نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

عالم السياسة والاقتصاد والقانون

هذه المدونة تعبر عن الكثير من الأبحاث التي قدمتها

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 مايو 2010

الوحدة الوطنية في العراق في عهد صدام حسين ج1

الوحدة الوطنية في ظل حكم صدام حسين

• المبحث الأول : حرب الخليج الأولى وتداعياتها
أولاً -احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
ثانياً : الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
ثالثاً : مدى تحقق الحرية والعدالة والمساواة
رابعاً : الهوية الوطنية للجيش
• المبحث الثاني : حرب الخليج الثانية وتداعياتها
أولاً : احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
ثانياً : الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
ثالثاً : مدى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة
رابعاً: الهوية الوطنية للجيش العراقي
• المبحث الثالث : حرب الخليج الثالثة والحكومات العراقية
في ظل الوجود الأجنبي
أولاً: احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية
ثانياً : الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
ثالثاُ : مدى تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة
رابعاً : الهوية الوطنية للجيش
الخاتمة
الفصل الرابع
الوحدة الوطنية في ظل حكم صدام حسين
يتناول هذا الفصل أعقد مرحلة من مراحل الدراسة وهي المرحلة التي حكم فيها العراق من قبل الأمين العام القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق صدام حسين، وتكمن أهمية هذه المرحلة في أنها أطول مراحل الدراسة حيث استمرت منذ السابع عشر من يونيو 1979وهي ما تزال مستمرة حتى الآن، رغم أن البعث العراقي قد سقط مرة أخرى في الثاني من إبريل 2003، لكن تداعيات هذا الحكم ما زالت موجودة بمعنى ما مدى تأثير هذه المرحلة فيما بعد سقوط البعث على الوحدة الوطنية؟ وهل يتحمل البعث المسؤولية عما حدث من تداعيات في مرحلة ما بعد سقوطه؟ كما تكمن أهمية هذه المرحلة، أن البعث العراقي قد قام خلالها بثلاث حروب تمثلت بحروب الخليج الأولى1980، والتي امتدت ثمان سنوات، وحرب الخليج الثانية 1991، التي كانت نتيجة احتلال العراق لدولة الكويت، وكان من أهم نتائجها الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق لمدة أثنى عشرة سنة، وحرب الخليج الثالث 2003، التي سقط خلالها البعث العراقي أمام قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي حكم خلالها العراق بشكل مباشر من قبل قوات الاحتلال في بداية الغزو الأمريكي للعراق، ثم حكم بشكل غير مباشر من خلال مجلس الحكم الانتقالي، بإدارة الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر، ثم تشكلت حكومات ما بعد الاحتلال وهي حكومات إياد علاوي، وإبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، لكنها جميعها مرتبطة بالإدارة الأمريكية، وبقوات التحالف التي ما تزال موجودة في العراق، وبناءاً عليه، فدراستنا تكاد تنحصر، في تأثير هذه الحروب على الوحدة الوطنية بشكل عام، وما هي آثارها الإيجابية والسلبية على الوحدة الوطنية؟ وهل استطاع حزب البعث خلال هذه الفترة التعامل مع معطيات هذه الحروب وتداعياتها بشكل عقلاني وواقعي، أم أن سياسته أدت إلى نتائج سلبية على الوحدة الوطنية؟ سيما وأن حزب البعث وإن كان خرج من المعادلة السياسية لحكومات ما بعد الاحتلال إلا أنه ما زال موجوداً في الساحة الشعبية ومازال له مريدوه ومؤيدوه وقيادته، لكن في ظل العمل السري ضد الاحتلال أو القوات متعددة الجنسيات ، وضد الحكومات العراقية التي تشكلت في ظل وجود القوات متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تم تقسيم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث تمثل كل واحدة منها مرحلة مهمة من مراحل الدراسة ولها تأثيراتها الخاصة، وإن كانت كل مرحلة تؤثر على التي تليها تأثيراً مباشراً أو غير مباشر، وعليه فقد جرى تقسيم هذا الفصل إلى، فترة الحرب العراقية الإيرانية وهي ما تسمى بحرب الخليج الأولى، حيث تناول تأثيراتها المبحث الأول، أما المبحث الثاني فقد تناول تأثير حرب الخليج الثانية التي كانت من أسباب احتلال العراق للكويت على الوحدة الوطنية، خاصة بعد تعرض العراق بسبب هذه الحرب إلى الحصار الاقتصادي ، وتدمير البنية التحتية للعراق، وقد استمرت هذه الحرب وتداعياتها حتى عام 2003، والمبحث الثالث يتبادل حرب الخليج الثالثة عام 2003، والتي كان من أهم نتائجها احتلال العراق، وخروج حزب البعث من السلطة، ووجود قوات متعددة الجنسيات في العراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيل ما يسمى بمجلس الحكم الانتقالي تحت الإدارة المدنية للعراق، ثم تشكيل حكومات ما بعد انتقال السلطة للعراقيين وإنهاء الاحتلال رسمياً في العراق، في يناير 2004، لكن ظلت القوات متعددة الجنسيات في العراق، ووافقت حكومة المالكي على استمرارها حتى عام 2011 وفق الاتفاقية الأمنية وهي اتفاقية شبيهة بالاتفاقيات التي كانت تعقدها بريطانيا مع حكومات الدول التي كانت محتلة لها، وبمعنى أخر شبيهة بمعاهدة 1930 بين بريطانيا والحكومة الملكية العراقية، والتي سقطت بثورة عبد الكريم قاسم عام 1958.
المبحث الأول
حرب الخليج الأولى وتداعياتها
بدأت هذه الحرب بعد اعتلاء كرسي الرئاسة في العراق، الأمين العام القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق صدام حسين، عام 1979، بفترة أقل من سنة واحدة، حيث كان لها آثارها الكبيرة على الوحدة الوطنية لما أثرته على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق، إضافة لما أحدثته من خلخلة لبنية المجتمع العراقي، من خلال عسكرة الدولة والاقتصاد والمؤسسات التعليمية والاجتماعية، تحت غطاء المواجهة والتحدي للخطر الخارجي، المتمثل برغبته في تصدير الثورة الإيرانية إلى المناطق المجاورة لإيران، إضافة إلى ما حاولت إثارته ضد نظام الحكم العراقي العلماني، من خلال تأثيرها على العقيدة الإيديولوجية لشيعة العراق، وتحريضهم على نظام الحكم البعثي، وعليه فسيناول هذا المبحث، الأسباب التي أدت إلى هذه الحرب، بما يخص الوضع الداخلي للعراق، وكيف استطاع البعث التعامل مع هذه الحرب وتأثيراتها المرحلية والمستقبلية؟ وما هي تأثيرات هذه الحرب في ظل وجود التمايزات المختلفة في المجتمع العراقي؟ بمعنى ما هو تأثير هذه الحرب على الوحدة الوطنية من خلال مؤشرات الدراسة التي ذكرناها للوحدة الوطنية في العراق.
أولاً : احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
لقد أثار النظام العراقي منذ وصول صدام حسين إلى الحكم عدة قضايا أثرت سلباً على علاقته بإيران، حيث تم انتهاج سياسة العداء للثورة الإيرانية من خلال عدة أمور أهمها( ):
1- فتح باب الصداقة مع حكومة (بازوقان) المعارضة لحكومة الثورة الإيرانية.
2- اضطهاد المراجع الدينية الشيعية في العراق، والتي كانت تدعم الثورة الإسلامية في إيران.
3- إعادة التأكيد على ضرورة إعادة إقليم خورستان (عربستان) إلى العراق على اعتبار أنه إقليم عربي عراقي.
4- إعادة المطالبة بكامل شط العرب.
وزاد من ذلك حدة المناوشات على الحدود العراقية الإيرانية عام 1980، وظن النظام العراقي أنه يستطيع تحقيق نصر سريع وحاسم على إيران في ظل تخلخل النظام السياسي الجديد في إيران ، وانعدام الثقة بين قادة النظام الإيراني وقادة القوات المسلحة الإيرانية ؛ بسبب عمليات التطهير التي قامت ضدهم مما أدى إلى فوضى إدارية في الجيش الإيراني، إضافة لتدهور علاقات النظام الإيراني مع الولايات المتحدة، وقطع الولايات المتحدة لتمويل إيران بالأسلحة وقطع الغيار رغم أن السلاح الإيراني كان في معظمه أمريكياً( ).
وبعد ذلك أكد صدام حسين أنه لم يوقع على تنازله عن شط العرب عام 1979 ؛ إلا بسبب تخوفه من انفصال المنطقة الكردية، ليظل العراق موحداً( )، ثم انتفض النظام على مؤيدي الثورة الإسلامية في إيران، وخاصة المراجع الشيعية، وحزب الدعوة بقيادة محمد باقر الصدر، حيث أكد البعث أن حزب الدعوة يمثل تهديداً للنظام ومن الواجب استئصاله مع كل من ينتمي إليه، فتم إغلاق المساجد التي لها علاقة بنشاطات ذلك الحزب، وتم اعتقال المئات من كوادر ذلك الحزب، وإعدام مائتين وثمانية وخمسين شخص ووضع الصدر في الإقامة الجبرية، وطلب منه أن يختار إحدى النقاط التالية:
1- سحب تأييده للخميني ونظامه في طهران.
2- أن يؤيد سياسة الحكومة العراقية.
3- أن يسحب فتواه بتحريم الانضمام لحزب البعث، ويعلن هذه الموافقة في الصحف الرسمية والعربية التي يختارها النظام.
إلا أن الصدر رفض هذه المطالب، مما زاد من حدة العنف والعنف المصادر فتعرض بعض الوزراء العراقيين ومقرات حزب البعث للهجوم المسلح، وتم تدبير عدة محاولات لاغتيال قيادات حزب البعث أهمها محاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء العراقي (طارق عزيز)، أثناء محاضرة في جامعة المستنصرية حيث قتل فيها حارسه الشخصي، فكثفت الحكومة نشاطها المضاد ضد الجماعات الشيعية الموالية للصدر، وتم ترحيل ثلاثة عشرة ألف عراقي من أصول إيرانية، وأصدر مجلس قيادة الثورة مرسوماً في 31 مارس 1980 يعاقب بالإعدام كل من له صلة بحزب الدعوة، أو يعمل على تحقيق أهدافه أو يرتبط بمنظمة لها علاقة به، لكن رغم ذلك استطاع الصدر إرسال بعض الرسائل التي تدعو لمقاومة النظام البعثي، وتطالب بالحقوق السياسية والدينية لجميع الطوائف، وإقامة الدولة الإسلامية على أساس من العدل والمساواة، مما حذا بالنظام العراقي إلى إعدام الصدر في الخامس من أبريل 1980، مما حذا بشقيقته (آمنة بنت الهدى) إلى الالتجاء إلى ضريح الإمام (علي) (كرم الله وجهه) والدعوة للثأر له بعد أن نجح في أن يكسب الكثير من المؤيدين له في الأوساط الشيعية والسنية على سواء، حيث كان قد أنكر على البعث أ،ه يمثل الإسلام السني، ورغم انتماء قادته له، كما أنه تخطى التعاليم الشيعية عندما اعترف بالخلفاء الراشدين الثلاثة في المذهب السني، كل ذلك جعل تحريض أخته (آمنة بنت الهدى) يحظى بشعبية كبيرة وبتأييد كبير، مما حذا بالنظام العراقي إلى إعدامها أيضاً( ).
ثم عمل النظام العراقي على إتلاف الكتب الدينية الصادرة عن رموز المعارضة، مثل كتاب الصلاة الصادر عن الإمام محمد باقر الصدر (رض) ، وكتب تفسير القرآن مثل تفسير الإمامين الجليلين، إضافة إلى كتب أخرى توجب عدم خلق اللجنة، وعمل النظام على ملاحقة الشباب الملتحي واتهامه بالخيانة وتسخير السفارات في الخارج لإعداد قوائم بأسمائهم وتصفيتهم، مثلما تم تصفية المستشار الثقافي العراقي في سفارة المغرب( )،ورغم دعوة النظام الإيراني للثورة على نظام البعث في العراق إلا أن دعواه فشلت لعدة أسباب أهمها : ( )
1- العراق ليس كله شيعياً ولا حتى أكثره.
2- نظام الشاه يختلف عن نظام البعث.
3- شيعة العراق هم عرب بالأساس.
4- شيعة العراق لا يوالون سوى مرجعيتهم العراقية في النجف.
وقد بدأت الحرب العراقية الإيرانية عندما أنذر العراق النظام الإيراني بضرورة الانسحاب من الأراضي العراقية في منطقة زين القوس وسيف سعد وأعطاه مدة يومين، وإلا فإنه سيقوم بعملية عسكرية يستردها وبالفعل فقد أقدم على هذه الخطوة في السابع من سبتمبر 1980، واسترد هذه الأراضي ، مما حذا بإيران إلى إعلان النفير العام، والحرب الشاملة ضد العراق( ).
وفي ظل هذه الحرب عملت إيران، على استغلال تناقضات المجتمع العراقي لخلخلته من الداخل وإضعافه، فكان التعاون الإيراني مع الأكراد من خلال حزبيهما الرئيسين البارزاني، والاتحاد الوطني، حيث أصبحا يقومان بهجمات ضد الحكومة بمساعدة عسكرية إيرانية، وقد سقطت بعض المناطق في الشمال بيد القوات الإيرانية نتيجة المساعدة اللوجستية للأكراد، إضافة لهجماتهم المتكررة على المراكز الحكومية، وهي المناطق التي احتلتها إيران في شمال العراق مثل مدينة حاج عمران ومناطق أخرى في بنجوين، وهذا ما حذا بالنظام العراقي إلى اعتقال حوالي ثمانية آلاف شخص من قبيلة مسعود البرزاني، وإعدامهم، على أساس أن يجعل منهم عبرة لغيرهم، وفي المقابل تقارب حزب الاتحاد الوطني الكردستاني مع النظام العراقي بعد ذلك، على أساس أن يكون متوازناً بقوته مع حزب البارتي الذي يتلقى الدعم الإيراني،حيث عرض النظام العراقي على جلال الطلباني التفاوض حول اتفاقية الحكم الذاتي على نحو يوقف عدم الاستقرار في الشمال، لكن فشلت هذه المفاوضات بسبب رفض النظام العراقي لمطالب حزب الاتحاد الوطني، المتعلقة بالاستقلال الذاتي لكردستاني والسيطرة الكردية على حقول النفط في كركوك، إضافة للسيطرة الأمنية الكردية على الشمال، وهذا ما دعى حزب الاتحاد الوطني إلى التحالف مع إيران، والانضمام مجدداً لصفوف المعارضة وشن عصابات على المراكز الحكومية، خاصة بعد توسط إيران لحل الخلافات بين البارتي والاتحاد وتشكيل فرقة عسكرية مشتركة غير رسمية، لتحديد منطقة حكم ذاتي من خلال حرب عصابات ضد النظام( ).
وعلى هذا الأساس سيطر الحزبان الكرديان على بعض مناطق الشمال لكن ظل الجيش العراقي مسيطراً على المدن والبلديات الكبرى وأنابيب النفط والطرقات الرئيسية التي تربط المراكز السكنية، وبعد بروز انتصار العراق على إيران في هذه الحرب عام 1988 ، صرح رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بأنه يفضل حلاًُ سياسياً شاملاً للحرب بين العراق وإيران بما يحقق احترام ووجود الشعب الكردي ضمن الوحدة الوطنية العراقية، وأنه يعتب على حليفته إيران ، متناسياً ما فعله الحرس الثوري الإيراني في كردستان الإيرانية، أثناء الحملة العارمة ضدهم عام 1979، وكما أنه نسى أنه عندما عاد إلى العراق عام 1989 لاقى لحل التكريم والترحيب من النظام نفسه، بعد أن عادى النظام وحاربه بالسلاح ، كما أكد رئيس حزب البارتي في ديسمبر 1988 في دمشق ، أن الأكراد لا يطمحون لأكثر من صيغة للحكم الذاتي، لأن الانفصال والاستقلال يضرهم، لأنهم لا يملكون مقومات الدولة، كما أكد في نفس الوقت رئيس حزب الاتحاد الوطني أن النظام عرض عليه منصب نائب رئيس الجمهورية إلا أن النظام أخلف وعده معه، وبسبب ذلك رفع السلاح ضده، ومن ثم تحالف مع إيران ضده، حتى أنه سهَّل على الإيرانيين دخوله حلبجة العراقية في بداية عام 1988، دون أن يعلم أن دخولهم إليها يجعلهم على مشارف بغداد، وهذا ما جعل الرد العراقي قاسياً ضدهم، وقد أكد الدكتور عبد الرحمن قاسملو الذي كان رئيساً لحزب البارتي الإيراني أن انتصار العراق على إيران كان الأفضل بالنسبة للأكراد لأنه لو انتصرت إيران لاستخدمت سلاحها ضد الأكراد العراقيين أنفسهم، خاصة بعد أن دعوا إلى تفتيت العراق إلى دويلات على أسس طائفية وعرقية، بعد تدمير الجيش العراقي، ولم يعلم هؤلاء أن تقسيم العراق هو تفتيت للأكراد أنفسهم ، وإعادة تقسيم منطقة كردستان بين إيران وتركيا بعدما يصبح العراق بلا جيش ولا قيادة تدافع عن وحدة ترابه العربي الكردي( ).
كما أنه خلال هذه الحرب عملت إيران والدول المعادية للنظام العراقي على تشكيل (جبهة كردستان) ودعمها ، والتي تضم ستة أحزاب لا تملك أي قوة فاعلة على مستوى الداخل ، ولم تتعد أنشطتهم أكثر من إصدار البيانات السياسية ضد النظام السياسي في العراق، ولم تدرك هذه الأحزاب أن اتفاقية الحكم الذاتي قد أحدثت استقراراً ونهوضاً لإقليم كردستان ، فقد ازداد الأعمار فيه وتأسست فيه مؤسسات الحكم الذاتي التشريعية والتنفيذية والاقتصادية والإدارية والقضائية والتعليمية والسياحية، كما لم تستطع قوى الخارج التأثير على الداخل، بسبب ضعفها وإعراض الشعب عنها( ).
ويؤكد الدكتور عبد الرحمن قاسملو الذي كان رئيساً لحزب البارتي الإيراني أن النظام العراقي لم يضرب كردستان العراق بالأسلحة الكيماوية كما ادعت بذلك الدوائر المعادية للعراق، كما أكد أن تقارير الأمم المتحدة لم تثبت ذلك وأن من استخدم هذه الأسلحة ضد الأكراد هو النظام الإيراني في عام 1981، وفي السادس عشر من أغسطس 1987( )، لكن هذا لا يعني أن النظام العراقي لم يقم بعمليات قمع للأكراد في ذلك الوقت ، حيث أنه بالفعل قام بعمليات قاسية ضدهم وتم اعتقال وإعدام كل من يشك في إنتمائه إلى البيش ماركة أو الذين فروا من الجيش ، وتم هدم القرى التي كانت فيها مقاومة ونقل السكان الأحياء إلى مخيمات سكنية خاضعة للرقابة الحكومية ، ورغم عدم استطاعة النظام تحقيق أهدافه منها إلا أنه قام بحملة أخرى سميت حملة الأنفال الثانية في فبراير 1988 لاستئصال أي مقاومة حتى تم في مارس 1988 الاستيلاء على المراكز الرئيسية للاتحاد الوطني الكردستاني وحزب البارتي، وهروب أعضائهما للخارج، وبحلول أغسطس 1988 توقفت المقاومة الكردية وسيطرت القوات المسلحة العراقية على كامل كردستان بعد تدمير الكثير من القرى الكردية الخاضعة للحكم الذاتي، ولقي عشرات الآلاف حتفهم وأعدم الكثير من الأشخاص الذين اعتقلوا خلال هذه الحملة لكن في سبتمبر 1988 أعلن النظام العراقي عفواً عاماً وسمح لكل المهجرين بمن فيهم البيش ماركة بالعودة إلى العراق، بالرغم من تأكيده أن حملة الأنفال تدخل ضمن الحرب العراقية الإيرانية على أساس أن الأكراد كان هدفهم تدمير سدي دوكان ودربدخان بقصد تدمير بغداد( ).
ولم تكتف إيران خلال حربها مع العراق على دعم وتحريض الأكراد ضد النظام العراقي ، بل عملت على إثارة الشيعة في الجنوب ضد نظام الحكم، فقد أسست المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عام 1982 بزعامة محمد باقر الحكيم ، وقد شكل قوة عسكرية صغيرة سميت (لواء بدر) وكانت تتألف من أسرى عراقيين، وقد قامت بعدة اشتباكات مع القوات العراقية في الحدود والشمالية لكن ظل معظم شيعة العراق لا علاقة لهم بهذه المنظمة، وبعيدين عن التحريضات الإيرانية، خاصة بعد أن أخذ النظام العراقي يقوم بحملة دعائية كبيرة مؤكداً فيها على الهوية العربية للعراقيين سنة وشيعة ، وأن الإسلام هو دين النظام، وأن صدام حسين من نسل آل البيت ، ثم عمل على إحداث انقسام بين العراقيين والإيرانيين الشيعة، بالرغم من ووجود التمايزات بينهم، بإثارة موضوع الهوية العراقية، وازداد في قمعه ضد حزب الدعوة الإسلامية الذي استمر بالمناداة بضرورة إقامة دولة إسلامية في العراق ، وهذا ما أدى لهروب الكثير من أعضائه إلى إيران( ).
كما لجأ النظام العراقي في مواجهة التحريض الإيراني ضده من خلال الطوائف والإثنيات إلى إستراتيجية استقطاب الأكراد من خلال التخفيف عن المعتقلين والمتمردين الأكراد، بإخراج عدداً كبيراً منهم من السجون، وتكثيف الدعوة في الأوساط الكردية لصالحه، وتعبئتهم ضد البيش ماركة في الشمال واستغلال التنافس بين البارتي والاتحاد الوطني من خلال الوعود بتوسعة الحكم الذاتي وإجراء انتخابات حرة وتشكيل جيش كردي لحماية الإقليم( ).
كما عمل النظام العراقي على توسيط زعيم حزب البارتي الإيراني (عبد الرحمن قاسملو) لدى رئيس حزب الاتحاد الوطني (جلال الطلباني) ، لإنهاء كل خلاف مع النظام إلا أن تمسك الطلباني بكركوك ضمن منطقة الحكم الذاتي، أدى إلى فشل المفاوضات في عام 1984، لذلك عمل النظام على الاتفاق مع تركيا على المطاردة الساخنة التي تسمح لكل من العراق وتركيا بتعقب الأكراد داخل أراضي الأخرى على عمق يصل إلى عشرة كيلومترات ( ).
وفي إطار رد الفعل للمعارضة الشيعية شكل حزب الدعوة الشيعي جناحه العسكري، وأصبح تنظمه سرياً ، كما عمد إلى تشكيل عدداً من المنظمات التابعة له، مثل جبهة العمل الإسلامي وحركة البناء والديمقراطية، لكن انقسام الآراء فيه جعله غير متماسك، كما اختلف أعضائه حول موقف الحزب من إيران( )، وقد اعتمد هذا الحزب مع الأحزاب المعارضة الأخرى على استغلال أخطاء النظام بحق الشيعة في الجنوب، من خلال دعواته ضد ما أسماها الرجعية الدينية وشعائرها،وفي هذا الإطار كان النظام يقوم بالعمل على الاستيلاء على بعض المواقع الدينية كالحسينيات والأوقاف الشيعية ، واستخدامها فيما بعد في إنشاء مبان تجارية وإغلاق المدارس الدينية مثل كلية الفقيه في النجف، وتعريض الحسينيات والمكتبات الشيعية والمشاهد الدينية للتلاميذ ، وتقييد المناهج الدينية في مؤسسات التعليم العالي الشيعية ، كما كان الأذان الشيعي ممنوع في المناطق التي يقطنها الشيعة وكانت بعض شعائر الشيعة مثل جلد النفس والسير لمسافات طويلة على الطرق السريعة للوصول إلى المراقد المقدسة في النجف وكربلاء ممنوعاً، وهذا مما أثار الكثير من المظاهرات الشيعية، التي أخمدتها السلطات العراقية ، وتم منع توزيع الصور المطبوعة للمقدسات والمواقع الدينية، ورغم ذلك استمر النظام في إدعاءاته أنه ضد التدخل في عقائد الشعب الدينية، حيث أكد ذلك صدام حسين بقوله "الجميع أحرار في ممارسة دينهم، وعلى الحكومة ألا تلعب دور إمام الشعب" ، لكن هذا لم ينطبق على أرض الواقع حيث كان ممنوعاً عقد اجتماعات عامة موسعة في المناطق الشيعية باستثناء مجلس الفاتحة الصغيرة واجتماعات العزاء والجنازة( ).
ورغم ذلك حاول النظام العراقي بعد الهزائم التي مني بها عام 1982 أن يوقف الحرب العراقية الإيرانية مستغلاً غزو إسرائيل للبنان، فعرض على إيران وحدة مقدسة باسم الإسلام بين العراق وإيران، في محاولة لاحتواء المعارضة العراقية في الخارج، وأكد أنه على استعداد للقبول باتفاقية الجزائر 1975 ، لكن النظام الإيراني رفض ذلك وأكد أن الطريق إلى القدس يمر عبر إسقاط البعث العراقي( )، وكان هذا طبيعياً في إطار الدعاية العراقية في بداية الحرب، التي ادعت أن هذه الحرب هي حرب مقدسة، رغم كونها حرب بلا قضية ولا حيثيات، لأن العراق لم يتعرض لعدوان مباشر من إيران، وأما بالنسبة لإقليم عربستان (خورستان) فهو في معظمه من الشيعة الذي يخشى النظام تأثيرهم على شيعة العراق، وبالتالي فهو من حيث الواقع لا يحبذ ضمها إلى العراق( ).
وقد شجعت سياسة العراق التعريبية في مناطق الشمال العراقي، التركمان العراقيين الموجودين في الخارج على تشكيل حزب تركماني سمي الحزب الوطني التركماني في الحادي عشر من نوفمبر 1988 ، على يد مثقفين ومهنيين عراقيين مقيمين في تركيا وأوروبا، من أجل العمل لصالح قضية التركمان الذين يخضعون لسياسة الاستيعاب ، وشكلوا عدة جمعيات وتنظيمات فكرية شجعتها تركيا( ) ، أما المسيحيون فقد تمتعوا بحقوق كبيرة خلال هذه الفترة، ووصلوا إلى مناصب كبيرة في ظل الدولة العراقية، مثل طارق عزيز الذي كان نائباً لرئيس مجلس الوزراء، كما فرض حزب البعث قراراً يمنع التعرض لهم( ).
ومن الأعمال التي أثرت على سلباً على الوحدة الوطنية وأثارت كل من الشيعة والأكراد على حد سواء هو ترحيل العراقيين الأكراد الشيعة (الفيليين) خلال الفترة (1980-1988) إلى إيران، على أساس اعتبارهم تبعية إيرانية، وتم مصادرة أملاكهم وأموالهم ووثائق جنسيتهم العراقية، رغم أن هؤلاء عراقيون منذ ما قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وقد قدر الذين تم إبعادهم إلى إيران خلال هذه الفترة بنحو أربعمائة ألف مواطن حسب ما ذكرته إحصائيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدوليين( ).
أيضاً فإن الاتجاه الإسلامي بين الأكراد المتمثل بالرابطة الإسلامية في كردستان، التي تشكلت منذ نهاية عهد البكر، بقصد التصدي للأفكار والطروحات الماركسية، اتجهت إلى معارضة النظام في عهد صدام حسين، ولم يستطع النظام كسبها إلى جانبه، رغم ما لها من تأييد الكثير من علماء الدين في كردستان،وقد نظمت هذه الرابطة في إبريل 1987 انتفاضة كبيرة ضد سياسة التهجير التي اتبعها النظام العراقي بحق أهالي كردستان في حملة الأنفال وقاد زعيمها (عثمان عبد العزيز) هذه الانتفاضة ، ثم فرَّ إلى إيران بعد فشل الانتفاضة، ليصبح مرشداً عاماً للرابطة الإسلامية، ثم حولها إلى الحركة الإسلامية في كردستان العراق – وسيطرت على مناطق واسعة على الحدود مع إيران واتخذت شعاراً لها (القرآن، البندقية، الخنجر، لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومما أثر سلباً على العلاقات بين النظام والبيش ماركة أن النظام قد أطلق على حملته ضدهم عام 1988 اسم (حملة الأنفال)، حيث تعني كلمة الأنفال السورة الكريمة من القرآن الكريم، التي انتصر فهيا المسلمين على المشركين عام 624م ، وقد أباح القرآن فيها أرواح وأموال هؤلاء المشركين وهذا ما أشعر الأكراد أن النظام يعدهم مشركون ويستحقون كل عقاب ممكن ، وبالفعل فقد أباح قائد هذه الحملة (علي حسن المجيد) الملقب بالكيماوي لمؤيدي النظام من الأكراد وهم فرسان صلاح الدين أن باستطاعتهم سلب المتمردين لأموالهم وأسلحتهم، كما فعل النظام نفس الشىء بالنسبة للشيعة، فبسبب ما تعرض له النظام من هزائم عام 1983، عمل على التقارب مع الشيعة، كون أغلبية جنود الجيش العراقي من الشيعة، وأصبح المسؤولون يكررون زياراتهم للمراقد الشيعية، ويقومون بإصلاحات عامة في مدن الجنوب،إلا أن النظام لم يوقف من قمع التنظيمات الشيعية السرية، حيث تم إعدام أربعين رجل دين شيعي في عام 1989 ، كما اعتقل واختفى واغتيل آخرين مثل (مهدي الحكيم) شقيق محمد باقر الحكيم، في الخرطوم وهاجم النظام منطقة اللأهوار لملاحقة المعارضين والهاربين المختفين فيها، وفرض عليها حصاراً شديداً( ).
وبالنسبة لليهود العراقيين في هذه الفترة فقد أخذوا الكثير من حقوقهم، رغم أنهم منعوا من تولي المناصب العليا في الوسط الأكاديمي، إلا أن بعضهم شغل بعض الوظائف في الدولة( ).
كما أنه مما أثر سلباً على الوحدة الوطنية في العراق هو استمرار النظام في سياسة المحاباة التي مارستها النظام تجاه العشائر العراقية في الشمال الغربي والتي في معظمها سنية، مما أوحى بأن النظام يؤثر هؤلاء على غيرهم من أبناء العشائر العراقية الأخرى، وتأكد ذلك من خلال إعطاء أبناء هذه العشائر لمراكز قيادية هامة في الجيش والقوى الأمنية، بالرغم من إعطاء قسماً من هذه المراكز لأطياف المجتمع العراقي الأخرى( )، وقد زاد ذلك النظام من ارتكازه على العلاقات القرابية في تولي هذه المناصب أو المناصب الرئيسية الضاربة في الدولة ، لإدراك النظام أن الثقافية السياسية الموجودة في العراق هي ثقافة انقلابية حسب مبدأ حزب البعث بأنه حزب انقلابي ، فهو قد وصل إلى الحكم عن طريق الانقلاب فثقافته هي ثقافة صراعية على مواقع السلطة والنفوذ وبالتالي فهو يعتمد على العلاقات الحزبية الأيديولوجية والتنظيمية للحفاظ على تماسك النخبة الحاكمة والتي ثبت أنها غير كافية وغير عملية، بسبب ما حدث من انشقاقات وتكتلات داخل حزب البعث مثل انقلاب كزار وانشقاق السامرائي، وبناءاً عليه فقد تولى صدام حسين إضافة إلى رئاسة الدولة عدة مناصب أهمها أنه أصبح الأمين العام للقيادة القطرية للحزب، ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، كما تولى ابن عمه (علي حسن المجد) وزارة الدفاع، ثم أصبح أمين فرع الحزب في المنطقة الشمالية، وعضو في القيادة القطرية، أما صهره حسين كامل المجيد فقد تولى وزارة الدفاع ووزارة الصناعة العسكرية، وتولى صهره الأخر صدام كامل المجيد، المخابرات العسكرية، وأخوه وطبان إبراهيم الحسن، وزارة الداخلية، إضافة إلى عضويته في القيادة القطرية، ومدير الأمن أخوه سبعاوي إبراهيم الحسن ، أما رئاسة مخابرات القصر فتولاها أخوه برزان إبراهيم الحسن، وغير ذلك من الأقارب ومن العشائر المقربة للنظام، وعلى هذا الأساس سيطرت الدولة على كل مفاصل المجتمع اقتصادياً وسياسياً من خلال هؤلاء والموالين لهم، ولم يبق سوى المؤسسة الدينية الشيعية التي بقيت تتمتع بالحرية الدينية بقيادة عدداً من المراجع الشيعية، وتتوفر فيها قنوات وشبكات اتصال اجتماعية واسعة نسبياً، بسبب الوجاهة الدينية والموارد المستقلة، والحسينيات والمدارس الدينية، من خلال تأكيد النظام على الحزب القائد وبناء الدولة العربية الاشتراكية الواحدة بمعزل عن الدين، واعتمد في ذلك على مصادر اعتبرها شرعية هي الثورة والأمة، وعدم السماح للاقتصاد الخاص بالنمو من خلال تهجير أصحاب رؤوس الأموال ذوي الأصول الإيرانية رغم أن رأسمال الواحد فيهم يعادل رأسمال مائة تاجر عراقي، وتهجير الآلاف ممن لهم علاقة بالأحزاب الدينية الشيعية، وعلى هذا الأساس كان من أهداف الحرب مع إيران تصفية المعارضة الدينية والسياسية، واحتلال البعث لكل المنظمات والاتحادات والجمعيات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبالتالي لم تجد المعارضة ملاذاً لها سوى الصمت أو المنفى أو المقاومة عبر الجبال( ).
في ظل هذا الوضع أصبح الدخول في حزب البعث ضرورياً لتقلد بعض المراكز أو لشغل الوظائف في الدولة، خاصة بعد أن استمر العمل بالقانون رقم 200 الذي صدر عام 1982 والذي يعاقب بالإعدام كل من يعتنق فكراً غير البعث، لكن أصبح الولاء للبعث يعني الولاء لصدام حسين ونظامه، ووصعت نظرية عبادة الفرد موضع التنفيذ، وأصبح الترقي في الدولة مرهون بالولاء المطلق للزعيم الفرد، من دون اعتبار لمدى التعليم عند هؤلاء الذين قادوا الحزب والدولة والجيش حيث سعى النظام إلى جعل الخضوع له هو القضية المشتركة للشعب العراقي لكل فئاته، وأخذت الدعاية تتحدث عن أساطير مميزة عن الهوية العراقية، وتشدد على الشجاعة الحربية، والأصل التاريخي المشترك، لكل صانعي أمجاد العراق بدءاً من السومريين وحتى صدام حسين، حيث تظهره الدعاية بميزة الإعجاب، على أساس أنه يمثل جميع أطياف الشعب العراقي وهويته الخاصة، وتم إنشاء مؤسسات وطنية لدعم الأساطير الوطنية من خلال حزب البعث الذي تتشعب مراكزه في كل أنحاء العراق، وهذا أدى لوصولها إلى جميع أبناء الشعب العراقي( )، ثم عمل النظام على الترويح للمواقف الرسمية والسعي إلى استيعاب المثقفين والفنانين والملحنين والمغنيين فالذي يكتب عن الحرب يحظى بمكرمة النظام وهداياه، ومن يكتب أغنية تمجد صدام والحزب، له هدية قيمة، وأفتتح عام 1986 مركز صدام للفنون الذي حل محل المتحف الوطني للفن الحديث، وانتشرت كتب الزعيم وأطوار حياته، وعن البعث وإنجازاته وأعياده، وأصبح التقرب من النظام هو المحدد الأول لحصول الفنان على موارده الأولية، وفرصة عمله، ثم جعلت سيرة صدام فيلماً للمخرج المصري (توفيق صالح) في رواية للشاعر عبد الأمير معلة في فيلم الأيام الطويلة، ثم أمر بتدريسها في المنهاج التثقيفي لتنظيمات حزب البعث، وقام بدور صدام حسين قريبه وصهره (صدام كامل المجيد) ( ).
وقد ركزت القيادة العراقية داخل القوات المسلحة على طغيان التثقيف السياسي الذي يستهلك كثيراً من الوقت في ترديد شعارات ومقولات سياسية دأبت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة على تكرارها بشكل دائم، وقد توافق هذا الحرص مع تنفيذ محاضرات التوجيه السياسي في زمن الحرب والسلم، مما جعل الجنود العراقيين يعتبرون هذه الأوقات أوقاتاً للراحة أو أنها شراً لابد منه، وبالمقابل كان الإهتمام بالتدريب ضعيفاً من جميع جوانبه، وقد تميزت تلك المحاضرات بإشاعة الولاء للقائد الضرورة الذي يتميز بمواصفات خاصة لا يملكها أحد، وهو أهم عامل من العوامل التي تساعد على استدامة الروح المعنوية لدى المقاتلين( ).
كما حارب النظام في هذه الفترة التطلعات الأصولية، وعمل على إنهاء بعض التقاليد التي اعتبرها بالية، فعمل على تحرير النساء العراقيات من كل قيودهن حيث أدخلهن مختلف مجالات الحياة، ودخلن التعليم العالي والتكنولوجي وأعطاهن الأولوية في ذلك، وهذا ما أثار التيارات الإسلامية الأصولية سواء السنية أو الشيعية( ).
شجع النظام نشوء وطنية متشددة كشعور واع بالفخر في أمجاد تاريخ العراق القديم ، وأصبح النظام ينظر إلى العمل العسكري كخيار واقعي عندما تكون السبل الأخرى مسدودة للحفاظ على مكانة العراق المرموقة وهذا سلوك واقعي تلجأ إليه الدول القوية ؛ للحفاظ على مصالحها الحيوية أو لتحقيق مصالح حيوية بغض النظر عن قرارات مجلس الأمن أو الأمم المتحدة،لكن هذا الفعل محرم على الدول التابعة سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو تكنولوجياً لدولة أو لدول أخرى( ).
وعلى هذا الأساس كان قرار احتلال الكويت باعتبارها أرضاً عراقية قد لاقى قبولاً من قبل الكثير من الأوساط لاعتقادهم بأنها أرض عراقية لابد لها أن تعود إلى الوطن العربي الأم( )، بعد أن رفضت مساعدة العراق في حل أزمته الاقتصادية بعد حرب الخليج الأولى التي انتهت عام 1988 فلم تتقيد بإنتاجها النفطي، ولم تعفي العراق من ديونها عليه ، وهذا مما شكك العراق من نوايا الكويت تجاهه، الذي اتهمها بأنها تسعى لتدمير العراق عبر سرقة النفط العراقي خلال الحرب مع إيران، من حقل الرميلة الذي يقع 90% منه في الأراضي العراقية، كما أنها تعمل على خنق العراق وعدم وصوله إلى مياه الخليج، من خلال رفضها له لاستئجار جزيرتي وربة وبوبيان، فكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى تدهور علاقات العراق مع الكويت، وسببت أزمته معها عام 1990( ).
وما أثر سلباً على العلاقات الأسرية في العراق هو ما أحدثه النظام من تفكك اجتماعي للأسرة العراقية بحيث يشي الأخ بأخيه والابن بأبيه طمعاً بالمكافأة أو بالخظوة، في ظل سيطرة الثقافة المادية البحتة على روح هذا النظام،وهذا ما يفسر تفكك المجتمع العراقي وانقسامه خلال هذه المرحلة( ) ، وبالنسبة لتصرفات مسؤولي أجهزة الحكم العراقية والذين من المفروض أن يكونوا مثالاً يحتذى به فقد ساهمت تصرفاتهم في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق، لما أثروه سلباً على قيم وثقافة المجتمع العراقي ، فنائب الرئيس العراقي عزة إبراهيم الدوري، أباح لنفسه الزواج من خمسة نساء بدلاً من أربع كما يقتضي الشرع ذلك، وزوج أخت صدام حسين (أرشد ياسين) الذي كان يتولى منصب السكرتير الشخصي له قد توريط في سرقة تحف نادرة من الآثار العراقية، وتهريبها للخارج، وبيعها بملايين الدولارات، وقد اكتفى النظام بإقالته من منصبه( )، أما وزير الدفاع خير الله طلفاح، فقد قام من خلال سرية الهندسة بشق طريق خاص إلى الغانيات وبنات الهوى من الكولية في منطقة الفخامة، ليمارس فيها نزواته، رغم أن المعركة مع إيران كانت على أشدها، إضافة لإهانته لقادة الجيش بجعلهم ينتظرون ساعات طويلة في مكتبه( ).
أخذ النظام يسعى لتغيير ديموغرافية العراق بغية تقوية قبضته على الحكم فيه، وذلك من خلال جعل كل خيوط الدولة بيده، فعلى سبيل المثال كان من مخططات النظام من خلال ما عرف بمجلس التعاون العربي الذي ضم اليمن ومصر والأردن والعراق، العمل على تغيير هيكلية سكان العراق، وقد صاغ هذه الاستراتيجية أستاذ علم الاجتماع السياسي سعد الدين إبراهيم، الذي ينتمي إلى القومين العرب، وتتلخص هذه الاستراتيجية في الآتي( ):
1- يعطي مشروع التكامل للعراق الفرصة الوحيدة لتصحيح هياكله السكانية العربية، والجنسية في مدى زمني قصير من خلال الهجرة المصرية الأردنية الفلسطينية، وخاصة من فئات الذكور الشباب.
2- تدفق الهجرة العربية من طرفي الكيان المقترح إلى العراق يمثل ضماناً في الأمد المتوسط والطويل للحفاظ على الهوية البشرية والثقافية العربية للقطر العراقي، ويقلص من إمكانيات الاستقطاب السني الشيعي في العراق.
وكان لهذه السياسة تأثير سلبي على الوحدة الوطنية في العراق التي ترى أن استغلال قادة النظام لمبادئ حزب البعث في تمكين طائفتهم واثنيتهم التي ينتمون إليهما لجعلها الأقوى والأكثر على جميع فئات وأطياف المجتمع العراقي الأخرى.
وبناء على ذلك نخلص إلى أن النظام فشل في تحقيق احترام ووحدة البلاد وثقافتها الوطنية، ولغتها الرسمية من خلال سياسته تجاه أطياف المجتمع العراقي الدينية والاثنية فبالرغم من عدم تأثيرهم السلبي على الأقليات الصغيرة في المجتمع العراقي، بسبب تأثيرها المحدود إلا أن تأثيرها كان سلبياً على أكبر طائفة مذهبية في العراق وهي الطائفة الشيعية، إضافة إلى أكبر أقلية أثنية في العراق وهي الأقلية الكردية، إضافة للتركمانية، كما أن محاباة النظام لعشائر معينة وخاصة ممن ينتمون للإقليم السني المتوسط على حساب الآخرين، والعمل على التدخل في الحياة الثقافية والاجتماعية للمواطنين من خلال تنظيمات حزب البعث، وعدم امتثال الكثير من مسؤولي النظام لقيم وثقافة المجتمع العراقي، وكل ذلك في ظل الحرب العراقية الإيرانية، مما أثر سلباً على الوحدة الوطنية في العراق خلال هذه الحرب.
ثانياً : الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
في ظل الحرب العراقية الإيرانية وتوتر العلاقات بين النظام العراقي وحزب البارتي في العراق، عمل النظام العراقي على تشجيع الانقسامات الكردية، فتحالف حزب الاتحاد الوطني ضد حزب البارتي بقيادته الجديدة (إدريس ومسعود البرزاني) ثم تحالف مع زعماء القبائل والطبقات الحضرية المثقفة التي انجذبت داخل النظام البيروقراطي العراقي، بشكل مباشر أو من خلال الحكم الذاتي، كما عمل النظام بعد قمع التمردات الشيعية وإعدام الزعيم الروحي لحزب الدعوة (محمد باقر الصدر) على وضع المرجع الشيعي أبو القاسم الخوئي قيد إقامة الجبرية، واستؤنفت عملية تهجير الشيعة الإيرانيين ومصادرة أموالهم، وتمت عملية تسييس لبعض علماء الشيعة الذين أخذوا يوالون النظام، أما المعارضين فقد أعدموا أو سجنوا أو تم ترحيلهم وهذا ما زاد من قوة الجماعات الدينية العراقية الشيعية المعارضة بقيادة (محمد باقر الحكيم) في إيران، حيث زاد أتباعه بشكل كبير( ).
كما قام النظام العراقي عام 1988 بتقديم حوافز مالية للرجال العراقيين لتطليق زوجاتهم الإيرانيات، والمنتميات إلى عائلات سبق وطردت من العراق، وكان الهدف من ذلك هو إحداث انقسامات بين الشيعة العراقيين والإيرانيين وجزء من حملة الحكومة ؛ للتأكيد على الطبيعة العربية للمجتمع الشيعي في العراق، الذي أخذ يؤكد على الهوية العربية والتفوق العربي، للفصل بينهما على اعتبار أن شيعة العراق شكلوا معظم القوات المسلحة في العراق وهم يقاتلون نظراءهم الشيعة الإيرانيين( )؛ الذين أكد النظام العراقي أنهم السبب في هذه الحرب مع العراق، بسبب تعرضهم للمؤسسات الدبلوماسية العراقية للاستفزازات، مثل كتابة الشعارات المعادية لحزب البعث والتظاهر حولها، ورشقها بالحجارة، والتهجم على حزب البعث وقيادته في خطب الجمعة وإصدار المنشورات المعادية ضده، وتحليله لقتل جميع البعثيين، ودعمه للحركات الإسلامية المؤيدة له مثل حزب الدعوة، وقيام بعض مناصريه في العراق في الأول والخامس من إبريل 1980 ، بجرائم ضد الطلبة العراقيين في جامعة المستنصرية، ومحاولة اغتيال بعض الشخصيات السياسية البعثية مثل محاولة اغتيال طارق عزيز، وقيامهم باستفزازات عسكرية على الحدود مع العراق،وإغلاق المدارس العراقية في خوزستان، وإغلاق القنصلية العراقية في المحمرة، واعتقل أعضائها، هذه الأشياء وغيرها دفعت النظام العراقي على إلغاء اتفاقية الجزائر، وإعادة السيادة الكاملة على شط العرب قانونياً والتصرف وفقاً لذلك( ).
ولضمان تأييد الإقليم الجنوبي من العراق إضافة للإقليم الشمالي، وكلاهما متمايزان مذهبياً بالنسبة للجنوب، ولغوياً بالنسبة للشمال ، إضافة إلى الأقليات الأخرى في العراق، فقد اتبع النظام إستراتيجية الاندماج والطابع التوحيدي للدولة، وسعى لتحديث الجنوب وتوسعة المؤسسات الحكومية، وأهم الإجراءات التي اتبعها هي( ):
1- إعطاء أعداداً ضخمة من المواطنين الشيعة في الجنوب أدواراً مهمة في إدارة مؤسسات الدولة تيسيراً لعملية اندماجهم فيها.
2- إضعاف الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العراق من خلال سياسات صارمة لتحسين خدمات الإسكان والتعليم والصحة وإصدار تشريعات للضمان الاجتماعي والحد الأدنى للأجور والتقاعد.
3- إدخال الشيعة في الحلقات القيادية بشرط أن يكونوا منتمين لحزب البعث وأكبر مثال على ذلك تولي سعدون حمادي لرئاسة الوزراء.
4- انتساب الكثير من الشيعة والمسيحيين والأكراد لحزب البعث.
لكن يؤخذ على هذه العملية الإنتاجية الاستيعابية إلى أنها صادرت الإرادة السياسية لكل الجماعات اللغوية والاثنية والطائفية، مما أصاب هذه العملية ببعض القصور، حيث أن هذه الجماعات حرصت على إظهار ولائها للنظام ومجاراته في دعايته الوطنية والقومية ولهذا السبب عمل البعث على إتباع إستراتيجية أخرى من خلال التنمية الاقتصادية ؛ لاستمالة الأقليات واسترضائها وإدماجها وصهرها، وقد استطاع في بعض الأحيان تحقيق قدراً من النجاح، لكن استخدم في أحيان أخرى سياسة البطش والقوة، من أجل المحافظة على النظام وتحقيق أهدافه التكاملية من خلال عمليات تهجير واسعة من الشمال إلى الجنوب والعكس ، حتى تغيرت التركيبة السكانية لمدن كان أغلبها من أقلية معينة، فأصبح سكانها في معظمهم ينتمون لفئة أخرى.
وقد استطاع البعث تحقيق هذه الاستراتيجيات من خلال الانتساب الكبير لأفراد الشعب العراقي لحزب البعث، حتى وصل عددهم عام 1981 إلى مليون ونصف أي ما كان يعادل عشرة بالمائة من السكان، وبذلك تغلغل الحزب في كل أجهزة الدولة وإدارتها وأهمها( ):
1- المكتب العسكري المسؤول عن الجيش والأمن والشرطة والمخابرات.
2- المكتب العالي المسؤول عن اتحاد النقابات العام، ونقابات العمال، والقطاعين الخاص والعام.
3- المكتب الفلاحي المسؤول عن الجمعيات الخارجية والتعاونيات.
4- المكتب الطلابي المسؤول عن اتحاد الطلبة، والمدارس المتوسطة والثانوية والجامعات والمعاهد.
5- مكتب المنظمات المهنية المسؤول عن اتحاد النساء ، واتحاد المحامين والمهندسين والأطباء.
6- مكتب العلاقات مع الحزب.
وتسيطر المكاتب الثلاثة الأولى على أجهزة الجيش والإعلام ومؤسسات التعليم، أما المكاتب الأخرى فتسيطر على منظمات المجتمع المدني، وقد قيدت الأجهزة الأمنية بحوالي ثمانين ألف شخص مقسمة على عدد من الأجهزة أهمها جهاز الأمن العام، وجهاز الشرطة، وجهاز المخابرات، وجهاز المخابرات العسكرية، وجهاز الحماية الخاص، أما أفراد الجيش الشعبي فقد وصل عددهم عام 1980 إلى مائة وسبعين ألف ثم إلى نصف مليون عام 1982 أي (59) عنصر لكل مائة ألف مواطن، كما نمت المؤسسة العسكرية خلال الحرب مع إيران من 11.7% من قوة العمل الوطنية إلى 24.4% وبذلك ابتلع الجيش قوة العمل( )،وقد كان من أهم نتائج هذه الحرب، مقتل حوالي نصف مليون عراقي، وتغيير نفسية أفراد المجتمع العراقي بسبب الموت والفاقة والجوع والضغط النفسي في العمل والشارع والمنزل إضافة لمئات ألاف الجرحى والمشوهين والمعوقين والأسرى( ).
كما أنه في ظل هذه الفترة برز على السطح خيار الإصلاح السياسي، وهو مشروع ليبرالية الاقتصاد من خلال الخصخصة وإلغاء النقابات ومشروع دستور جديد، وقانون خاص للتعددية السياسية وحرية الصحافة، وقد تم الاتصال في نهاية الحرب مع إيران مع أحزاب المعارضة، لكن التصادم بين تياري الإصلاح، والمحافظة (العسكري) انتهى لصالح التيار المحافظ، فقد شهد عام 1989 تخصيص خمسة مليارات دولار لتحديث الأسلحة مقابل مليارين ونصف لإعادة الإعمار، وتخصيص اثنين وعشرين مليار لتغطية الخطة الخمسية للصناعات العسكرية، وهذا ما عنى وئد الحل الإصلاحي، وقد اتبع النظام استراتيجية كبح جماح التيار الإصلاحي من خلال دمج شرائح المجتمع ضمن نظامه من خلال صياغة أيديولوجية جديدة تحتوي على عناصر ثقافية منوعة، ذات عمق تاريخي، وتشكل عامل جذب لمختلف المكونات الاثنية والدينية في العراق، يربط بين أيديولوجية البعث العربية الصرفة، وبين تاريخ العراق الحضاري ما قبل الإسلام مثل (نبوخذ نصر، وحمورابي، وأشور بانيبال...) وعناصر إسلامية كردية مثل (صلاح الدين الأيوبي) وعناصر إسلامية عربية مثل تسمية صواريخ سكود السوفياتية باسم صواريخ العباس والحسين ، وأصبح تشكيل دولة مركزية من أهم الالتزامات الأيديولوجية العربية وعلى هذا الأساس فقد كانت مواقف المعارضة العراقية لهذه السياسة تتراوح في ثلاث مواقف هي( ):
1- موقف مؤيد لإيران ولاستمرار الحرب ضد النظام العراقي، وهي الأحزاب الشيعية مثل الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق،والأحزاب الكردية مثل البارتي، والاتحاد الوطني،على اعتبار أن استمرار هذه الحرب سيؤدي لانتفاضة شعبية تسقط الحكم وتقيم نظاماً حليفاً لإيران، أما الأحزاب الكردية فترى أن وجود قوة إقليمية موازية للعراق تمكنهم من الحصول على الحكم الذاتي، وقد شكلت الجبهة الكردستانية العراقية في مايو 1988 وتكونت من عدة أحزاب أهمها البارتي والاتحاد الوطني.
2- موقف مؤيد للعراق، وهو جناح البعث المؤيد لسوريا وحليفه الحزب الشيوعي حيث يرى أن العراق يدافع عن أرض عربية ضد مواقف دينية متشددة وإعادة أراضي مغتصبة من قبل إيران ، وبالنسبة للحزب الشيوعي فترى كتلته اليمينية أن الحزب يعارض الحرب لأنه حزب يدعو للسلام لكن كتلته اليسارية فترى ضرورة الوقوف مع النظام لأنه يدافع عن الوطن.
3- موقف مناهض لكل من نظامي الحكم في العراق وإيران، وهو موقف التيار اليميني من الحزب الشيوعي العراقي، حيث يرى أن هذه الحرب قد أجلت الانتفاضة الشعبية ضد النظام بدل أن تعجلها ، لذلك رأى ضرورة وقف الحرب وشدد على تأكيد هدف السلام.
لكن بعد توقف هذه الحرب، تصاعد النشاط الاجتماعي إلى مستويات عليا إلا أن الهياكل التنظيمية للمعارضة كانت غائبة ؛ فهجر الكثير من الإسلاميين المعارضين أماكن تواجدهم مع إيران وسوريا إلى أوروبا وعملت الأحزاب الكردية للاتجاه نحو المصالحة مع النظام بقصد الحفاظ على ما تبقى من علاقات ومصالح معهم رغم أن الحزب الشيوعي حدد شروطاً مسبقة للحوار مع النظام بحيث يكون الحوار جماعياً وعلنياً وأن يسبقه إطلاق سراح السجناء السياسيين.
أما شرائح المجتمع الداخلية والتي اندمجت مع النظام فقد اندمجت مع سياسة النظام من خلال انتخاب المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي في كردستان عام 1980 ، والتي تكونت من خمسين عضواً وتشكيل الجمعية الوطنية، التي تكونت من مائتين وخمسين عضواً تشمل كل مناطق العراق، ولم يشترط القانون انتمائهم لحزب البعث ولكن يشترط أن يتمتعوا بروح البعث وعدم انتمائهم لجماعات المعارضة، ورغم ذلك فقد وصلت نسبة أعضاء البعث في المجلس الوطني 75% وكل عضو لمدة أربعة مستويات ، وعهد إلى المجلس أنه سيكون السلطة التشريعية لنظام الحكم ويطلع على الميزانية والمعاهدات والحق في استجواب أو إعفاء أي مسئول والبت في السياسات الداخلية والدولية واقتراح القوانين ومراقبة مؤسسات الدولة، وفي انتخابات الجمعية الوطنية التشريعية عام 1986 اتجه النظام إلى التعددية الحزبية لإتاحة الفرصة للمشاركة في صنع القرار السياسي كما حصل الأكراد في انتخابات 1989 على اثني عشر مقعداً من مقاعد الجمعية، وكان ثلثهم ينتمي لحزب البعث( )، لكن رغم ذلك استمر تركز القيادة والسلطة في يد الرئيس صدام حسين عن طريق اتخاذ القرارات في مجلس قيادة الثورة حيث يترأس اجتماعاته الرسمية .
ويكون أمام المجلس جدول أعمال وفي كل نقطة من نقاط جدول الأعمال توجيهات مرفقة توزع على أعضاء المجلس قبل انعقاده بوقف كاف ثم ينعقد المجلس ويتخذ قراراته في إطار هذه التوجيهات، وغالباً ما تصدر الاجتماعات بالإجماع رغم صدورها أحياناً بالأغلبية( ).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن حزب البعث رغم كونه قائداً للدولة والمجتمع ويتشعب في كل دوائر الدولة ومؤسساتها المدنية والحكومية ؛ إلا أنه استمر في نفس الوقت في سياسته السرية، فكان أعضائه الذين ينتسبون إليه في المرحلة الثانوية، يساهمون من خلال نشاطاتهم وتقاريرهم عن زملائهم وأصدقائهم الذين ينتقدون النظام أو لا يكنون الحب والولاء للرئيس صدام حسين، ويواصلون وفد كوادر الحزب بأعضاء جدد من بين من يرغبون في ذلك من المواطنين، إلا أنهم عندما ينهون دراستهم أو ينهون خدمة العلم، ينتقل بعضهم للعمل المتفرع لصالح الحزب، بينما يذهب آخرون ليصبحوا عسكريين محترفين متمتعين بما يدره ولائهم الحزبي من منافع عبر مسيرة سريعة للترقية، ويفضل عدد أقل من الشباب من خلال ارتباطاتهم الخاصة ودورهم في الحزب، اختيار العمل في المجال الحزبي، وبعد سقوط النظام العراقي عام 2003 ، كشفت عملية مسح الوثائق المخابراتية أن هناك ما يزيد عن نصف مليون عراقي من محافظات العراق المختلفة كانوا يعملون بصفة مبلغين محترفين لصالح الخدمات الأمنية والمخابراتية الرئيسية الخمسة وهي جهاز الأمن الخاص ومديرية الأمن العامة ورئاسة المخابرات العامة، ودائرة الاستخبارات العسكرية وهيئة الأمن العسكري وهذا الرقم لا يشمل من كانوا يعملون في مجال مد يد العون للوكالات الأمنية الداخلية الخاصة بحزب البعث وقوات الشرطة والوحدات شبه العسكرية، حيث يقدر عدد هؤلاء بنحو 45 ألف شخص وكان معظم من الموثوق فيهم من عشيرة الرئيس العراقي (تكارتة) أو من أقربائه( ).
وبالنسبة لعمل هذه الأجهزة مع كوادر حزب البعث في المجالات الأمنية فكل رؤساء الحلقات العليا في الحزب، وكل رؤساء الأجهزة الأمنية والمخابراتية مسئولون أمام رئيس الجمهورية بشكل مباشر – والصلاحيات التي خولتهم حق مطاردة معارضي الدولة منحتهم الحق لمراقبة كل فرد عراقي، منهم يتجسسون على الوزارات وقيادات الجيش ويشرفون على تنفيذ تفاصيل العمليات التي تستهدف تصفية المنشقين والخارجين على خط حزب البعث ، ويؤمنون الحماية الشخصية لرئيس الجمهورية، ومكاتبه وقصوره، والمحافظة على سريتها ويحصلون على ما يريدون من السلاح، وقد تميزت مديرية الأمن العامة بقسوتها، فهي تراقب العراقيين من أجل الكشف عن أي انحراف أو توجهات تخالف سياسة النظام، من خلال قاعدة معلومات واسعة الشمول تضمن ملفات تفصيلية تتعلق بالحياة اليومية لأبناء الشعب العراقي، وبالنسبة لتعقب الجواسيس الأجانب والدبلوماسيين والصحفيين والسياح ومراقبة تحركاتهم فمن واجب المخابرات العامة، المسئولة أيضاً عن النقابات المهنية في العراق، ومهمة الاستخبارات العسكرية مساعدة النظام على القيام بعمليات خارج العراق، أما مهمة الأمن العسكري فيساعد النظام على تصفية كل من كان له نيات للتمرد، وكل هذه الوحدات تشترك في مهمة التجسس على بعضهما البعض، وبهذه الطريقة يوازن أفراد هذه الوحدات بين ما يتسببون بإثارته من خوف ورعب في نفوس الأشخاص الذين يخلصون لممارستهم المهنية من جانب، وبين خوفهم شخصياً من احتمال قيام زملائهم بطعنهم من الخلف من خلال تقارير قد تحرض مسئولين في مناصب عليا على إصدار الأوامر الكفيلة بنقلهم من واقع عملهم أو إخضاعهم للتعذيب أو قتلهم( ).
وقد أحس البعض من هؤلاء المسئولين بمتعة بناء الشبكات من المخبرين في إطار كل منطقة متواجدين فيها، وأحقيتهم في توقيف أي شخص ومعرفة ما يدين به، وعلى هذا الأساس تكون إستراتيجيتهم هي الاختلاط بأناس من مهن مختلفة وبيئات مختلفة مثل سماسرة الفواحش وبناة الهوى العاملين معهم والوعاظ والأساتذة والطلاب، كما أنهم يستعملون أسلوب الإغراءات المالية، والتهديد بالتوقيف أو الحبس ضد أي شخص يدَّعون الاشتباه به ، وبذلك فهم يستطيعون توقيف أي شخص وتعريضه لشتى أنواع التعذيب خاصة إذا لم يكن يتمتع بحماية الحزب أو أحد من أجهزته المختصة( ).
في ظل هذه الظروف رفض الكثير من أبناء الشعب العراقي من الكوادر العلمية هذه السياسة وغادروا البلاد، حتى وصل عددهم خلال هذه الفترة، إلى نصف مليون عراقي، بهدف متابعة حياتهم في دول أخرى بعيداً عن الرقابة، وبعيداً عن تلك المؤسسات التي شكلها النظام وهي التي تقسم الشعب العراقي بين تابع ومتبوع، في ظل نظام قائم على العنف والغوص في جميع وجوه الحياة الاتحادية من النقابات منظمات الفلاحين والاتحاد النسائي، رغم ما كان لهذه الاتحادات من دور كبير في محو الأمية والصحة والتعليم، وبالنسبة للزعماء المحليين ذوي التأثير على مجتمعاتهم الطائفية أو الاثنية، فتم إبعادهم، وإحلال غيرهم ممن يكونون تابعين بشكل مطلق للنظام( ).
أما عن علاقة الدائرة الضيقة الحاكمة للدولة، وهي أسرة الرئيس وعشيرته فهي تتألف من ثلاثة أقسام هي:
1- أخوته غير الأشقاء من أمه وهم (برزان، وسبعاوي، ووطيان).
2- أبناء عمه من آل المجيد.
3- ولديه عدى وقصي الذين كونا أتباع خاصة لهما.
وكان هؤلاء يمثلون المراكز الأمنية في جهاز الدولة، ولهم دور في توطيد السلطة لكن حدود هؤلاء تتحدد من خلال الأمور التالية( ):
1- يجب أن يذعن هؤلاء أن لصدام حسين الفضل عليهم في الامتيازات وإعادة التعيين.
2- أن صدام حسين هو من يقرر من يخدمونه على النحو الأفضل وما هي استحقاقاتهم لذلك.
3- تشجيع صدام لهم على مناقشة بعضهم البعض ؛ بأفضلية الخدمات التي يقدمونها له، وذلك من خلال الامتيازات الممنوحة لهم.
وبالنسبة لموقف القيادة القومية لحزب البعث بقيادة ميشيل عفلق، فلم تحظ بصلاحيات فعلية تذكر أمام القيادة القطرية للحزب برئاسة صدام حسين، رغم ما تمتع به الأمين العام القومي لحزب البعث ميشيل عفلق، من اهتمام القيادة القطرية، حيث أحيطت حياته ببذخ شديد، وأخذ يكيل التعظيم لصدام حسين، فينعته مثلاً بالقائد الضرورة، على اعتبار أن وجوده ضرورياً لاستمرار الحزب والثورة، وأنه عطاء السماء لحزب البعث، الذي بدوره أهداه إلى الأمة العربية، وقد أيدته القيادة القومية في حربه على إيران، وانتقدت النظام الراديكالي الإسلامي في إيران، واعتبرت أن هذه الحرب هي حرب بين العرب والفرس وأنها ضرورية من أجل الحفاظ على الأمة وأرصها، لكن ما يدل على ضعف إرادته أمام إرادة الأمين القطري لحزب البعث صدام حسين، أنه حاول إقناعه بعدم إعدام أحد قادة البعث وهو عبد الخالق السامرائي ،لكن دعوته لم تستجب، حيث جعل صدام حسين الحزب في العراق أكثر اصطباغاً بشخصيته، وعمل على أدلجة الجيش وإخضاعه للأمن، وإضعاف المناقشين له مثل عائلة البكر التي تراجع دورها أمام عائلة المجيد، وخاصة بعد زواج ابنته (رغد ورنا) من ابني عمه حسين كامل المجيد وصدام حسين المجيد، وفي إطار ذلك عمل على تصفية حساباته مع أبناء أحمد حسن البكر، حيث كان نجل الرئيس السابق أحمد حسن البكر وهو (محمد) قد هدد بقتل صدام حسين خلال فترة رئاسة أبيه وشهر مسدسه في وجهه بسبب ازدياد تدخله في الدولة، كما أطلق ابنه الآخر النار على ابن خال (صدام حسين) رغم كونه زوج أخته، وهو عدنان خير الله طلفاح وعلى هذا الأساس فعند وصول صدام حسين للسلطة تعرض نجل الرئيس البكر (محمد) لحادث سير غامض، وتوفى هو وعائلته، أما بالنسبة للبكر الذي توفى عام 1982 فقد أكد صهر الرئيس صدام حسين (حسين كامل المجد) بعد انشقاقه عن النظام ولجوءه للأردن، أن الرئيس صدام حسين قد قام بتسميم البكر تسميماً بطيئاً( ).
كما أن إشعال النظام العراقي للحرب مع إيران قد أثر سلباً على الاقتصاد العراقي بسب تدمير إيران للمنشآت النفطية العراقية في الفاو، ولولا احتياطات العراق النقدية من العملة الصعبة والتي وصلت إلى حوالي أربعين مليار دولار لما استطاع النظام العراقي الاستمرار، حيث عمل النظام العراقي على أن تستمر حياة المواطنين كما هي في كل أنحاء العراق( )، لكن هذا لا يعني أن هذه الحرب لم تحدث أزمة اقتصادية وبشرية، لأن الاتفاق العسكري قد ازداد، وانخفاض الدخل القومي للعراق من النفط، إثر ترميم المنشآت النفطية، وإغلاق سوريا لخط أنابيب بانياس عام 1982،حيث انخفض الدخل العراقي من 26 مليار دولار عام1980 إلى تسعة مليارات عام 1982وبحلول عام 1983 بلغ دين العراق الخارجي خمس وعشرين مليار دولار ، وكلها من دول الخليج والسعودية واستمرت وتيرة القروض من الخارج بمعدل 15 مليار سنوياً أي ما يعادل 120 مليار دولار على مدى سنوات الحرب الثمانية، وقد استخدم النظام العراقي جزء من هذه الأموال في تطوير برامجه لامتلاك وتطوير أسلحة غير تقليدية، مما أثار بعض الدول مثل إسرائيل التي شنت في يوليو 1980 هجوماً على مفاعل أوزيراك، إلا أن النظام استمر بالسعي لامتلاك برامج أسلحة كيميائية وبيولوجية واستعملها في حربه مع إيران، كما استعملت إيران نفس الأسلحة ضده، وعمل العراق على تطوير صواريخ أرض أرض بعيدة المدى وقام بحرب المدن ضد إيران، لكن إيران ردت على الهجوم العراقي، بحرب مدن ضد المدن العراقية أيضاً، كما ردت على حرب منشآتها النفطية بضرب السفن العراقية والخليجية المتعاونة مع العراق، إضافة لذلك فإن شط العرب استمر طيلة سنوات الحرب مغلقاً، ولم تتنازل إيران عن مكاسبها فيه( ).
كما انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي لكل من للحبوب خلال هذه الفترة إلى 37%وهذا يعني عجز الاقتصاد العراقي عن توفير الحد الأدنى للمتطلبات الحياتية والسلعية والخدمية للسكان، في غياب القطاع النفطي والتعامل الخارجي والافتقار إلى الحد الأدنى الآمن من الاكتفاء الذاتي واستمرار جهود التنمية أياً كانت السياسات التنموية، وبغض النظر عن إدعاءاتها من خلال التوسع في الظاهرة الاستهلاكية الممتدة على الخارج في ظروف تجاوزاتها قدرة الاقتصاد المحلي، كما برزت قيود محدودية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد العراقي على ضوء نقص تكامل موارده ومهاراته المطلوبة، ونقص هياكله الأساسية، وبسبب الإجراءات البيروقراطية وخاصة في القطاع العام المسيطر، إضافة لسياسة عسكرة المجتمع والاقتصاد وتصاعد نفقات الجيش إلى عشرون مليار سنوياً، إضافة إلى 39% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى هذا الأساس تناقصت جهود التنمية في مجال الإنشاءات والنقل لكنه لم يتوقف، بفعل المساعدات والديون الخارجية، إضافة لذلك فإن العراق رغم كونه قد أقام صناعة عسكرية كبيرة نسبياً ؛ إلا أنه استمر كأحد أكبر الدول في العالم استيراداً للسلاح حيث بلغت نفقاته العسكرية (18) مليار دولار خلال الفترة (1980-1990) ، وهو ما يتجاوز مجمل عوائده النفطية منذ بدء إنتاج النفط عام 1931 وحتى عام 1990 رغم أن الصناعة العسكرية في العراق لم تكن مرتبطة مع بقية القطاعات الأخرى عدا أنها كانت تضايق القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية بسبب استهلاكها لنفقاته وكوادره( ).
حيث تم تعبئة مليون شخص خلال هذه الحرب من أصل مجموع السكان البالغ عددهم خمسة عشر مليوناً في ذلك الوقت، لذلك امتصت المؤسسة العسكرية معظم الكوادر الإنتاجية واليد العاملة اللازمة للصناعة ولمعالجة الأمر عمل النظام على تشجيع العمالة الخارجية في الدخول للعراق والعمل به لسد نقص هذه اليد العاملة العراقية( )، وتم تشريع القانون رقم (115) لعام 1982 وقانون 36 لعام 1983 ليرفع سقف الاستثمارات الخاصة من مائتي ألف دينار عراقي إلى مليوني دينار للشركات المحدودة وإلى خمسة ملايين للشركات المساهمة وفتح باب الاستثمار العربي، وكانت هذه الإصلاحات تتوخى دفع القطاع الخاص نحو التصنيع بدلاً من الخدمات والتجارة، وقد اقترن ذلك بإجراءات محدودة من الخصخصة في مجال الزراعة، وانخفاض العائدات النفطية وضخامة الانفاق العسكري وهذا ما سمي بالثورة الإدارية عام 1987 ، وكانت عبارة عن عمليتين هما عملية الخصخصة من جهة وعملية إزالة القيود الإدارية المعيقة للرأسمال الخاص، فجرى فتح المجال لآليات السوق من تعديل لقوانين العمل، ورفع ضوابط الأسعار، وتوسيع السوق، مما أدى إلى ترسيخ مواقع الرأسمال الخاص وإفساح المجال لآليات السوق بالعمل، إلا أن هذه العملية لم تفلح في خلق طبقة رجال أعمال عميقة الثقة بالنفس ومستقلة عن الدولة، حيث استمرت الدولة تحتفظ بثقل أساسي سواء في الاستثمارات الصناعية الضخمة أو التدخل في آليات الأسعار وعلى هذا الأساس بقي اقتصاد السوق مقيداً حتى أزمة العراق مع الكويت 1990( ).
أما تأثيرات ذلك على الطبقات الاجتماعية في العراق فقد كان سلبياً، إذ ضعفت الطبقة الوسطى، وازداد التضخم الذي أثر على أسعار الصرف وأسعار الفائدة بعيداً عن أسعارها الحقيقية، الأمر الذي ساهم في إعادة توزيع الدخل بين فئات المجتمع في نهاية عقد الثمانينات تجاه الفئات غير المرتبطة بالجهاز الوظيفي للدولة وهو النشاط الخاص، وهذا أدى إلى انحراف وفساد إداري في القطاع العام نتيجة تزايد تكاليف أسعار المستهلك عبر تخفيض دخله من 4033 عام 1980 إلى 1956 عام 1989 وتراجع قدراته الشرائية إضافة إلى تزايد المتطلبات من النقد الأجنبي لمواجهة ضغوط الحاجات الأساسية وتوفير مستلزمات الإنفاق العسكري الذي وصل إلى حوالي نصف الدخل القومي( )، وهذا أدى إلى توقف عمل عدداً كبيراً من المشاريع ، وفي بعض الأحيان تم الاتفاق مع الشركات على تزويد دولها بالنفط بدلاً من العملة الصعبة التي استنفذت، مقابل استمرارها في المشاريع( )،وقد كان وجود عمال من خارج العراق وخاصة من المصريين، يخفف من الاحتياجات الكبيرة لليد العاملة، التي تعتمد عليها هذه المشاريع، حيث وصل عدد العمالة المصرية في العراق إلى ثلاثة ملايين عامل، ومثلوا معظم اليد المنتجة العراقية التي اقتيدت إلى جبهات القتال( ).
لكن معظم الصناعات والمشاريع التي شجعتها الدولة خلال هذه الفترة فيما عرف بسياسة الخصخصة والسياسات التحررية، كانت عبارة عن مشاريع صغيرة وصناعات غير إنتاجية ولم تساعد على دعم الاقتصاد الوطني( )، فلم يعمل النظام على تطوير الصناعات النسيجية، فكان يجبر المصانع على شراء القطن العراقي بحجة تدعيم الإنتاجي الوطني، وبسعر أعلى من السعر العالمي، مما جعل هذه المصانع تضعف وتكسر بالديون للمصارف الحكومية مثل مصنع نسيج الحلة، كما لم يعمل على تطوير صناعة النفط والتكرير، فلم تشهد مصفاة النفط في الدورة أي تطور منذ عام 1955( ) ، ويبين الجدول (1-4) نسبة القوة الفاصلة بالنسبة للقوات المسلحة خلال سنوات الحرب مع إيران.

جدول رقم (1-4)
القوة العاملة والقوات المسلحة (1980-1988)
السنة قوة العمل القوات المسلحة نسبة القوات المسلحة / قوة العمل
1980
1981
1982
1983
1984
1985
1986
1987
1988 3.2
3.3
3.8
4
4.1
4.2
4.4
4.5
4.7 0.43
0.49
0.40
0.43
0.78
0.78
0.8
0.9
1 13.4
11.9
10.6
10.9
19.2
18
18.2
20
2.3
المصدر: (عباس النصراوي، الاقتصاد العراقي: النفط، التنمية، الحروب، التدمير الآفاق 1950 – 2010) ترجمة، محمد سعيد عبد العزيز دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1995، ص100.
وبدل أن يعتمد النظام العراقي سياسة التقشف في ظل هذه الحرب رفع شعار (البندقية والزبدة) أي الاستمرار في رفاهية المواطن وتوفير احتياجاته الغذائية، مع استمرار النفقات العسكرية، وهذا ما أدى لازدياد الواردات العراقية من 4.2 مليار دولار قبل الحرب إلى 21.6 مليار دولار عام 1982 ، كما ارتفعت المشروعات غير الإنتاجية (العمرانية) من 14.8 مليار دولار عام 1980 إلى 24.3 مليار دولار عام 1981، أي بنسبة تجاوزت 64% رغم ما واجه الاقتصاد العراقي من تصميم وعدم القدرة على إنفاق التخصصات الاستثمارية المرصدة، ونقص الأيدي العاملة وشكل البنية التحتية، إلا أن ظروف الحرب مع إيران ، وإعاقة العراق للوصول إلى مينائه التجاري على الخليج بعد إغلاق أنبوب النفط العراقي المار بسوريا، اضطر العراق إلى اللجوء للمسالك البرية عبر الكويت والأردن وتركيا واعتمد سياسة اقتصادية أكثر واقعية من خلال تخفيض الاتفاق ؛ إلا أنه بالمقابل أوقف معظم المشروعات التنموية وأبقى المشروعات المرتبطة بالمجهود الحربي، فازدادت أسعار الواردات، بعد توقف برامج التصنع وخاصة البتروكيماويات والحديد والصلب المتواجدة في جنوب العراق ؛ بسبب تعرضها للهجمات الإيرانية وبالتالي انسحاب الخبراء والعاملين الأجانب من كثير من المشروعات وبناء على ذلك فقد قادت الحرب مع إيران إلى عدة نتائج أهمها( ):
1- استنزاف الاحتياطي من العملات الأجنبية.
2- تراجع التنمية الاقتصادية بسبب معدلات التضخم العالمية.
3- التوسع بالقوات المسلحة.
4- التراجع في الإنتاج الزراعي والصناعي.
5- تغيير مسالك التجارة الخارجية.
6- تقليص الاتفاق الاستثماري.
7- نقص الأيدي العاملة.
8- تدهور الاقتصاد العراقي بشكل عام.
9- زيادة الواردات.
10- تصاعد التبعية الغذائية للخارج.
11- تزايد المديونية الخارجية.
12- تعاظم الاتفاق العسكري وتوجهه نحو المجهود الحربي.
فقد استخدم النظام العراقي خلال هذه الحرب ما يقرب من المليون شخص عراقي بالقوات المسلحة أي ما يعادل 21% من القوة العاملة ، وهذا ما استنزف عدد العاملين بالاقتصاد المدني مثل قطاع الزراعة الذي تراجع من 42% قبل الحرب إلى 12.9% خلال الحرب ، وهذا ما جعل زيادة في الهجرة من الريف إلى المدينة، وتراجع محصول القمح من 800 ألف طن قبل الحرب إلى 300 ألف طن خلال الحرب، وزادت واردات العراق من المواد الغذائية، كما انخفضت نسبة العاملين بالقطاع الصناعي من 25% قبل الحرب إلى 7.8% خلال الحرب، وعلى هذا الأساس بلغت نسبة القوات المسلحة من القوة العاملة العراقية 42.3% ووصلت نسبة الإنفاق العسكري إلى 75% من دخل النفط، حيث صرف العراق خلال الفترة (1980-1985) حوالي 120 مليار دولار أي ما يعادل 245%من إجمالي الإيرادات النفطية التي تعادل 23.9 مليار دولار، أي بعجز قدره 9.7مليار دولار، وهو الفارق بين النفقات العسكرية والإيرادات النفطية، كما ازدادت معدلات التضخم 369% عام 1988 وبناء على ذلك فالجزء الأكبر من حصة الفرد العراقي من الناتج القومي قد ضاعت( )، ويوضح الجدول (2-4) الاتفاق العسكري والإيرادات النفطية والناتج الإجمالي خلال الفترة (1980-1989) بمليارات الدولارات كما يوضح الجدول رقم (3-4) الواردات العسكرية وغير العسكرية خلال نفس الفترة أما الجدول (4-4) فيوضح معدلات النمو للمؤشرات الاقتصادية التي تم اختبارها لتبيان معدلات الزيادة أو النقصان التي تشمل معظم سنين دراسة المبحث.
جدول (2-4) : الإنفاق العسكري، إيرادات النفط والناتج الإجمالي (1980 - 1969) بمليارات الدولارات
السنة النفقات العسكرية الإيرادات النفطية نسبة النفقات العسكرية بالنسبة لإرادات النفط السائح المحلي نسبة النفقات العسكرية على الناتج المحلي
1980 19.8% 26.4% 75% 53.6% 8.8%
1981 24.6% 10.4% 236.5% 33.3% 66%
1982 25.1% 10.1% 248.5% 43.7% 57.4%
1983 25.3% 7.8% 324.4% 42.5% 59.5%
1984 95.9% 9.4% 275.5% 47.7% 88.4%
1985 19% 10.7% 177.5% 49.5% 38.4%
1986 11.6% 6.9% 168.1% 47.9% 24.2%
1987 14% 11.4% 122.8% 57.9% 24.2%
1988 12.9% 11% 117.3% 55.9% 23.1%
1989 12.9% 14.5% 89% 64.4% 20%
المصدر عباس النصراوي، مرجع سابق ذكره، ص127
جدول (3-4) : الواردات العسكرية وغير العسكرية خلال الفترة (1980-1989) بالمليار دولار
السنة إجمالي الواردات الواردات العسكرية النسبة إلى الإجمالية الواردات غير العسكرية النسبة إلى الإجمالي الناتج الفعلي الإجمالي نسبة الواردات إلى الإجمالي
1980 13.8 2.4 17.4 11.4 82.6 51 27.1
1981 20.5 4.2 20.5 16.3 79.5 37.3 55
1982 21.5 7.1 33.5 14.4 67 43.7 49.2
1983 12.2 7 57.3 5.2 42.7 45.5 28.7
1984 11.1 9.2 82.9 1.9 17.1 47.6 23.3
1985 10.5 4.7 44.8 6.1 55.2 49.5 20.2
1986 8.7 5.7 65.5 3 34.5 47.9 18.2
1987 7.4 5.5 74.3 1.9 25.17 57.6 12.8
1988 10.6 4.6 45 6 55 55.9 19
1989 13.6 4.9 35.5 11.1 80.4 64.4 21.4
المصدر عباس النصراوي، مرجع سابق ذكره، ص127
الجدول (4-4) :معدلات النمو للمؤشرات الاقتصادية المختارة
المؤشرات المختارة الفترة (1980-1985) الفترة (1985-1989)
الناتج المحلي الإجمالي
الاستهلاك الحكومي
الاستهلاك الخاص
تكوين رأس المال الثابت
تكوين رأس المال الثابت
صادرات السلع والخدمات
استيراد السلع والخدمات
الزراعة
إجمالي الصناعة
الصناعات التحويلية
التجارة الداخلية
النقل والمواصلات - 8.1
- 1.3
- 7.6
- 0.3
- 8.8
- 8.2
+ 6.3
- 7.3
+ 0.3
- 7.8
+ 1.3
- 12.4 - 1.7
- 4.4
- 4.6
- 1.5
- 1.1
- 2.9
- 6.7
+ 11.4
- 3.1
- 16.2
- 10.8
+ 1.8
المصدر :Source: united nationals, national accounts statistic, main aggregates and detailed tables 1989, part 1 (New York , 1991)
ويمكن تفسير هذه البيانات من خلال دراسة السياسة الاقتصادية التي اتبعها النظام العراقي، باعتماده منذ عام 1987 على الخصخصة، كمخرج للمشكلات الاقتصادية المتفاقمة، وإعطاءه زيادة في دور القطاع الخاص بالزراعة لعدة أسباب أهمها( ):
1- إخفاق الدولة في تحقيق الهدف الأساسي للبرنامج الاقتصادي لحزب البعث، والذي يركز على ضرورة إحراز الاكتفاء الذاتي بالموارد الغذائية.
2- الارتباك السياسي الاقتصادي في البلاد.
3- نقص العمالة بقطاع الزراعة مع التزايد المستمر في العمالة غير العراقية.
4- فشل الاستثمارات الضخمة بالزراعة.
وأسباب هذه الإخفاقات هو قصور التخطيط الزراعي والافتقار للإدارة الكفوءة، بسبب التغيرات المستمرة بقانون الإصلاح الزراعي، وتسارع تدفق النازحين من الأرياف إلى المدن، لذلك أهملت الحكومة الاهتمام بالزراعة واعتمدت على القطاع النفطي، إضافة لإهتمام القطاع الخاص، الذي شمل بيع المزارع الحكومية ومصالح القطاع العام، والاهتمام بالنشاط المصرفي، وتحرير سوق العمل من القوانين والتعليمات المقيدة له، وخلق سوق للأوراق المالية، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتقيم الحوافز لمؤسسات القطاع الخاص، مع تقليص الدعم لمؤسسات القطاع العام، وإعفاء المستوردين الذين يملكون عملات أجنبية من الحصول على إجازات الاستيراد إلا أنهم بدل أن يستخدموا الموجودات الأجنبية لديهم قاموا بتصدير الدينار العراقي للبلدان المجاورة، وبيع العملة العراقية بمعدلات منخفضة، ومن ثم استيراد السلع الأجنبية وتسويقها بالداخل بأسعار تضخمية، وقد شجعت الحكومة ذلك، مما أدى لمعدلات تضخم عالية، وحرف الأرصدة من القطاعات السلعية المنتجة باتجاه قطاع التجارة الخارجية أو للمعاملات المضاربة الأخرى، والتي حققت معدلات ربح كبيرة خلال فترة قصيرة( ).
وبسبب ما أدت إليه هذه السياسة من تدهور للمستوى المعاشي لمعظم أفراد الشعب العراقي، لذلك تراجعت الحكومة عن سياستها واضطرت لاتخاذ عدة إجراءات لمعالجة الأزمة أهمها( ):
1- تخفيض الأسعار.
2- إصدار قانون تجميد أسعار عدد من السلع الاستهلاكية.
3- إعادة تأميم بعض المؤسسات المخصصة للقطاع الخاص.
4- زيادة الإعانات لقطاع الزراعة.
5- زيادة رواتب موظفي الدولة.
6- تثبيت سوق منخفض لمستويات أرباح مؤسسات القطاع العام والمختلط.
لكن هذه العملية لم تحقق المرجو منها ؛ بسبب الخسائر الاقتصادية والبشرية التي مني بها العراق، والتي يمكن إجمالها بالآتي:
1- خسارة نصف مليون عراقي قتلوا في هذه الحرب.
2- خسائر الناتج المحلي الإجمالي التي وصلت إلى 91.4 مليار دولار.
3- خسائر الإيرادات النفطية البالغة (197.7) مليار دولار.
4- خسائر العملات الأجنبية البالغة (خلال الحرب) 78.8 مليار دولار
5- خسائر احتياطات العملات الأجنبية المختلفة والبالغة 80 مليار دولار ؛ بسبب تزايد الإنفاق العسكري.
وبناء على ذلك فقد خسر العراق 452.9 مليار دولار أي أنه أهدر ما يعادل مرتين ونصف من الإيرادات النفطية المتراكمة خلال خمس وسبعين سنة وبمعدل مستوى وصل إلى 50.2 مليار دولار ، وانتهت هذه الحرب بخسارة 458 مليار دولار ، وهذا مايعادل عشرة أضعاف معدلات الناتج القومي الإجمالى خلال الفترة (1980-1988 ) ، وبسبب ذلك وصلت القروض التي اقترضها العراق من عدة دول إلى 86 مليار دولار مع إلزامات بخدمة الدين بلغت ثمانية مليارات دولار عام 1995، وشكلت نسبة قدرها 55 من إيرادات النفط المنخفضة عام 1989 ، وبناءاً على ذلك اعترفت الحكومة العراقية أن حجم ديونها بلغ 42.1 مليار دولار وأن عليها أن تدفع خدمة الدين المقررة بخمس وسبعين مليار دولار خلال الفترة (1991- 1995 ) أي بمعدل سنوياً قدره خمس عشرة مليار دولار وهذا يفوق إيردات النفط لعالم 1988 بنصف مليار في ظل تآكل العملة العراقية ، وقلة جهود الأعمار والبناء وحدوث ركود بالإنتاج وتدهور بالمستوى المعاشى وازدياد حالات الفقر ، رغم الاهتمام بالصناعات العسكرية في مجالاتها المختلفة حيث ازداد عدد العاملين فيها إلى مائة ألف شخص ، إضافة إلى اهتمام النظام بتشييد القصر الجمهوري الجديد، وإهمال رسمي للاقتصاد المدني والتنمية وحدوث سوء الإدارة الاقتصادية ، وانتشار ظواهر الفساد والرشوة والمعاملات غير القانونية التي شملت المستويات العليا من الدولة ، مما أدى لتراجع في الناتج القومي الإجمالى عام 1989 بنسبة 9% ؛ لذلك كان لابد للحكومة أن تقلص الإنفاق الحكومي عام 1990 بنسبة 6% عن السنة التي سبقتها وطالبت الحكومة الإدارات الحكومية بتخفيض عدد العاملين فيها بنسبة خمسين بالمائة ( ) .
كما يتبين لنا ارتباط العامل الاقتصادي بالعامل السياسي والاجتماعي وتأثيره على الوحدة الوطنية في العراق لكن يظهر هذا الترابط بشكل أكثر وضوحاً عندما تحول اليد العاملة المنتجة من العامل الإنتاجي والزراعي إلى العامل المستهلك وهو القطاع العسكري ، الذي كان من أكبر العوامل التي أثرت على العملية الإنتاجية فكما نعلم أن حجم الجنود بالنسبة لعدد السكان في الجيوش النظامية لا يتجاوز (3-4) % ، ومثال على ذلك الجيش المصري الذي خاض حرب أكتوبر 1973 ، فكان مجموع عدد ضباطه وجنوده 3.5% من مجموع عدد السكان الذي كان عددهم 35 مليون نسمة أي عدده كان مليون ومائتى ألف نسمة ، إلا أن الجيش العراقي شذَّ عن هذه القاعدة فوصل عدد الجنود العراقيين إلى 8.5% من عدد السكان في العراق عام 1988 ، وهذا يعنى أن الجيش العراقي قد استنفذ كل الطاقات القادرة على العمل والإنتاج من بين أوساط الشعب ، فكل من كان قادراً على حمل السلاح بين (18-60) سنة سيق إلى وحدات الجيش النظامي أو الشعبي أو قوات الطوارئ رغم أن الكثير ممن سيقوا كانوا من كبار السن وذوي العاهات ، والذين ليس لهم القدرة على انجاز الواجبات القتالية أو الإدارية ، حيث أصدرت القيادة العراقية إلى لجان الفحص الطبي بتعليمات مشددة لا تسمح بالإعفاء من الخدمة العسكرية لأسباب صحية مهما كانت الحالة الصحية للمكلف، حتى أن معوقي الحرب لم تسمح لهم بالخروج من الجيش ؛ حيث تم استخدامهم في المقرات أو ظلوا في وحداتهم وكان لهذا الأمر مردوداً سلبياً رغم انتهاء الحرب ، حيث أوحي إلى الشعب العراقي أن القيادة العراقية غير مهتمة بالجوانب الإنسانية للشعب العراقي( ).
كما أن من نتائج تناقص اليد العمالة العراقية وفتح البلاد لليد العاملة غير العراقية لتحل محلها ، بقصد سد الفجوة في الريف والمدن ، بعد أن أفرغها الذهاب إلى الخدمة في الجيش ، حيث جيء بالعمال العرب وخاصة من الجانب المصري ، وتم تخصيص أجور كبيرة لهم حتى أصبحت العمالة الوافدة أكثر من العمالة العراقية ، فامتلأت المطاعم والمقاهي والأسواق والحانات بالآلاف منهم ، أما الريف فقد تم تأجيل العمل به لأن المواد الأساسية وخاصة القمح كان يأتي مدعماً من الولايات المتحدة ودون تكاليف إنتاجية ، وبدل أن تنتج هذه العمالة أصبحت مستهلكة تشارك الشعب العراقي قوت يومه التي يدفع قيمتها ملايين ومليارات الدولارات من واردات النفط ، ومن القروض والهبات التي تعطيها الدول الأخرى التي لها مصلحة في استمرار نار الحرب وتأجيجها، كما ظهرت حالات الاختلاس والنصب والمخدرات من قبل بعض أفراد هذه العمالة إضافة إلى زواج المصريين من زوجات قتلى الحرب وهروبهم عنهن، وانتقال عادات وممارسات غريبة وغير معروفة للمجتمع العراقي ، خاصة أن الرئيس صدام حسين حرص على أن يجعل القوانين والمحاكم ومراكز الشرطة في خدمة العمالة الوافدة فقد أصدر توجيهاً شخصياً للدوائر المعنية يطلب فيها الحكم لصالح المصري الذي ينشىء بينه وبين المواطن العراقي أي خلاف حتى ولو كان واضحاً أنه صاحب الحق هو المواطن العراقي ، كما شجع أرامل ضحايا الحرب على الزواج من هذه العمالة مع تقديم مساعدات مالية مجزية لهم ، إلا أن الكثير منهم استولى على تلك المنح وتركوا زوجاتهم الجديدات دون أن يعودوا للعراق حتى أصبح العراقيون يتهكمون على مثل هذه الزيجات البائسة ، إضافة إلى أن وجود هذه العمالة في الداخل العراقي بين معظم رجال الشعب على جبهات القتال قد أثار حفيظة العراقيين وأخذ الحسد يتحول إلى حقد وكراهية بدأت تختزن في نفوسهم تنتظر لحظة الانفجار ؛ إلا أنه عند انتهاء الحرب العراقية الإيرانية تخلى النظام العراقي عن هذه العمالة وشجع الاعتداءات ضدهم ، خاصة بعد احتلال الكويت ووقوف النظام المصري ضد هذا الاحتلال حيث استقبلت القاهرة مئات الجثث لمصريين لم تعرف الأسباب الحقيقية لوفاتهم( ) .
كما أن من نتائج تناقص العمالة العراقية في الداخل العراقي أن النظام العراقي عمل على التثقيف السياسي للمرأة العراقية من خلال الاتحاد العام لنساء العراق بقصد حشد التعبئة والتأييد لصالحه ، وحض النساء على الزواج من أجل المساهمة في العملية الإنتاجية ووقوفهن إلى جانب الجيش العراقي من خلال اشتراكهن في الجيش الشعبي والإدارة والتمريض وفق قانون ينظمه قانون الخدمة العسكرية( ).
في ظل تلك الظروف أخذت الدول الدائنة للعراق تطالب بديونها بعد انتهاء الحرب وقد استطاع النظام العراقي إقناع الدول الغربية والاتحاد السوفياتى، أنه يستطيع سدادها من عائدات نفطة حيث بلغت ديونه لها حوالي 35 مليار دولار ، لكن لم يستطع الرد على المطالب الخليجية والسعودية لديونها وطلب منها شطب ديونه، وأن تساعده في الخروج من أزمته المالية وحيث تقدر ديونه لها بنحو 45 مليار دولار ، لكن لم تفعل هذه الدول شيئاً سوى أنه أسقطت عنه بعض المساعدات التي قدمتها له أثناء الحرب ، وأخذت تطالبه بالديون المستحقة ، وخاصة من الجانب الكويتي ، وهذا دعا العراق إلى اتهام الكويت بسرقة نفطه من حقل الرميلة الذي يمتد داخل الأراضي الكويتية ، وطالب بتعويضات عن حجم ماتم سحبه منها، حيث حفرت تلك الآبار بشكل مائل داخل الأراضي العراقية ، وقد قدر العراق تلك الكمية بـ 2.4 مليار دولار ، وطالب بحقوق تاريخية للعراق في الكويت التي كانت تاريخياً جزءاً من العراق ، واتهمها أنها كانت تعمل على تخفيض أسعار النفط الخام مع دولة الإمارات العربية المتحدة، رغبة منها في عدم نهضتها الاقتصادية وهذه الحرب التي تشنها هاتين الدولتين هي حرب تشبه الحرب العسكرية ، ونوع من العمالة للإمبريالية ، ورغم موافقة الكويت على تعيين الحدود وفقاً للأمم المتحدة بشرط اعتراف العراق الرسمي باستقلال الكويت ، الذي كان قد أعلنه البعث سابقاً في عام 1963 ، لكن رفض النظام العراقي ذلك واعتبر أن خسارته بسبب الكويت والإمارات والبالغة مليار دولار نتيجة زيادة إنتاجهما من النفط ، فبسببهما هبط سعر برميل النفط من 19.78 دولار بداية عام 1990 إلى 14.02 دولار بعد عدة أشهر ( ).
كما أن من نتائج الحرب مع إيران ، ازدياد عدد المتسولين في العراق بشكل كبير ، وخاصة بين طائفة الكولية ، وانتشار البغاء بسبب موت الأب أو الزوج في ظل وجود أولاد تريد أن تأكل وأصيب الكثير من الجنود بحالات مرضية نفسية ؛ بسبب الخوف الذي تعرضوا له في ساحات المعركة ، في ظل هذا الوضع المتردي كان للرئيس العراقي قصوره المترفة، وفريق طبي خاص به وبأسرته وقد وصلت قصوره إلى أربعين قصراً مليئة بالحدائق والأشجار على ضفاف نهر دجلة، كما كان لكبار أفراد النظام نواديهم الخاصة الممنوعة على عامة الشعب، مثل نادي الزوارق على نهر دجلة ، والذي توافرت فيه جميع المشروبات الروحية، إضافة لانتشار المجون واللهو وبنات الهوى فيه( ) .
وشهدت هذه الفترة أيضاً عملية ترييف المدينة حيث وصلت نسبة سكان المدن إلى 69% من مجموع السكان ؛ بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة وهذا ما أضعف التواصل الاجتماعي ، بسبب تمزق التلاحم التقليدي في الريف والمدينة على حد سواء ، كما أصيب الريف بالإفقار والتفريغ من سكانه، وأصبحت بغداد تضم حوالي ربع سكان العراق ، وكانت مما تسبب في الهجرة أن المسافة قد كبرت بين المراكز في المدن والأرياف ، حيث اقتصر تحسين الخدمات الصحية والتعليمية على المدن وحدها وقدمت المدينة فرص عمل أكبر بكثير وأجور أرفع وتركزت فيها التجارة والبناء والنشاط العقاري ، وقد سيطر عليها الموالون للدولة ممن ترضى عنهم الحكومة ، أما المسؤوليات الإدارية في الدولة قد اتسمت بالعشائرية ، وعادت الألقاب والنسب إلى التداول فقد أشرف أخو الرئيس العراقي برزان إبراهيم الحسن على أموال النظام في الخارج ، وأنشأ شبكة واسعة لنيل الأموال تضم أكثر من مائة حساب مصرفي ، واستخدم بعض عائدات المال في تمويل شبكة من الموالين له في الدولة لرصد تحركات المعارضين العراقيين في الخارج( ).
وبالرغم من ذلك ظل الرئيس العراقي يتشكك من أقرب مقربيه ،ففي اجتماع العشائر التكريتية التي ينتمي إليها صدام حسين – خلع صدام حسين أخوته وطلبات وبرزان وسبعاوى من مناصبهم في شبكات المخابرات والأمن وعين بدلاً منهم بأفراد عائلة المجيد ، مما أثار الغيرة والحسد بينهم لذلك سعى بعضهم إلى الاستفادة من قرابته من النظام لأجل مصالحه الخاصة وبذلك لم يستطع صدام حسين إحداث توازن في عائلته ، رغم استخدامه القوة والعنف تجاه أفراد أسرته ، فعلى سبيل المثال حينما قتل ابنه( عدي ) أحد خدمه وهو ( كامل حنا ) ، قام صدام حسين بسجن ابنه ثم نفيه إلى سويسرا ، كما كان مقتل ابن خاله عدنان خير الله إنذاراً للآخرين أن كل من يتجاوز حدوده سيكون مصيره القتل( )، لذلك فلا يمكن أن يستغرب المرء القسوة تجاه المعارضة العراقية من قبل النظام فعلى سبيل المثال كانت المعارضة العراقية في الأهوار تلحق الكثير من الأذى بالنظام العراقي ، وتقتل كل من يتعاون معه، وتدمر الشركات التي تعمل في العراق على أساس أنها تعمل على تقوية النظام ، مما حذا بالنظام عام 1987 إلى الرد على هذه المجموعات بعمليات في منتهى القسوة شملت التفجيرات وإحراق المنازل وتسميم المياه وتجنيد الفارين من الخدمة والذي يستطيع النظام الثقة بهم لاغتيال العناصر المعادية ، وتطبيق حصار اقتصادي عليهم بسحب المؤن الغذائية، ومنع تهريب البضائع إليهم ، وهذا ما ساهم في إنهاء تمردهم( ) .
كما أساء النظام إلى الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، عندما حذا بصرف الملابس على الكتب وبرامج التليفزيونية والندوات والمحاضرات التي تتحدث جمعيها عن الرئيس صدام حسين منذ طفولته حتى وصوله للرئاسة ، وموافقة من النواحي المختلفة ثم أخذ صدام حسين يشجع الحركة العمرانية اللاإنتاجية ، ويشارك في الحلقات الدراسية لإنشاء المباني الصحية مثل قوس النصر ، ونصب الشهيد والجندي المجهول ، والطرق الحديثة والمشاريع العمرانية والمحلات التجارية الضخمة ، كما تم إنشاء الكثير من التماثيل لضباط عراقيين لقوا حتفهم الحرب مع إيران ، وهذا ما كلف الميزانية الكثير من الأموال( ) .
وبناءاً على ذلك يتبين أن النظام لم يستطع تحقيق تفاعل بينه وبين الشعب في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال الحرب مع إيران وبعدها حتى أزمتها مع الكويت، حيث كانت هذه الحرب لها تأثيراتها السلبية على النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للنظام، فتراجع مستوى الدخل الفردي والقومي، وتوقفت أو ضعفت إنتاجية المنشآت الصناعية ، وقل الإنتاج الزراعي وزاد الإنفاق على السلاح، وفقد الكثير من أبناء الوطن بسبب الحرب ، وضعف تلاحم الأسرة العراقية ، نتيجة فقدان أحد أبناءها ، وانتشرت أمراض اجتماعية كثيرة ،بسبب هذه الحرب مثل التسول والكآبة في ظل ذلك ازدادت وطأة النظام على الشعب العراقي من خلال أجهزته الأمنية والمخابرات وتحول المجتمع إلى مجتمع سلبي فاقد للحياة في الداخل أو مضطر ألا يعبر عما في داخله ، وهذا ما جعل الكثير من أبناء الوطن تهجره ويسعى لحياة أفضل خارج البلاد
ثالثاً : مدى تحقق الحرية والعدالة والمساواة
منذ تولي صدام حسين للسلطة في العراق في 17 يوليو 1979 ، قضى على أية معارضة له ؛ فبعد ثلاثة أسابيع من توليه الحكم أعلن أن هناك مؤامرة بين أعضاء القيادة القطرية للحزب تستهدف النظام العراقي ، وأن لها علاقة بنظام الحكم في سوريا، لذلك تم اعتقال أكثر من ستين شخصاً من أعضاء النظام ، وأعدم وسجن أكثرهم ، كما تم تجريد 290 عضو حزبي من كبار أعضاء الحزب من مناصبهم بتهمة الفساد أو لحماسهم للوحدة مع سوريا ، أو لعلاقتهم مع متهمي المؤامرة ، وعلى هذا الأساس رأى الأعضاء الآخرين أن الانصياع وراء الآمين العام القطري للحزب في العراق ، والتقرب منه هو مقياس الترفيه والبقاء السياسي والجسدي ، وبالمقابل اعتمد النظام في اختيار مقربيه على روابط قرابية ، وإقليمية وصداقات مجزية منذ ما قبل وصول صدام للرئاسة ، وهذا ما حوَّل الدولة إلى دائرة ضيقة من المقربين المترابطين بشبكة تحالف ومصالح ويصعب على الآخرين اختراقها إلا بأمره( ) .
وبالنسبة للأجهزة الأمنية ، فقد كانت قادرة على تجاهل أي تعبير عن الاستياء الشعبي تجاه أوضاع الحرب مع إيران ، فتم فرض رقابة صارمة على بعض رجال الدين الشيعة ، والإشراف على محتويات الخطابة، وجميع المقامات والمساجد الشيعية ، وتعيين أشخاص محسوبين عليها في مواقع المسؤولية ، وجعلت من جميع علماء الدين الشيعية موظفين يتقاضون رواتب من الدولة ( ).
وعمل النظام على إبعاد كل شخصية لا تنقاد بشكل تلقائي للنظام فعلى خلفيه دعوة أحد الوزراء العراقيين في اجتماع أحد الوزراء وهو وزير الصحة عام 1982 لتخلي صدام حسين عن السلطة ، ولو لفترة مؤقتة بحيث تتوقف الحرب مع إيران ، حيث كانت إيران بعد عدة انتصارات على العراق أنها من الممكن أن توقف الحرب مع العراق بشرط تنازل الرئيس صدام حسين عن الحكم ، فما كان من النظام إلا إعدام وزير الصحة في ذلك الاجتماع واتهامه بالفساد وفي ظل هذه الأثناء زادت الدعاوى لتخلي صدام حسين عن الرئاسة وإعادتها لأحمد حسن البكر لإيقاف الحرب مع إيران ، مما أدى إلى الموت الغامض لأحمد حسن البكر في أكتوبر 1982 ، وهذا ماحذا بالجميع إلى التخوف من مناقشة موضوع التخلي عن الرئاسة من قبل صدام حسين على اعتبار أن صدام حسين لا يتورع عن تصفية قريبه ورئيسه السابق عندما تمس سلطته ، وعلى إثر ذلك قام الرئيس العراقي بتغييرات جديدة في أعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث، والحكومة العراقية في صيف 1982 بحيث تكون تلك المؤسسات أكثر انسجاماً مع شخصه، ثم دعا إلى عقد المؤتمر التاسع للقيادة القطرية لحزب البعث ، وشدد على أولوية العراق، ومعنى الدين في فكر البعث وإسناد دور القائد الضرورة له بصفته النابغة والحكم النهائي في أيدلوجية الحزب ، وعلى هذا الأساس أصبح هو الذي يحدد ما يدخل في أيدلوجية الحزب والثورة ( ).
وبالنسبة للمجلس الوطني الذي شكل عام 1980 ، فقد كان حافزاً أو رمزياً، فقد وضع جميع أعضاءه لمراقبة أجهزة الأمن ، وقد هدف منه تصوير أن الحكومة خاضعة للمجلس الوطني ومراقبة الشعب وأنه رمز للوحدة الوطنية على أساس أنه يشتمل على أناس من جميع قطاعات المجتمع العراقي ، إلا أنه كان إحدى أدوات ممارسة سياسة المحسوبيات ، ويتم من خلالها مكافأة أعداد كبيرة من مختلف المجتمعات بمراكز نفوذ للوصول إلى الموارد الإسكانية والمادية التي ربطتهم بالقيادة ، وقد شجع النظام الناس على الترشيح لمقاعد المجلس الوطني ، وعلى انتقاد الوزراء وبيروقراطية الدولة ووعد بالانفتاح على الشعب ، لكن خضع الجميع للمراقبة الأمنية ولم يسمح لهم بتوجيه الانتقاد سوى لمسؤولين معينين وخصوصاً التكنوقراط الذين استخدموا ليحاولوا معالجة التدهور الاقتصادي ، أما الرئيس وأقربائه ومقربيه فهم محصنين ضد الانتقاد( ).
وقد اتبع النظام سياسة صارمة تجاه كل من يحاول أو يسعى لإضعاف الحكم فقد اتهم عدداً من الضباط وقادة البعث العراقي بتهمة محاولة قلب نظام الحكم أو التعاطف مع المعارضة ، فتم إعدام اللواء (وليد محمد سيرت) الذي كان يشغل مدير المخابرات العسكرية بتهمة التعاطف مع عبد الخالق السامرائي ، كما تم إعدام أحد القادة البعثيين وهو اللواء (محمد سعيد على ) على خلفية خلافات عميقة بينه وبين صدام حسين قبل توليه الحكم( ).
ورغم توقيع النظام العراقي على كل اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية ، إلا أنه لم يلتزم بها في العراق – فقد كان الناس يخشون التغيير عن آرائهم ويهمسون بها سراً أو يلوحون بها بالإشارات عندما يريدون توجيه انتقاد ، وكانوا يفضلون التحدث إلى أسرهم وأصدقائهم في الخلاء بعيداً عن أجهزة التنصت ، وذلك يرون انتقاد النظام ، ومن أمثلة انتهاك حقوق الإنسان في العراق كان المرسوم (474) لسنة 1981 الذي حض على زدواج العراقيين المتزوجين من إيرانيات أو الذين تم ترحيلهن إلى خارج العراق على خلفية أصولهن الإيرانية وإبعادهن عن البلاد مقابل تعويض مالي، كما مارس النظام تقييدات كثيرة على سفر العراقيين( ) ، لكن رغم ذلك لا يمكن اعتبار العسف الذي يمارسه النظام يخص طائفة أو فئة بعينها فقد مارس هذا العسف بدرجات متساوية على جميع أفراد الشعب العراقي فكل شخص مهما كان قربه أو بعده من النظام يشك أنه من الممكن أن يشكل تهديداً لها من النظام أو أمن رئيس النظام لابد أن ينتهى سواء بالسجن أو بالإعدام بطرقه المختلفة( ).
ومن الأمور التي أساءت للنظام العراقي هو تهديده بتدمير نصف إسرائيل بالأسلحة الكيميائية العراقية ، ولم يدرك أن الغرب كله سيتدخل فيما لو تمت مهاجمه إسرائيل وخاصة في ظل انتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشيوعي ، وفي ظل ازدياد الاستبداد الشعبي من النظام على خلفية رفض النظام لإشراك بالأكراد في مجلس قيادة الثورة كونه الصانع الحقيقي للقرار السياسي في العراق ، وقيامه على حل اتحاد الطلبة العراقي ، واتحاد المرأة العراقية على أساس وقعها تحت همته الحزب الشيوعى العراقي ، إضافة لاكتساب جهاز الأمن العراقي حقوقاً خاصة تمنحها صلاحيات كبيرة ، منها على سبيل المثال إطلاق النار دون مساءلة قانونية على الفارين من الخدمة العسكرية وقد شملت هذه الحقوق الأجهزة الأمنية والأجهزة الحزبية على حد سواء ، إضافة لاستمرار سيطرة مجلس قيادة الثورة برئاسة رئيس الجمهورية على القرار السياسي الذي يتولى الحكم بالمراسيم التي تحمل إما قوانين جديدة أو قرارات تنفيذية ، وتركز جميعها على الصلاحيات الممنوحة لرئيس هذا المجلس بموجب الفقرة (1) من المادة (42) من الدستور المؤقت ( ).
ورغم إدعاء النظام أن المجلس الوطني يمثل الشعب على اعتبار أنه يتألف من 250 عضو كل منهم ينوب عن خمسين ألف عراقي ، لكن فرض عليهم أن يؤمنوا بأهداف ثورة السابع عشر من يوليو 1968 ، أي القبول ببرنامج وأهداف الحزب الحاكم ، وفقاً للمادة 26 من الدستور ، وقد حصل البعث في كل انتخابات هذا المجلس على أكثرية المقاعد ورغم كون رؤساء المجلس كانوا جميعهم من الشيعة وهم على التوالي ( نعيم حداد – سعدون حمادي – سعدي مهدي صالح)، ورغم كونهم في القيادة القطرية ، لكن عملياً صلاحيات هذا المجلس كانت ضعيفة لأن الصلاحيات الفعلية تتركز في يد مجلس قيادة الثورة ، ورغم أن المجلس يحظى بحرية مناقشة الاقتراحات والقوانين ورفع التوصيات إلى مجلس قيادة الثورة الذى يصدر المراسيم التي تقوم بمنزلة التشريع الناسخ لما قبله ، وبناءاً على ذلك فالمجلس الوطني يقع بمنزلة التابع لمجلس قيادة الثورة عملياً ، أما ظاهرياً فهو رديفياً له ، كون كل أعضاء مجلس قيادة الثورة هم أعضاء في القيادة القطرية للحزب الحاكم بينما في المجلس الوطني لا يوجد سوى رئيس المجلس وهو عضو في القيادة القطرية للحزب ، والدليل على عدم فعالية هذا المجلس أنه لم يشارك في اتخاذ القرارات السياسية الخطيرة قبل تنفيذها مثل إعلان الحرب على إيران واحتلال الكويت ، وإيقاف الحرب مع إيران لكل ظل المجلس له أهمية تتركز في بناء شبكات قاعدية مع فئات واسعة تخدم بمثابة قنوات شيعية ؛ للحصول على منافع ومكاسب مهما تكن ضعيفة من قبل أعضائه، إلا أنه ظاهرياً يمثل معظم فئات الشعب العراقي وخاصة الشيعة الذين يشكلون حوالي 40% من نواب المجلس ، وهذا يقود إلى استقطاب قاعدي يعطى النظام بعض الشرعية ، وخاصة في ظل الظروف التي مر بها العراق مثل خوض الحرب مع دولة إسلامية شيعية من جانب جيش أكثر قواعده من الشيعه( ).
وبالنسبة للسلطة القضائية ، فقد تميزت ، بثنائية واضحة ،أي وجود نظامين قضائيين متوازيين ومنفصلين في آن واحد هما( ):
• النظام القضائي الأول الذي في وجود محكمة الثورة ،والمحاكم الخاصة التي تنشأ بمرسوم .
• النظام القضائي الثاني يتمثل بمنظومة المحاكم المدنية ، وترتبط إدارياً بوزارة العدل، ويتمتع باستقلالية مضمونة في الدستور ، وكان هذا الجهاز يتولى النظر في كل الدعاوى بما فيها الجرائم السياسية .
وكان ارتباط هذا الجهاز بمحكمة الثورة ، التي أنشئت منذ عام 1968 ، على اعتبار أنه نظام قضائي يخضع لمجلس قيادة الثورة الذي يتمتع بصلاحية تأسيسها وإلغائها ، وصلاحية التصديق على قراراتها ، وتتألف هذه المحكمة من هيئة غير معلنة ، باستثناء رئيسها ، وهو في العادة عضو قيادي في حزب البعث وحقوقى من حيث المهنة ، ولا يسمح للجمهور أو أية هيئة أخرى بدخول قاعة هذه المحكمة ، أو حضور المرافقات باستثناء المتهم ، ومحام تعينه المحكمة ، ويقتصر امتياز دخول المحكمة على (40-50) محامياً ينتمون لحزب البعث ، ويكونوا موضع ثقة المحكمة ، أما الأحكام الصادرة منها فتكون غير قابلة للاستئناف أو النقض ، ونشاطات هذه المحكمة تقتصر على النظر في قضايا أمن الدولة التي تشمل قضايا التجسس والنشاط السياسي الداخلي المعارض ، ثم تنوعت صلاحياتها لتشمل قضايا الأمن الاقتصادي مثل التلاعب بالأسعار وتزوير الهوية والرشوة وتهريب العملة، لكن بشكل عام الجرائم السياسية فيها عقوبتها الإعدام ، ويعتبر الانتماء إلى أي حزب أخر غير حزب البعث بالنسبة لأي عضو في القوات المسلحة عقوبته الإعدام ، كما أن عقوبة الإعدام تشمل كل عضو بعثي كانت له فيما سبق ارتباطات بأحزاب أخرى ، ولم يفصح عن ذلك عند ارتباطه بحزب البعث ، وعلى هذا الأساس كانت هذه المحكمة رهيبة على الشعب ورمز للرعب على غرار قصر النهاية في ظل حكم البكر، وهذا ما أدى إلى إضعاف مكانة النظام القضائي المدني ، وتفويض الوعي القضائي بالذي كانت بداياته الأولى قد ترسخت في الحياة الاجتماعية مثل حرمة المنزل ، وعدم تفشيها إلا بأمر قضائي ، وحرمة الأفراد وحقهم في محاكمة علنية وفي الدفاع والاستئناف ( ) .
ولم يستطع النظام أن يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية تجاه جميع أفراد الشعب ، وخاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة ، لأن معظم الشركات والمقاولين والمستثمرين العراقيين كانوا أقرباء وأتباع النظام ، حيث أصبحت هناك طبقة عليا تضم حوالي ثلاثة ألاف عائلة في عموم أنحاء العراق ، كما سيطرت بعض هذه العائلات على بعض الصناعات ومجالات محددة من المقاولات واتسمت الطبقة العليا الجديدة بعدة سمات أهمها ( ):
1- الاعتماد الشديد على الدولة كفاعل اقتصادي ، وقرابتها من رموز النظام من المصاهرة والقرابة ، والتبعية العشائرية ثم التبعية الاقتصادية .
2- عدم تجانس هذه الطبقة اقتصادياً بسبب مصالحها المتبعثرة .
3- ظلت ضعيفة التركيز والتمركز بالقياس إلى المشاريع والمؤسسات الحكومية .
4- لم تكن متجانسة اجتماعياً ، لأنها تنحدر من عوائل ملاك زراعيين أو تجار أو فئات وسطى أو عسكريين .
5- لم تكن متوازنة من حيث مكوناتها الدينية أو المذهبية أو الإثنية ؛ بسبب عمليات الإقصاء المكشوفة أو المستترة ، فعلى سبيل المثال أن كتلة كبيرة من التجار والصناعيين الكبار والمتوسطين من الشيعة ، قد تم إقصائها عام 1980 ، في حيث لم تفلح مجالات الاندماج والصعود إلا لمدد محدودة من رجال الأعمال الأكراد من العوائل الموالية للنظام، وتركز معظمهم في المثلث السني العربي إثنياً وطائفياً .
6- سيطرة شريحة من الطبقة العليا على الصناعات الكبرى في العراق ، ومؤسساتها الصناعية الكبرى المملوكة للدولة ، ومعظم هؤلاء من القيادات العسكرية والأمنية ، كما كان استبداد وزير الصناعة والصناعة العسكرية ، صهر الرئيس العراقي ( حسين كامل المجيد ) عام 1987 بالصناعة بشكلها العام ودمج الصناعة العسكرية بالمدنية وتعيين ضباط عسكريين مدراء على هذه المصانع وتجريدها من إطارها النقابي ؛ مما أضعف الصناعة بشكل عام وكان من أسباب إتباع هذه السياسة هو إضعاف الثراء الفاحش لبعض العائلات المدنية العاملة في الصناعة من خلال سيطرة عناصر عشائرية تابعة للدولة على مشاريع الاستثمار والتشييد الخاصة بالدولة ؛ إضافة للريوع النفطية ومعظم هؤلاء من العسكريين الذين لا يخضعون للسوق إلا في حدود قليلة ، ومعظم العمال لهذه المؤسسات والمشاريع كانوا بلا حقوق ولا تنظيمات نقابية ، وهذا ما يفسر قلة دورها وانتهائها خلال فترة الحرب مع إيران ، مما حذا بالنظام إلى الاستعاضة عنها بقوة عاملة خارجية تركت آثارها على سوق العمل( ) .
لكن بعد إنهاء الحرب مع إيران ، طرح النظام فكرة التعددية وحرية الصحافة والتظلمات النقابية على الواقع العملي ، إلا أن النظام حافظ على جوهره من الداخل بإبقاء الحزب الحاكم هو السائد والمسير للدولة من خلال الرئيس ومقربيه الذين ينتهجون منهجاً عشائرياً وفئوياً ، وقد أكد هذه الحقيقة نائبي الرئيس العراقي عزة إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان ، بادعائهما أن الحزب له مليون عضو ، وكل عضو له سبعة أنصار أو مؤيدين وهذا يعني أن له سبعة ملايين صوت أي إجماع الأمة( ) ، لكن هذا يخالف الواقع العملي لسياسة النظام حيث أنه من غير المعقول أن تجتمع الأمة على تهجير مئات الآلاف من العراقيين ونزع الجنسية منهم وإبعادهم عن أجهزة الدولة الحساسة كالجيش والخارجية والداخلية والمخابرات ، بحجة أنهم ذوى تبعية لإيران أو من أصول إيرانية ، وهذا ما أشعر الشعب العراقي في الجنوب خاصة بطائفية النظام ، الذي اعتبر أن الولاء هو معيار المواطنة ، وليس الولادة أو رابطة الدم ، كما أن نزع أموال هؤلاء واعتبارهم طابوراً خامساً يعد مخالفة صريحة للمادة الخامسة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعديد من الاتفاقيات الدولية التي لا تجيز نزع الجنسية تعسفاً وتحظر حرمان أي كان من جنسيته ( ) ، كما أنه من غير المعقول أن يجتمع الشعب على أن تسيطر الأجهزة الأمنية على جميع حركات وسكنات الشعب العراقي وعلى وجبات الإعدام الدائمة للمعارضة ، وأن يتحول العنف إلى لغة السياسة ، ويصبح مصدر شرعية النظام ، وقوة فعالة في السيطرة على الدولة ويمتنع أي حوار سياسي أو مناقشات في شئون الأمة ويصل بصاحبه إلى الإعدام ، إضافة إلى ذلك لا يمكن أن يجتمع الشعب على أن تتحول كل المواهب إلى مجرد كائنات بلا حركة وبلا صوت وبلا رأي وأن يصبحوا بوقاً للنظام ، الذي اتجه إلى صباغة فكرة الزعيم المقدس الذي انتشرت صوره في كل مكان من الأمكنة العامة ، والخاصة وأن يحتل هذا الزعيم عدة مناصب في الدولة بحيث تصبح كل خيوط السلطة في يده فهو الأمين العام للحزب ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية والقائد العام للجيش والقوات المسلحة ورئيس الوزراء ورئيس المجلس الأعلى للزراعة ورئيس المجلس الأعلى لمحو الأمية ويلقب بأسماء عديدة منها القائد والزعيم والمناضل والمهيب وحامل اللواء ، وفارس الأمة ، وبطل التحرير القومي ، والأب القائد ، والفارس المغوار، والعامل الأول ، الجندي الأول ، والفلاح الأول ، والمعلم الأول ..... الخ .، وتذكره وسائل الإذاعة والتلفزيون باسمه طوال اليوم ، إضافة إلى ألقابه وبرقياته وخطبه وتغني الأغاني والأناشيد بمجده ومزاياه وفضائله، والأوضاع التي يكون فيها، حيث تظهره بمواقف مختلفة مرة باللباس العربي أو بالزى العسكري ومرة بأحدث الموديلات العالمية ، ومرة وهو يقرأ قرآن أو يعطى محاضرة في العلوم ، ومرة وهو يحل ضيفاً على الإفطار في رمضان لدى مواطنين فقراء لا يتوقعون حضوره ، مع ذكر أهم مواقف حياته وقد امتد تقديسه إلى النظام التعليمي، حيث كراسات المدارس تحمل صورته في الصفحات الأولى ، والطلبة يحملون صورته على قبعاتهم أو يعلقوا بها على صدورهم ، ويدرسون فكر البعث وأمينه العام ، في حصص التربية النوعية التي تعد جزءاً من مناهج دراستهم ( ) .
وهكذا فقد رفع النظام شعار من ليس معنا فهو ضدنا ، مما حول الوطن كله إلى سجن كبير ، فلا فرق بين الآلاف الذين يعيشون في السجون والملايين الذين يعيشون خارجها ، وقد سعى هذا النظام إلى ربط كل الشعب به من خلال طلاب الجامعات ، وأعضاء البعثات الدبلوماسية، والبعثات الخارجية ، وغيرهم ، وكلهم أعضاء في الحزب ، ومن لم ينتسب سيهمش وسيعامل معاملة قاسية ، وأهم الأجهزة الأمنية التي عانى منها شعب العراق ( ):
1- رئاسة المخابرات ، وتتألف من إحدى عشرة شعبة ، ولها سجون تحت الأرض مع جميع معدات التعذيب الحديثة، وهى تشرف على التنسيق والإشراف على عمليات الأمن الداخلي والخارجي، وتمارس العنف والإرهاب بحق المتهمين.
2- مديرية المخابرات العسكرية : وهي مؤسسة تهتم بجميع المعلومات عن العدو أو العدو المحتل للنظام ، وترتبط بقيادة الأركان ، وتتألف من ستة شُعب مرتبطة بالقصر الجمهوري مباشرة ، سكرتير الرئيس ( عبد حمود ) ، ويتم فيها ممارسة أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي .
3- مديرية الأمن العامة ، وهي مؤسسة ذات نشاطات مختلفة ، أهمها مكافحة النشاط الرجعى الذي تعني به النشاط الإسلامي ، وكان لها الدور الكبير في تصفية الآلاف من المعارضة الإسلامية ، والمقابر الجماعية في أماكن عديدة من العراق، وإلقاء مجموعات منهم في الشوارع بقصد إرهاب الشعب العراقي.
4- جهاز الأمن الخالص ومقره القصر الجمهوري ، وكان يديره حسين كامل المجيد صهر الرئيس العراقي .
5- التنظيم الحزبي ، الذي من خلاله تم تشكيل الجيش الشعبي ، وله مليشيات عقائدية خاصة به ، وأهم واجباته كتابة التقارير ومراقبة المواطنين ، واعتقالهم ، والبحث عن الهاربين من الخدمة العسكرية ، وفي ظل هذه المؤسسات ظهر إرهاب الدولة ، من خلال اختفاء العديد من المواطنين أو إعدامهم بتهم مختلفة ، بعد عمليات التعذيب ، وبناءاً على ذلك كان لابد للشعب العراقي أن يستسلم للنظام بسبب غريزة حب البقاء لديه ، وأن يظل جباناً في الداخل لكن لابد له أن يكون شجاعاً على جبهات القتال للدفاع عن النظام تحت غريزة حب البقاء ، وبناءاً على ذلك لم يبق في العراق أسرة لم تفقد إبناً أو أخاً أو قريباً لها على جبهات القتال( ) .
أما من يخالف ذلك مثل المليشيات الكردية في الشمال ، فإن الجيش العراقي سيتحول إلى قوة أمنية قاسية تجاههم ، وهذا ما ظهر في حملة الأنفال التي تم فيها استخدام السلاح الكيماوي من جانب النظام العراقي ، واستغلتها القوات الإيرانية أيضاً ضدها لتثير الرأي العام ضد العراق ، لكن هذا لايعنى عدم مسئولية الجانب العراقي عن اختفاء أكثر من مائة ألف عراقي كردي عام 1987، وعن ضرب مدينة حلبجة في 16 مارس 1988، رغم أن إيران لها دور كبير في هذه المأساة إضافة لمسئولية القيادة الكردية التي تقود قوات البيش ماركة التابعة للباراتي والاتحاد الوطني الكردستاني( ) .
كما أنه من الوسائل التي قام النظام العراقي بها في انتزاع الاعتراف من المتهمين، أو إجبارهم على الاعتراف بما يريد ، كان انتهاك أعراضهم، أو تعذيبهم وإجبار أحد ذويه على توقيع ورقة يطلب إعدامه كونه خائناً للوطن وإسقاط الجنسية عنه، ولا يعلم بالمعتقلات السرية سوى رجال النظام المقربين( ) ، كما عمل النظام على استغلال الطلبة العراقيين الذين يعملون بالخارج ، وإعطائهم تعليمات لإظهار تمسكهم بالإسلام وبالعقيدة الروحية والتملق بها ؛ لإظهار الفكر البعثي على أنه لا يعادي الإسلام بحسب إدعاءات المعارضة العراقية( ) ، كما كان المدرسون العراقيون في المدارس العامة يسألون طلابهم عما إذا كان أبائهم قد أداروا جهاز التلفزيون عندما كان يعرض برنامج عن الرئيس العراقي فإذا كان الجواب بالنفي كان من الممكن أن ينتهي الأمر بالوالد إلى التحقيق والمساءلة( ).
كما أعطى النظام الحق للضباط في الجيش في تنفيذ العقوبات حيال مرؤوسيهم من الجنود وصف الضباط مثل السجن أو الغرامة أو العقوبات الجسدية ، وقد أستغل الكثير من هؤلاء الضباط هذه الصلاحيات لتغريم الآخرين وابتزازهم دون أن تكون هناك محاكمة عسكرية أو لم يراعوا القوانين بحد ذاتها ، كما نفذت الكثير من الإعدامات بتهمة المخالفات رغم عدم إثبات القيادة ذلك ، ونتيجة عدم فهم الكثير من الضباط للقوانين العسكرية بسبب إهتمام الكليات العسكرية بالجانب العملي أكثر من الجانب النظري ، وخاصة في مجال القوانين وهذا ما ساهم في زيادة مخالفاتهم( ) ، كما تدخل في المجال الصحي لتسريح عشرات الأساتذة والمتخصصين في مجال الطب والذين تلقوا تعليمهم في الغرب ليعطي الفرصة لمجموعة من الأطباء الصغار ذوي العلاقات بحزب البعث في الترقي السريع( ) ، فمن بين الأسباب التي أدت إلى تذمر النظام من وزير الصحة والتي في النهاية أودت بحياته هو رفضه إعطاء شهادة لأحد الأطباء البيطريين عن الطب الشرعي بغية ذهابه إلى أوروبا وتخصصه في الأساليب الوقائية في حالات التسمم، أما السبب المباشر فكان اقتراحه لتنازل الرئيس العراقي عن السلطة لفترة ما ، ريثما تنتهي الحرب مع إيران ، ومن ثم يرجع إلى السلطة حيث اقترحت القيادة الإيرانية تنازله عن الحكم مقابل إيقاف الحرب ، فكان أن تم قتله في اجتمـاع مجلس الوزراء وأتهم بالمسؤولية عن حالات وفاة حقن فيها المرضى في الوريد بكميات كبيرة من كلوريد الكالسيوم عالية التركيز( ).
كما أن النظام كان من أخطائه إغراء بعض المواطنين العرب على الاستيطان بها والهجرة إليها موفراً لهم العمل والسكن والسيارة والراتب المغري ، ثم تم منع تدريس اللغة الكردية والتركمانية فيها ، وحولها النظام إلى مبنى حصن عسكري عربي كبير ، وأصبح الدخول إليها كالدخول إلى معسكر سري( ) ، وبالمقابل أهتم النظام ببلد الرئيس تكريت وسماها محافظة صلاح الدين ووسعها من خلال اقتطاع مناطق مجاورة لها ، وأسس فيها أضخم مدرسة عليا لسلاح الجو ودشن قاعدة عسكرية فيها ومبان حديثة ودواوين حكومية على أعلى مستوى من الحداثة والعصرية( ).
ورغم أن النظام دعا أن ممارسته للديمقراطية هي ممارسة تختلف عن الممارسات الغربية في الدول الليبرالية كونه سمح بتعددية حزبية ؛ بشرط عدم الارتباط بقوى خارجية، وبتشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تشكلت عام 1980 وتضم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الاشتراكي والبارتي وقد سمح لها بالعمل داخل العراق ، لكن لم يسمح للمجموعة ذات الارتباطات الدينية وهي المجموعة التي تشكلت عام 1981 بقيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والمرتبطة بالنظام الإيراني( ) حيث اتهمها النظام بالخيانة وعليه فقد تم القبض على تسعين شخصاً من مؤسسة محمد باقر الحكيم عام 1983 وأعدم ستة منهم ، مما حذا بهذا التنظيم إلى محاولة اغتيال صدام حسين عام 1987 ، لكنه فشل واعتقل على إثر ذلك خمسة ألاف شخص اتهموا بالانتماء للحركات الإسلامية في العراق وأعدم قسماً منهم في غياب القضاء المستقل ، وعدم قدرة أحد على الاعتراض على هذه الأحكام وخضوع كل شيء في العراق لأسس الوساطة والمحسوبية ، وهذا مما هدد حرية الأفراد في الوصول للمناصب على أسس الكفاءة وتمزق المجتمع وزادت الانتماءات للتكوينات الأولية والعشائرية وتكوين شبكات اجتماعية جديدة تؤدي إلى حماية مصالح هذه الأسر لمواجهة بيروقراطية النظام( ).
وكان تدخل الرئيس وأقربائه في المجتمع العراقي قد أضعفت الوحدة الوطنية في العراق نتيجة استغلال نفوذهم وسلطاتهم على حساب أبناء الشعب العراقي، فعلى سبيل المثال كان تقلد ابنه عدي للمناصب الثقافية والشعبية والرياضية والإعلام وحصوله على وزارة الثقافة ورئاسة صحيفة بابل وتأسيسه لنادي الرشيد الرياضي عام 1995 وإصداره لصحيفة الرشيد الرياضي والتي تحويل اسمها إلى صحيفة البعث الرياضي عام 1995، وتدخله في كل النواحي الأدبية والفنية في العراق حيث تدور في فلكه كل من نقابات الصحفيين والأدباء وجمعيات الفنانين والمصورين الفوتوغرافي والشعراء الشعبيين ، ثم أصبح رئيساً للمجمع الثقافي ثم أقام إذاعة وقناة تلفزيون للشباب وأصبح رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة العراق ورئيساً لمجلس إدارة صحيفة (صوت الطلبة) ، كل ذلك ليوحي أنه صانع التجديد في العراق من خلال صوت الشباب النقي في مواجهة الإدارات البيروقراطية القديمة (الحرس القديم) ، خاصة أن مجلس قيادة الثورة ألزم كل المدنيين بمخاطبة عدي بلقب الأستاذ بعد وفاة مؤسس البعث ميشيل عفلق عام 1989 على اعتبار أنه امتداد للقائد المؤسس وصانع التجديد( ).
كما عرف عدي ببذخه الشديد وتبديله للسيارات بما يتلاءم مع ألوان البدلات التي يلبسها ، إضافة لقيادته السيارات بتهور والعمل على الحصول على أي فتاة أو امرأة تعجبه حتى ولو كان ذلك اغتصاباً ، فقد كان شغوفاً بالفساد وقد قتل أحد خدم أبيه وهو (كامل حنا) عندما تجرأ على الكلام معه عندما كان مخموراً فضربه بعصى في يده وأرداه قتيلا وقد سجنه أبيه لمدة شهر ونصف ثم عينه في الخارج سكرتيراً أولاً في ممثلية العراق الدائمة في جنيف ، ومما أساء للنظام أن عدي أخذ يفضل ناديه الرشيد على بقية الأندية العراقية ويسرق لاعبيها وكان يفرض على هذه الأندية أن تلعب بشكل ضعيف عندما تكون المباراة مع فريق (الرشيد) ليسمحوا له بالفوز إضافة لفرضه على الحكم بضرورة فوز فريق الرشيد مثلما حدث في مباراة القمة بين فريقه وبين فريق الطلبة العراقي الذي كان مؤهلاً للفوز ببطولة الدوري ، كما تدخل عدي لإقصاء وزير الشباب والرياضة وتولى هو بنفسه رئاسة اللجنة الأولمبية الوطنية للعراق ورئاسة الاتحادات الوطنية الرياضية بأعضائها البالغ عددهم بضعة ملايين كما كان يعاقب الفريق الوطني أو فريق الرشيد فيما لو خسر إحدى مباريات في الخارج ، مثلما فعل مع لاعب الكرة أحمد راضي الذي جعله يركل كرة خرسانية لمدة ربع ساعة حتى تورمت رجله بسبب أن المنتخب العراقي قد خسر إحدى مبارياته في الخارج ، وكان له سجنه الخاص الذي يسجن فيه أصدقائه الذين لا ينقادون له أو الذين تشتكي منهم إحدى صديقاته حيث كان يكلف أصدقائه لقضاء السهرات مع الشابات والمجون والشراب( )، كما قام أبنه قصي بضرب دبلوماسي سعودي بعد شجار بينهما عام 1984 مما حذا بصدام حسين إلى سجن أبنه لعدة أيام( ).
ورغم تعيين أخو الرئيس العراقي (وطبان إبراهيم الحسن) مديراً لدائرة شكاوي الرئيس ، لكن عملياً لم يكن لهذه الدائرة أي قيمة عمليه لإنقاذ الناس من جور بعض رجال الدولة نظراً لانتشار الفساد والتعسف ، فقد كان الاشتباه يقود صاحبه إلى السجن والمعاملة القاسية داخله وقد ينسى المعتقلون أنه في السجن ولا يعلم ذويه عن مكانه إلا إذا دفعوا الكثير من الأموال ليعلموا مصيره ، إضافة إلى أن رجال المخابرات كانوا يأخذون أموال الناس عنوة وإلا فإنهم سيتهمونهم بتهمة ما تقودهم إلى السجن( ).
وبسبب ما كان لنائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة إبراهيم الدوري من إيمان بمبادئ الحزب وبالاشتراكية وبالتوزيع العادل للثورة ، مما أثار بعض أفراد عائلة الرئيس مثل برزان إبراهيم الحسن الذي حاول سحب امتيازاته على اعتبار أن برزان كان ارستقراطياً يمتلك الكثير من الأراضي الزراعية التي يتولى إدارتها زوج أخته سعد العاني( ).
¬ هذه الممارسات من أقرباء الرئيس كانت تضعف الوحدة الوطنية وتقود إلى تذمر الشعب العراقي ، رغم أن الرئيس صدام حسين كان يقف في كثير من الأحيان في وجه أقربائه الذين يتجاوزون القانون بأفعالهم ، فعلى سبيل المثال أخو زوجته ساجدة وهو لؤي خير الله طلفاح عندما رسب في الجامعة أمر بضرب أستاذ المادة التي رسب فيها وكسر ذراعه مما حذا بصدام حسين حينما علم أن يأمر بكسر ذراع لؤي ، كما سجن أخوه سبعاوي إبراهيم الحسن عندما تدخل لصالح أحد مقربيه على حساب مواطن من الشعب ، وأمر بسجن أبنية عدي وقصي كما ذكر سابقاً ، لكن في حالات كثيرة كان لا يعلم عن أفعال هؤلاء فعلى سبيل المثال كان إطلاق النار من قبل ابن أخيه (عمر سبعاوي إبراهيم الحسن) النار على رئيس اللجنة الطلابية بعد شجار بينهما ، وبعد هذه القضية أصبح عمر رئيساً لتلك اللجنة وتم إبعاد رئيسها عنها كما كان الخلاف بين (لؤي خير الله طلفاح) ، وأخيه وطبان إبراهيم الحسن من أجل إحدى بنات الليل قد أدى لإطلاق النار على وطبان بعد أن استعان بابن أخته عدي مما حذا بالرئيس صدام حسين أن أمر بإحراق أكثر من ألف سيارة استوردها ابنه عدي من الخارج من أفضل أنواع السيارات في العالم بدل أن يصادرها ويوزعها على الشعب( ).
كما اتهم صدام حسين بإعدام 148 شيعياً من بلدة الدجيل عام 1982 ، وقد اشترك معه في هذه القضية رئيس محكمة الثورة وأخيه برزان الذي كان رئيساً لمخابرات القصر الجمهوري ونائبة طه ياسين رمضان ، كما أدين آخرين أعضاء في الحزب وصدرت بعد سقوط النظام أحكام بإعدام صدام وأخيه وطه ياسين رمضان ورئيس محكمة الثورة وأحكام مختلفة للآخرين رغم أن محاموا الدفاع في هذه القضية أكدوا أنه كان من المبرر إعدام 148 شخصاً من قبل النظام العراقي على اعتبار أنهم شاركوا في محاولة اغتيال الرئيس( ).
كما أن الرئيس صدام حسين جمع جميع الوزراء في الثمانينات وشكل منهم فريق إعدام في سجن بغداد لكي يرهب كل معارض له وبذلك استطاع النظام من خلال السجون والإعدامات والتعذيب للمعارضين أن يتخذ أخطر القرارات دون مشورة أحد كما أعطى مطلق الحرية لابن عمه علي حسن المجيد المعروف عنه القسوة والطاعة العمياء للرئيس ، حيث كان يطلق الرصاص على رأس بعض المعتقلين عندما كان مديراً للأمن العام ويرديهم قتلى دون محاكمة( ).
مما سبق نصل إلى أن النظام العراقي فشل في تحقيق الحرية والمساواة والعدالة بين أفراد الشعب العراقي في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فكان الظلم الذي لقيه الشعب من الأجهزة الأمنية ، وصعود بعض أفراد المجتمع الذين لهم نفوذ سياسي في الدولة إلى الطبقة الموسرة رغم أنهم قبل ذلك لم يكونوا يملكون شيئاً ، وعدم إتاحة المجال أمام التنظيمات الحزبية المعارضة ووجود مجلس وطني شكلي لا يتمتع بسلطة حقيقة في الدولة ، أما مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية للحزب اللذين فرضوا نظاماً ديكتاتورياً ثورياً قد نشأ فيه الزعيم الفرد والحزب القائد الذي استغل سلطته في التعسف هو وأسرته ومقربيه على الكثير من أبناء الشعب ، وبسبب هذه الممارسات تهددت الوحدة الوطنية وضعفت بسبب شعور أفراد الشعب أن النظام لم ينصفهم ولم يهتم بشؤونهم واستغل قوته الأمنية في قهرهم.
رابعاً : الهوية الوطنية للجيش
رأى النظام العراقي أن شن الحرب على إيران سيجبرها على الاعتراف بأن ميزان القوى لصالح العراق ، وسيعيد شط العرب كاملاً للسيادة العراقية بالرغم من قلة أهميته بالنسبة للعراق ، ولكن كان فعل النظام هو لإظهار القوة العراقية ولي ذراع النظام الإيراني وكسر شوكته بعدما فرض عليه التنازل عن نصفه وفقاً لاتفاقية الجزائر 1979 ، فقام بحرق المعاهدة على التلفزيون مؤكداً السيادة العراقية على شط العرب ، ثم قامت قواته المسلحة بغارات جوية على مطارات عسكرية إيرانية واجتياح عدداً من المواقع على الأراضي الإيرانية مثل مدينتي عبدان وخورمشهر على شط العرب وقد ظن النظام العراقي أن ضعف إيران سيجبرها على التفاوض لوقف الانتهاكات العراقية لحدودها ، وستؤكد على العلن تفوق العراق علناً ، وذلك من خلال تنازلات إقليمية إلا أن النظام الإيراني سرعان ما استوعب الضربة الأولى ورأى بهذا التحدي العراقي لثورته الإسلامية امتحاناً لقدرتها على مواجهة التحديات ضد نظام علماني شبه بنظام الشاه ، فأصبح الدفاع عن البلاد وثورتها محط تركيز التعبئة الشعبية لإيران وقد استغلها النظام الإيراني لتوطيد سلطاته وبدأ بمواجهة القوات العراقية لمدة أسابيع متواصلة وبناءاً على ذلك تحولت هذه المعارك الجزئية إلى حرب إقليمية شاملة ، خاصة بعد ادعاء النظام العراقي أن مسألة السيادة العراقية على شط العرب هي مسألة شرف وطني ومهمة مقدسة للأمة ولإقليم عربستان (خور ستان) العربي ، وقد كانت نتيجة الهجوم الإيراني أن استعادت إيران كل الأراضي التي احتلتها القوات العراقية وأسرت حوالي أربعين ألف عراقي إضافة لعشرات الآلاف من الضحايا فكانت هذه الهزيمة قد شككت بحكمة الإستراتيجية العراقية في الحرب على إيران( ) ، خاصة بعد التعاطف في بعض الأوساط الدينية العراقية مع الثورة الإيرانية مما حذا بالعراق إلى اعتقال أي مواطن يتحدث في مسألة خطب الخميني الداعي لإسقاط النظام العراقي وتصدير الثورة إلى العراق حيث عالج النظام العراقي هذه المسألة بحدة وضيق أفق وبعيداً عن الحكمة بإلقاء خطب نارية ضد النظام الإيراني وبتسمية معركته مع إيران بقادسية صدام ، رغم ما مني به من هزائم عام 1982 بالرغم من أنه حاول في يوليو 1982 تصحيح مساره من خلال الإعلان عن وقف إطلاق النار والدعوى لمجيء قوة دولية للإشراف على ذلك وتكليف لجنة دولية لاستقصاء أسباب الحرب ومن هو الطرف الذي بدءها ؛ تمهيداً لإنهاء حالة الصراع بين البلدين لكن النظام الإيراني رفض ذلك مصراً على إسقاط البعث العراقي خاصة أن للقطبين العظيمين تدخلاتهما في كلا الدولتين من خلال وسطاء دوليين ومن مصلحتهما استمرار تلك الحرب( ) ، لكن هذه لا يعني أن إشعال هذه الحرب كان من أسباب أيضاً النزعات الفردية عند الرئيس العراقي الذي كان يريد إثبات انه من الممكن أن يكون خليفة للشاه وشرطي المنطقة عوضاً عنه وذلك لصالح المصالح الغربية( ).
ولم يدرك النظام العراقي أنه كان من الممكن له أن يمنع الحرب مع إيران حيث لم يكن قد استنفد كل الوسائل الممكنة لمنعها فلم يقطع العلاقات السياسية ، ولم يغلق الحدود معها أو يقاطعها اقتصادياً ، كما أنه لم يستخدم أسلوب الوساطة التي يكلف فيها طرف أو عدة أطراف محايدة ومقبولة لدى الطرفين لحل النزاعات وإيقاف التدهور في جميع المستويات ، كما لم يدرك نوع الحدود المشتركة وسعة الأراضي الإيرانية والموارد الاقتصادية والبشرية والحربية المتيسرة لكل طرف من طرفي النزاع ، ولم يدرك أيضاً أن روح الحماس للثورة الإسلامية التي أطاحت بحكم الشاه تشكل دافعاً قوياً للاندفاع نحو حماية الثورة والدفاع عنها ، مثلما فعل الشعب الفرنسي عندما أطاح بالنظام الارستقراطي عام 1789 فأساء هذا النظام تقدير قوة الخصم المصمم على البقاء من أجل النصر وليس الهزيمة ، أيضاً أخطأ النظام العراقي في أنه كسب عداء الشعب الإيراني له بدل أن يكسب وده من خلال تسميته للحرب بقادسية صدام على أساس أن الإيرانيين ما هم إلا فرس مجوس وأن نظام البعث يمثل الإسلام وهذا مما حفز المشاعر لدى الشعب الإيراني ضد النظام العراقي ، كما أن كلمة فرس ومجوس التي كان يستخدمها النظام العراقي في دعايته ضد إيران هي كلمة لها دلالتها عند شيعة العراق على أساس أن الإيرانيين هم شيعة أيضاً وأن نعتهم بالمجوس هو نعت للشيعة العراقيين ، وهذا ما دعى الإيرانيين إلى تسمية بعض عملياتهم ضد العراق بأسماء إسلامية مثل عمليات بدر وخيبر ، إضافة لكل ذلك أن الجيش العراقي لم يكن مهيئاًَ للحرب ضد إيران حيث أن معظم وحداته لم تكن مدربه تدريباً جيداً وكان قسماً من هذا الجيش متعباً ؛ بسبب الحرب في كردستان وقلة آليات ومعنويات جنوده( ).
وأهم الاستراتيجيات التي اتبعها النظام العراقي والتي كان لها تأثيراها السلبية على قوة الجيش ، وعلى مجريات الحرب مع إيران وعلى الوحدة الوطنية خلالها هو أنه اعتمد على جذب الضباط العراقيين لصالحه من خلال ترقية قسماً منهم على حساب آخرين ، إضافة لتقديمه مساعدات مادية مجزية بقصد استمرار ولاءهم له لكن رغم ذلك لم يكن ليثق بهم ثقة مطلقة ، حيث كانت تراقبهم كوادر حزب البعث ولم يسمح لأي مبادرة منهم دون إذن القيادة العليا ، حيث تحال جميع القرارات العسكرية إلى القيادة السياسية وهذه من الأسباب التي أدت إلى الكثير من الخسائر خاصة أن القرار السياسي يكون صادر عن سياسيين غيرة محترفين في المجال العسكري ، كما أن ترقية ضباط لا يتمتعون بالكفاءة القتالية على حساب آخرين ذوي أفضلية في ذلك ، وقد أدى ذلك لنزاعات شخصية وانشقاقية فالولاء للنظام السياسي كان هو الذي يرقي صاحبه إلى الرتب العليا ، ويسمح بعمليات تطهير واسعة لغير الموالين( ) فعلى سبيل المثال عندما استولت القوات الإيرانية عام 1986 على شبه جزيرة الفاو الواقعة على مدخل شط العرب مما حذا بالنظام العراقي لبعث وحدات من الحرس الجمهوري ، والانضمام للمعركة حيث كانت تلك الوحدات في معظمها من منطقة الوسط وقيادتها من محافظة صلاح الدين التي ينتمي إليها الرئيس العراقي ، وكانت وظيفتها الأساسية حماية النظام من أي اعتداء داخلي تقوم به وحدات من الجيش ضد أي انقلاب عسكري ، لكن بسبب ما تكيد الحرس الجمهوري مع قوات الجيش النظامي من خسائر مادية وبشرية على خلفية استرجاع الفاو لذلك رأى قادته ضرورة الانسحاب من المعركة ، وضموا صوتهم لصوت بقية قادة الجيش في مواجهة القائد العام للقوات المسلحة ، حيث وضحوا أنهم لا يستطيعون توريط جميع قواتهم في مواجهات عسكرية لا جدوى منها سوى تنفيذ أوامر القادة السياسيين ، وهذا ما دفع النظام العراقي للموافقة على أرائهم ، والرد على الجيش الإيراني باحتلال العراق لمدينة إيرانية غير إستراتيجية بعد أن تكبد خسائر كبيرة جداً عام1986 وأدعى أن احتلال هذه المدينة هو خطوة إستراتيجية نحو تحرير الفاو.
لكن هذا أدى إلى انتقادات واسعة داخل الجيش أيضاً مما أثار تخوف الرئيس العراقي من انتقادات قادة الوحدات العسكرية له، لذلك عمل على توطيد سيطرته على جهاز الدولة، متجاوزاً مجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية وأقال عدداً من الموظفين ونقل آخرين من مناصبهم ، وزاد اعتماده على الدائرة الضيقة لأقربائه وأعوانه الذين شكلوا أساس نظامه، وكان مصمماً على ألا تمتد عمليات المساءلة المؤسساتية إلى داخل قيادته السياسية وشبكات نفوذه الواسعة( ).
ورغم أن معظم ضباط الجيش كانوا من السنة العرب، وأن معظم المجندين وصف الضباط كانوا من الشيعة ، إلا أن الجميع كانوا يقاتلون بكل جدية وشجاعة وذلك لاعتبارات برغماتية بحته، كالحاجة للدفاع عن أنفسهم، وخوفهم من العواقب الوخيمة عليهم وعلى عائلاتهم إن هم رفضوا المشاركة في القتال لكن عندما كان تسنح الفرصة لبعضهم للهرب كان لا يتوانى عن ذلك ، وهذا ما يفسر ارتفاع نسبة الهروب من الجيش خلال تلك الحرب بالرغم من الدعاية العراقية لجنودها بأن العراق يدافـع عـن بوابة العرب الشرقية، وأن إيران هي المعتدية على العراق( ).
كما كان من أخطاء القيادة السياسية خلال هذه الحرب زجها بعناصر بعثية من الفاشلين في الثانويات كضباط عسكريين، وتخريجهم السريع والإشراف عليهم عبر المكتب العسكري التابع للقيادة القطرية للحزب( ) ، وقد ظهر الأثر السلبي لهؤلاء في هذه الحرب وفي الحروب التي تلتها، إضافة لذلك كانت عمليه تبعيث صف الضباط والجنود العراقييـن سلبية لعدم إيمان هؤلاء بمبادئ الحـزب، لكن كان انتسابهم لأجل الاستفادة أو لإبعاد أي شبهات عنهم، فكانت ازدواجية التوجه السياسي من أخطر الظواهر الاجتماعية السياسية التي أفرزتها نظرية التبعيث والتعبئة السياسية على الممارسة اليومية لأفراد القوات المسلحة العراقية، وهذا ما يفسر حالات الانشقاق والهروب التي تعرضت لها القوات المسلحة، وبعض حالات التآمر التي حصلت في ذلك الوقت، وبالتالي كان فشل هذه الحالات في إسقاط النظام قد أدى لتصفية الكثير من العسكريين المتمردين( ).
كما كانت الحرب العراقية الإيرانية قد أبرزت ظاهرة جديدة في القوات المسلحة وهي ظاهرة الاستقطاب الطائفي السياسي وقد مثل حزب الدعوة الإسلامية هذه الظاهرة وتم ملاحقة نويات هذا الحزب في القوات المسلحة، وتم تصفية الكثير منهم، وهذا مما أساء لتماسك القوات المسلحة وانضباطها، وانعكس سلباً على مستوى حرفية الضباط والجنود لنقص التدريب من جهة، ولصعوبة تعويض العناصر المبعدة عن القوات المسلحة؛ لعدم وجود زمن كاف لتراكم الخبرة الفنية والقتالية للعناصر الجديدة، والتي استمرت ثمان سنوات في الحرب مع إيران، وهذا مما حذا بالقيادة العراقية إلى تشكيل الحرس الجمهوري وتسليحه بأفضل أنواع الأسلحة ورعاية أفراده رعاية خاصة، بقصد إيجاد بديل للجيش العراقي الذي بدأ الفساد يدب فيه نتيجة تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقلة التدريب والقضاء على حالات الهروب الواسعة التي شهدها الجيش العراقي بعد أن أصبح يزداد عدده حتى وصل إلى مليون جندي عام 1987، إضافة لقوات الحرس الجمهوري التي وصلت إلى 250 ألف جندي( ).
وفي مقابل ذلك عمد البعض ممن لا يؤمنون بهذه الحرب وضرورتها على تأجيل أو إعفاء أنفسهم من الخدمة العسكرية، من خلال أتباع إستراتيجية الرسوب في المدرسة لعدة سنوات، أو الهروب إلى غرف سرية تحت الأرض في بيوت أقاربهم، كما لجأ البعض منهم إلى إيذاء نفسه بخلق عاهة في جسمه على أساس أن فقدان يده أو ساقه أفضل من فقدانه حياته، كما عمد البعض إلى قتل أخد المغتربين الذين يعملون في العراق، على اعتبار أن السجن أفضل له من الموت فـي الجبهة، وفي نفس الوقت فك الكبت عن نفسه فيما يعانيه من مغبة وجود العراقيين على جبهات القتال ، بينما هؤلاء المغتربين الذين ملئوا ساحات العمل في العراق بديلاً للعراقيين وهم يجنون الرواتب والمكافآت( ).
كما عمل النظام على الحد من حالات الاستبسال في أداء الواجبات العسكرية وعدم تشجيعها، لأن ذلك يخدم هذا النظام، حيث دأب الحزب على بناء جيش ذو مناعة تامة ضد حالات الانقلاب، وحماية الحكم من مطامع العسكر، أما جوانب الإبداع الذاتي من قبل الضباط والإجراءات التي تنطلق من توجهات مستقلة فلم تكن لتلقى أي تشجيع، فقد واجه هؤلاء الضباط الذين حققوا نجاحات باهرة في هذه الحرب أحد مصيرين إما الموت في ظروف غامضة أو التهميش وبالمقابل فإن كتبة التقارير الذين يشون بزملائهم في جوانب تدخل في إطار التمرد والانشقاق عن جسم الحزب ؛ يتم ترقيتهم وإعدام الآخرين وهذا ما يفسر إعدام العديد من كبار قادة الجيش، الذين رأى النظام فيهم تهديداً للنظام، كما لجأ النظام للحد من الانتقادات الموجه له بعدم تكريم الضباط الذين كانت لهم مبادرات فردية نادرة في هذه الحرب، من خلال احتمالات تكريمات جماعية لهم في محاولة منه لتشتيت الأضواء عن الإنجازات الفردية للقادة والتركيز على البطولات الجماعية، وبذلك تغيب صورة البطل العسكري القائد في المعارك( ).
وبالنسبة للرئيس العراقي فقد احتل منصب القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ، بعد أن أعلن نفسه مهيب ركن، وهي رتبه تعادل رتبه المشير، وذلك عند توليه السلطة وبالرغم من أنه لم يدخل أي كلية عسكرية(*) فقد أخذ يتدخل في الخطط الحربية خلال تلك الحرب ، وقد أدت تدخلاته إلى كوارث عسكرية حلت على الجيش العراقي ، خاصة أن من استلم الكثير من قواده في الجيش كان مقرباً له من الجنود والقرباء حيث تم ترقيتهم إلى عقداء وعمداء وألوية وقادة فرق في انتهاك صريح للأعراف العسكرية ، ودون أي معيار عقلاني ، حتى تحول هؤلاء من الولاء للدولة إلى الولاء للزعيم الفرد الذي حصر أنتصار العراق على إيران بنفسه، رغم ما كان لوزير دفاعه وأبن خاله خير الله طلفاح من دور كبير في هذا الأمر، واكتسابه ولاء الكثير من الضباط والجنود له على اعتبار أنه البديل الأفضل لصدام(**) ،خاصة بعد انتقاداته للقرارات الخاطئة التي كان يصدرها صدام حسين أثناء المعركة ، وتنديده من قسوته في عقاب الضباط والجنود الذين يخفقون في رد الهجمات الإيرانية، حيث كان مصيرهم الإعدام، إضافة إلى استيائه من زواج صدام ، بزوجة أخرى غير أخته، بعد أن أجبر زوجها على تطليقها وهي سميرة الشهبندر ، كل هذه الأمور قد أساءت بعلاقته بصدام ، وهذا ما فسره الكثير من أن موته في انفجار طائرة عمودية ، بأنه عبارة عن تصفيه حسابات مع صدام حسين( ).
كما أن من نتائج اندلاع هذه الحرب هو الفرض على الكوادر العلمية من أساتذة الجامعات والمثقفين الذين يشغلون مسؤوليات في الجامعة أو الدولة ؛ للانتساب إلى الجيش الشعبي رغم كون البعض منهم لا تسمح حالته الصحية بذلك مثل رئيس قسم طب الأسنان في جامعة بغداد الذي رفض مع بعض الأساتذة الذهاب للجبهة ؛ فتم إقالتهم من مناصبهم وتحويلهم للجبهة رغم أن عمليات التجنيد والنفير تميزت بافتقارها إلى خطط عملية تلبي الحاجة الحقيقية لوجود الجنود في الوحدات القتالية لدرء المخاطر الناجمة عن أي تهديد خارجي أو داخلي لذلك اعتمدت القيادات العراقية المتعاقبة على الجيش عن طريق بقاء الجنود في وحداتهم أطول فترة ممكنة وصلت إلى عشر سنوات ، مما جعل الجيش مؤسسة لا ينظر إليها بعين الرضا بين أبناء الشعب وأصبح الجيش مكروهاً وهذا ما يفسر ظاهرة الهرب من الجيش بالرغم من العقوبات المشددة تجاهها والتي تصل في بعض الأحيان إلى الإعدام( ).
وكان هاجس الخوف من المؤسسة العسكرية قد دفع النظام إلى تحويل القوات المسلحة العراقية من جيش واحد متجانس بحدود مقبولة إلى عدة جيوش ومنظمات وميليشيات شبه عسكرية وأهم هذه الانقسامات هي:
1- الجيش النظامي.
2- الحرس الجمهوري الخاص.
3- الحرس الخاص ( الخاص بحراسة قصور الرئيس ألـ 69 ).
4- الحرس الجمهوري.
وقد سلم ابنه قصي رئاسة الحرس الخاص والحرس الجمهوري الخاص ورئاسة جهاز الأمن الخاص ، ومعظم قادة هذه التنظيمات كانوا من محافظة صلاح الدين { بيجي، تكريت، الدور، سامراء } ، كما أصدر القائد العام أمراً إلى القوات المسلحة أن ينادى ابنه الأكبر عدي بكلمة { سيدي } من قبل كل قادة الجيش والقوات المسلحة على أساس رغبته أن يخلفه في رئاسة الدولة ، رغم أن النظام جمهوري ولا يوجد أي سند قانوني أو شرعي يجيز له ذلك ، كما أنه في إحدى سفرياته إلى موسكو أصدر مرسوماً يخول فيه بقيادة الدولة وإدارتها إلى زوج ابنته { حسين كامل المجيد } ، بالرغم من أنه لا يملك أي صفة قانونية أو رسمية تؤهله أن يقوم بمهام أعلى من منصبه في الدولة ؛ لأنه رسمياً لا يملك مركزاً هاماً في قيادة السلطة السياسية أو الحزب سوى كونه عقيداً في الجيش وقد منح هذه الرتبة عند زواجه من ابنه الرئيس ولم يكن يتجاوز من العمر سوى ست وعشرين عاماً ، إضافة إلى ذلك كانت أداة المحاكم العسكرية والمدنية على حد سواء تحكم لصالح أبناء محافظة صلاح الدين ، وخاصة أبناء تكريت حتى وإن كان الحق ليس لصالحهم( ).
ومن الأمور التي أضعفت الجيش هو عسكرة الإدارات المدنية خلال فترة الحرب مع إيران فكان تحويل الكثير من الضباط العسكريين إلى محافظين للمحافظات العراقية المختلفة ؛ قد ساهم في جعل الدولة العراقية عبارة عن جيش تقتل فيه المبادرة ، فعلى سبيل المثال تم تعيين قائد الأركان السابق { فتيح الراوي } محافظاً لكركوك ، والفريق صلاح عبود محافظاً للناصرية والفريق طالع خليل الدوري محافظاً لبابل والفريق صابر عبد العزيز محافظاً لكربلاء إضافة لغيرهم من الضباط ، وهذا ما حوَّل الجيش العراقي إلى جيش احتلال داخل الدولة يمارس سلطته العسكرية على أفراد الشعب العراقي ككل ، كما ظهر التميز داخل الجيش بين الفرق العسكرية وبين الجيش النظامي وميليشيات الحرس الجمهوري ؛ مما أثر سلباً على معنويات الجيش فعلى سبيل المثال لم يستطع فيلقاً تعداده سبعة فرق عسكرية تطهير كردستان من المتمردين البيش ماركة والذين لم يبلغ عددهم سوى بضعة آلاف ، كما كان انقسام الجيش نخبوياً إلى طبقة نخبة ثم إلى طبقات أخرى قد أثار الجيش وفككه( ).
ومما أثار الكثير من أبناء الشعب العراقي تجاه الجيش العراقي وقيادته أن الكثير من ضباط الجيش لم يكونوا قدوة حسنة يقتدي بها ؛ بسبب تصرفاتهم اللامسؤولة والذميمة التي تتنافى مع روح المجتمع العراقي وأخلاقه ، والأمثلة على ذلك كثيرة فقائد الفيلق الثالث ماهر عبد الرشيد الذي يرتبط بصلة قرابة مع الرئيس العراقي كان يعشق حياة اللهو والمجون مع بنات الهوى من طائفة الكولية ، وتمت خطبة ابنته من ابن الرئيس العراقي قصي وصرف على هذه الخطبة الكثير من الأموال العراقية ، في نفس الوقت الذي كان فيه الكثير من العراقيين يقيمون العزاء على فقدان أبنائهم في معركة الفاو ، كما كان يتميز بمجاملته وعنصريته لصالح أبناء عشيرته تكريت على حساب أبناء الشعب العراقي ، أما قائد الفيلق الرابع الفريق هشام صباح الفخري ، فكان أيضاًً ذو علاقة مع غانيات الكولية واتسامه بسوء السلوك والقسوة حيث كان بعيداً عن الإنسانية فكان يأمر بإعدام الأسرى الإيرانيين ميدانياً ، كما أشرف على إعدام أربعمائة جندي عراقي هربوا من القصف الإيراني عندما سيطرت القوات الإيرانية على (هور الحويزة) وبنفس هذه المواصفات اتصل كل من قائد الأركان ثابت سلطان شهاب واللواء صلاح القاضي واللواء ضياء توفيق إبراهيم وغيرهم ، وفي نفس الوقت كان أعضاء التنظيم الذي دخل القوات المسلحة والذين كان من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم حيث شكلوا طبقة جديدة في القوات المسلحة لها اعتباراتها الخاصة ولا تخضع للقانون بدرجة كافية ولا ينفذون الواجبات العسكرية بدرجة كافية، بسبب أعذارهم المتواصلة وهذا ما كان يربك الوحدات العسكرية ويحطم تماسكها فأصبحت شعاراتهم أن البعثي آخر من يستفيد للاستهلاك المحلي ، وأصبحت الوحدات العسكرية تعاني من حشودهم الممتلة للعاطلين المتهربين عن العمل ،والذين جعلوا الولاء للحزب والثروة يعني الولاء للنظام القائم ، وأصبحت قضية الحزب هي قضية بقاء الدولة العراقية بقيادة الأمين العام للحزب على نظامه( ).
ومما أثر سلباً على الوحدة الوطنية خلال هذه الحرب هو وجود الجنود في معسكرات على الجبهة لفترات طويلة دون رؤية عوائلهم ، وتعرضهم للكبت الجنسي وانتشار الأمراض الجنسية كالسفلى في ظل وجود مجتمع محافظ ينظر للمصاب نظره دونية ، كما أصيب الكثير من الجنود بالكآبة بعد أن قضوا أجمل سنوات عمرهم وشبابهم على جهات القتال ، وبرز إحساس الخوف من الموت الذي أخذ يلاحق الجميع واتسعت في نفس الوقت الهوة بين الضباط وصف الضباط بسبب العداء بين الجانبين ووجهوا التهم لبعضهم البعض عبر المكتب العسكري مما أضعف الترابط بينهم ، وبناءاً عليه فقد كان وجود المكتب العسكري الحزبي في الجيش عاملاً سلبياً أكثر منه إيجابياً ؛ لأنه أضعف الروابط بين الضباط وصف الضباط( ).
وأصبح النظام يدَّعي أن الرئيس هو صانع الخطط العسكرية وهو المحلل العسكري وصاحب النظريات العسكرية ولولاه لما تحقق النصر على إيران ؛ فحكمته واقتداءه بحزب البعث ومنظورة الوطني والقومي كانت وراء ذلك النجاح ، ثم أخذ هذا النظام يكلف بعض الأفلام العربية في الدول العربية لتأييد هذه الحرب وتمجيد قائدها( ) رغم أن كل الوقائع تؤكد أن تدخله في هذه الخطط كان كارثياً على الجيش العراقي فكان تدخله في إحدى الخطط العسكرية عندما زار الجبهة عام 1981 قد تناقض تماماً مع خطط وزارة الدفاع ، وحينما أخبره قائد الفرقة المدرعة ذلك تم إقالته من الجيش وسجنه في بغداد ، كما كان انسحاب الفيلق الثاني من مدينة خرمشهر بسبب القصف الإيراني حيث كان ذلك الانسحاب تكتيكياً من أجل الحفاظ على الجيش ؛ مما حذا بالنظام إلى إعدام قائد الفيلق صلاح القاضي وإعادة الهجوم لاستعادتها رغم التفوق العسكري الإيراني الواضح ، وهذا تسبب في مزيد من الخسائر ولم يفلح الجيش في استعادتها ، وعلى هذا الأساس اختفى وأعدم العديد من قادة الجيش مثل قائد الفرقة الثالثة وقائد الفيلق السابع وقائد الفيلق الثاني وغيرهم ؛ بسبب اتهامهم بالتخاذل وسوء الإدارة كما تدخل صدام حسين في أمر احتلال عبدان رغم التحصينات الإيرانية المتفق عليها ؛ لكن لم يتمكن من احتلالها رغم الخسائر الكبيرة للجيش العراقي ورغم نصيحة قادة الجيش أن احتلالها يعد مجازفة كبرى حيث تم إبادة معظم القوات العراقية المهاجمة وأسر من تبقى منهم( ).
وما أثر سلباً على الجيش العراقي أن النظام العراقي عمد إلى إيجاد اتجاه انتهازي ومصلحي ومادي داخل صفوف الشعب العراقي وقواته المسلحة خلال الحرب مع إيران من خلال شراء الذمم بالأموال والهدايا والأنواط وإغداقه في ذلك ، كما أنه اتبع أساليب وطرق معينة ؛ لإماتة الضمير للمقاتلين ، حيث كان عطية الشهيد ثلاثة آلاف دينار عراقي وسيارة تويوتا وقطعة أرض ؛ فأصبح بعض الأهل الفقراء يأملون في الحصول على هذه العطايا حتى ولو على حساب موت أبنائهم، وبالنسبة لتشجيع المقاتل على القتل المجرد وإبعاده عن النبل الإنساني والروح والقيم العسكرية الشريفة ، مما جعله فريسة لحالة التفكك الأخلاقي والإحساس بالدونية ، وتأكيد وتشجيع هذه الأشياء من خلال عرضها كمسرحية غير حقيقية ، ومن أهم هذه الابتكارات أن النظام العراقي قرر منح مبلغاً كبيراً ما من الأموال قدره بين {500 – 1000 } دينار عراقي إلى أي مقاتل يقتل أكثر من 25 إيرانياً ، وهذا مما عزز روح القتل لدى الجندي العراقي بجعله يتصف بالصفات السابقة الذكر ، إضافة لما منحة من سيارات مدنية لبعض الضباط بقصد شراء ذممهم وتأمين استمرارهم في القتال وحرمان آخرين( ).
كما أنه مما أثر سلباًَ على القوات المسلحة أن الأكاديميات العسكرية الخاصة بتدريب الضباط ؛ كانت تركز على مجموعات عرقية {عربية– سنية} أكثر مما تركز على المجموعات الأخرى على أساس أنها غير جديرة بالثقة حتى وصلت نسبة الضباط في محافظة صلاح الدين وتوابعها إلى 74% من كل قادة الحرس الجمهوري الخاص، ونسبة القادة منهم تصل إلى 62% وقد شكل ضباط محافظة الموصل 15% منهم، والأنبار 9% وبغداد 5%، في حين لم تكن تحتوي هذه القوات على أي ضابط من المحافظات الوسطى أو الجنوبية( ).
وقد كان أمل القيادة السياسية في العراق من الحرب مع إيران هو شد الداخل باتجاه المركز على اعتبار أن التهديد الذي تعرض له العراق يتجاوز الخلافات السياسية بين الفئات المختلفة التي لا ترقى في خطورتها إلى الدرجة التي يتهدد بها الوطن من عدو خارجي ، وفحص مستوى كفاءة القوات المسلحة قتالياً وقياس الدرجة التي وصلت إليها عملية إعداد القوات المسلحة العراقية وتزويدها بأحدث ما تيسر في سوق السلاح العالمي ، وما أمكن الوصول إليه، وكذلك فحص عمليه تجاوز نقاط الضوء التي وصلت في عملية اشتراك القوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973 على الجبهة السورية، وفي عملية الحشد العسكري تجاه سوريا عام 1976( ) ، لكن هذه القرارات والآمال لم تكن تساوي حجم التضحيات والخسائر التي تكبدها العراق، فالثمن كان أغلى بكثير ما أملته هذه القيادة ، لكن بعت انتهاء الحرب مع إيران وقبول إيران بوقف إطلاق النار بعد سلسلة الخسائر التي تكبدتها عام 1988، عندها حاولت القيادة العراقية للقوات المسلحة العراقيـة، صياغة نظرية علمية وعقلانية عسكرية تعتمد الدفاع مع إمكانية الأنتقال إلى الدفاع التعريضي عند التهديد من الخارج ، لكن هذه المحاولة تم إجهاضها بعد القرار السياسي الخاطئ الذي قام به النظام العراقي دون علم القيادة العسكرية للجيش العراقي {الدفاع والأركان}، وهو قرار دخول الكويت في الثاني من أغسطس 1990، من خلال قوات الحرس الجمهوري المنفصلة بقيادتها عن قيادة الأركان العامة، كونها مرتبطة برئيس الجمهورية بشكل مباشر( ).
ولم يدرك النظام العراقي في حربه ضد إيران أنه هاجم بلداً يزيد عدد سكانه ثلاث مرات على سكان العراق ومساحته أربعة أضعاف مساحة العراق، ورغم ذلك لم يخفض في استهلاكه للمواد الكيميائية بدل أن يعالج حالة التقشف التي بدأ يدعو إليها منذ عام 1982، حيث أستورد سلعاً غير عسكرية خلال فترة الحرب تقدر ب {42} مليار دولار أي بمعدل أربعة عشر مليار دولار سنوياً وهو أربعة أضعاف الاستيراد العراقي غير العسكري لعام 1975 ، و75% من واردات العراق النفطية لتلك السنوات، وقد أدت هذه الحرب لانخفاض دخله الإجمالي من 52 مليار دولار عام 1980 إلى 27 مليار دولار عام 1988 ، ومثلت الديون التي تراكمت عليه ثلاثة أرباع دخله القومي عام 1988 ، كما تضخم الجيش العراقي في ظل هذا الوضع الاقتصادي المتدهور، وهذا مـا أنذر بقرب قيـام انقلاب عسكـري، كانت بدايته عام 1989 حيث تم تصفيه وزير الدفاع السابق "عدنان خير الله طلفاح" على إثره ؛ لذلك كانت عملية غزو الكويت سرية جداً في الأوساط العسكرية، فلم يناقشها القائد العام للقوات المسلحة إلا مع ابن عمه {علي حسن المجيد} وصهره {حسين كامل المجيد} ، ورغم أنه استعين بتكاليف من خلال موارد وزارة الدفاع والمخابرات العسكرية تحت غطاء قيام فيلق الحرس الجمهوري في حينه بتنفيذ مناورات مع مثلائه من أعضـاء مجلـس التعاون العربي على المحور الصحراوي الموازي لوادي الفرات ، إلا أن قيادة الأركان ووزارة الدفاع لم يكن عندها أي علم بغزو الكويت( ).
كما أن مما أثار الأكراد ضد الجيش العراقي، واعتباره جيشاً لا يمثلهم، أن هذا الجيش الذي تؤخذ موارده ومعداته من قوت الشعب وموارد الدولة، قد استخدم ضد سكان المنطقة الكردية، وليس المتمردين الذين يقومون مع إيران مثل حزب البارتي فحسب ، لأن هؤلاء لا يمثلون سوى بضعة ألاف من الأكراد، فكان من الخطأ على القيادة السياسية العراقية أن تبعث في السادس من مارس 1988 بطائرات لتلقي غاز الخردل والسارين والتابون على مدينة حلبجة وقتل عدة ألاف من سكانها، وإصابة آخرين بمشاكل صحية طويلة الأمد ؛ بالرغم من أن الكثير من المصادر تؤكد أن العراق لم يستخدم هذه الأسلحة خلال تلك الحملة ، وإنما تم استخدامها من قبل إيـران، حيث كانت إيران قد احتلت حلبجة وفي أثناء تحريرها من قبل العراق قامت بإلقاء هذه الأسلحة على المدينة لتثير الأكراد ضد النظام العراقي، لكن إن كان النظام العراقي لم يستخدم هذه الأسلحة فعلاً إلا أنه استخدم الأسلحة التقليدية في حملته ضد الأكراد قبل ذلك ؛ فيما عرف بحملة الأنفال حيث نفذت القوات العراقية سياسة الأرض المعروفة على مدى سبعة أشهر وقدر عدد الضحايا الأكراد بمائة ألف كردي بين قتيل ومفقود مع تدمير لمئات القرى الكردية( ).
لقد كان من أكبر وأخطر العوامل التي أدت إلى تحطيم الجيش العراقي وضعفه هو انغماسه في عمليات الأمن الداخلي، وتحوله لقوة بوليسية وأداة قمع وقهر، مما جعله فاقداً للقدرة اللازمة والاستعداد المطلوب لتأدية مهامه الأساسية والدفاع عن الوطن ضد الأخطار الخارجية، بسبب التفكك الذي سببته عمليات الأمن الداخلي وأنهاك الجنود والضباط بمقاتله إخوتهم من أبناء الوطن، سواء برضاهم أم رغماً عنهم، لذلك فإن فكرة الوطن والدفاع عنه أخذت تفقد أهميتها وقدسيتها في أذهان وعقول الشعب والجنود على حد سواء، وهذا أدى إلى إضعاف وشلل كل الجهود المبذولة من أجل بناء جيش مشبع بروح الوطنية ؛ بسبب انتقال أحاسيس البعض والضغينة والكراهية والانقسام من أوساط الشعب إلى بنية الجيش العراقي، وهذا مما أثر على الوحدة الوطنية للجيش ، إضافة لذلك فإن من مساوئ تحويل الجيش العراقي إلى قوة أمنية ؛ لأنه عمل على تفريغ مناطق واسعة من سكانها، في مناطق الاصطدام مع المتمردين، بحجة حرمانهم من مصادر الدعم والتموين والحصول على معلومات ووصل عدد القرى المدمرة إلى حوالي (1500) قرية، مما شكل اختلالاً كبيراً في الوضع الاجتماعي والاقتصادي لآلاف السكان الذين وجدوا أنفسهم قد اقتلعوا من بيوتهم ومزارعهم ودمرت حياتهم بعد أن تم نقلهم إلى مناطق بعيدة في الوسط أو الجنوب، زد على ذلك أن هذه العمليات تقسم الشعب العراقي وتصنفه ، إما إلى موال لها أو معاد لها ، وعلى ضوء ذلك تقوم بتسليح المجموعات التي تواليها( ).
كمـا أثرت سياسة المحاباة تجاه بعض الشخصيات المقربة من الدولة، وعدم مقاضاتها أو معاملتها مثل معاملة باقي أفراد الشعب، فعلى سبيل المثال زوج شقيقة الرئيس العراقي رفض التطوع في الخدمة العسكرية إبان الحرب مع إيران، وكان قاضياً في المحكمة مما حذا بالنظام العراقي إلى الاكتفاء بإقالته من منصبه بينما عمد إلى إقالة آخرين وتحويلهم رغماً عنهم إلى جهات القتال أما زوج أخته الأخرى {أرشد ياسين} فقد تم ترقيته إلى رتبه عميد طيار دون أن يقوم بدورة طيران ولا تدريب تؤهله لنيل هذه الرتبة رغـم كونه من كبار مهربي الآثـار العراقيـة إلى الخارج، وبيعها لحساب الأسرة الحاكمة، كما كان مسيطر على الكثير من الأعمال التجارية في الخارج ،وعملت دوائر التجنيد أو الاحتياط على القبول بالرشاوى والوساطات وانتشرت فيها المحسوبية، حيث كانت تفرز الجنود ذوي الوساطة إلى الشرطة أو الحرس الجمهوري أو إلى أماكن أخرى مريحة، وتؤجل آخرين تأجيلات طويلة الأمد خلافاً للقوانين، وهذا مما أثر على نفسية الكثير من الجنود الآخرين الذين كانوا يسافرون إلى جهات القتال وإلى مناطق أخرى نائية نتيجة عدم قدرتهم على دفع الرشاوى أو عدم وجود وساطات لهم رغم أن معظمهم كان ضد تلك الحرب ولا يعرفون السبب في قتال مسلمين مثلهم ، وعلى هذا الأساس اغتنى الكثير من الضباط واشتروا مزارع ومنازل من هذه الرشاوى( ) ، وما يدل على انتشار الفساد في الجيش أن أياد خفيَّة قد عطلت أجهزة الإنذار ضد الطائرات المعادية حينما ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي في الرابع من يوليو 1981، واستمر قصفها له مدة أربعين دقيقة، وعادت جميع الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها سالمة( ).
وبعد انتهاء الحرب مع إيران ظهرت عدة تداعيات أثرت على الوحدة الوطنية أهمها:( )
1- تنامي السخط الاجتماعي العام في ظل تضاؤل القدرة والهياكل التنظيمية التي يمكن أن تحول هذا السخط إلى فعل سياسي منظم أو مؤثر.
2- العسكرة الفائقة التي ضمت التماسك والنصر في الحرب ولَّدت بعد هذه الحرب عواقب اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية سلبية أهمها:
• إطعام جيش تعداده وصل إلى مليون فرد والإنفاق عليه ، وهذا ما مثل مشكلة اقتصادية في ظل تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي وانخفاض أسعار النفط.
• تسريح قسم من المؤسسة العسكرية ونقلتها للحياة المدنية ، مما ولد قوة اجتماعية هائلة ذات ذهنية تحمل ثقافة العنف ، وتطالب بحصة من المدنى المدني بعد أن دفعت نصيبها من العناء العسكري.
• سبقت ثلاثة أو أربعة أجيال إلى التجنيد العسكري وفرض عليها أن تمكث على جهات القتال قرابة عقد من الزمان وقد تعرضت هذه الأجيال لفظائع بشاعات الحرب الطويلة ، وحرم جيل من الشباب منهم من أحلى سنوات العمر كما حرم من فرص العيش الطليقة ، وهذا ما أثر على نفسية الشعب العراقي.
كما أن أتساع العسكرة قد أدى إلى تنامي ثقافة العنف عند المجندين الذين يشكلون أكثرية قوة العمل وقاعدة الجيش في ظل تضخم الجيش العراقي إلى حد كبير وغيَّر من التوازنات القرابية داخله ، وعلى هذا الأساس تحول الجيش إلى قنبلة موقوتة ، موتراَ بتوتره كامل النسيج الاجتماعي العراقي ؛ خاصة أن هذه الحرب كانت قد زودت السلطة في العراق بسلاح سياسي هو النزعة الوطنية العراقية أو نزعة الدفاع عن الوطن مما جعلهم يصبرون عليها ؛ إلا أنه عند زوال الخطر الخارجي عقب انتهاء الحرب مما أضفت هذه النزعة وأملت المعارضة أن يحدث انفصال النزعة الوطنية عن النزعة القومية التي تدعيها الفئة الحاكمة ؛ لكن لم يحدث هذا مما زاد من الاحتقان الداخلي لدى أفراد الشعب.
وكان تسريح بعض كبار الضباط التي أثبتت الحرب عدم كفاءتهم مثل قائد الأركان نزار الخزرجي والفريق إياد فتيح الراوي ، ووزير الصناعة العسكرية حسين كامل المجيد والفريق ماهر عبد الرشيد وشقيقه مما أثر سلباً على النظام كون أن معظم هؤلاء لهم موالين في القوات المسلحة مما جعل النظام يعود ليركز على الحرس الجمهوري على حساب موارد الجيش العراقي ، ويوكل إليه أمر احتلال الكويت دون معرفة قيادة الأركان الجديدة أو وزارة الدفاع خاصة أن معظم هؤلاء الضباط التي تم انتقائهم من سكان البدو والعشائر الذين كانوا يحملون الضغينة لأبناء الحضر الذين أثبت ضباطهم خلال هذه الحرب أنهم أكثر كفاءة وشجاعة منهم وأكثر عطاءاَ وأبداعاً ، وكانوا يحرضون على تنمية ثقافتهم عبر المطالعات والمواكبات لكل مستجدات الحروب التقنية بينما البدو بطبيعتهم يكرهون القراءة والعلم والثقافة ويعتبرونها غير مجدية في القتال ، وهذا ما جعل الضباط البدو غير قادرين على إنتاج قادة أو ضباط تتكامل فيهم القدرة والكفاءة والثقافة ليؤمن لهم تأدية أدوار متعددة داخل الجيش ؛ فهم الذين أضعفوا الجيش العراقي بإيقاف الإبداع والتجديد والتفكير المتسق العميق فجعلوا التفكير محدوداً ، واستمرت أنانيتهم بسبب شحة موارد بيئتهم وصعوبة الحياة فيها( ).
وبذلك نخلص إلى أن النظام العراقي لم يستطع أن يجعل من هوية الجيش العراقي عاملاً مهماً للوحدة الوطنية كون هذا الجيش تحول في ظل الحرب مع إيران وتداعياتها إلى سجن كبير لأبناء الوطن و الذي بسببه تدنت كرامتهم واقتصادهم وقتل خيرة أبنائهم ؛ بسبب حرب لم تكن ضرورية وكان بإمكان النظام العراقي تفاديها حرصاً على مصلحة الشعب العراقي أو حرصاً على الشعور الإنساني كما شكل هذا الجيش عامل انقسام للشعب العراقي كونه اعتمد في قيادته على فئات محدده من الشعب العراقي دون آخرين ، ولم تكن قيادته قدوة حسنة لأفراد الشعب والجنود ؛ بسبب أخطاءها وفساد أخلاقها وبذلك أدرك الشعب العراقي أن هذه الحرب والتضحيات التي بذلها خلالها ، لم تكن تستطيع أن توازي حجم الانتصار العراقي الذي عاد بالعراق إلى ظروف ما قبل الحرب وقبل باتفاقية الجزائر التي كان قد نقذها وأثار بنقدها والتخلي عنها هذه الحرب.
ويقودنا هذا المبحث إلى الاستنتاج أن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قاد النظام منذ تسلم صدام حسين للرئاسة وحتى انتهاء حرب الخليج وتداعياتها التي انتهت باحتلال الكويت ؛ لم يستطع تحقيق الوحدة الوطنية في العراق وفق المؤشرات التي حددتها الدراسة فرغم كونه دعى لوحدة البلاد واحترام لغتها ووحدتها وثقافتها الوطنية إلا أنه بفعل القرارات السياسية قبل الحرب وخلالها وبعدها قد أثر سلباً عليها فعدم اهتمامه بشكل متساوي بين فئات المجتمع العراقي وابتعاده عن ثقافة المجتمع الروحية والفئوية بتفضيله لمن يواليه واصطباغه بروح الإقليمية والعشائرية والعنصرية والمذهبية ؛ قد ساهم كل ذلك في إبعاد فئات كثيرة من الشعب عنه ؛ إضافة إلى أنه لم يحسن التفاعل مع الشعب العراقي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً فكانت قراراته السياسية مجحفة بحق الشعب العراقي وسببت الكثير من الكوارث على أبناء الشعب العراقي وخاصة خلال فترة الحرب مع إيران التي كانت آثارها مدمرة للشعب العراقي ، كما أنها أضعفت الاقتصاد العراقي وأهلكت الكثير من أبناءه وأضعفت بالتالي دخل الفرد ونشرت البطالة والتضخم ، كما لم يستطع حزب البعث تحقيق الحرية والعدالة والمساواة بين فئات الشعب العراقي فكانت الأحكام الجائرة بحق الكثير من الأبرياء وفئات الشعب واستغلال الكثير من المسئولين لمراكزهم على حساب الآخرين واغتناء آخرين نتيجة انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية واعتماد النظام على العلاقة العشائرية والإقليمية والفئوية في استلام المراكز المهمة في الدولة ؛ ولم يستطع الجيش العراقي أن يجمع الشعب العراقي في ظل البعث تحت هذا الجيش إلى هاجس خوف ورعب في ظل الحرب مع إيران ، وأفقد الشعب العراقي خيرة شبابه وأهان كرامتهم ومكن النظام من تشديد قبضته على الشعب ؛ واستنفد كل موارد الدولة وترك الشعب العراقي رهينة الفقر والعوز والبطالة والتضخم والمديونية الخارجية ، وبناء على ذلك إذا كان حزب البعث لم يستطع تحقيق الوحدة الوطنية في العراق خلال حربه مع إيران وما تلاها من تداعيات فهل كانت نتيجة تلك التداعيات هو قرار احتلاله الكويت؟ وهل زادت حرب الخليج الثانية قوة الوحدة الوطنية في العراق أم أضعفتها؟ وما هي التداعيات التي نتجت عن تلك الحرب وهل أثرت على الوحدة الوطنية؟ هذا ما سيبينه المبحث الثاني من هذا الفصل الذي سيبحث الوحدة الوطنية في العراق في ظل حرب الخليج الثانية وتداعياتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق