع الشعب ويلغي الحواجز بين فئاته المختلفة، وبين طبقاته، وبين نخبته ، لكن صياغة المفهوم وفق إيديولوجية كل واحد منهم وتصوراته وبيئته وثقافته أعطته تعريفات عديدة ، كما بيَّن هذا المبحث محددات الوحدة الوطنية التي اعتمدتها الدراسة حيث أوضحت أن هناك أربعة محددات لمفهوم الوحدة الوطنية، ومدى أهمية كل محدد على ذلك المفهوم، ومدى تأثير عدم وجود كل عنصر من عناصر تلك المحدد على المحدد بشكل عام، وعلى المفهوم بشكل أكبر، وبيَّن هذا المبحث أيضاً العوامل السلبية والإيجابية التي تؤثر على مفهوم الوحدة الوطنية في الدولة، حيث أوضح المبحث أنه هناك ثمة عوامل سلبية تضعف من الوحدة الوطنية في الدولة، وكلما زادت هذه العناصر كلما تردت الوحدة الوطنية نحو نهايتها، كما أنه ثمة عوامل إيجابية تقوى من الوحدة الوطنية في الدولة، وكلما زادت هذه العناصر كلما





المبحث الثاني
مفهوم الحزبية والنظام الحزبي (الأحادي، الثنائي، التعددي)
لا تخلو أي دولة من دول العالم من وجود تنظيم أو عدة تنظيمات سياسية يطلق عليها اسم حزب، وحتى لو لم يطلق عليها هذا الاسم، لكنها بالضرورة، لها تنظيمات سياسية تكون بمثابة حزب سياسي، فعلي سبيل المثال، اللجان الثورية في ليبيا هي بمثابة حزب سياسي، رغم أن ليبيا نظرياً لا أحزاب فيها، أيضاً مصر في عهد الرئيس عبد الناصر ـ لم يكن فيها أحزاب لكن كان فيها تنظيم سياسي، يمثل حزباً وحيداً في الدولة وهو الاتحاد الاشتراكي، كما أن هناك دولاً اتبعت نظام الحزب الواحد، كالدول الشيوعية، وأخرى اتَّبعت النظام الحزبي الثنائي، كبريطانيا والولايات المتحدة، وأخرى نظام التعددية الحزبية، كإيطاليا وفرنسا، وغيرها.
فما هو الفرق بين هذه الأنظمة ؟ وما هي الأسباب التي دعت بعض الدول إلى انتهاج إحدى هذه النماذج وعدم انتهاج أخر؟ وما هي الأسباب التي لم تدع الدول النامية للسير في خطى الدول المتقدمة في تبنيها للنماذج الحزبية في هذه المجتمعات بكل مواصفاتها وأفكارها ؟ وهل الحزبية عاملاً إيجابياً أم سلبياً ؟ هذا ما سنبينه هذا المبحث من خلال توضيحنا لمفهوم الحزبية، والنظام الحزبي سواء كان أحادياً أم ثنائياً أم تعدداً، وميزة كل نموذج، وسلبياته وإيجابياته، والأسباب التي تدفع بعض الدول لتبين نموذجاً حزبياً محدداً من هذه النماذج الحزبية.




المطلب الأول
مفهوم الحزبية والخدمات التي تؤديها ووسائلها

• مفهوم الحزبية :
تتميز الأنظمة السياسية بوجود حزب أو أحزاب تمثلها تكون بمثابة الواجهة لها، ويتعرف الباحث من خلالها على شكل النظام السياسي في تلك الدول، على اعتبارات النظام السياسي في تلك الدول يستند على حزب سياسي معين، قد يكون وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب، أو ثورة( )، أو عن طريق الانتخاب، ومن المعلوم أن الحزب الذي يصل إلى السلطة عن طريق انقلاب لا بد أنه سيسعى إلى عدم وجود حزب منافس له أو أحزاب منافسة له في السلطة، وعلى هذا الأساس تنشأ النظم ذات الحزب الواحد، لكن قد يسمح هذا الحزب بوجود أحزاب صغيرة تحت قيادته، وتشكل معه ما يسمى بالجبهة الوطنية كالحزب الشيوعي في الصين.
إلا أن الدول التي يكون الحزب فيها قد وصل إلى السلطة عن طريق الانتخاب فيطلق عليها اسم نظم التعددية الحزبية، لكنها قد تكون ثنائية حزبية، أو متعددة الأحزاب ؛ لأن الحزب الحاكم الذي وصل إلى السلطة في هذه الحالة، تكون له أحزاب منافسة توازيه بالقوة، وتستغل أخطاءه خلال فترة حكمة، وتنشر هذه الأخطاء للرأي العام، وفي الانتخابات البرلمانية بغية وصولها إلى السلطة، وعلى هذا الأساس تتكرر نفس هذه العمليات بالتناوب بين الأحزاب.
ورغم كل هذه الاختلاف في الأنظمة الحزبية وفي الأحزاب إلا أن للحزب مفاهيم أو تعريفات محددة اتفق معظم الباحثين عليها ؛ فالحزب بمفهومه العام هو : مجموعة من الأفراد تكون بناء سياسي، تهدف إلى تحقيق أهداف معينة، عن طريق السلطة السياسية، وذلك وفق العقيدة التي تحكم سلوكه، وبما يتضمنه من سلطة صنع القرارات، ويرتبط أفرادها مع بعضهم البعض بروابط ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو بها جميعاً، وعلى هذا الأساس تسعى جميع الأحزاب السياسية للدفاع عن المصالح المشتركة للمنتمين إليها، من خلال جذب القطاعات الواسعة من الشعب والرأي العام في الدولة( ).
ولكل حزب أيديولوجية ، أو عقيدة سياسية تحكمه، على اعتبار أنه قد بلور هذه الأيدولوجيا ويحاول تطبيقها عملياً، عند وصوله للسلطة، وتتمثل هذه الأيدولوجيا بمجموعة القيم والمعتقدات التي تبغي إلى تحقيق أهداف معينة من خلال مجموعة من الأدوات والوسائل الكفيلة بذلك( ).
ويشترط لنجاح الوظيفة السياسية للأيدولوجيا الشروط التالية( ).
1- أن تختار بوضوح وتكون متكاملة.
2- أن ترتبط بتنظيم حركي قادر على نشر الدعوة والمواجهة الحركية.
3- الاستقلال عن السلطة الحاكمة، ولو من حيث التأصيل الفكري والأبعاد الفلسفية.
وعلى هذا الأساس تحتاج الأيدولوجيا لحزب سياسي ينشر أفكارها ويزيد مريديها، ويتبنى نهجها، ويحاول الوصول من خلالها للسلطة، لتطبيقها على الواقع العملي، لكن يرى آخرون أن الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، وعوامل أخرى كالدين والقومية والطبقة والعرقية( الإثنية) هي التي تلعب الدور الفاعل في انتماء الفرد إلى عضوية الحزب.
كما أن السعي الدائم من قبل الحزب للاستيلاء على السلطة هو الذي يحقق الرابطة القوية بين أنصاره العاملين، وهو الذي يخلق الفرصة لقيام الصراع بين مختلف الأحزاب، لأن الحزب لا يتمكن من تحقيق أهدافه إلا عن طريق الاستيلاء على الحكم، أو الاشتراك مع غيره من الأحزاب أو عن طريق الحصول على قدرة من التأييد الشعبي الذي يسمح له بالضغط على السلطة الحاكمة( )، ومن خلال ذلك يستطيع تنفيذ برامجه، التي تتضمنها أيديولوجيته.
وتنشأ أيديولوجيا الحزب ؛ بسبب الصراع في المجتمع، وحيث تسعى لتغيير المجتمع ولتحل محل الأيدولوجيا القديمة، ولتحقيق ذلك، تحتاج إلى داع لها، يشعل الصراعات في المجتمع، ويحدث ذلك عندما يتبنى مجموعة من الأفكار في صورة كلية ويكون من خلالها مذهباً يقف في أحد الجوانب مما يجعل الآخر يستعد ويتسلح، وبالتالي يبدأ الصراع بين الفريقين( ).
كما أن الأيدولوجيا وهي في طور التكوين أو الانتشار إلى مجتمع جديد، قد يكون لها ما يعارضها من قيم ومبادئ سائدة، مما يخلق بعض الصراع الذي يتعمق على إثر تمسك الأفراد بقيمهم ومبادئهم ريثما يحدث تكييف تدريجي للمجتمع ؛ مما يساعد على التخفيف من حدة التوتر والصراع( )، لكن في حالة المساس بالقيم الدينية أو الأخلاقية أو السياسية؛ تزداد حدة الصراع، فعلى سبيل المثال وقفت الكنيسة بشكل عنيف في وجه الثورات الإقطاعية في أوروبا.
فالأيدولوجيا السياسية كانت المخرج التاريخي الذي انتهت إليه الصراعات داخل الدولة في أشكالها المتغيرة، وهي تعبير عن تجارب وذكريات الشعوب عبر الحقب الزمنية، فلها طابع مزدوج يعبر عن صراعات تاريخية وعن نتيجة هذه الصراعات، لكنها حينما تحتوي على عقائد وقيم مجموعة كبيرة من أفراد الشعب تصبح متنفساً لكفاحهم من أجل حريتهم وإثبات ذاتهم وقوميتهم، وهذا يسهم في تأثيرها على السلوك السياسي في الدولة، فتؤدي لحدوث تنمية سياسية للمؤمنين والمؤيدين لها، وبالتالي تحدث دعماً سياسياً عندهم، وهذا ما سيخفف من حدة التوترات داخل المجتمع( ).
إلا أن البعض يرى أن الأيدولوجيا وإن كانت جماهيرية، إلا أنها قد تكون سلبية على الشعب نفسه، فعلى سبيل المثال الأيديولوجية النازية هي التي صاغت العقلية السياسية التي انبثقت عنها الحروب الكبرى، بسبب تعارضها مع أيديولوجية جماهيرية أخرى هي الماركسية.
لكن تبقى الأحزاب وعقائدها في أي مجتمع هي صورة لذلك المجتمع، فالمجتمع المتخلف تبدو صورته في أحزابه المتخلفة الفاسدة، ولا يمكن إصلاح مفاسد الأحزاب القائمة إلا بإصلاح الأوضاع الاجتماعية القائمة التي تستند إليها الأحزاب في وجودها، وسوء الأحزاب ليس دواءه إلغاء الحياة الحزبية كما يرى البعض، بل في إعطاء المزيد من الحريات للقوى الشعبية، ومزيداً من التعليم والتحرر الاقتصادي والاجتماعي، والشعور بالمسؤولية ؛ لأن حرية التكتل في أحزاب سياسية أساس من أسس الحرية السياسية، ولا وجود لها من دونها، وكبت أو إلغاء تعدد الأحزاب لا يعني سوى وقف الحريات السياسية للشعب وللمواطنين، وحصر الحياة السياسية في الحاكم ومجموعته( ).
إلا أن العقائد بأنواعها لا تترسخ لدى الجماهير إلا بشرط أن تكتسب دائماً عبارة دينية تجعلها بعيدة عن المناقشة، لأن عقائد الجماهير بأفكار معينة تصبح ديناً لها، حتى ولو كانت العلمانية هي مبدأ الحزب فالإلحاد على سبيل المثال هو دين الشيوعيين، وأفكار الثورة الفرنسية هي دين الثوار الذين ثاروا فيها، وعندما يبدأ نقد عقيدة ما ومناقشتها، فإن زمن احتضارها وموتها يكون قد بدأ، ولا تستطيع أي عقيدة أن تستمر إلا إذا نجت من التفحص والنقد( ) .
وهناك نوعين من العوامل التي تحرك عقائد الجماهير :
1- عوامل بعيـدة: وهي تمهيد الأرضية لتبرعم وانبثاق الأفكار الجديدة.
2- عوامل مباشرة: وهي التي تتراكم بفعل العوامل البعيدة، ثم تتبلور ثم تبتهج الجماهير من خلال التمرد الشعبي أو الإضراب، وهي التي تدفع بشخص ما إلى سدة الحكم ، أو إلى إسقاط حكومة معينة( ).
كما أن من أهم سمات الفرد المنخرط في الجمهور ؛ والتي تعبر عن تأثره بأيديولوجية الحزب أو أيديولوجية الثورة التي يقودها الحزب( ):
1- تلاشي الشخصية الواعية.
2- هيمنة الشخصية اللاواعية.
3- الميل نحو تحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.
4- توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار.

وبناءاً على ذلك لا يعود الفرد هو ذاته، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده، وبالتالي من الممكن أن يقترف أعمالاً مخالفة لمصالحه الشخصية، فعلى سبيل المثال، أعضاء الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية كانوا برجوازيين هادئين مسالمين، لكنهم عندما اندمجوا مع الجماهير الهائجة أصبحوا هائجين متحمسين، ولم يترددوا تحت تأثر بعض المشاغبين في أن يرسلوا إلى المقصلة الأشخاص الأكثر براءة، وقد ساروا بذلك عكس مصالحهم الخاصة، وتخلوا عن حصانتهم البرلمانية وأبادوا أنفسهم بأنفسهم.
الخدمات التي تؤديها الأحزاب السياسية :
يقوم الحزب السياسي بجملة من الخدمات المهمة داخل الدولة وأهمها:
1- إن أيديولوجية الحزب لها دور كبير في إثارة الولاء والشعور بالانتماء لفئة أو جماعة معينة، وتزداد أهميتها عندما تكون تمثل الأمة بأكملها، فتجعل الأفراد يؤمنون بالوطن وبزعمائه وقياداته، وبالأساليب السياسية التي تسير على مقتضاها، وتبرز أهمية الوحدة الوطنية والاستقلال والنمو الاقتصادي، وتعطي الأفراد في المجتمع الانطباع بأنه أصبح لهم أهداف مشتركة، وأن عليهم العمل على تحقيقها بالطرق والوسائل العقلانية، وتحدد لهم أولويات هذه الأهداف، ودورها وآثارها الإيجابية على الوحدة الوطنية، كما تجعل الأفراد يدركون أن معالجتهم الحيوية والأساسية ترتبط بالدولة، وأن رفاهيتهم ترتبط بالانتماء إليها( ).
2- الأحزاب السياسية يمكنها المساهمة في تحقيق التكامل البنائي والأيديولوجي الأول، ولتصل إلى تحقيق أمرين هما: تقريب الهوة بين النخبة والجماهير، وبين الريف والمدينة، وقيام ولاء لمجموعة موحدة من القيم والمعتقدات، والرموز السياسية، وتكون ذلك من خلال خلق إطار تنظيمي يسمح للأفراد بالمشاركة، وغرس قيم احترام قواعد اللعبة السياسية، والعمل من خلالها، وفي إطارها، وعلى هذا الأساس يكون دور الحزب أنه حلقة وصل بين الحاكم والمحكوم، ويعمل على شرح سياسة الحكومة لأعضائه، بهدف كسب تأييدهم له، أو حثهم على معارضتهم لها، كما أنه يسهم في نقل رغبات ومطالب المواطنين إلى الحكومة، وأي قيد يوضع على حريات الشعب وحقوقه السياسية، كتحريم قيام الأحزاب السياسية المعارضة ، وفرض الرقابة على الصحف، وتقييد حرية الرأي والتعبير عن مطالبه ، يؤدي إلى وجود هوة بين النخبة والجماهير، وينتهي الأمر إلى إعاقة قيام الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب( ).
3- الحياة الحزبية هي أحدى ضمانات حرية الشعب السياسية، وهي سبيل تنافس وتطاحن في خدمة الشعب في مختلف أوجه الخدمة، فهي سبيل تجنيد الكفاءات السياسية لحمل المسؤولية على مختلف مستوياتها، وهي السبيل الوحيد لدفع المواطنين إلى الوعي وتحمل المسؤولية بما يثير فيهم من اهتمام متواصل بالشؤون العامة من خلال التنظيم الحزبي( ).
4- إن وجود أحزاب متنافسة يساعد الشعب على الاقتصاص من الحكام الفاسدين، ومكافئة الحكام الصالحين؛ لأن الحزب عندما يكون في سدة الحكم يكون له منافسين خارج السلطة ، يقومون بمراقبة نشاطات هذا الحزب الحاكم، وقياداته، التي هي نفسها قيادة الدولة، ومن خلال ذلك تكشف الأحزاب المنافسة للحزب الحاكم مدى فعاليته أو فساده، وبالتالي ستسهم في تقييم الحاكم وحزبه بما يمكََّن الشعب من محاسبته أو مكافئته.
5- يعمل الحزب السياسي كمنظمة تقوم بتقديم المعلومات الاقتصادية ، والاجتماعية لأفراد الشعب، ويراقب أعمال الحكومة.
وسائل الأحزاب في تحقيق أهدافها :
1- الوسائل السياسية :
وتشمل التمثيل النيابي في البرلمان، فلكل حزب عدداً من المقاعد التي يفوز فيها في الانتخابات البرلمانية، ومن خلال هذه المقاعد، يستطيع مناقشة القضايا الهامة بالنسبة له وللمجتمع الذي هو فيه، كما أن اشتراك الحزب في الأعمال الإدارية في الدولة كأن يشغل أحد أعضاء الحزب منصباً معيناً في الوزارة ، أو في إحدى إدارات الدولة ، سيمكنه من المساهمة في تحقيق أهدافه وأيديولوجيته، كما قد تلجأ الأحزاب السياسية في إثارة شعور الأفراد في المجتمع تجاه أهدافه وأيديولوجيته، كما قد تلجأ الأحزاب السياسية في إثارة شعور الأفراد في المجتمع تجاه أهداف وأيديولوجية الحزب، أو تجاه قضية ما، بغرض كسب التأييد الشعبي حتى تتمكن من نيل ثقة الشعب، وبذلك تندمج المصالح الخاصة بالمصالح العامة، واستراتيجيته في ذلك تكون من خلال تمسكه بالشعارات القومية والوطنية ؛ سعياً وراء تحقيق المصلحتين الخاصة والعامة للحزب السياسي.
2- وسائل ربط المصلحة الخاصة للأحزاب بالمصلحة العامة :
وذلك عن طريق التمسك بالشعارات القومية والوطنية ؛ بهدف ضمان التأييد الشعبي، حتى وإن كانت أهدافها الضمنية، هي أهداف هدامة، مثل بعض الأحزاب الطائفية أو العرقية، كما أن بعض الأحزاب تحاول التستر بالدين والقومية ؛ من أجل تحقيق التأييد الشعبي، ويستخدم بعضها الآخر العنف لتحقيق أهدافه، حيث يكون ذلك العنف إما ظاهرياً مثل الأحزاب الفاشية، أو مستقراً من خلال الضغط الاقتصادي والاجتماعي.
3- وسائل الاتصال :
وفيها تتبع الأحزاب بعض المظاهر الخاصة، لتمييزها عن غيرها، كالزي الخاص بها أو من خلال الصحف التي تصدرها، وتعبر عن أفكارها وبرامجها ، أو من خلال المدارس والجامعات والمعاهد العلمية، وتحقيق هذه الأشياء يتطلب دعماً مالياً للحزب، وهذا ما يقوم به أعضاء الحزب من خلال اشتراكاتهم ، إضافة إلى الهبات والمساعدات المالية التي يتحصل عليها الحزب من رجال الأعمال والتجارة والاقتصاد ، إضافة إلى المؤسسات التي تقوم الأحزاب السياسية بتسخيرها لتنفيذ برامجها والقيام بوظائفها، وتهيئة الإمكانيات اللازمة لعملها.
المطلب الثاني
النظام الحزبي (الأحادي، الثنائي، التعددي)
أ ـ نظام الحزب الواحد :
يتسم هذا النظام عندما يكون الحزب الواحد هو الحزب الحاكم الوحيد في الدولة، ويطلق على هذا النظام ديكتاتورية الحزب، فهو الذي يسيِّر الأمور العامة في الدولة، من خلال أعضائه ومسؤولية ، ويعتبر نفسه ممثلاً للأمة، ولا يقبل بوجود معارضة له، وقد استحدث هذا النوع من الأحزاب منذ بداية القرن العشرين، من خلال الحزب النازي في ألمانيا، والحزب الفاشي في إيطاليا، والحزب الشيوعي في روسيا، حيث يضم هذا النوع من الأحزاب، كل الموالين للحكومة وتكون السلطة الحقيقية في هذا النظام بيد قادة الحزب ، أما الوزراء والنواب ورجال الإدارة، فهم أدوات مسخرة بأمر ذلك الحزب، ولا يعملون إلا بتوجيهه( ).
وينادي هذا الحزب بتجنيد الجماهير المساهمة في إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق الحرية لهم، وإلى تنمية طبقة جديدة نابعة من الشعب لتقود التطور فيه، ولتحل محل الطبقات القديمة، ذات الإمتيازات والمصالح ، ويرفض التعددية الحزبية، يتهمها بأنها تنافسية على السلطة بهدف تحقيق مآربها ومصالحها والدفاع عن امتيازاتها( ).
ويرى المفكر ساطع الحصري: أنه عندما يسيطر حزب سياسي واحد على السلطة في الدولة، فإنه لا يترك لأفراد الشعب حرية إظهار مشيئتهم ؛ لأنه يعتبر معارضته نوع من الخيانة والجناية، ويعاقب مرتكبها بصرامة بالغة تصل إلى حد الإعدام، ويتخذ التدابير اللازمة للتأثير في نفوس الشعب وإرادته، من خلال التدريس في المدارس والتلقين في المعابد ، والبيانات بالنشرات والجرائد، وإغراء مثقفي الشعب وزعمائه بالأموال والمنافع وشراء الضمائر بالرتب والمناصب( ).
ويكون هذا الحزب في مرحلة ما قبل وصوله إلى السلطة سرياً وملاحقاً، وهذا ما يؤثر في استراتيجيته وأهدافه وأيديولوجيته ؛ بسبب أن من سمات الأحزاب السرية أنها تذيب شخصية الفرد وتخنق حريته وتضخم الخوف من العدو، وتؤكد على نظرية المؤامرة، وتضاعف من عدد الموهومين، ويسودها قيم استبدادية بذريعة أمن الحزب ووحدته، وأي خلاف يحصل فيها يؤدي إلى تكتل انشقاقي من خلال مؤامرة، حيث أن الإرهاب وحياة الأوكار السرية والسجون والحرمان والإحباط النفسي تزيد علامات التوتر والشك بالآخر، والميل إلى العنف والعدوانية، ومع الزمن يتحول الحزب إلى هدف بذاته، فيصبح هو الملجأ ومصدر العيش والرزق والسلاح الأيديولوجي ضد الآخرين( ).
وغالباً ما يقود العسكريون هذا الحزب من أجل استيلائهم على السلطة، من خلال انقلاب عسكري يقومون به لصالح الحزب، حيث يرى هؤلاء العسكر أنهم شرعيون وأنهم يمثلون الحزب، على أساس أنهم اكتسبوا التأييد والرضى الشعبي من قبل الجماهير التي هي مصدر السلطات، وعلى هذا الأساس فيرون أنهم اكتسبوا المشروعية التي تعني سيادة حكم القانون، لأن الجماهير أقرت مشروعية التغيير الذي يعني القضاء على النظام السياسي القائم وإحلال آخر محله، حيث سيقضي النظام الجديد على الفساد في الحكم والإدارة، التي يرى أن استراتيجيتها غير مرغوبة من قبل الشعب، إضافة إلى ميولها الأيديولوجية والقبلية الإثنية، وما فيها من أزمات وانقسامات لذلك يقوم النظام الجديد بعدة إجراءات عقب انقلابه هي( ):
1- إلغاء الدستور والحكم من خلال مراسيم وقرارات تنفيذية.
2- حل المجالس التشريعية.
3- حل الأحزاب السياسية وكافة المؤسسات ذات الطابع السياسي.
4- السيطرة على وسائل الإعلام المختلفة.
5- التعدين على استقلال السلطة القضائية.
ويرى زبغينيو برجنسكي أن للنظم الشمولية عدة محددات هي( ):
1- أيديولوجية رسمية مفصلة تغطي كافة الجوانب الأساسية للوجود الإنساني.
2- حزب واحد على قمته زعيم ديكتاتوري ويضم هذا الحزب أقلية ضئيلة تصل إلى 10% من عدد السكان.
3- سيطرة هذا الحزب على الجهاز الحكومي.
4- قوى ضاغطة منظمة، تستخدم الأساليب العلمية والسيكولوجية الحديثة، للتعامل مع كل معارضة للنظام، حتى وإن كانت من داخل الحزب نفسه.
5- سيطرة كاملة على جميع وسائل الإعلام من صحافة وتليفزيون وسينما وإذاعة.
6- سيطرة كاملة على جميع الوحدات والأجهزة العسكرية، كالجيش، فالجيش يخضع للحزب خضوعاً كاملاً.
7- سيطرة مركزية شاملة على الاقتصاد.

وكلما تحققت هذه العناصر كلما كان النظام أقوى ومسيطراً بشكل أشد، أما إذا ضعف أي عنصر من هذه العناصر أو لم يتحقق فيزداد النظام ضعفاً.
ويرى صموئيل هنتغنتون أن الدول ذات الأنظمة الشمولية ذات فائدة أكبر للحزب، من دول المؤسسات التي تستطيع فرض وممارسة سلطاتها في جميع أنحاء العالم؛ لأن هذه النظم، تكون دولاً ضعيفة ، وغير قادرة على حشد مواردها، وتعبئة السكان وفرض القانون وتقديم الخدمات( )، لكن هذا الرأي غير واقعي عملياً على الأقل ، لأن دولة المؤسسات هي دول قوية بالضرورة، لأنها تستند إلى قاعدة شعبية كبيرة أهلتها لتسلم الحكم كما أنها بذلك تصبح قادرة على حشد مواردها، وتعبئة السكان وفرض القانون، بسبب ولاء السكان طواعية للنظام إلا أنها دولة تحاول الابتعاد عن التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب، وبالتالي فهي دولة لا يرغب في وجودها الغرب.
فلجوء النظام الشمولي إلى أجهزة القمع في الحفاظ على استقراره في المجتمع، ومحاولته إجبار أفراد الشعب على التعايش معه، بالرغم من أن هذا التعايش هو تعايش مؤقت؛ بسبب أن الدوائر التي تستفيد من هذا النظام تكون ضيقة وتتقاسم فيما بينها موارده، في ضوء محدودية موارد الدولة، وخاصة في الدول النامية، كما أن حجب القوى والتيارات السياسية الموجودة، في هذه الأنظمة، عن الشرعية، وعدم إتاحتها للتعبير عن نفسها في قنوات حزبية أو نقابية أو غير ذلك سيولد عدم استقرار سياسي داخل الدولة( ).
كما أن النظام الشمولي يؤدي إلى بروز الحكم الأتوقراطي داخل الدولة؛ لأن الحزب الحاكم يعتمد على أفراده في إدارة مؤسسات وأجهزة الدولة، وهؤلاء الأفراد يتبعون قيادة الحزب التي تتبع بدورها سلطة قائد الحزب، وعلى هذا الأساس يصبح نظام الحكم ديكتاتوري استبدادي ؛ بسبب أن أقوال وأفعال رئيس الحزب هي بمثابة قانون مطلق يستطيع أن يعدل فيه حسب رأيه، وعلى هذا الأساس تتحول الدولة إلى النظام التسلطي.
ومثال على الحكم التسلطي هو نموذج الحكم الشيوعي في روسيا منذ عام 1917، حيث عمل هذا النظام على( ):
1- احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع، واخترق المجتمع المدني في الدولة.
2- عمل على بقرطة الاقتصاد من خلال السيطرة على القطاع العام، وجعل كافة قطاعات الدولة عامة، وقيدها بتشريعاته ولوائحه من خلال رأسمالية الدولة التابعة.
3- اعتمد على القهر في بناء شرعيته من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد مواطنيها.
وقد اعتمد النظام السابق على عدة أدوات في حكمه هي( ):
1- النخبة المتسلطة العسكرية والمدنية التابعة للحزب الحاكم.
2- التركيبة البيروقراطية العسكرية للدولة.
3- البنى الموازية لنظام الحكم، من خلال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
4- البنى المساعدة كالحرس الوطني والمخابرات والمباحث...
لكن يرى بعض الباحثين أن وجود تعددية حزبية وحرية انتخابات في بلد إقطاعي وزراعي متخلف لا معنى له؛ لأن معظم السكان يسودهم الجهل والتأخر، وإذ ما طبق فيها النموذج الغربي القائم على التعددية الحزبية، سنكون كأننا وضعنا واجهةً أو ديكوراً اصطناعياً يخفى وراءه مختلف أشكال البنيان القديم، ويتلاعب كبار الملاك والزعماء التقليديين بالانتخابات لمصلحتهم، لذلك لابد من خلق الشروط المؤدية إلى الديمقراطية قبل تطبيقها، وهذا يتحقق من خلال نظام الحزب الواحد الذي يمكنه تربية جماهير الشعب تربية سياسية، كما يمكنه استقطاب الفئة المثقفة التي تم تجهيزها وإبعادها عن أن تضع نفسها في خدمة الإقطاعيين، ومن ثم يبدأ بنشر عادات ووسائل الحكم الديمقراطي بين الناس( ) ؛ لكن هذا الرأي غير موضوعي في معظم جوانبه ، لأن التجارب التي قامت بها جميع الأحزاب الوحيدة لم تستطيع انتشال المجتمع المتخلف نحو الديمقراطية والرفاهية الاقتصادية والاستقلال الاقتصادي عن الخارج، كما أن هذه الأنظمة كانت الأكثر فساداً إدارياً من أنظمة التعددية وكونت طبقة جديدة استغلت موارد المجتمع لصالحها، فنشأ الصراع الطبقي في المجتمع من جديد ، وما يؤكد وصاية الحزب الواحد على الشعب قول لينين: " إن مشكلة العلاقات بين الحزب والجماهير ينبغي أن تفهم على الوجه الآتي، واجب الحزب أن يرشد الجماهير في تحقيق أفكارها الصحيحة جميعاً، وأن يربي الجماهير لتصحيح الأفكار الخاطئة التي ظهرت بين صفوفها"( ).
وقد أفرز نظام الحزب الواحد، نموذجين يشبهانه هما : نموذج الحزب القائد، ونموذج الجبهة الوطنية، أما نظام الحزب القائد فقد بدأها النظام الشيوعي في الصين، حيث شكل الحزب الشيوعي هناك مع مجموعة من الأحزاب الصغيرة الغير ظاهرة في الحياة السياسية، ما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها الحزب الشيوعي حيث يعمل هذا الحزب على تذويبها من خلال استراتيجيته الهادفة إلى إظهارها على السطح ، ومن ثم تحجيم دورها وعملها على المستوى الجماهيري، بحيث تكون تحت أنظار الحزب الحاكم بحيث تبدو هذه الأحزاب وكأنها تابعة بشكل مباشر له ، وتتسم تلك الأحزاب الصغيرة بتقاربها مع بعضها البعض في المبادئ والأفكار والأهداف مع الحزب الحاكم القائد لها ، كما أنها متفقة على إدارة الدولة وتوجيه سياستها تحت قيادته، وعادة ما يقوم الحزب القائد بعقد تحالف معها حول منهاج عام، يبين من خلاله على الأسس التي بموجبها يعالج مختلف أمور الدولة السياسية والاجتماعية ويحدد درجة مساهمة كل واحد منها في ممارسة السلطات العامة عن طريق توزيع المناصب الحكومية العليا كل بحسب قوته ودوره في توجيه الرأي العام والتأثير فيه( ).
ويرى مؤيدي هذا النظام أن الحزب القائد من سماته أنه يمتلك المبادرة والتوجيه النشيط والقدرة على التعبئة والتغلغل في الوسط الجماهيري، ويستقطب أهداف المجتمع وهو منفذاً لأهدافه، كما أنه يمتلك نظرية مرشدة تعطي الحزب قدرته على استشراف الواقع وتضع له رؤية صائبة، وتتكون نظريته الثورية على أساس رفض الواقع السيئ بما لديه من تصورات عن واقع جديد آخر، وأنه يكون متمكناً من قيادة نفسه أولاً ومن قيادة الجماهير ثانياً، من خلال وجود قيادة مركزية فعالة له، وتستند سياسة هذه القيادة على العلم وتستوعب قوانين التطور العامة والخاصة وتكون قادرة على تحليل الواقع الذي تعمل فيه تحليلاً دقيقاً، وتتمكن من تشخيص المراحل التاريخية المتعاقبة، وتحديد الأساليب والطرق الكفيلة بتحقيق هذه المهمات وتكون مستعدة من مواجهة الأحداث قبل وقوعها، وتكون ذات إمكانية قوية في تحديد الطبقات الثورية، والطبقات الأخرى المتصارعة معها( ).
ويرى شفيق عبد الرازق السامرائي أن ثمة فوارق بين نظام الحزب القائد عن نظام الجبهة الوطنية التي تعطى عادة الصفة التقدمية، على أساس أنها ترى أن الأحزاب التقليدية تختلف بمبادئها وأهدافها عن الحزب القائد، وأنها أحزاب رجعية، رغم تشابه هذين النظامين، في أن كلاهما يقتضي إلى تشكيل عدة أحزاب متقاربة في الأهداف والأفكار لمواجهة خطر مشترك سواءاً كان داخلياً أم خارجياً وأهم هذه الفواق بنظره هي( ):
1- أن الأحزاب التي تشترك في الجبهة الوطنية تكون عادة متقاربة في القوة ، لذلك تكون أهميتها في توجيه الجبهة وتحديد سياستها ومواقفها غير متفاوتة تفاوتاً كبيراً ، بينما يستلزم نظام الحزب القائد أن يكون أحد الأحزاب في مركز أقوى من بقية الأحزاب ويتمتع بنفوذ جماهيري أوسع، الأمر الذي يترتب عليه أن يتولى هذا الحزب قيادة التحالف ورعايته، ومثال على الجبهة الوطنية التقدمية ؛ التحالف الذي قامت به القوى اليسارية في سوريا، لتحقيق التقارب بين سوريا والاتحاد السوفيتي في منتصف الخمسينات من خلال ضغطها على قيادة النظام لتحقيق ذلك، كما أن هذه الجبهة نفسها هي التي قادت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، رغم أنها لم تكن في السلطة.
2- إن قيام الجبهة لا يتعارض مع وجود أحزاب خارجة عنها، ومخالفة لها في الأهداف والمبادئ، وتمارس نشاطاتها بصورة رسمية، إلا أنها تختلف عن نظام التعددية السياسية، وفي أن نظامها يكون من خلال تكتلات حزبية، لها قيادة واحدة، بينما في نظم الائتلاف الحزبي، تكون قيادة الائتلاف مشتركة من جميع الأحزاب المؤتلفة.
ويرى الباحث شفيق عبد الرازق السامرائي، أن هناك ثمة فوارق بين نظام الحزب الواحد ، ونظام الحزب القائد في أن الحزب الواحد يقوم على أساس احتكار وممارسة النشاط السياسي في الدولة من قبله فقط ، ولا يعترف لأي تنظيم سياسي أخر بكيان مستقل، بينما يقوم نظام الحزب القائد على إعطاء حرية التعبير في الرأي وممارسة العمل السياسي لعدة أحزاب متحالفة معه، ويتمتع كل واحد منها بتنظيمه الخاص وكيانه المستقل( ) ، إلا أنه رغم هذا الفارق الذي حدده الباحث السابق، إلا أنه لا يتمتع بالصفة الواقعية، لأن كلا الحزبين الواحد والقائد لا يسمح بوجود معارضة شعبية أو معارضة داخل الحزب، كما أن كلا الحزبين يسيطران على الأجهزة والمؤسسات في الدولة ، ويعملان على تحقيق مصالح الحزب الحاكم بالدرجة الأولى، كما تسيطر في كلاهما قلة قليلة هي التي تقود العمل السياسي، وتبعد عامة الشعب عن أمور الحكم ، كما يدعي كلا النظامين أن الأحزاب المعارضة هي أحزاب طبقية هدفها تأمين المصلحة الطبقية لأتباعها ، واعتماداً على هذا الرأي لا يوجد خلاف في المجتمع إلا الخلاف على المصلحة الطبقية وأن المجتمع اللاطبقي هو مجتمع لا حاجة للأحزاب فيه، وهذا الرأي غير صحيح والدليل على ذلك الخلاف العميق بين قادة الفكر الشيوعي قبل وبعد الثورة الشيوعية عام 1917، وخاصة بين ستالين وتروتسكي، ثم بين ستالين ومعظم شركاءه في القيادة ، ثم بين روسيا الشيوعية ويوغسلافيا ، ثم بين روسيا والصين ، وهذا يؤكد بطلان النظرية التي تقول : " إن زوال الطبقة سيؤدي إلى زوال الاختلاف في الرأي، الذي يؤدي بدوره إلى زوال الأحزاب"( ).
فالصراع الطبقي الذي تحاول هذه الأنظمة تفسيره على أساس أنه الأساس لتحقيق الحرية، يفترض فيه وجود تقدم إنتاجي ، واقتصادي ؛ يخلق تناقضاً طبقياً، يكون هو نفسه العامل الأساسي من عوامل النضال، لكن الواقع عكس ذلك، فالدول المتخلفة المحكومة بأحد هذين النظامين تتميز بالتخلف الاقتصادي وفي كل ميادين : التعليم ، والتنظيم ، والخبرة، والوعي السياسي، وأنظمة الحكم، والصحة، والنظم الاجتماعية، وغيرها، حتى وإن كان فيها إقطاع وبرجوازية، وعمال وفلاحين، لكن البرجوازية فيها هي برجوازية وطنية وغير مرتبطة بالخارج، كما أن الطبقة العمالية فيها أضعف من أن تكون قادرة على قيادة حركة النضال القومي( ).
كما أنه رغم أن الاقتصاد والطبقة الاقتصادية من أهم دعائم الحياة الإنسانية؛ لكنهما ليستا الدعامتين الوحيدتين اللتين يقوم عليها الإنسان فكر أو عملاً، وإلغاء الأحزاب المخالفة أو الطبقية، لن يلغي الصراع الطبقي ؛ لأن وجود الأحزاب ليس سبباً في الصراع في المجتمع، لكنه عرض من أعراضه، ولا يمكن إلغاء الصراع الطبقي إلا بإلغاء التقسيم الطبقي للمجتمع عن طريق تحريره من الاستغلال من خلال تنظيم اشتراكي، بيد أن هذا يستدعي وقتاً طويلاً، ورغم ذلك ستظهر طبقة جديدة من نفس أعضاء الحزب الحاكم (الوحيد أم القائد) بعد جيل واحد فقط( ).
وعلى ذلك يكون كلاً النظامين يقود إلى حكم ديكتاتوري يتميز بتهيئة التربة الصالحة لإنشاء جيل من الانتهازيين، وإبعاد ذوي الكفاءات والمسؤوليات القيمة، ونشر طرق الفساد وتخريب الضمائر، وكبت كل قدرة على المحاسبة والرقابة على ما يجري داخل الحكم، ويعملان على تزوير إرادة الشعب، وإبعاد الشعب وقواه عن تحمل المسؤولية في رسم المصير, وتحميل هذه المسؤوليات للدولة وحكامها، فينتهي الشعب إلى اللامبالاة والسلبية، والاهتمام بلقمة العيش والبقاء على قيد الحياة، دون أي هدف آخر من الأهداف النبيلة التي يعيش من أجلها الإنسان، ويتميز بها عن الإنسان غير الحر( ).
كما أن التنظيم النقابي في كلا النظامين السابقين يتحول عن أهدافه الأصلية التي قام من أجلها، وهي حماية القوى العاملة، والدفاع عن حقوقها ضد مستغليها، فيصبح في هذين النظامين أداة من أدوات الدولة التي تستند إليها في فض طغيانها، فبدلاً من أن يكون لساناً للقوى العاملة يدافع عن حقوقها إزاء السلطة أو إزاء مستغليها من مالكي وسائل الإنتاج، يصبح لساناً للدولة نفسها بفرض سلطانها على القوى العاملة، كما يفرض سلطانها على غيرها من القوى الاجتماعية، فتتحول وظيفته من قوة من قوى الحرية إلى أداة من أدوات الطغيان، ووسيلة لتسلط الدولة على الإنتاج، وبذلك تمكن الدول من فرض سلطانها على الشعب بواسطة التنظيمات الشعبية التي لا تعبر عن أفرادها بشكل فعلي وواقعي( ).
ويكون البرلمان الذي تقيمه هذه الأنظمة ليس سوى وسيلة من وسائلها لخداع الشعب، فرغم أن النظام البرلماني قائم في الأصل على أساس فكري واحد هو حق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يتحمل مسؤولية مصيره بنفسه دون أن يتحملها عنه فرد حاكم أو مجموعة حاكمة، أو أقلية حزبية، فيكون النائب ممثلاً للأمة، ومسؤولاً أمام الشعب، ويكون القرار للأكثرية البرلمانية مع حق الأقلية في إبداء رأيها والدفاع عنه، إلا أنه في نظام الحزب الواحد أو القائد، تلجأ السلطة إلى تعيين بعض النواب صراحة أو من خلال الضغط والتزوير، وهؤلاء يمثلون السلطة وليس الشعب، كما تتبع هذه الأنظمة أساليب التهديد والإغراء والرشوة، أو بوضع شروط للمثلي الشعب بحيث لا تنطبق إلا على فئات دون أخرى، كاشتراط دخل معين، أو قدر معين من التعليم، وقد تحرم وسائل التعبير عن الرأي من خلال مهرجانات ومقالات صحف، وحق توزيع النشرات الانتخابية، وبذلك تحرم الناخب من الإطلاع على مشاكله التي يواجهها وآراء المرشحين، ومن حق مناقشة هذه الآراء وبذلك تعتبر حرمته من حرية الاختيار بوعي وبصدق وبقناعة( ).
وعلى هذا الأساس يرى برهان غليون الأحزاب القومية التي وصلت إلى الحكم في بعض الدول، وهيمنت على السلطة السياسية من خلال نظام الحزب الواحد، أو القائد ؛ هي التي أفرغت الوعاء الديمقراطي من أي محتوى له، وهي التي قضت على الحركات السياسية الديمقراطية من خلال التصفيات الجسدية للمعارضين، وللمواطنين الذين اختلفوا معها في النهج والتفسير، هذا ما أصاب الشعوب في ظل هذه التجارب، باختلال في الموازين الخلقية، ولم يعد لها أي دور في ظل هذه الأنظمة( ).
وفي ظل هذا الواقع تظهر الأحزاب المعارضة في السر ؛ بسبب عدم قدرتها على العلانية بآرائها، وتبيان مقاصدها وغاياتها، وتجتمع في الظلام وتبدأ بنشر تعاليمها في شكل رسائل أو منشورات مقتضية وحاسمة، وتبدأ مقاومتها السرية لهذا النظام، حيث يتلقى الإتباع الأوامر الصادرة من فوق على أنها نصوص واجبة الطاعة على اعتبار أن ذلك هو لمصلحة الوطن، وبالتالي فلا مجال لمناقشتها أو التخلص، فيعتبرونها أنها دين عليهم، وعلى هذا الأساس يقبلون عليها بلذة وشغف( ).
2- نظام الثنائية الحزبية ( الحزبان المتنافسان ) :
الكثير من الأنظمة السياسية تأخذ بنظام الحزبين المنافسين، حيث يتولى السلطة أحد الحزبين الأساسيين في الدولة ، التي تفتح المجال لتأسيس أحزاب أخرى، لكنها تبقى صغيرة في أغلب الأحيان، ففي الولايات المتحدة لا يوجد اختلاف كبير بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي لا من حيث المبادئ ولا من حيث البرامج السياسية، وعلى هذا الأساس تكون السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما تعنيه من خطة ترسم العلاقات الخارجية لها مع غيرها من الدول هي نفسها سواءاً فاز الحزب الديمقراطي أم فاز الحزب الجمهوري، لأن السياسية الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ليست سوى انعكاسا للأيدولوجيا السياسية التي تحكم القيادات السياسية لأحد هذين الحزبين ، وفي نظام الحزبين المتنافسين يكون الحزب الذي لا يفوز بالانتخابات هو الحزب المعارض الرئيسي، ويمارس الرقابة على الأجهزة الحكومية من الحزب الحاكم، ويسعى لإيجاد معارضة منظمة للوصول إلى السلطة ، وهذا النظام يجبر النظام الحاكم على إتباع سياسية خارجية مقبولة ومتوازية كما يعمل على تحقيق البرامج السياسية التي تحدث تطور وتقدم في المجتمع ، كما يذيل هذا النظام الصراعات الثانوية في المجتمع، ويجبر جميع فئات المعارضة على التعبير عن نفسها في إطار معارضة رئيسية( ).
كما أنه في نظام الحزبين المتنافسين لا يؤدي قيام النظام من خلالها، إلى تركيز السلطة لحزب واحد، ويؤدي إلى تغييراً عميقاً وقوياً في مبدأ الفصل بين السلطات بالصورة التي يرسمها الدستور لهذا المبدأ، ففي النظام البريطاني على سبيل المثال، عندما يكون الحزب القائد في الانتخابات هو بالضرورة صاحب الأغلبية البرلمانية المطلقة، فإن احتمال إسقاط الحكومات الوزارية يكون عسيراً من الناحية العملية، كما أنه كون رئيس الوزراء هو نفسه زعيم حزب الأغلبية في البرلمان، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة توثيق الروابط بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما يؤدي إلى أن تبقى الحكومية مطلقة اليد وقوية ومستقرة، لأن هناك حزب واحد، يحكم وحزب أخر فقط ينتقد.
ولقد أثبتت نتائج الحرب الباردة أن الديمقراطية بما تعنيه من كونها أيديولوجيا وأسلوب حكم ووسيلة تعامل أساسها المساواة واحترام إرادة الأكثرية، وصيانة حقوق الأقلية من خلال مؤسسات دستورية تقر الحقوق والحريات والرأي وحق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والمهني، وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة، وتولى المناصب العليا، أثبتت أنها الأصلح والأصدق، ولا يعلو عليها شيئاً، وهذا ما جعلها أيديولوجيا منتصرة( ).
3- نظام التعددية الحزبية (الأحزاب المتعددة):
معظم الدول الغربية تتبع نظام التعددية الحزبية في نظامها السياسي، حيث تتقاسم الأحزاب السياسية السلطة من خلال حكومة ائتلافية، وفي أغلب الأحيان يسيطر حزب واحد على البرلمان، حيث يكون حصل على مقاعد أكثر من غيره في البرلمان، أما الأحزاب الأخرى فتشاركه الحكم بحسب نسبة مقاعدها ، لكن قد يتحالف حزبان أو ثلاثة أو أكثر لتشكيل حكومة ائتلاف حزبي وتكوين كتلة برلمانية تسطير على البرلمان، كما تسيطر على سياسة الدولة، مع حق الأحزاب الأخرى بحسب مقاعدها، في إبداء رأيها داخل البرلمان.
ويتميز نظام تعدد الأحزاب، بأنه يضعف العلاقة بين البرلمان والحكومة، كما يضعف مركز كل منهما إزاء الآخر، ولما كانت الغالبية في العادة لا تتوافر لحزب واحد، فإنه يتعين الالتجاء إلى الائتلاف غير المتجانس وغير المستقر، وهذا مما يساهم في سقوط الحكومات بشكل كبير حيث يتميز النظام الحزبي بعدم الاستقرار الوزاري( ).
أما إذا كانت الحكومة مؤلفة من عدة أحزاب متنافسة، فإن توافق وجهات النظر يكون ضعيفاً بين أعضائها، ويصعب تطبيق برنامج متماسك الأجزاء ومحدد المعالم، ويتحتم الاقتصار على تصريف المسائل الجارية، وغالباً ما ينتهي بأزمة حكومية (وزارية).
إلا أن هذا النظام له بعض العيوب أهمها هي( ):
1- تعمل الأحزاب على تشويه أعمال بعضها البعض حتى لو كانت صالحة.
2- تشكك الأحزاب التي ليست بالسلطة بخطط وبرامج الأحزاب ، أو الحزب الذي في السلطة.
3- قد يعمل الحزب الحاكم على تفضيل مصلحته، ومصلحة أعضاؤه على المصلحة العامة، كما أنه قد تسيطر عليه أقلية تسير الأمور بمشيئتها، مما يقود الحزب إلى الديكتاتورية .
المطلب الثالث : تقييم الحزبية في المجتمع :
تبين لنا مما سبق أن كل الأحزاب السياسية تخطط للوصول إلى السلطة،ورغم التباين بين الأفراد الحزب السياسي في الانتماء الاجتماعي، إلا أنهم جميعاً يكون لهم نفس الأيدولوجيا السياسية ، كما أن السعي الدائم من قبل الحزب للوصول إلى السلطة هو الذي يحقق الرابطة القوية بين أنصاره العاملين، وهو الذي يخلق الفرصة في نفس الوقت لقيام الصراع بين مختلف الأحزاب؛ لأن الحزب لا يتمكن من تحقيق أهدافه إلا عن طريق الاستيلاء على الحكم أو الاشتراك مع غيره من الأحزاب، أو عن طريق الحصول على قدرة من التأييد الشعبي يسمح له بالضغط على السلطة الحاكمة.
ورغم أن الأحزاب تمثل همزة الوصل بين القطاعات العريضة من المواطنين وبين النظام السياسي الحاكم، بسبب أنها تحمل رغبات الشعب إلى السلطة الحكومية التي بيدها صنع وتشكيل القرار، وأنها تمهد الطريق لأفراد الشعب نحو الإحساس بالتواجد مع السلطة السياسية، وعلى ذلك فهي تضيف إلى شرعية النظام ، وتزيد من قدرته على التصرف مما يقلل من فرص وجود الصراع، لكن معظم الأحزاب فشلت عملياً ـ وخاصة نظامي الحزب الواحد أو القائد ـ في خلق ذلك الوعي، مما أتاح لفرصة الصراع أن تزداد وتؤثر في بناء الدولة.
أيضاً فإن تحكم زعيم برلماني ـ في نظامي تعدد الأحزاب أو الحزبين المتنافسين ـ أو تحكم زعيم سياسي يقود الحزب القائد أو الواحد في الدولة، ويدعى هذا الزعيم الكاريزمية، مما ينزل بالنظام الحزبي إلى نوع من الأوتوقراطية، وخاصة في الدول التي تسيطر عليها ديكتاتورية الحزب، ولا تخضع للراقبة، ولا يوجد فيها فصل حقيقي عملي بين السلطات، مما يبعد الحزب عن الاهتمام بالمشاكل السياسية والأمور العامة، ويتقلص دور الأيديولوجيات السياسية، ويرتفع دور المصالح والمنافع الخاصة، مما يؤدي إلى حدوث الصراع والتطاحن للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، وقد تستعمل أساليب لا أخلاقية في هذا المجال، وأكثر ما يبرز هذا المنحى في أحزاب الحزب الواحد أو القائد ؛ بسبب عدم وجود أي مشاركة شعبية فعالة ؛ لأن المشاركة السياسية الفعالة تؤدي إلى تمتع الشعب بنظام مستقر تديره حكومة شرعية، مما يزيد من قوة الوحدة الوطنية في الدولة، ومن المعلوم به أنه كلما كثرت وتدعمت قنوات المشاركة السياسية في المجتمع كلما قلت فيه فرص الصراع، وتحققت الوحدة الوطنية، وهذا ما أكده موريس دوفرجيه من أن وجود مؤسسات سياسية يجري ضمنها الصراع السياسي سيخفف من حدة هذا الصراع على النظام السياسي في الخارج( ).
وحرية التكتل في أحزاب سياسية، هي إحدى أسس الحرية السياسية الحديثة، ولا توجد هذه الحرية من دون الحزبية، وكبت الحرية بإلغاء الأحزاب أو إلغاء تعدد الأحزاب لا يعني سوى وقف الحريات السياسية لأفراد الشعب، وحصر الحياة السياسية في الحاكم أو المجموعة الحاكمة، الذين يدعون أن وجود حزب أو أحزاب أخرى غير الحزب الذي يقودونه، سيؤدي إلى التطاحن والتصدع في المجتمع؛ بسبب التنازع بين الأحزاب، وهذا سيسهم في إضعاف الوحدة الوطنية، رغم أن ما يسمونه بالتطاحن الحزبي، ليس سوى تعبير عن تناقضات موجودة في المجتمع ولها أسبابها ونتائجها وأهدافها، حيث تعبر هذه التناقضات عن نفسها بواسطة هذه الأحزاب المتطاحنة، وإن منع هذا التطاحن من خلال منع وجود الأحزاب لن يمنع وجود هذه التناقضات، ولن يقلل من قيمتها. وإنما يدفعها أن تختبئ تحت رماد المظاهر المستقرة فقط( ).
وعلى هذا الأساس لا يمكن إلغاء الديمقراطية بحجة حماية مصالح الكادحين أو الجماهير الواسعة أو الخطر الخارجي ، سواءاً كانت باسم الطبقة العاملة أم قوى الثورة أو الدين أو غيرها، فالقبول بالتدرجية، وامتثال مبادئ التعددية والتداول تشكل الأساس لعملية التغيير السلمي المدني للسلطة، وبالتالي توفر مستلزمات التعايش والسلام الاجتماعي والتطور لاختيار أسلوب حكم ديمقراطي يرتضيه الناس، من خلال معايير الشرعية والمساءلة والتداول السلمية للسلطة( )، وعلى هذا الأساس بنيت المواطنة الحقة عبر احترام حريات الأفراد والانتخابات الحرة، وتأكيد الحياة الدستورية، ومن خلال ذلك بنيت ديمقراطيات الغرب التي حررت مفهوم القومية من العداء نحو الآخرين ووجهته نحو تعميق التضامن بين الأفراد داخل الوطن الواحد نفسه، فتتجه الديمقراطية نحو رفع الحوافز بين الناس ليفكروا في طرق حل التناقضات في المجتمع، فمجتمع بلا تناقض هو مجتمع ميت سيزول حتماً، كما أن التعددية المبنية على وجود حزب قائد نجح تاريخياً في الاندماج مع جهاز الدولة وربطة بمصالح مادية، هي تعددية زائفة، لأنها لا تسمح عملياً بسماع الرأي الآخر، فليس تعدد الاتجاهات بين من يعملون من أجل تحرير الشعب والوطن ووحدته القومية، أمراً ينافي طبيعة الأشياء، والعكس هو الصحيح، لأن التلاقي حول أهداف سامية ومشتركة لا ينفي الخلاف حول وسائل ومراحل تحقيقها، وأساليب النضال من أجلها، والمراجع العقائدية التي يستلهمها المناضلون الذين يحلمون بالانفراد بالساحة السياسية من خلالها؛ فإنما يجرون وراء سراب.
فالتعددية موجودة بالضرورة ما دام هناك بشر يفكرون ويجتهدون ولهم مواقع متميزة في المجتمع، من حيث مكانتهم أو مصلحتهم المادية أو دورهم في المجتمع، وليس هناك علاقة سببية بين وجود حزب واحد أو قائد أو وجود تعددية حزبية، وبين وجود استقرار سياسي في المجتمع، لأنه حدثت عدة انقلابات على نظام حزب واحد أو قائد، بسبب أن الأحزاب هي عامل من عدة عوامل تساهم في حدوث الانقلابات العسكرية( ).
كما أن التعددية السياسية مع الممارسة الديمقراطية، ستجذب أعداداً متزايدة من المناضلين، وسترهف حسهم السياسي الجماهيري، وكلما اتسعت قاعدة المشتغلين في السياسة، وزاد اهتمام الجماهير في أمورها ، كلما تضاعفت فرص دعم الأحزاب والقوى الوطنية وترسخ نفوذها السياسي( ).
والتعددية السياسية لا تنفي الصراع داخل المجتمع، لكنها تقارب الأهداف الأساسية مما يفرض على كل الأحزاب البحث الجاد والدؤوب عن نقاط الالتقاء الوطني الواسع، حول أهداف التحرر الوطني والقومي، لأن الشعوب هي التي تصنع الثورات وليس الأحزاب( ).
كما يجب على الحزب الحاكم ألا يتدخل في الحركات النقابية والشبابية والطلابية ومراكز البحث والحركات الأدبية والفنية، ويجب عليه عدم ممارسة الإرهاب الفكري، من خلال الحملات الحزبية المنظمة ضد باحث علمي أو أدبي أو فنان بدعوى أن ما يفعله لا يخدم قضية الحزب الحاكم وثورته( ).
ويجب عزل المؤسسة العسكرية عن أي حزب سياسي، ورفض تسييس الجيش بزجه في الصراعات الحزبية ؛ لأنه لا يمكن إحداث أي ديمقراطية في دولة تحكمها مؤسسة عسكرية، والدليل على ذلك ما حدث في الجزائر عندما تدخل الجيش وألغى نتائج الانتخابات وعين رئيساً جديداً للجزائر عام 1992، أو كما حدث في تركيا عندما تدخل الجيش للإطاحة بالحزب الحاكم ـ حزب الرفاه الإسلامي ـ وألغى أي حزب إسلامي في تركيا( ).
فبرغم أن التعددية الحزبية تؤدي إلى المنافسة بين الأحزاب، إلا أنها تعبير عن حيوية الأمة، لأن محاولة كل حزب تبرير وجوده وإقناع أكبر عدد ممكن من الشعب بوجهة نظره، ومحاولة كسبه إلى جانبه من أجل تحقيق مطالبه إما بالوصول إلى الحكم، وإما بالضغط على القائمين على الحكم، وكشف هذه التناقضات بشكل صريح، وجعلها موضع اهتمام الناس وحديثهم، وتحميل الشعب مسؤولية تقرير مصيره بعد تحسس هذه التناقضات تحسساً حياتياً ؛ هو الكفيل بأن يقلل من قيمة هذه التناقضات ويجعلها منطلقاً إلى الحل الصحيح لهذه المشكلات، وإن قدرة الأحزاب على إشراك أكبر عدد ممكن من الشعب في الاهتمام بهذه الاتجاهات وتحمل مسؤولياتها كسب كبير في ذاته ؛ لأنه طريق توعية الأمة، وبث شعورها بالمسؤولية، إلا أن الحزبية العمياء تحول دون رؤية الحقائق وبذلك تشوش الأفكار وتضلل الأذهان( ).
ولقد أثبتت التجارب في الدول التي تتبع نظام التعددية السياسية أنها الأقدر على تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية لأفراد الشعب من خلال رفع المستوى المعيشي له، وتحقيق المزيد من المساواة بين الأفراد في علاقاتهم بالنظام السياسي، وتجاه تزايد قدرة النظام السياسي في علاقته بالبيئة المحيطة وتجاه تزايد تمايز وتخصص المؤسسات والبنى داخل النظام السياسي، فهي تتضمن العقلانية والاندماج القومي والديمقراطية والتعبئة والمشاركة، وما يؤكد ذلك قول رئيس وزراء استراليا روبرت هواك: " إن حكومة اشتراكية مثل حكومتي، إذا أرادت أن تقدم للمعوزين الكثير فيجب عليها أن تمتلك اقتصاداً ينمو بسرعة لذلك يجب أن يكون لديك قطاعاً خاصاً ينمو، فهو المحرك الأكثر للاستثمار وفرص العمل"( )، كما أكد هذه الحقيقة وزير الاقتصاد السويدي بقوله: " إن آلية اقتصاد السوق في التغيير والتطوير، وبالتالي في النمو الاقتصادي أنجزت أكثر في التغيير في عملية إزالة الفقر من أي تدخل سياسي في اقتصاد السوق والتوزيع"( ).
فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا في مجتمع حزبي، وهذا خلاف لرأي المفكر الفرنسي روسو، الذي يقول: " إن الديمقراطية لا تستقيم إلا في مجتمع لا حزبي"( )، وهذا يتناقض تماماً مع رأي الفقيه الألماني كلسن الذي يقول : إن من الوهم أو النفاق بأن الديمقراطية يمكن أن توجد بدون أحزاب ، ذلك أنه مما لا يحتاج إلى بيان أن الفرد و هو منفرد لا يكون له أي نفوذ حقيقي في تكوين الإرادة العامة"( ).
وتتناقص مكانة الأحزاب لعدة أسباب أهمها( ).
1- الاعتماد على القوة والقمع بصورة متزايدة، بغية تحقيق الطاعة والولاء.
2- التأكيد على الإجماع ووحدة الآراء في مواجهة القوى صاحبة الرأي الآخر.
3- إنكار أي اختيار سياسي آخر.
بينما يتوقف نجاح الحزب السياسي على عدة عوامل أهمها :
1- صدق العمل والوفاء ، وبث روح الإخلاص في أذهان الجماهير، وتثبيت دعائم وأسس النشاط في العمل السياسي.
2- تقوية النفوس في تحمل المسؤولية السياسية عند الجماهير فيما يتعلق بالعمل السياسي وتأدية الأحزاب لرسالتها السياسية.
3- التخطيط الواضح لتنفيذ برامج الأحزاب السياسية في المجالات المختلفة وسهولة وضع هذه البرامج، وسهولة فهمها على كافة المستويات الثقافية.
4- الإسهام في المناقشات العامة للحصول على أكبر قدر ممكن من أصوات الناخبين.
5- العمل الجاد في اختيار مرشحي الحزب، واختيار الأشخاص ذوي الكفاءة للأماكن المناسبة والمقاعد البرلمانية، والمؤسسات التنفيذية.
6- إظهار قدرة الحزب على تحمل المسؤولية السياسية.
أوضحنا في هذا البحث مفهوم الحزبية والخدمات التي تؤديها الحزبية في المجال السياسي والوسائل التي تتبعها في تحقيق أهدافها، ورأينا أن مفهوم الحزبية مفهوم ثابت في جوهره وهو مجموعة من الأفراد المجتمعين والمنظمين وذوي الميول الأيديولوجية الواحدة، ولهم أهداف معينة يحاولون تحقيقها من خلال وصول حزبهم إلى البرلمان ، أو إلى السلطة ، وثمة مجموعة من الخدمات التي تؤديها الأحزاب وتساهم في إثراء الحياة السياسية في المجتمع، كما رأينا أن هناك عدة وسائل تعمل الأحزاب على استخدامها في تحقيق أهدافها، ووصولها إلى السلطة ، وأن هناك أنواع من الأحزاب السياسية، وأشكال من الأنظمة السياسية التي تتحدد وفق الأحزاب الموجودة في مجتمعات هذه الأنظمة ، وقد رأينا أنها ثلاثة أنواع هي: الأنظمة أحادية الحزبية وهي الأنظمة القائمة على حزب وحيد، وتماثلها أنظمة الحزب القائد، أو أنظمة الجبهة الوطنية، أما النوع الثاني من الأنظمة الثنائية الحزبية، وهي التي يتنافس فيها حزبان رئيسيان على السلطة، ويحكم احداهما ويبقى الآخر معارضاً له، وتتكرر هذه العملية،وفق معدلات نجاح كل حزب من هذين الحزبين ، والنوع الثالث من الأنظمة هو أنظمة التعددية الحزبية، وهو الذي تتنافس فيه مجموعة من الأحزاب على السلطة، ولا يستطيع أي من هذه الأحزاب تكوين أغلبية برلمانية مطلقة (أكثر من50%)، لذلك فيشكل مع أحزاب أخرى ما يعرف باسم الائتلاف الحزبي، ويحكم بالتعاون معها، أما الأحزاب الأخرى فتشارك في السلطة بحسب مقاعدها في البرلمان، كما عملنا على تقييم الأنظمة الحزبية، ورأينا أن الأنظمة التعددية، بالرغم من كثرة مشاكلها إلا أنها تبقى الأفضل في أي مجتمع، من نظام الحزب الواحد أو القائد، بسبب ما يجلبه هذان النظامان من ديكتاتورية، وضعف في الاقتصاد وجمود في الحياة السياسية والفكرية في المجتمع.








المبحث الثالث
العلاقة بين الوحدة الوطنية الحزبية

يتناول هذا المبحث العلامة التي تربط بين متغيري الوحدة الوطنية من جهة ،والحزبية من جهة ثانية ؛ فوفقاً لمفهوم الوحدة الوطنية التي تناولته الدراسة تبين أن الوحدة الوطنية تشمل أربعة محددات رئيسية ، وعلاقة أي من هذه المحددات، بنظام الحزبية سواءاً هي علاقة قد تكون إيجابيةً ، وقد تكون سلبيةً ، تضعف قوة الوحدة الوطنية، وعلى هذا الأساس ستقيِّم الدراسة هذه العلاقة من حيث الإيجاب ومن حيث السلب ، وبناءاً عليه سيقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
• المطالب الأول، سيتناول إيجابية العلاقة بين المتغيرين المحددين بالدراسة -
• المطلب الثاني، فسيتناول سلبية العلاقة بينهما.











المطلب الأول
العلاقة الإيجابية بين الوحدة الوطنية والحزبية

يرى البعض أن الحزب الواحد في بعض الدول ؛ قد حقق قيام نوع من ترابط المصالح ، وسهل تطبيق أساليب التنمية الاقتصادية، وإنجاحها، وساعد في إضعاف روح الوحدة الوطنية بين الجماعات المتنافرة وجمعهم على الولاء والانتماء للدولة وحدها، وجعل بعض القادة يحولون انتماءآنهم المحلية والعرقية إلى الانتماء للوطن ككل، كما جعلهم يعملون ويخططون على نطاق الدولة كلها، بغض النظر عن طبقيتها، لأنهم يرون أن الأهداف الوطنية أهم من المصالح الطبقية، كما أن نظام الحزب الواحد يعمل على تهدئة الصراعات الإقليمية ، والعرقية وغيرها؛ لأن الصراعات تحل داخل الحزب من خلال التفاوض بين المتعارضين فيما بينهم ، وأكبر مثال على ذلك حزب غينيا "الديمقراطي الغيني" الذي أسسه أحمد سيكتوري عام 1947، وحزب المؤتمر الشعبي في غانا الذي تزعمه نكروما عام 1951( ).
كما يرى هؤلاء أيضاً أن هذا النظام هو الوسيلة لتحقيق الوحدة الوطنية ؛على أساس أن الاقتسامات الداخلية في المجتمع ؛ ليست سبب النزاعات القبلية أو العرقية أو الطائفية ؛ لكنها بسبب صراع الأحزاب المتعددة على السلطة، فتحقيق الاستقلال للدول المتخلفة لم يكن إلا بعد إتحاد الأحزاب جميعها في جبهة وطنية واحدة تمثل حزباً سياسياً واحداً معارضاً للاستعمار وللسيطرة الاقتصادية الأجنبية، ومطالباً بالاستقلال، وعلى هذا الأساس تحققت مطالب الشعب، وهذا ما برر وجود حزب واحد في السلطة في هذه الدول بعد الاستقلال ، وأصبحت نظرة هذا الحزب إلى المعارضة على أنها تؤدي إلى تشتيت كيان الأمة والدولة، وتعرض استقلال الدولة للخطر( ) ، فيؤكد جوليوس نيريري، ضرورة إقامة نظام الحزب الواحد من أجل تحقيق الوحدة الوطنية والديمقراطية بقوله :
"الحزب يتحدد ويأخذ صفاته وشخصيته مع الدول ككل، وإن إقامة الديمقراطية عن طريق الحزب الواحد، يمكن أن تكون أقوى وأكثر ثباتاً من أن يكون هناك حزبان أو أكثر ؛ كل حزب يمثل جزءاً من المجتمع ......... وأن الحركة القومية المفتوحة للجميع لا تخشى شيئاً من عدم رضا فريق خارج عن المجتمع، ولم توجد في الواقع صورة لمثل هذا الوضع"( ).
لذلك فإن معظم الدول المتخلفة اختارت بعد الاستقلال هذا النظام. ورفضت قيام تعددية سياسية، بغية النهوض بمجتمعاتها نحو التقدم من خلاله، إلا أنه بمرور جيل أو جيلين بدأت معالم هذا النظام تكشف حيث أثبتت تجربته أنها غير ناجحة، وقادت الدولة إلى ما يسمى بديكتاتورية الحزب الحاكم، حيث استغل قادة هذا الحزب مكانتهم، ليشكلوا طبقة منفصلة عن الشعب، كما استغل بعضهم موقعه، لتأكد ولاءه التحتي من خلال ولاءه الإقليمي ، أو الطائفي ، أو العرقي ، أو الإقليمي ، أو العشائري، مما أفسخ المجال لاشتداد المعارضة ضد هذا النظام على أساس أنه ضد الوحدة لوطنية في الدولة.
وعلى ذلك رأى آخرون أن التعددية الحزبية بما تعنيه من الحرية في إقامة الأحزاب السياسية، والنقابات والجمعيات الفلاحية ، والروابط المهنية ، وممارسة حرية الرأي ، والاعتقاد ، والتنظيم ، والاعتراف بالحقوق المدنية ، والسياسية للمواطنين جميعاً سواء كانوا أقلية أم أكثرية، فإن هذه التعددية التي تمثلها الليبرالية السياسية من خلال الحزبين الرئيسيين أو عدة أحزاب سياسية سيتيح الفرصة ؛ للتعبير عن الاتجاهات المختلفة، داخل الجماعة السياسية ؛ لأن الأحزاب تكون متنفساً لحرية الفكر والرأي ، وأقوى طريقة لإبداء الرأي ولها الدور الأول لتحقيق ما يصبوا إليه الشعب عن طريق قنوات الأحزاب السياسية؛ لأن الأحزاب السياسية هي المترجمة لمصالح الجماهير وهي أكثر القوى اهتماماً بتكوين الرأي العام، فتركيبة هذه الأحزاب حسب النظم المعاصرة، من كونها إطار هرمي يؤدي لعملية استقطاب وتفاعل بين الصفوة والأعضاء العاديين داخل الحزب، ستمكن من تبادل الآراء وستساعد على الوصول إلى أحسنها، وهذا سيساعد على إزالة الفوارق الطبقية، وسيدعم الوحدة الوطنية( ).
كما أن أيديولوجية الحزب السياسي تساهم في تحقيق الوحدة الوطنية ؛ من خلال تأثيرها على السلوك السياسي، بما يحقق الترابط داخل المجتمع، وتدفع الأفراد مهما اختلفت فئاتهم للإيمان بمختلف الكيانات السياسية من جماعات، وأحزاب سياسية، وجعلهم يدركون حقهم في قبول أو رفض أي نظام حكم يقوم.
والتطور الحزبي النقدي يعمل على تأسيس الشرعية بما تعنيه من حق الحكام في ممارسة السلطة في الوقت الذي يشعر فيه المواطنون أن عليهم واجب الخضوع لهذه السلطة، وإن كانوا لا يوافقون على كل ما تقوم به من إجراءات، وهذا ما يزيد من قوة الوحدة الوطنية في الدولة( ).
واستطاعة النظام الحزبي تحقيق مستوى معيشي أفضل للمواطنين من أجل التغلب على المشكلات السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية، سيكفل للنظام الحاكم أحد المصادر لبقاء الشرعية في أعين الجماهير، وسيصبح النظم الحزبي محققاً للوحدة الوطنية، أو على الأقل مساهماً رئيسياً فيها ؛ بسبب سياسته الاقتصادية الناجحة( ).
وانصهار أفراد الشعب في روح واحدة وعاطفة مشتركة، من خلال الأحزاب السياسية، سيقضي على التمايزات الشخصية، وتذوب الفوارق بين أبناء الشعب الواحد
؛ نتيجة التفاعل فيما بينهم ووسيلة الأحزاب في ذلك تكون من خلال( ):
1- عملية التحريض التي تفسر انحلال الأفراد في الجمهور وذوبانهم فيه .
2- من خلال القائد السياسي الذي يمارس تأثيره على أفراد حزبه .
وعلى هذا الأساس تقود الأحزاب السياسية نضال الجماهير، من خلال زرع الأفكار المحرض عليها في النفوس ، ثم بواسطة التجمع المتدرج للأفراد من خلال هذه الأحزاب، التي تجسد هذه المفاهيم النظرية، التي تتبلور بشكل واع للمطالبة بتنفيذها ، ومثال على ذلك ، صياغة الإمام محمد عبده لدستور الحزب الوطني الحر والذي من خلاله أكد على الوحدة الوطنية في مصر بقوله : " الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر، ويتكلم بلغتها منضم إليه" ( ) .
كما أن من وظائف الأحزاب السياسية الوطنية العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في الدولة، وأهم هذه الوظائف :
(2) الوظيفة التعليمية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية، حيث تتوقف الوظائف السياسية على مدى قدرة الحزب على تأديتها وإثبات فعاليتها، وتتوقف قدرته الفنية في التأثير على جماهير الشعب والتأثير به، ومدى علاقته بالمؤسسات السياسية الأخرى في النظام السياسي.
(3) تعمل الأحزاب السياسية على زيادة الوعي السياسي لدى الجماهير بما تقدمه من معلومات تتعلق بالعمل السياسي، وبالحياة العامة للشعب في مختلف نواحيها.
(4) تساهم في مراقبة أعمال الحكومة مما يجعلها مسؤولة أمام الشعب.
فإلغاء الأحزاب السياسية بحجة أنها تثير العداءات القبلية والإثنية، والإقليمية، لن يقضي على الانقسامات والتناقضات داخل المجتمع ؛ لأن معالجة الانقسامات والتناقضات يكون من خلال استراتيجية متكاملة، تحقق الوحدة الوطنية ومن خلال خلق هوية وطنية مشتركة لجميع المواطنين، كما أنه لا يمكن تحقيق الوحدة الوطنية من خلال قرارات من فوق؛ لأن ذلك يؤدي على نتائج عكسية، على اعتبار أن تحقيق الوحدة الوطنية يتم من خلال التطور التدريجي من خلال الجهود الكبيرة والبعيدة المدى ، والصبر على المصاعب وهذا سيقود إلى خلق شرعية النظام التي تعتمد على الإحساس بالمواطنة والانتماء ، وبالتالي ستنتهي الصراعات الإثنية والقومية والدينية في المجتمع، وتزداد قوة الوحدة الوطنية في الدولة( ) ، لكن هذا لا يعني أن الصراع في المجتمع سينتهي ككل ؛ لأن ظاهرة الصراع في المجتمع تتحكم فيها العواطف والمشاعر قبل العقل والمنطق، لذلك يتنوع الصراع داخل المجتمع، ولولا هذا التنوع لسار المجتمع نحو الجمود( ).
كما أن على الأحزاب الحاكمة في أي دولة أن تعمل من خلال سلطتها على تحقيق المجتمع المدني الوطني المشترك ، المتميز عن التعدديات العصبوية المدمرة له، بحيث تصبح الدولة محققة لتوازنات القوى الاجتماعية وقواه، ومنتمية إلى المجتمع ومتعالية عن تناقضاته، ويكون حكمها المدني قائماً على التعاقد، وأن يكون أطراف العقد هم المواطنون، وحيث أن هذه الدولة ستكون قادرة على مواجهة النزاعات الأهلية، وتحقيق التطور والتغيير من أجل تحقيق التقدم، وأن تحقق هذه الدولة واجباتها الوطنية والاجتماعية، كتوحيد التراب الوطني، وإقامة دولة الحق والقانون توخياً للتوحيد السياسي، وصوناً لحقوق الناس أجمعين، حيث تبرز الشخصية الوطنية من خلال تكريس فكرة الانتماء إلى كيان وطني، يتعزز من خلال المساواة بين الناس، وإحداث التنمية السياسية من خلال الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة سلمياً بين المواطنين، وتعمل هذه الدولة أيضاً على فك حالة الوضع الاجتماعي العصبوي في المجتمع الأهلي، وتفكيك الصلة بين السياسة والعصبيات، وتمنح من خلال مجتمعها المدني حقوق الاختلاف الثقافي، والاجتماعي فيه، دون أن يهدد ذلك ثقافة الاندماج الاجتماعي والوطني، ودون أن يؤدي ذلك إلى تنازع وحروب ، لكن هذا لا يتحقق إلا إذا كانت تلك الأحزاب الحاكمة الديمقراطية في مجتمع تعددي الحزبية سواءاً كان ثنائياً أم تعددياً.
وهناك عدة عوامل تؤدي إلى الوحدة الوطنية في ظل الأحزاب السياسية، أهمها هي : الدفاع عن المصالح المشروعة لجميع فئات الشعب ، فاختلاف أفراد الشعب إلى فئات وطبقات سيقود إلى اختلاف المصالح بينهم، وقد كان حل هذا التعارض ممكناً في الماضي عن طريق ما كان يسمى بالقواعد الطبيعية، وعلى رأسها قاعدة العرض والطلب، واحتياجات المجتمع، لكن بعد قيام الشركات الاحتكارية الكبرى، أصبح من الضروري أن تتدخل الدولة للوقوف بجانب الفئات الضعيفة، لمنع استغلال الطبقات العليا للطبقات الدنيا، وإقامة نوع من التوازن بين مختلف المصالح المشتركة، ووسيلتها لذلك تكون من خلال إتاحتها لحرية تكوين الأحزاب السياسية ، والنقابات المهنية ، والعمالية ؛ لأنهما يمثلان قطاعاً من قطاعات الشعب التي تتفق مصالحها، وعن طريق تحقيق التكامل يمكنها أن تدافع عن مصالحها بالوسائل المشروعة؛ لأن الأحزاب والنقابات ليست إلا تجمعاً لقطاعات من الشعب تجتمع تحت قبة البرلمان عن طريق ممثليهم المنتمين، ولدى الرأي العام عن طريق الصحافة، والاجتماعات ، والمظاهرات والاضرابات.
كما أنه لكي ينجح النظام الحزبي، يجب أن يكون مستوى التعليم كبيراً، وأن يكون الشعب متمرساً على الحرية والديمقراطية، وفي الحالات التي يتعرض فيها الوطن للخطر، فإن الحكومات في نظم التعددية الحزبية، تلجأ إلى إقامة حكومات الوحدة الوطنية، التي تجتمع عليها الأحزاب – مثلما لجأت عليها بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية- بسبب خطورة الصراع الحزبي على الوحدة الوطنية في هذه الأوقات.
كما أن إيمان أفراد الشعب بأيديولوجية الحزب الحاكم في أي نظام كان سيزيد من الوحدة الوطنية، عندما تكون برامج وأيديولوجيا الحزب تعبر عن تطلعات جميع فئات الشعب؛ لأن الايدولوجيا والبرامج الحزبية، ستقدم تحديداً للأداة التي تمكن المجتمع القائم من تحقيق ما يصبو إليه من تصور، وتؤثر في الشعور الوطني فيمن يقبلون بها، كما تؤثر على تطور الفكر الثقافي ليصبح أداة اجتماعية في ضوء ذلك، وتحشد جهود أفراد الشعب للدفاع عن النظام القائم، وتحقق الترابط في المجتمع المحدد الذي تسعى كل الجماعات إلى تحقيقه داخل المجتمع، كما تساهم في انحسار العداء بينهم.
ووجود أحزاب دينية لا يضعف الوحدة الوطنية في المجتمع كما يدعي البعض ، فقد كان للدين في الماضي دوراً ساهم في تحقيق الوحدة الوطنية ؛ من خلال ربطه الأفراد برباط وثيق وضع أساساً لتعاونهم المستمد من عقيدتهم، لكن تضاءلت أهميته بعد الثورة الفرنسية في أوربا عام 1789، وشيوع مبدأ الفصل بين السياسة والدين – العلمانية – إلا أن الدين يظل له دور في الوحدة الوطنية من خلال خلقه للشعور العاطفي بين الأفراد بما يثيره في نفوسهم من عواطف ونزعات خاصة، وله تأثير كبير على أفكارهم وأعمالهم( ).
كما تترسخ الوحدة الوطنية من خلال إقامة نظام برلماني تعددي، يراعي في تمثيله جميع الاتجاهات السائدة في فكر أفراد الشعب بمختلف فئاتهم حيث يتوقف نجاح هذه الحكومات من خلال استطاعتها تحقيق الوحدة الوطنية ، والاستقرار السياسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي، من خلال تغلبها على الولاءات القومية ، والطائفية الاجتماعية، التي تعتمد على التمييز الطبقي ؛ المبني على أساس المنزلة الاجتماعية ، والجماعات التي تتحدث بلغات مختلفة ، وفيها ديانات مختلفة، لذلك فعليها أن تضع برنامجاً محدداً للتطوير والتحديث ينظم عمليات الاختلاط والترابط وأسس الحياة اجتماعية بأسلوب يساعد على استيعاب التفاعلات المختلفة داخل ثقافة قومية واحدة( )، فعلى سبيل المثال رأت لجنة إعادة الدستور المنبثقة عن البرلمان النيجيري عام 1975، أنه رغم أن الخلافات الحزبية فيها قد ساهمت في الاضطرابات والانقلابات العسكرية التي حدثت في نيجيريا آنذاك، إلا أنها ترفض اللاحزبية التي تؤدي إلى الفاشية في الحكم، بيد أنها اشترطت عدة شروط اعتبرتها أنها تؤدي إلى الوحدة الوطنية، وتزيدها قوة، وتبعد كل حزب من أن يتحول إلى حزب تحت قومي، ينتمي إلى الولاءات التحتية، ويعيرها اهتمامه، وأهم هذه الشروط( ):
1) أن تؤكد أهداف وبرامج الحزب على الأهداف الوطنية الأساسية، وأن تكون شعاراته وطنية وتعكس منظوراً وطنياً خالصاً.
2) يجب أن ينحدر أعضاء اللجنة التنفيذية لأي حزب من ثلثي الأعضاء من الولايات على الأقل.
3) يجب ألا يقبل أي حزب سياسي مساهمات مالية أجنبية.
4) أن تكون عضوية أي حزب مفتوحة أمام كل المواطنين.
5) حظر قيام أي حزب بتشكيل مليشيات خاصة به.
6) يجب أن يكون دستور أي حزب ديمقراطياً، وأن يصل أعضاءه بالانتخابات العلنية.
7) ضرورة أن يكون المقر الرئيسي لأي حزب في العاصمة.
8) عنوان واسم أي حزب يجب أن يكون وطنياً.
فلو اتبعت جميع الدول خطوات كهذه في اشتراطها على كل حزب سياسي ؛ فإنه من المؤكد أن الأحزاب في الدولة ستكون جميعها وطنية، وستعبر عن تطلعات الشريحة الكبرى من أبناء الشعب وستبعدهم عن أي انقسام أو انشقاق، أو أية دعاوى انفصالية، وستحقق بذلك الاستقرار السياسي فيها، والذي يكون مقدمة لحدوث الوحدة الوطنية بكافة عناصرها.









المطلب الثاني
العلاقات السلبية بين الوحدة الوطنية والحزبية
يدعي الحزب الواحد أنه هو أداة الوحدة الوطنية، لكنه قد يصبح معبراً عن إحدى الجماعات العرقية ، أو الطائفية ، أو الدينية، في المجتمع، وقد تستغله هذه الجماعات ضد الجماعات الأخرى، مما يودي به إلى الانقسام إلى أجنحة متعارضة( )، كما أن وجود نظام تعددي ديمقراطي يعبر عن حرية الرأي وتعدد الأحزاب، سيؤدي إلى التنافس والتضامن ويقضي على الوحدة الوطنية؛ بسبب نقدها للحزب الحاكم الذي يجمع قوى الشعب، ويحقق أهدافها، ويبني اقتصادها( ).
كما أن البعض يرى أن نظام التعددية الحزبية لا يصلح في الدول التي ينخفض فيها مستوى الوعي السياسي، حيث تؤدي الصراعات والمنازعات الحزبية إلى تفتيت الوحدة الوطنية، لهذه الأسباب اتجهت الدول حديثة الاستقلال إلى نظام الحزب الواحد، ورفضت المعارضة واعتبرتها مرادفة للانفصال( ).
ويرى آخرون أن الأحزاب السياسية تستغل الأيدولوجيا لتعبئة الأتباع والمؤيدين، وتوجيه الطاقات نحو تحقيق أهداف الوحدة الوطنية، وتساعد على الحد من التوتر بين الجماعات والاتجاهات المختلفة في الدولة( )،ليس لأنها مع مصلحة الوطن بشكل رئيس ، بل من أجل إظهار نفسها على أنها هي التي تستطيع تحقيق أهداف وطموحات الشعب، رغم أن هدفها الأساسي هو الوصول إلى سدة الحكم، وتحقيق مصالح أعضاءها بالدرجة الأولى، ثم تعمل بعد ذلك على تطبيق برامجها السياسية، ونشر أيديولوجيتها بين أبناء الشعب، وبذلك تتحكم قلة قليلة في المجموع الأكبر؛ لأن الحزب السياسي يمثل أقلية ولا يمثل معظم أبناء الشعب.
ويرى المفكر ساطع المصري أن نظام الحزبية الأحادية في الدولة لا يختلف عن الدولة المحتلة، فلا مشيئة لشعب محكوم من قبل حزب ديكتاتوري مستند إلى الجيش، إلا أنه عندما يكون الحزب مستنداً إلى قاعدة شعبية كبيرة، فإن تبعية الجيش للنظام تكون طبيعية، وتساهم في تحقيق الوحدة الوطنية( ) ، فعلى سبيل المثال عندما حاول سكان الولايات المتحدة الجنوبيون الانفصال عن جسم الدولة، وإقامة حكومة خاصة بهم، رفض النظام مطالبهم، واستند إلى الجيش ليعيد الوحدة مرة أخرى، وذلك بعد أربعة سنوات من الحرب الأهلية.
كما أن من إفرازات النظام الأحادي الحزبية، سيتناول وصول التوتاليتارية إلى الحكم، حيث تعتبر التوتاليتارية، شأنها نظاماً رجعياً يسعى لحماية مراكز امتيازات الطبقات الحاكمة، وغير مهتم بتعميق وتسريع عملية التصنيع، لذلك ليس لديه أية دوافع تطورية، فهو كالسلطة الإخضاعية الأرستقراطية التقليدية في المجتمعات المتخلفة، وإن احتمال نشوء ثورات ناجمة ضدها يعتبر ضرباً من المستحيل( )؛ لأن من أهم ميزاتها أنها نظاماً لا يسمح بوجود أي منافس لها ، كما لا تسمح بتكوين أي ولاءات أخرى غير الولاء لها، وتعتمد على السيطرة الصارمة على جميع مظاهر حياة الشعب، وطاقاته، من خلال القمع والاستبداد، وتعتبر الفاشية والستالينية نماذج منها.
وهي تعتمد على الإشكال التقليدية للتصنيع، بحيث لا يكون لها معارضة، وعلى تأسيس حكومة شمولية، وتحاول أن تجعل نمو التصنيع متناسباً مع منع نمو الأحزاب السياسية والاتحادات والنقابات، وأكثر وسائل المنع والقمع وضوحاً لها هو الرعب، وذلك من خلال إجراءات التعذيب والإعدامات والسجن والعمل القسري، بحيث يولد الخوف والريبة في المجتمع، بمجمله، والاعتقال التعسفي، وتحت ضغوط هذا الرعب الكلي، لا يمكن الاعتماد على أي فرد بأنه لن يبلغ عن رفاقه، لذلك فأي مؤامرة أو تنظيم واسعين موجهين ضد النظام، سيكونان غير ممكنين عملياً، باستثناء مجموعة داخل النظام، كالجيش مثلاً( ).
وعلى هذا الأساس يخدم الرعب في تفكيك الوحدات الطبيعية للمجتمع (الأحزاب، النقابات، الجمعيات التجارية والحرفية، والنوادي، وأماكن العبادة، والعائلة)، كمراكز فعالة للمقاومة، وهكذا تتحطم هذه الوحدات بقيمها المختلفة التي تخدم مصالح أعضائها المختلفين، بحيث يواجه الفرد المعزول حكومة قوية بمجملها دون أي وسيطاً، بعد ذلك يقيم النظام تنظيمات جديدة تعوض على الأعضاء المشاركة السياسية، وقد يجعلها تتخذ نفس الأسماء والإجراءات القديمة، لكنها تختلف عنها جذرياً في أمرين هما ( ):
1) إن العضوية لم تعد إرادية، بل إلزامية رسمياً، وعلى العمال بمجملهم الانضمام إلى الاتحادات النقابية، وعلى كل الناس المحترفين، والفنانين، الانضمام إلى جمعياتهم الحرفية المتتالية، ولم يعد من الممكن في مثل هذه الحالات، السماح بوجود المنظمات المتنافسة ؛ بسبب إخضاع هذه المنظمات الجديدة من قبل النظام بحيث تتحول من خلال ذلك إلى أجهزة مراقبة موجهة ضد أفراد الشعب، حيث بقدر ما يزيد الوقت الذي يقضيه الفرد من حياته في هذه المنظمات، بقدر ما يقل تهديده للنظام؛ لذلك تعمل هذه الأنظمة على التشديد على النشاطات الجماهيرية المنظمة، كالاجتماعات والمحاضرات والاستعراضات والنزهات الطويلة، والألعاب الرياضية، والأغاني، التي قد تعطي قسماً كبيراً من وقت فراغ الفرد.
2) كل هذه المنظمات الجديدة تدين بالولاء لأيدولوجيا النظام، وتخدم مصالحه بحيث تجعل الفرد يعتبر أن مصالحه الخاصة تتطابق مع مصالح النظام، وهكذا تصبح أيديولوجيا النظام وحزبه هي أيديولوجيا حزب العمال ، والمدراء ، والفلاحين الحرفين، وكل الجماعات القومية والدينية على أسس الاعتقاد بأن النظام يمثل الصالح العام، وبالتالي لا تصبح المنظمات الجديدة. أدوات للنظام والمراقب له فحسب، بل أدوات للإقناع أيضاً.
كما تتسم التوتاليتارية بالعمل على فبركة الرأي العام والسيطرة عليه عبر الدعاية والرقابة، بتحويل السكان من مهدد فعال للنظام إلى أدوات مطاوعة له، ويصبح الفرد العاجز مضطر أن يجعل نفسه ومصالحه مرتبطة، ومندمجة مع مجموعة محددة من قبل السلطات القائمة أو من قبل مجموعة قومية، وثقافية معينة، أو من قبل النظام الاقتصادية السائدة أو من هذه الأهداف كلها، وتصبح القومية هي الولاء الجاد للدولة بمؤسساتها المتواجدة، وتصبح مقوم أساسي للتوتاليتارية( ).
وتعمل التوتاليتارية على العمل لخلق وحدة وراء النظام ، عن طريق تشجيع الولاء والتماثل الإيجابي، عن طريق غرس الخوف والكراهية لعدو مشترك ، ويجب أن يكون هذا العدو دائماً دخيلاً وخارجياً، يحدث لا تمزق وحدة الوطن على الإطلاق، رغم أن النظام قد يعتبر جزءاً من المجتمع كدخلاء أجانب بشكل اعتباطي، والهدف من ذلك هو( ):
1) تنفيس الكراهية عن طريق الإيذاء الجسدي.
2) جعل العدو الخارجي هو أن يصبح مصدر الخيبات ، والأحقاد للمجموعات المختلفة من السكان، وإلا تحولت هذه الوظيفة ضد النظام ، أو ضد المجموعات الأخرى، مما يحدث صراعاً محلياً يضعف النظام، مثل يهود ألمانيا الذين حصدوا كراهية العمال كرأسماليين جشعين ، وكراهية الرأسماليين كمحرضين راديكاليين للعمال، وكراهية الصناعيين الصغار لهم كرجال أعمال للكساد.
وعلى هذا الأساس يصبح كل فرد أو جماعة من الشعب هم أعداء للنظام نفسه، ويصبح النظام الحامي الأوحد لكل فرد، ولكل جماعة، ويصبح كل مخالف أو لا يؤمن بالنظام خائن، ومخرب، وجاسوس، ويصبح كل تقصير ، أو عجز للنظام ؛ بسبب العدو الخارجي، وهذا يعني ضمناً أن النظام معصوم عن الخطأ، والمعارضة مرتبطة بالعدو الخارجي، ذلك العدو القوي المخادع، المهدد للنظام وأفراده ، لهذا فيجب على الشعب بكافة أفراده، السير وراء النظام ومواكبته( ).
ويتميز النظام التوتاليتاري بعدة سمات هي( ):
1) ادعائه بأن بلده مطوعه وسكانه محاصرون.
2) يواصل القيام بعلاقات خارجية عدوانية على المستوى اللفظي على الأقل.
3) يصبح العدو الخارجي أمراً واقعاً، ويصبح أكثر فائدة من عملية خلق الوحدة في الداخل وتعزيز الدعم للنظام.
4) يصبح التشديد على العدوان الخارجي ضرباً من تحقيق الذات.
5) التوتر والعدوانية والحرب، كلها أمور تميز التوتاليتارية بجيرانها، لذلك يعمل النظام على عسكرة الحياة العامة، فيرتدي القسم الأكبر من السكان البزات العسكرية، ويتعرضون لنظام عسكري ما، كما أن الدعاية، والرقابة الشاملتين تؤمنان وضعاً مستمراً للتعبئة.
وقد تتحالف الطبقة الوسطى مع الطبقة الأرستقراطية في ترويض المجتمع ، ووصوله إلى التوتاليتارية، حيث تتميز بمعارضتها للديمقراطية، وبحقدها الشديد على الطبقات العليا، ولكونها غير قادرة على منافسة المصانع، والمخازن الكبيرة، وعلى مواجهة متطلبات الطبقة العاملة المنظمة، مما يجعلها في مركز اقتصادي بائس، أمام الطبقة الأرستقراطية التي تقاتل في سبيل الحفاظ على المجتمع القديم ذي الطابع الطبقي، المبني على الإمتيازات، وهذا سيؤدي إلى انضمام فلاحين كثيرين لهذه الجبهة أي لتحالف الطبقة الوسطى مع الطبقة الأرستقراطية، وسينضم لهذه الجبهة العمال الصناعيون، بسبب كونهم عاطلين عن العمل، وبسبب حقدهم ويأسهم من الإشكال الديمقراطية؛ لأن مطالبهم لم تتحقق من خلالها، إضافة إلى المثقفون بالمرتبطون بالأستقراطية، وعلى هذا الأساس سيكون هؤلاء هم الحلفاء والأدوات للتوتاليتارية الحاكمة ( ).
أما ميزة المجتمع في النظام التوتاليتاري، فهي الركود؛ بسبب أن نظامه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يبقى بلا تغيير، ولا يمكن حصول هذا التغيير إلا عن طريق حوافز معينة من العالم الخارجي (الغربي )، ولكن إذا كان البلد المحكوم من قبل التوتاليتارية قوياً بما يكفي لمهاجمة جيرانه، فمن المحتمل أن يتورط نظامه الفاشي بالحرب؛ بسبب الدوافع العدوانية له، لما يحمله العدو الخارجي في هذه الأنظمة من مكانه؛ لأن خلفيتها لطبقة اجتماعية محاربة منغلقة تعتبر الحرب والنهب عملها المناسب، لذلك تمجد الحرب، وطريقة الحياة العسكرية، وتاريخياً وجدت جميع الأنظمة التوتاليتارية الفاشية نهايتها بالحرب عملياً، فالنظام التوتاليتاري لا يمكنه تغيير التركيب الاجتماعي بعمق؛ لأن أي نظام بديل له سيكون توتاليتارياً فاشياً جديداً، على اعتبار أنه وريث لفاشية قديمة ( ).
ويعمل المثقفين في النظام التوتاليتاري على الحفاظ على قوتهم وسيطرتهم عن طريق إضعاف القوى التقليدية، ومن ثم إزالتها، أما موظفو الخدمات والفنيين والمحترفين، وهؤلاء لا يشكلون أي تهديد لهذا النظام؛ بسبب ارتباط مصالحهم معه، كما لا يمكن للفلاحين وللطبقة الوسطى وللطبقة الدنيا، استعادة الديمقراطية مرة أخرى، إلا من خلال تحالفهم مرة أخرى مع الاستقراطية القديمة، وتاريخياً لم يحدث أن وقع بلد ديمقراطي متطور اقتصادياً تحت حكم توتاليتاري إلا من خلال عامل خارجي ساهم في وصولها ، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا( ).
وعلى هذا الأساس يكون نظام الحزب الواحد هو عقبة أمام الوحدة الوطنية ؛ لأنه يفرض أيديولوجية أحادية الجانب على الدولة، ويسعى إلى قولبة شخصية الفرد تبعاً لغايات حددت سلفاً، ويقيم من نفسه وصياً على الناس محدداً لهم ما يفكرون فيه، وكيف يفكرون، ويعلم الناس أن يخفوا فضائلهم، وراء صيغ وكليشات ظاهرها يوهم أنها تعكس إرادة الشعب، وبدلاً من تعليم الفرد وجعله مواطناً مسؤولاً، فإن هذا الحزب يطأ الناس بأقدامه، ويعلم الفرد أن يظهر غير ما يبطن، وأن يخفي شعوره الحقيقي وراء حجاب، وأن يستخدم لغة غير مفهومة اصطلاحية ومقبولة، حتى يبدو أنه يلتزم خطا الحزب، وبالتالي ينجو من القمع، وهكذا تجرح الذات الشخصية، ويصاب الفرد بالإحباط، وبذلك يصبح نظام الحزب الواحد مسانداً للقبيلة، حيث أن الأفراد يصابون بالذهول من العيش في مجتمع شمولي يخضع فيه الفرد كلياً للدولة فيرتدون إلى القبلية كملاذ أخير لهم ( ).
فلا سبيل إلى استقرار سياسي دائم ولا إلى وحدة وطنية حقيقية في مجتمع أسس بنيانه على الإجبار للطوائف ، والأعراق التي تنتمي إليه، والشعوب التي رزحت تحت نير الشيوعية السوفيتية، أكبر مثال على ذلك، فما أن لاحت لها فرصة الاستقلال من خلال سياسة البروسترويكا، والتي هي أهم مقومات الغلاسوست، حتى أخذت تدق طبول الحرب، إذا لم تحصل على الاستقلال من الاستعمار الذي كبلها لقرون عديدة، من قبل حكام جبابرة، حكموها بالحديد ، والنار ، والقهر ، والاستبداد ، والإرهاب ، والتنكيل، فرغم تحقق وحدتها الوطنية خلال ذلك الحكم بشكل ظاهري، إلا أن هذه الوحدة كانت من خلال إرادة السلطة السياسية نفسها، فلم يستطع النظام عملياً جميع تلك القوميات في ظل وحدة وطنية واحدة، إلا من خلال فرضه لنظام سياسي ديكتاتوري، ومن خلال الحزب الشيوعي الوحيد، وتسلطه على الشعب من خلال قانون نص على عقوبات مشددة لكل من يهرب ، أو يهاجر من البلاد دون إذن مسبق( ).
وقد يكون للأحزاب العلمانية سواءً أكانت اشتراكية أم قومية أم كليهما معاً ، دور في إضعاف الوحدة الوطنية في دولة متعددة الطبقات ، أو الأعراق ، أو القوميات ، أو الأديان،حيث تعمل الأحزاب الاشتراكية السياسية على تجسيد الأهداف الشيوعية ؛ لأنها تعتبر الرأسمالية هي العدو الرئيسي، وبأن الثورة الاشتراكية هي الهدف المباشر، وأن كبت الأحزاب الاشتراكية والشيوعية عن إقامة جهة واحدة لكسب أتباع جدد من البروليتاريا والفلاحون والبرجوازيون الصغار وإضعاف الثقة بقيادات هذه الفئات( ).
كما تعمل الأحزاب العمومية الاشتراكية على تجاهل تطلعات الجماعات العرقية والدينية، واتخاذ فرض قيم الطبقة الحاكمة (المتوسطة)، مما يجعل الفئات العرقية والمذهبية تشعر بأنها مجبرة على التحرك وعلى رفع مظالمها إلى الدولة، وقد تتفاوت تلك المطالب بين الرغبة في التمثيل السياسي، والرغبة في الحكم الذاتي، أو الانفصال، وتتبلور الحركات العرقية والمذهبية في عدة مذاهب تتفاوت بين تأسيس الأحزاب السياسية إلى تبني سياسة العنف ضد الحزب القومي الحاكم، وقد تعمل تلك الجماعات على تشكيل أحزاب قومية متطرفة رداً على القومية الحاكمة من خلال الحزب الحاكم الممثل لتلك القومية ؛ بسبب إحساس تلك الجماعات باليأس والإحباط والفشل والاستبعاد( ).
تناولت السياسة في هذا المبحث العلاقة بين الوحدة الوطنية وبين الحزبية على اعتبار أن هذين المفهومين هما محور الدراسة ، وقد رأينا أن هناك ثمة عوامل إيجابية بين هذين المفهومين، وثمة عوامل سلبية ، أما العوامل الإيجابية فرأت أن هناك زيادة في قوة الوحدة الوطنية من خلال هذه الحزبية، فرأى بعض الباحثين أن الحزب الواحد أو القائد سيقوي الوحدة الوطنية في الدولة، ورأى آخرون أن نظام التعددية سواءاً أكان النظام ثنائي الحزبية أم كان متعدد الحزبية سيساهم في زيادة قوة الوحدة الوطنية، وكل من الفريقين كان له حججه حول ذلك، لكن الباحث من خلال مقارتنه لكلا الرأيين وجد أن التعددية الحزبية أقدر على تحقيق الوحدة الوطنية على المدى الطويل، بسبب اتفاق الناس فيما بينهم على وضع الدولة ، وحالة النظام ،ورغم أن الوحدة الوطنية تتحقق في نظام الحزب الواحد أو القائد إلا أنها تكون وحدة وطنية مؤقتة، سرعان ما تنهار بانهيار القضية الحديدية للنظام الحاكم .
كما تناولت الدراسة العوامل السلبية في العلاقة بين مفهومي الدراسة وقد اختلفت الآراء أيضاً بين الباحثين، حول سلبية النظام الأحادي ، أم النظام التعددي على الوحدة الوطنية حيث رأي فريق الرأي الأول أن النظام الأحادي الحزبية يصعف من الوحدة الوطنية بسبب ديكتاتوريته وابتعاده عن الشعب، وتحكم جماعة الحزب الحاكم في الدولة وبناءه للتوتاليتارية والفاشية في الدولة، أما فريق الرأي الأخر فيري أن التعددية السياسية تفرق أبناء الوطن إلى فرق وجماعات متصارعة من أجل السلطة، وبالتالي تساهم في إضعاف الوحدة الوطنية ؛ لكن رأي الباحث أن وجود الحزب الشمولي الأحادي أو القائد سيصف من الوحدة الوطنية؛ بسبب الطبيعة المغلقة لهذا الحزب وانغلاقه عن الجماهير ، واستخدامه أجهزة القمع في حكم البلاد ، وبالتالي سيحدث شرخاً بين النخبة والجماهير، وإذا كان قومياً سيحدث شرخاً بين أفراد الشعب إذا كانوا من قوميات متعددة، وإذا كان طائفياً دينياً فإنه أيضاً سيحدث شرخاً في العلاقة بين أفراد الشعب عندما ينتمون لطوائف متعددة، وإذا كان إقليمياً ، أو طبقياً ؛ فسيحدث شرخاً بين فئات الشعب الطبقية والتي تنتمي إلى أقاليم متعددة وبالتالي فهو عامل سلبي في تحقيق الوحدة الوطنية في الدولة ، أما النظام التعددي الحزبي فرغم الصراعات التي تتم بين الأحزاب بهدف الوصول إلى السلطة ، إلا أنه يبقى أكثر تعبيراً عن الشعب ؛ بسبب أن من يصل إلى السلطة يكونوا -وإن لم يمثلوا جميع فئات الشعب –يمثلون الأكثرية النسبية فهو نسبياً أفضل من نظام الحزب الواحد أو القائد وبالتالي فهو أكثر تعبيراً عن رأي الشعب، خاصة إذا كان الشعب متعلماً ، لأنه لكي ينجح النظام الحزبي فيجب أن يكون مستوى التعليم كبيراً، وتمرس الشعب على ممارسة الحرية والديمقراطية عظماً ، وإلا فإن ذلك يؤدي إلى صراع حزبي بين الأحزاب وحكومات قصيرة المدى ، مما يسمح لبعض العناصر الدكتاتورية بالاستيلاء على الحكم تحت دعوى القضاء على عدم الاستقرار، مثلما فعل هتلر عندما وصل إلى الحكم من خلال حزبه النازي ، أو كما فعل موسليني عندما وصل إلى الحكم من خلال حزبه الفاشي( ).
نخلص من هذا الفصل إلى أنه رغم تعدد تعريفات مفهوم الوحدة الوطنية إلا أنه يعني عند كل هذه المفاهيم، كل ما من شأنه تقوية الروابط بين أفراد الشعب الواحد، وحل جميع الصراعات التي تحول دون استمرار الدولة، والنظام، كما أن المؤشرات التي حددتها الدراسة لهذا المفهوم، هي عناصر رئيسية لقيام أي وحدة وطنية في الدولة، وقد أوضحت الدراسة أيضاً أن هناك ثمة عناصر تؤثر في الوحدة الوطنية، حيث وجدنا أن هناك عوامل تزيد من قوة الوحدة الوطنية، بينما عوامل أخرى تضعف هذه الوحدة.
وقد بينت الدراسة أيضاً، مفهوم الحزبية بأبعادها الأيديولوجية، وبرامجها السياسية بشكل عام، والأسباب التي تنشأ من أجلها الأحزاب السياسية، وقدمنا شرحاً مفصلاً لأنواع الأحزاب السياسية ؛ بحسب شكل النظام الذي يتحدد وفقها، فرأينا أن هناك ثمة أنظمة سياسية أحادية الحزبية، وأخرى ثنائية الحزبية، إضافة إلى أنظمة تعددية الحزبية، وقيَّمنا كل نظام على حدة، بحيث بيَّنا سلبيات وإيجابيات كل نظام من هذه الأنظمة، وقد أكدنا على نظام الحزب الواحد، ؛ بسبب أن الدراسة ستبحث في النظام الحزبي الأحادي بشكل خاص، كون حزب البعث العربي الاشتراكي وهو أحد أشكال الأحزاب الأحادية، حيث كان حزباً قائداً خلال فترة حكمه.
كما أوجدنا العلاقة التي تربط مفهومي الوحدة الوطنية والحزبية، حيث حددنا العلاقة الإيجابية التي تربط المفهومين، ووجدنا أن هناك علاقات إيجابية بينهما، بحيث أن وجود الحزبية سيساهم في دعم الوحدة الوطنية وزيادة قوتها، كما وجدنا بالمقابل أن هناك علاقات سلبية بين الوحدة الوطنية ، والحزبية، بحيث أن وجود الحزبية سيساهم في إفراغ الوحدة الوطنية من محتواها، وتناقص قوتها، لكن رأت الدراسة في النهاية، أن النظام الحزبي التعددي ورغم سلبياته، إلا أنه أكثر تعبيراً عن المجتمع وفئاته، وبالتالي أكثر قدرة على تحقيق الوحدة الوطنية، من النظام الأحادي أو الشمولي، الذي ينفصل عن الشعب ويسعى من خلال سياسته الداخلية والخارجية، إلى الانفصال عن الشعب، وبالتالي إضعاف الوحدة الوطنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق