نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

نموذج الحب والحرب

أرحب بكل نقد أو استفسار

عالم السياسة والاقتصاد والقانون

هذه المدونة تعبر عن الكثير من الأبحاث التي قدمتها

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 مايو 2010

الوحدة الوطنية في العراق في عهد أحمد حسن البكر

" الوحدة الوطنية في ظل حكم أحمد حسن البكر "


المبحث الأول : احترام وحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
ومدى توفر الحرية والعدالة والمساواة
• أولاً: احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
• ثانياً-مدى توفر الحرية والمساواة والعدالة


المبحث الثاني : أثر الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
ودور المؤسسة العسكرية في الوحدة الوطنية
• أولاً: أثر الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
• ثانياً : دور الجيش في الوحدة الوطنية










الفصل الثالث
" الوحدة الوطنية في ظل حكم أحمد حسن البكر "
يتناول هذا الفصل الوحدة الوطنية في العرق منذ حركة 17 يوليو في 1963 التي قادها الأمين العام القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق اللواء أحمد حسن البكر ، وحتى تنازله عن الحكم لصالح نائبه صدام حسين في 16 يوليو 1979، حيث أصبح البعث خلال هذه الفترة قائداً للدولة والمجتمع العراقي، وأصبحت ممارسات النظام العراقي مستندة إلى حزب البعث بأيديولوجيته وأوامره.. وبناءاً على ذلك هل استطاع البعث أن يسهم في الوحدة الوطنية في العراق من خلال أيديولوجيته وممارساته العملية؟ أم أنه لم يسهم في ذلك، وكان وجوده سلبياً على الوحدة الوطنية في العراق ؟ هذا ما سيبينه هذا الفصل، من خلال مبحثيه الذين سيتناولان محددات الوحدة الوطنية وفق المفهوم الذي اعتمدته الدراسة.
المبحث الأول
احترام وحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
ومدى توفر الحرية والعدالة والمساواة
يتناول هذا المبحث، محددين من محددات الوحدة الوطنية التي اعتمدتهما الدراسة، في تحديدها لمفهوم الوحدة الوطنية ومؤشراتها، وهذين المحددين هما : مدى استطاعة حزب البعث تحقيق الوحدة والاحترام للعراق ولغته الرسمية وهي اللغة العربية، والثقافة الوطنية، التي تمس الجميع أفراد العراق، إضافة لمدى توفر الحرية والعدالة والمساواة في ظل حكم البعث، وعلى هذا الأساس، سيكون تحقق هذين العنصرين عاملاً يضاف إلى مدى استطاعة البعث تحقيق الوحدة الوطنية في العراق، أما إذا لم يستطع تحقيقهما، فيكون وجوده عاملاً سلبياً يضعف الوحدة الوطنية في العراق.
أولاً: احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
لاقت حركة 17 يوليو 1968تحديات كبرى كادت تعصف بها لولا أن القادة البعثيين استطاعوا أن يتجاوزوا هذه التحديات من خلال استراتيجيتهم وسياستهم، التي لاقت الاستحسان من البعض، كما نالت بالمقابل الاستهجانوالعداء من الآخرين.
ومن هذه التحديات قيام شاه إيران في 19 أبريل 1969 باحتلال مساحة من الأراضي العراقية تقدر بـ(324كم2)، وذلك على طول الحدود البرية مع العراق، وأعلن سيادته القانونية على نصف شط العرب بقوة الأسطول، ثم قام باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، ، وأعلن رفضه لاتفاقية 1937المتعلقة برسم الحدود بين العراق وإيران، وأمام الضغط الإيراني أرغم العراق على توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975،والتي تنازل فيها العراق رسمياً وقانونياً عن سيادته على الجزء الذي احتله الأسطول الإيراني عام1969 ، ولأول مرة منذ الفتح الإسلامي تحصل إيران على نصف شط العرب، وبالمقابل تنازلت إيران عن الأراضي البرية التي استولت عليها على طول الحدود البرية مع العراق( ).
وكانت إيران قد ادعت في حقها لإلغاء اتفاقية 1937، على أساس تغير الظروف التي وقعت بموجبها هذه المعاهدة، وبذلك يحق لها بناءاً على هذا التغيير أن تلغيها ؛ لأنها لم تعد في صالحها ومصلحتها استمرارها، وأنها عقدت تحت ضغط الاستعماري، ولم تعد تتلاءم مع الوقت الحاضر، وأن لإيران مصالح في الملاحة التجارية في شط العرب، لا يستطيع أحد إنكارها، ولا يمكن أن ينفرد العراق وحده بتنظيمها، وأن المعطيات الاقتصادية للنهر قد تغيرت بدرجة كبيرة، وأن استمرار تطبيق المعاهدة يضر بالمصالح الاقتصادية الإيرانية، ويمنع من تنمية هذا الإقليم الهام والمؤثر في الاقتصاد الإيراني( ).
إلا أن الجانب العراقي قد رأى أن بريطانيا لم يكن لها تأثير على هذه الاتفاقية، وأن الحكومة العراقية في حينها قد رفضت تقديم أي تنازلات لصالح إيران، رغم أن الموقف البريطاني كان لصالح إيران بحكم مصالحها مع إيران، ولم تكن توجد أي ضغوط بريطانية تجاه إيران، كما أن التغير الجوهري في الظروف لا أثر له في معاهدات الحدود، وتأثيره حسب القانون الدولي يشمل فقط التجارة والتعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي، ومن الخطورة تطبيق هذا المبدأ أو تعميم تطبيقه على جميع أنواع المعاهدات بما فيها معاهدات الحدود.
وبناءاً على ذلك لو تتبعنا هذا السلوك المؤسسي المبني على بواعث اقتصادية فإنه يجب علينا المطالبة بتعديل حدود جميع الدول الموجودة في العالم، وبالتالي سوف نصل إلى تعميم الفوضى والعنف والتحكم، وإشعال الحروب في العلاقات الدولية، لأن كل دولة غير راضية الآن عن حدودها التي حددت منذ أزمان، وهذه الفوضى القانونية تتناقض أساساً مع الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها القانون الدولي العام من خلال معاهدات الحدود.
أضف إلى ذلك أن تغير السياسة أو تغير الحكومات لا يعد سبباً في تطبيق هذا المبدأ على المعاهدات بكافة أنواعها، كما أن تغير طموحات الحكام الذين يظنون أنهم قادرون على إعادة بناء إمبراطوريات سادت ثم بادت، لا يعد سبباً قانونياً يكفي لتطبيق المبدأ المذكور على أنقاض استقرار وسلامة أراضي الدول الأخرى( ).
وكان من الأسباب التي جعلت البكر يوقع على اتفاقية الجزائر عام 1975، هو بسبب مساندة شاه إيران للحركة الكردية في العراق، وتزويدهم بأسلحة ثقيلة، وتفجيرهم لبعض منشآت النفط في كركوك، وأن تضحيته بنصف شط العرب ستضمن وستحافظ على وحدة الدولة العراقية المعرضة للانقسام بسبب المشكلة الكردية ، رغم أن البكر كان قد وقع اتفاقية 11مارس 1970 مع البارتي والتي بموجبها كان يجب أن تسود السلامة والأمان جميع أنحاء المنطقة الكردية( )، وأهم النقاط التي تضمنتها تلك الاتفاقية هي( ):
1- الاعتراف بالوجود الشرعي للقومية الكردية، من خلال البيانات الرسمية والصحف والدستور.
2- قرر مجلس قيادة الثورة إنشاء جامعة في السليمانية، وإنشاء مجمع علمي كردي، وإقرار جميع الحقوق الثقافية واللغوية للقومية الكردية، بفرض تدريس اللغة الكردية في جميع المدارس والمعاهد والجامعات ودور المعلمين والمعلمات والكلية العسكرية والشرطة ، وتعميم الكتب والمؤلفات الكردية العلمية والأدبية والسياسية المعبرة عن المطامح الوطنية والقومية للأكراد، وتمكين الأدباء والشعراء الأكراد من تأسيس اتحاد لهم وطبع مؤلفاتهم وتوفير جميع الفرص والإمكانيات أمامهم ؛ لتنمية قدراتهم ومواهبهم العلمية الفنية، وتأسيس دار للطباعة والنشر باللغة الكردية، واستحداث مديرية عامة للثقافة الكردية، وإصدار صحيفة أسبوعية، ومجلة شهرية باللغة الكردية، وزيادة البرامج الكردية في تليفزيون كركوك، ريثما يتم إنشاء محطة خاصة للبث التليفزيوني باللغة الكردية.
3- اعترافاً للمواطنين الأكراد بحقوقهم في إحياء تقاليدهم وأعيادهم القومية، ومن أجل مشاركة الشعب كله في أعياد أبناءه الأكراد ؛ قرر مجلس قيادة الثورة اعتبار عيد (النوروز) عيداً وطنياً في العراق.
4- إصدار قانون المحافظات بناءاً على لا مركزية الإدارة المحلية، وإقرار استحداث محافظة دهوك.
5- إصدار عفو شامل عن جميع المدنيين والعسكريين الذين اشتركوا في أعمال العنف في الشمال ؛ لإزالة كل أثر من آثار الأوضاع السلبية السابقة وإقامة معالم الحياة الوطنية الجديدة على أرضية وطيدة للأمن العام والإخاء القومي الشامل.
وبناءاً على هذه القرارات أعلن البكر عن القرارات التي توصل إليها النظام مع البارتي، على أساس توسيع الإجراءات الفعالة لاستكمال أسباب النهوض الثقافي والاقتصادي والتطور العام في المنطقة الكردية من خلال تمكين الأكراد من ممارسه حقوقهم وأهدافهم القومية، لذلك قرر مجلس قيادة الثورة ما يلي( ):
1- تكون اللغة الكردية لغة رسمية مع اللغة العربية في المناطق التي غالبية سكانها من الأكراد ، وتكون اللغة الكردية أيضاً لغة التعليم في هذه المناطق، وتدرس اللغة العربية في كافة المدارس التي تدرس فيها باللغة الكردية، كما تدرس اللغة الكردية في بقية أنحاء العراق كلغة ثانية في الحدود التي رسمها القانون.
2- مشاركة الأكراد في الحكم وعدم التمييز بينهم، وبين غيرهم في تقلد الوظائف العامة بما فيها المناصبة الحساسة، والهامة في الدولة كالوزارات وقيادة الجيش وغيرها، بنسب عادلة، مع مراعاة مبدأ الكفاءة ونسبة السكان.
3- وضع خطة لمعالجة ما لحق من تخلف ثقافي وتربوي للأكراد في الماضي، وذلك عن طريق:
 الإسراع بتنفيذ قرارات مجلس قيادة الثورة حول اللغة والحقوق الثقافية للشعب الكردي، وربط إعداد وتوجيه المناهج الخاصة بالشؤون القومية الكردية في الإذاعة والتلفاز بالمديرية العامة للثقافة والإعلام الكردي.
 إعادة الطلبة الذين فصلوا أو اضطروا إلى ترك الدراسة بسبب حرب الشمال، إلى مدارسهم، بغض النظر عن أعمارهم وإيجاد علاج ملائم لمشكلاتهم.
 الإكثار من فتح المدارس في المنطقة الكردية، ورفع مستويات التربية والتعليم، وقبول الطلبة الأكراد في الجامعات والكليات العسكرية والبعثات والزمالات الدراسية بنسب عادلة.
4- يكون الموظفون في الوحدات الإدارية التي تسكنها أكثرية كردية من الأكراد، أو ممن يحسنون اللغة الكردية، وتطوير أجهزة الدولة في المنطقة بالتنسيق مع اللجنة العليا المشرفة على تنفيذ هذا البيان، بما يحقق الوحدة الوطنية والاستقرار في المنطقة.
5- تقر الحكومة حق الشعب الكردي في إقامة منظمات الطلبة والشبيبة والمنظمات النسائية، والمعلمين،وتكون هذه المنظمات أعضاء في المنظمات الوطنية العراقية المتشابهة.
6- تمديد العفو عن المتهمين في حرب الشمال، والذين أصدر بحقهم العفو منذ الخامس من أغسطس 1968، مع عودة العمال والموظفين والمستخدمين من المدنيين والعسكريين إلى الخدمة، وأن يتم الاستفادة من المدنيين في المنطقة الكردية ضمن احتياجاتها.
7- تشكيل هيئة عليا مختصة للنهوض في المنطقة الكردية في جميع الوجوه، مع تعويضها عما أصابها من ضرر في السنوات السابقة، وتخصيص ميزانية كافية لتنفيذ ذلك، وتكون هذه الهيئة تابعة لوزارة شؤون الشمال، وإعداد الخطة الاقتصادية بشكل يؤمن التطور المتكافئ لأنحاء العراق المختلفة مع مراعاة ظروف التخلف في المنطقة الكردية، وتخصيص رواتب تقاعدية لعائلات الذين استشهدوا في ظروف الاقتتال ؛ بسبب حرب الشمال إضافة إلى غيرهم من العجزة والمشوهين بسبب نفس الظروف، وفق تشريع خاص على غرار القوانين المرعية، والعمل السريع لإعانة المتضررين والمعوزين عن طريق إنجاز مشاريع سكنية وغيرها تؤمن العمل للعاطلين، وتقديم معونات عينية ونقدية مناسبة وإعطاء تعويض معقول للمتضررين الذين يحتاجون المساعدة .
8- إعادة سكان القرى الغربية والكردية إلى أماكنهم السابقة، أما سكان القرى الواقعة في المناطق التي يتعذر اتخاذها مناطق سكنية، وتستملكها الحكومة لأغراض النفع العام وفق القانون، فيجري إسكانهم في مناطق مجاورة ويجري تعويضهم عما لحقهم من ضرر بسبب ذلك.
9- الإسراع بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي في المناطق الكردية وتعديله بشكل يضمن تصفية العلاقات الإقطاعية، وحصول جميع الفلاحين على قطع مناسبة من الأراضي، وإعفائهم من الضرائب الزراعية المتراكمة عليهم خلال سنوات القتال السابقة.
10- جرى الاتفاق على تعديل الدستور المؤقت كما يلي:
 يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين هما القومية العربية والقومية الكردية، وقرر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية، وحقوق الأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية.
 إضافة للفقرة التالية إلى المادة لرابعة من الدستور: "تكون اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في المنطقة الكردية".
 تثبيت ما تقدم في الدستور الدائم.
11- إعادة الإذاعة والأسلحة الثقيلة إلى الحكومة مرتبطاً بتنفيذ المراحل النهائية من الاتفاق.
12- يكون أحد نواب الرئيس كردياً.
13- يجري تعديل قانون المحافظات بشكل ينسجم مع مضمون هذا البيان.
14- يساهم الشعب الكردي في السلطة التشريعية بنسبة سكانه إلى سكان العراق.
15- اتخاذ الإجراءات اللازمة بعد إعلان البيان بالتشاور مع اللجنة العليا المشرفة على تنفيذه لتوحيد المحافظات والوحدات الإدارية التي تقطنها كثرة كردية وفقاً للإحصاءات الرسمية التي تجري ، وسوف تسعى الدولة لتطور هذه الوحدة الإدارية وتعميق وتوسيع ممارسة الشعب الكردي فيها لمجمل حقوقه القومية ضماناً لتمتعه بالحكم الذاتي، وإلى أن تتحقق هذه الوحدة الإدارية يجري تنسيق الشؤون القومية الكردية عن طريق اجتماعات دورية تعقد بين اللجنة العليا ومحافظتي المنطقة الشمالية، وحيث أن الحكم الذاتي سيتم في إطار الجمهورية العراقية فإن استغلال الثروات الطبيعية في هذه المنطقة من اختصاص سلطات هذه الجمهورية بطبيعة الحال.
ولم تقتصر اتفاقية 11 مارس على العرب والأكراد في العراق، بل شملت كل أبناء العراق بقومياتهم المتعددة الأخرى، كالتركمان والآشوريين، حيث منحوا حق التعليم والنشر بلغتهم الخاصة، من خلال الاتفاقية التي أكدت على الحقوق القومية للقوميات في الوطن العربي،وتنظيم العلاقات فيما بينها، وفي مقدمة هذه الحقوق إحياء التراث الثقافي واللغوي، والتقاليد وممارسة الإرادة الحرة( ).
ويلاحظ أن هذه الاتفاقية قد تميزت بعدة سمات أهمها( ):
1- استقبلها الشعب العراقي بكل أطيافه بالفرح والمظاهرات المؤيدة للحكومة وتوقف العنف في الشمال( ).
2- كانت بين أعلى المستويات الحكومية وعلى أرض الأكراد ومن خلال مقررات المؤتمر السابع للحزب الحاكم.
3- أنها كانت بين الحزب الحاكم (البعث)، والحزب الممثل للأكراد وهو (البارتي)، ولم تكن فقط بين قياداته.
4- توحدت الأحزاب الكردية تحت قيادة الملا مصطفى البرزاني، في الاتفاقية، فازداد حجم البرزاني، إضافة إلى زيادة قوته الحزبية والروحية (الدينية) لدى الأكراد، وبالتالي انحصرت مسؤولية نجاح الاتفاقية على البرزاني، وجعلت مصير الأكراد ومستقبلهم بيده.
5- إن الاتفاقية تقوي وضع الأكراد في شمال العراق، وبالتالي يتقوى شأن القومية العربية من خلالها، كما يتقوى بالمقابل دور عرب العراق من أجل تحقيق الأهداف القومية.

6- كانت هذه الاتفاقية تنفيذاً للمقررات القطرية لحزب البعث في العراق في مؤتمريه منطلقاً من الاعتبارات التالية( ) :
- إن الحركة القومية الكردية جزءاً من الحركة الوطنية العراقية برغم الملابسات والشوائب التي رافقت الحركة.
- انطلاقا من نظرة البعث الإنسانية والقومية والاشتراكية الديمقراطية ؛ فأنه يتفهم الحقوق المشروعة للشعب الكردي، ويناضل في سبيل تأمينها في العراق منذ نجاح حركته عام 1968، وأنه يلتزم بضمان هذه الحقوق في صياغة دستورية وقانونية.
- إن حزب البعث يعمل من أجل تأمين الحقوق الكردية وصيانتها عن طريق التعاون الصادق مع القوى التقدمية الكردية وفي إطار العمل المشترك المتمثل في الجبهة الوطنية والقومية.
7- أنها دعت لتحقيق مطالب البارتي التي طالب بها النظام منذ حركة 1968 وهي( ):
 إقامة علاقات تعاون استراتيجي بين قيادات البارتي والحركة الكردية من جهة، وبين القوى الوطنية والعراقية من جهة أخرى إذ يعتقد الحزب أنه يستطيع بمؤسساته أن يضمن حقوق الأكراد وأن حل القضية القومية للأقليات المتعايشة في العراق يجب أن يتم بمعزل عن حل قضايا المجتمع العراقي، ولا يتم ذلك من غير إجراء مشاورات،وتكتيل القوى السياسية لحل هذه المشاكل، حيث يدعو البارتي إلى قيام جبهة تحالف سياسية، ولا يتخوف من قيام وجهات نظر مختلفة داخل هذا التحالف لأنه يعتبرها ظاهرة حيوية للمجتمع.
 يدعو البارتي إلى تخصيص جزء من الميزانية العراقية لتنمية ورعاية الحركة الكردية لحل مشاكل المجتمع الكردي.
 يطالب البارتي بالاعتراف بحقوق الأكراد القومية والاعتراف بتاريخهم وبحدود المنطقة الكردية، وأن يؤخذ الواقع القومي بعين الاعتبار وذلك عند التقدم لشغل الوظائف الإدارية أو القبول في الجامعات.
 يطالب البارتي بجعل اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في المناطق التي تسكنها أغلبية كردية، لذلك فهو يرى ضرورة الاهتمام بنظام المديريات الخاصة بالدراسات الكردية، ومحاولة نشر اللغة الكردية عن طريق الراديو ووسائل الإعلام الأخرى، وضرورة رفع عدد المدارس في المناطق الكردية، وتوفير الكتب الكردية المعبرة عن تاريخ الأكراد وأدبهم في المنطقة الكردية، وتأسيس اتحاد أدبي كردي ومساعدته على النمو والسماح بنشر المؤلفات الكردية، وإصدار الصحف والمجلات الكردية، وإنشاء محطة تليفزيون كردية، وتسمية المدارس والدوائر بأسماء كردية.
 تحقيق المشاركة الكردية في الحكم، وذلك عن طريق ما يلي:
- عدم التمييز في تقلد المناصب الأساسية كالوزارات وقيادات الجيش.
- المساهمة في السلطة التشريعية بنسبة الأكراد إلى السكان عن طريق انتخاب المواطنين الأكراد.
- إباحة حرية الأحزاب في العراق طالما كانت المصالح في البلاد متعددة ، وطالما كانت القوميات والطوائف الدينية متعددة أيضاً، مع الإيمان بدور حزب البعث ونضاله في الوصول إلى السلطة، وليس هناك ما يمنع أن يقوم حزب البعث بتطبيق مبادئه وأهدافه عن طريق المؤسسات الدستورية في البلاد شريطة أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح الجهات السياسية والجماهيرية.
- ينادي البارتي بإيجاد نظام برلماني تقرر فيه الجماهير الشعبية من يمثل إرادتها، وأن تمثيل جماعة الشعب يجب أن يتم في إطار تعبير هذه الجماعة عن أهداف الشعب، وأن تكون هذه الجماعة، قد أتت عن طريق الإرادة الشعبية الحرة، ومدى تطبيق هذه الجماعة لبرنامجها، ومدى إفساح المجال للفرص المتكافئة وأن تعمل هذه الجماعة على صيانة القانون.
- يدعو البارتي إلى توزيع وظائف الدولة على جميع المواطنين بشكل عادل، وأن لا تحصر بعضاً منها في قومية واحدة، وأن اشتراك الناس في النظام السياسي، إنما هو وسيلة لجعل هؤلاء الناس يلتزمون بخط السياسة العامة للبلاد.
- أن يتم تعيين رؤساء الأجهزة المخابراتية بالتشاور مع القيادة المركزية.
- أن يكون الموظفون الأساسيون (محافظ – قائمقام، مدير شرطة، مدير الأمن) من الأكراد في المناطق التي يسكنها أكثرية كردية.
8- توافق قبول حزب البعث بإشراك البارتي في السلطة بعد أن اشترط على جميع الأحزاب ومنها البارتي بالالتزام بعدة نقاط هي( ):
 تدعيم الوحدة الوطنية ووحدة التراب العراقي.
 صيانة المؤسسات الوطنية وحمايتها.
 تأمين شهادة القانون.
 تيسير مهمة السلطة المركزية والتعاون معها لتتمكن من تنفيذ واجباتها.
وعلى هذا الأساس اشترط حزب البعث على البارتي عدة شروط هي( ):
 مشاركة البارتي في السلطة التشريعية بحسب نسبة الأكراد العددية إلى السكان العراقيين.
 إشراك الأكراد في المنظمات الاجتماعية والديمقراطية وفقاً لنسبتهم السكانية.
 يشارك الأكراد في السلطة التنفيذية بنفسه العدد.
 بالنسبة للمناطق الخاضعة للحكم المحلي فإن هيئاتها تتكون من أبناء القومية نفسها.
 بالنسبة لوظائف أجهزة الدولة فلا تتحدد نسبة القوميات في شغلها، وإنما يتم الاشتراك فيها وفقاً للاشتراطات الوظيفية نفسها، وبحسب الأهلية والكفاءة ومراعاة نسبة السكان.
 لا يشترط في مستشاري رئيس الجمهورية أن يكون أحدهم أو عدداً منهم من قومية معينة ، أو أن يكون مكتب نائب رئيس الجمهورية الكردي مؤلفاً من الأكراد.
 بالنسبة للتمثيل الخارجي، وعقد الاتفاقيات فإن تشكيل الوفود يقوم على أساس التخصصات ونوع العمل.
 لا تشترط النسبة العددية للقوميات في الجيش أو السلطة، وذلك للحفاظ على وحدة هاتين القوتين .
 لا تشترط هذه النسبة للطلاب في الجامعات، ولكن يهتم بمستوى التطور القومي واحتياجات كل جماعة قومية.
وعلى هذا الأساس، فالمشاركة السياسية وفق مفهوم البعث يعني تحقيق حد من الانسجام والتوافق، ومن هنا تنبع محاولته في رسم خطة ميسرة وبرنامج عمل على نحو يتفق عليه مع القوى السياسية التقدمية، حتى يكون برنامج عمل وسط يسير بهديه في خدمة العراق.
9- توافقت هذه الاتفاقية مع مواد الدستور المؤقت الصادر في 16 يوليو 1976، في مواده (25 ، 26، 27، 28، 29) إضافة للفقرة (ج) من المادة (32)، حيث كفلت هذه المواد الحريات الثقافية والحقوق الثقافية للقوميات والطوائف العراقية على النحو التالي( ):
 المادة (25): حرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر مكفولة على ألا يتعارض ذلك مع أحكام الدستور والقوانين، وأن لا ينافي الآداب والنظام العام.
 المادة (26): يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر ، وتأسيس الأحزاب السياسية ، والنقابات ، والجمعيات وفق أغراض الدستور في حدود القانون ، وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومية التقدمي.
 المادة (27):
‌أ. تلتزم الدولة بمكافحة الأمية، وتكفل حق التعليم بالمجان في مختلف مراحله الابتدائية والثانوية والجامعية للمواطنين كافة.
‌ب. تعمل الدولة على جعل التعليم الابتدائي إلزامياً ، وعلى التوسع في التعليم المهني والفني في المدن، والأرياف وتشجع بوجه خاص التعليم الليلي الذي يمكن الجماهير الشعبية من الجمع بين العلم والعمل.
‌ج. تكفل الدولة حرية البحث العلمي ، وتشجع وتكافئ التفوق والإبداع في سائر النشاطات الفكرية والعلمية والفنية ومختلف مظاهر التنوع الشعبي.
 المادة (28): يستهدف التعليم رفع وتطوير المستوى الثقافي العام وتنمية التفكير العلمي، وإذكاء روح البحث وتلبية متطلبات مناهج التطوير والإنجاز الاقتصادية والاجتماعية ، وخلق جيل قومي متحرر تقدمي قومي في بنيته وأخلاقه يعتز بشعبه ووطنه وتراثه، ويتحمس لحقوق قومياته كافة، ويناضل ضد الفلسفة الرأسمالية، والاستغلال والرجعية، والصهيونية، والاستعمار من أجل تحقيق الوحدة العربية والاشتراكية.
 المادة (29): تعمل الدولة على توفير أسباب التمتع بمنجزات المدنية الحديثة للجماهير الشعبية، وتعميم المعطيات التقدمية للحضارة المعاصرة على المواطن كافة.
 المادة (32): تكفل الدولة تحسين ظروف العمل ورفع مستوى العيش والخبرة الثقافية لجميع المواطنين.
وقد حظرت المادة (36) من الدستور كل النشاطات التي تثير النعرات العنصرية أو الطائفية أو الإقليمية بين صفوف الجماهير ، وكفلت المادتان (16) و (34) ضمناً منح حق اللجوء السياسي ؛ بسبب النشاط العلمي أو الثقافي، وصدرت عدة قوانين تحمي الحقوق الثقافية وتحافظ على جوانب الحياة الثقافية، مثل قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية، وقانون الحفاظ على الآثار، والوثائق وبراءة الاختراع.....الخ( ).
وفي إطار تطبيق هذه الاتفاقية التي تم التوقيع عليها بين البرزاني ونائب الأمين القطري لحزب البعث وهو صدام حسين، حيث تم هذا التوقيع في مقر البرزاني في (كلالا) على اعتبار أن هذه القرية هي بمثابة أي مدينة عراقية، وبناءاً عليه أعلن البكر التزامه في هذه الاتفاقية في البيان الذي سمي ببيان الحادي عشر من آذار/ مارس1970( ).
ثم أعلنت الحكومة عن تشكيل لجنة عليا للإشراف على تنفيذ البيان وسميت هذه اللجنة بلجنة السلام، وأعطيت الصلاحيات لإصدار القرارات اللازمة لتنفيذ البيان، وأعلن البرزاني مساندته للشعب العربي في نضاله ضد أعدائه، كما بعثت الأحزاب اليسارية، بمذكرة إلى قيادة البعث، منادية بالديمقراطية ومشيدة ببيان الحادي عشر من مارس( ).
كما عملت الحكومة العراقية على اقتراح إقامة جمعية تشريعية منتخبة، مركزها أربيل، تنتدب بدورها هيئة تنفيذية، على أن يتم تعيين رئيس الهيئة من قبل رئيس الجمهورية العراقية، الذي يمتلك صلاحيات إقالته، وحل الجمعية ، حسب رغبته، مع احتفاظ الحكومة المركزية بسيطرتها على الشؤون الخارجية والدفاع والأمن والنفط والموازنة المحلية، إلا أن هذه المقترحات التي اعتبرت تنفيذاً للاتفاقية، لم تشمل كل المناطق الكردية، ولم تشمل حقول النفط في كركوك، كما طالب البرزاني بذلك، لذلك رفض البرزاني هذه المقترحات، إلا أن الحكومة أصرت على تنفيذها وأقنعت عدداً من أعضاء البارتي بالتعاون معها مثل (عزيز عقراوي)، الذي شكل مجموعة انضمت إلى الجبهة القومية الوطنية التقدمية، مع منظمتين كرديتين صغيرتين، لإعطاء الانطباع بوجود تحالف قومي حقيقي إلا أن معظم الفصائل الكردية تحالفت مع البرزاني وعارضت الحكومة( ).
ثم رفض النظام العراقي رأي البرزاني بأن تكون كركوك عاصمة لإقليم كردستان ورأى أن الاتفاقية قد حددت أربيل، كما رفض طلب البرزاني، بأن يكون (حبيب كريم) نائباً للرئيس العراقي، واختار البعث، أن يكون (محي الدين معروف)، أيضاً رأى البرزاني أن الأكراد الخمسة الذين اشتركوا بالحكومة كانت وزاراتهم ذات طبيعة تقنية وإجرائية، واتهمت صحيفة الثورة العراقية، بالمقابل، أن البرزاني ما زال يقوم بأعمال تخريبية، ويتلقى مساعدات من إيران( )، وهذا مما أضعف الثقة بين البارتي والنظام.
لكن عمل مجلس قيادة الثورة على إعطاء هذه الاتفاقية نوعاً من الديناميكية فأصدر قراراً في الرابع من أبريل 1972 بأن يكون التعليم في المدارس الموجودة بمناطق الحكم الذاتي باللغة الكردية، وتم إنشاء مديرية الدراسة الكردية، كتطبيق عملي لذلك القرار، وسمح للأكراد أن يرفعوا شكاويهم في وحداتهم المحلية باللغة الكردية،وتم إصدار عدة صحف ومجلات كردية، تستهدف تطوير الثقافة الكردية( ).
كما أصدر البعث قراراً بإعطاء الحقوق الإدارية الذاتية للأكراد في حكم أنفسهم ضمن الوحدة العراقية، بعد إجراء إحصاء سكاني يثبت المناطق الكردية، حيث قرر عدة أشياء هي( ):
1- إيجاد وحدات إدارية قومية للمناطق التي يسكنها الأكراد .
2- ربط هذه الوحدات لجعلها منطقة إدارية واحدة تخضع للحكم الذاتي.
3- ضمان الحقوق القومية والثقافية والإدارية للأكراد الذين يقطنون مناطق تتداخل مع المناطق العربية وتخرج عن الإدارة الذاتية.
ثم أصدر البعث من خلال مجلس قيادة الثورة قراراً برقم 247 عدل فيه الدستور المؤقت الذي أصدره في 16 يوليو 1970 حيث تضمن التعديل ما يلي( ):
1- الموافقة على الحكم الذاتي للأكراد وفقاً للقانون، كما أن المنطقة الكردية هي شخصية معنوية تتمتع بالحكم الذاتي، ضمن الوحدة القانونية والسياسية والاقتصادية للعراق، وتكون أربيل مركز لإدارة الحكم الذاتي، بشرط أن تصبح هيئات الحكم الذاتي جزءاً من هيئات العراق ككل.
2- الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية، بجانب اللغة العربية في المنطقة الكردية، وهي لغة التدريس على أن يلتزم بتدريس العربية في كافة مراحل التعليم، وتدرس الكردية إلزاماً في المنطقة الكردية في المرافق التعليمية الخاصة بأبناء القومية العربية، التي تنشأ في المنطقة، ولأبناء الأكراد أن يختاروا مدارسهم بغض النظر عن لغتهم الأصلية.
أما برامج التعليم فتخضع في كل مراحلها للسياسة التربوية والتعليمية للعراق ككل وبالنسبة للحقوق القومية للأكراد والأقليات الأخرى، فقد جاءت المادة الثالثة من القانون لتضمنها بالدستور على أن تلتزم إدارات الحكم الذاتي بتمثيل هذه الأقليات بنسبة عددهم إلى السكان الأكراد، كما يشتركون في تولي الوظائف العلية في المنطقة الكردية ، وتكون المنطقة الكردية وحدة مالية مستقلة ضمن الوحدة المالية العراقية ولها ميزانية خاصة ضمن ميزانية العراق.
أما موارد الميزانية فتتكون من موارد ذاتية في المنطقة الكردية ، وتحول من ضرائب ورسوم تقرر للإدارة المحلية بموجب القانون، ومن المبيعات والخدمات والحصة المعطاة لها من أرباح المؤسسات العامة الموجودة في المناطق،ومن ضريبة العقارات والأراضي الزراعية وضرائب الشركات ورسوم المحاكم وغيرها.
وهيئات الحكم الذاتي هي( ):
1- المجلس التشريعي: الذي يتكون بالانتخاب من الأعضاء الأكراد، ووظيفته تطوير المنطقة الكردية عن طريق إصدار التشريعات الخاصة بتنظيم الدوائر الرسمية وشبه الرسمية، والمصالح المحلية، بعد التشاور مع الجهات المركزية، والمصادقة على مشروعات الخطط التي يعدها المجلس التنفيذي الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والصحة والعمل، وفقاً لمقتضيات الخطة القومية، وللمجلس الحق في اقترح ميزانية المنطقة على ألا تتعارض مع خطط التنمية القومية في العراق.
2- المجلس التنفيذي له عدة مكاتب هي المكتب التنفيذي ومكتب المتابعة والتفتيش، ومكتب الإحصاء والتخطيط، وملحقاته هي: (إدارة التربية والتعليم، وإدارة الأشغال والإسكان، وإدارة الزراعة والإصلاح الزراعي، وإدارة الشؤون الداخلية، وإدارة النقل والمواصلات، وإدارة الثقافة والشباب، وإدارة البلديات والمصايف، وإدارة الشؤون الاجتماعية، وإدارة الشؤون الاقتصادية والمالية، وإدارة شؤون الأوقاف).
وصلاحيات هذا المجلس – التنفيذي – هي:
1- ضمان تنفيذ القوانين وإشاعة العدل وحفظ النظام في المنطقة.
2- إصدار القرارات فيما يخص تنفيذ قرارات المجلس التشريعي.
3- إعداد مشروعات الخطط التفصيلية وعرضها على المجلس التشريعي.
4- الإشراف على مرافق ومؤسسات الإدارة المحلية، ويعين المجلس موظف الإدارة المحلية بدون مرسوم جمهوري، أو موافقة رئيس الجمهورية، وفق قوانين الخدمة والملاك، وعلى أن يكون الموظفون في المناطق التي تسكنها أغلبية كردية من الأكراد، وله أن ينقذ ميزانية المنطقة، وإعداد تقرير سنوي عن أوضاع المنطقة يرفع إلى المجلس التشريعي ورئيس الجمهورية.
وبالنسبة للعلاقة بين السلطة المركزية وإدارة الحكم الذاتي حسب قانون الحكم الذاتي ، فهو يرى أن أي تغيرات في تشكيلات إدارة الحكم الذاتي يجب أن يتخذها وزير الداخلية بالتشاور مع رئيس المجلس التنفيذي، وتخضع دوائر السلطة المحلية لوزارات السلطة المركزية التي تحدد لها نشاطاتها، كما أن للسلطة المركزية حق التوجيه للإدارات المحلية، ولها أيضاً حق تعيين وزير للدولة يقوم بالتنسيق بين نشاط المحليات والسلطة المركزية، وعلى السلطات المحلية تبليغ قراراتها إلى وزير الدولة بمجرد صدورها، ولرئيس المجلس التنفيذي حضور اجتماعات مجلس الوزراء.
إلا أن المادة (19) من قانون الحكم الذاتي، وضعت قيوداً على مشروع الحكم الذاتي، حيث ينحصر عمل محكمة تمييز العراق بالحكم في مشروعية قرارات هيئات الحكم الذاتي، ولوزير العدل أو وزير الدولة أن يطعن في مشروعية قرارات هيئات الحكم الذاتي، أمام هيئة الرقابة، وهذا الطعن من شأنه أن يوقف تنفيذ القرارات حتى يتم الفصل بينها ، فإذا ألغتها الرقابة، وجب أن تلغي هذه القرارات اعتباراً من تاريخ صدورها.
وأعطت المادة (20) لرئيس الجمهورية الحق في حل المجلس التشريعي إذا فشل المجلس في ممارسة صلاحياته ، أو بسبب عدم منحه الثقة ، أو لعدم امتثاله لقرارات هيئة الرقابة.
وبناءاً على ذلك يلاحظ على قانون الحكم الذاتي عدة أمور أهمها( ):
1- إن أجهزة الحكم الذاتي تعتبر جزءاً من الجهاز السياسي والقانوني للدولة، وعليه فإن العراق هو دولة موحدة وليس دولة فيدرالية، والدليل على ذلك أن الحكم الذاتي لا يرتبط بإعطاء المنطقة الكردية استقلالها التشريعي.
2- الإدارات المحلية الموجودة في إقليم الحكم الذاتي خاضعة للوزارات المركزية.
3- لرئيس الجمهورية الحق في حل المجلس التشريعي للإقليم الذاتي.
4- وجود نظام تعليمي موحد في كل الدولة لضمان وحدة عملية التنشئة السياسية والاجتماعية في كل أنحاء العراق.
كما يتضح من خلال تطورات مواقف الحكومة الكردية أن الفكر السياسي الكردي شأنه شأن الفكر السياسي العربي، قد جاء نتيجة للإحساس الشعبي بالتراث والمصالح واللغة والشعور بمقومات القومية الواحدة، وأن ما كان يحدث من خلافات لم تكن سوى لتحقيق المزيد من الشعور بالهوية، أما بالنسبة للحروب مع الحكومية، فقد حدثت أيضاً الكثير من الخلافات التي أدت للصدامات المسلحة بين الأكراد أنفسهم ، رغم أن جميع الأكراد كانوا متفقين على أمر واحد وهو التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي العراقية وأنهم جزء من العراق( ).
وبالنسبة لحزب البعث فقد عدَّل من دستوره بعد الاتفاقية في المؤتمر القطري الثامن في يناير 1974، ليتم الاعتراف بالقومية الكردية، كما عدَّل الدستور المؤقت الجديد، لينص على أن القومية الكردية هي جزء من الحركة الوطنية العراقية، حيث نصت المادة الأولى منه على أن تضاف فقرة إلى المادة الثامنة من الدستور، وتنص على تمتع المنطقة التي غالبية سكانها من الأكراد بالحكم الذاتي، وفقاً لما يحدده القانون، وتنص المادة الثانية على نشر ذلك بالصحف الرسمية( ).
ومن أهم السلبيات التي ترتبت على هذه الاتفاقية( ):
1- لم تتحقق الكثير من بنود الاتفاقية، وهذا أدى إلى تباين شديد بين الرؤية الكردية والرؤية الحكومية في تنفيذ بنود الاتفاق حيث أتهم الجانب الكردي، أن هذه الاتفاقية ما كانت لولا ضغط الشاه الإيراني على العراق بقصد إلغاء اتفاقية 1937 من جانب واحد.
2- لم تحدد الاتفاقية مناطق الحكم الذاتي حسب الواقع الديمقراطي للمنطقة، وبموجب إحصاء السكان فيه، والذي كان من المفترض أن ينظم، حيث تم تحديد مناطق الحكم الذاتي بقرار فوضوي استبق بعض المناطق الكردية، كما أن البارتي اعترض على مبدأ تعيين قيادات الحكم الذاتي، وبالتالي إعفاءهم من قبل رئيس الجمهورية، وغياب الممارسة الديمقراطية الحقيقية، حيث تتركز السلطات كلها في يد رئيس الجمهورية.
3- ازدادت بذور الشك التاريخية تجاه حزب البعث ونظرته إلى سكان المنطقة الكردية، فالمادة السابعة من دستوره تعرف الوطن العربي وتحدده بأنه تلك البقعة من المعمورة التي تقع بين جبال طوروس، وجبال بشتكو وجبال الحبشة والصحراء والمحيط الأطلس والبحر المتوسط وخليج البصرة، والمحيط العربي، وهذه المنطقة لا يقطنها سوى العرب، أي أن هذه المادة تنفي نفياً كاملاً وجود أي أعراق أخرى بالمنطقة.
وبناء على ذلك اختلف البعث مع البارتي بعدة أمور أهمها( ):
1- القضية الكردية يجب ألا تحل بمعزل عن قضايا العراق، أو مشاورة الفئات والقوى السياسية العراقية، وإنما يجب أن تحل من خلال جبهة تحالف سياسية.
2- يطلب حزب البارتي إلى البعث أن يعطي الشعب الكردي حرية تقرير المصير عن طريق الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي وحدود موطنه الجغرافي.
3- إن الحركة الكردية حركة شرعية فلابد من اعتراف الحكومة بها وتخصيص جزء من الميزانية العراقية ؛ لتنمية ورعاية هذه الحركة وقائد الحركة من أجل حل مشكلة الشعب الكردي.
4- أن يساهم الأكراد في السلطة التشريعية للعراق التي تتمثل في مجلس قيادة الثورة.
5- الإسراع في إقامة نظام برلماني في العراق تتحقق فيه إرادة الجماهير ؛ لأن ذلك هو الوسيلة الحقيقية لحل المشكلة الكردية.
6- أن أي إجراء تتخذه الحكومة بالنسبة للمشاكل الرئيسية في الدول مثل تعيين رؤساء المخابرات والموظفين الأساسيين يجب أن يؤخذ رأي الأكراد فيه.
7- تطبيق الحكم الذاتي في المنطقة الكردية، تعزيزاً للوحدة الوطنية وتنفيذاً لميثاق العمل الوطني في المناطق التي تسكنها أغلبية كردية من أجل ممارسة الشعب الكردي لكامل حقوقه القومية داخل العراق.
أما الحزب الثوري الكردستاني الذي تشكل عام 1972، فقد حدد برنامجه بشكل مناقض للبارتي ومؤيد للبعث، وعلى ذلك فهو يرى ضرورة التعاون مع القومية العربية، والتلاحم مع نضال الأقليات القومية في العراق، لبناء مجتمع لا طبقي، ويكون ذلك من خلال دعم النظام الجمهوري، وتوطيد الحكم الديمقراطي الثوري بقيادة حزب البعث، وتطوير هذا النظام تجاه الاشتراكية، ويرى أن المشكلة الكردية تحل من خلال عدة أمور هي( ):
1- الحكم الذاتي للأكراد ضمن الدولة العراقية.
2- تعزيز الوحدة الوطنية للشعب العراقي عرباً وكرداً، وتعزيز النضال العربي الكردي، على أساس تلاحم القوى التقدمية للعرب والأكراد في جبهة تقدمية تحارب الانفصال والانعزال.
3- يرى الحزب في الحركات العسكرية عاملاً أدى إلى تخلف العراق وهي عميلة – الحركة العسكرية الكردية - ويستبدل الحزب العنف العسكري بالحوار الهادف البناء ، وتوثيق علاقات الود والصداقة مع المنظمات السياسية العربية العراقية التي تؤمن بعدالة القضية الكردية.
4- يرى الحزب أن القيادة الكردية الإقطاعية – قيادة البارتي – وقفت حجر عثرة في سبيل حصول الفلاح الكردي على نصيبه من الإنتاج كما هول حال العرب في الوسط والجنوب، وكانت هذه القيادة تحرك الفلاحين ضد الحركات التحريرية، واستراتيجية الحزب تركز على توعية الجماهير الشعبية الكردية، والتأكيد على الوحدة النضالية العربية والكردية، والإيمان بميثاق العمل الوطني الذي أعلنه حزب البعث.
وما يؤكد على صحة رأي الحزب الثوري الكردي أن القيادة القطرية لحزب البعث في العراق، قدمت في 23 سبتمبر 1972، مذكرة لحل القضية الكردية، إلا أن البارتي عمل على تجريد هذه المذكرة من قيمتها الديمقراطية الإصلاحية، بسبب بعض المتشددين المنتظمين فيه، حيث صرح البارتي حول ذلك بقوله:
" إن استبسال شعبنا الكردي في الدفاع عن وجوده القومي وصمود حزبنا بوجه هذه المخططات، والفشل الذريع الذي منيت به هذه السياسة، هو الذي رجح لدى السلطة حسب رأينا فكرة التخلي عن هذه الأساليب غير المجدية، والعودة إلى استئناف الحوار"( ).
وقد أيد الكثيرين من أبناء الشعب العراقي هذه المذكرة بعد أن عرضت عليهم، بالرغم من أن الرئيس البكر أيد الحوار الديمقراطي في حل المسألة الكردية ، ولم تتوقف المشكلة بين البارتي والحكومة، بل شملت المشاكل بين البارتي، والعشائر الكردية غير المؤيدية له( )، ووصلت إلى الحرب بين البارتي والحزب الشيوعي في 17 يونيو 1973؛ بسبب انضمام الحزب الشيوعي إلى الجبهة الوطنية القومية التقدمية، إضافة إلى بعض المنشقين من البارتي، وتم ضرب مقرات الحزب الشيوعي في المنطقة الكردية بسبب مليشيات البارتي، وبناءاً على ذلك قدم البعث مذكرة إلى البارتي جاء فيها( ).
1- إن الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) يحاول إعطاء الحل السلمي طابع الانتصار وفرض الحل لا طابع الوفاق الوطني.
2- إن مسألة العلاقات الخارجية للحركة الكردية بالدول الأجنبية تعتبر انتكاسة للوحدة الوطنية وتهديد لسياسة الدولة.
3- إن منطقة كردستان تسير في اتجاه بعيد عن سلطة الحكومة المركزية، نظراً لهيمنة (البيش ماركة) من قوات الحركة.
وقد اعترفت الحكومة العراقية بوقوع أخطاء منها، بسبب أن الأجهزة الإدارية والأمنية لم تستوعب مغزى البيان وقيمته السياسية والقانونية، وعليه فإن حزب البعث رأى أن الأخطاء التي ارتكبت بعد اتفاق 11مارس 1970 تتلخص في عدداً من العوامل مثل تعدد الأجهزة المسؤولة عن الشؤون الكردية وعدم التنسيق بينها ، كما أنه لم تتسنى السيطرة المركزية على التطورات والأحداث الرئيسية وانصرف الاهتمام إلى مسائل ثانوية، ولم تتمكن الأجهزة المسؤولة عن معرفة مجريات الأمور، بل إن بعض أجهزة السلطة الفرعية في المنطقة الشمالية لم تستوعب بيان مارس وجاءت تصرفاتها خاطئة في مجملها( ).
وقد استقبل البارتي هذه الأخطاء ليتهم الحكومة بعدم الالتزام بالبند الثالث من بيان مارس، بخصوص مشاركة الأكراد في الحكم والسلطة، وأن الحكومة تتخذ الإجراءات السياسية المتعلقة بمستقبل الدولة بعيداً عن الأحزاب والقوى الوطنية الأخرى، وتقليص المنطقة الكردية، وإزالة قرى كردية من الوجود، وتهجير كثير من الأكراد الفيليين الشيعة إلى إيران، وتمنع استخدام اللغة الكردية في مدارس كركوك وخانقين ودهوك، وتسير على سياسة التعريب،وواجب الحكومة إنهاء الفترة الانتقالية وإقامة جمعية وطنية عراقية تتولى التشريع( )، ثم طالب البارتي بعدة مطالب أهمها( ):
1- المشاركة الفعلية في الحكم، على أساس أن إشراك خمس وزراء أكراد، في الحكومة لا يعتبر مشاركة، وضرورة تمثيل البارتي في مجلس قيادة الثورة، بالرغم من أن طلبه هذا يخالف اتفاقية مارس، كما أن مجلس قيادة الثورة هو مركز قوة النظام ويمس أمن الدولة، وأمن المنطقة الإقليمية، خاصة أن الثقة لم تكن قد تعمقت بعد بين البارتي والبعث، في ظل وجود علاقات خارجية للبارتي وهذا يعد تفريطاً بمصير الوطن.
2- وحول مسألة أن نائب الرئيس يجب أن يكون كردياً، وأن يحدده البارتي، فقد رأى البعث أن الاتفاقية لم ترد أن الجانب الكردي هو الذي يحدد نائب الرئيس -الكردي- .
3- وحول ضرورة منح المزيد من حرية العمل الحزبي والسياسي اللبارتي ، فإن النظام كان قد أعطى الأكراد مزيداً من المناخ الديمقراطي الإيجابي، ومنحوا الامتيازات السياسية مثل حرية العمل الحزبي والسياسي والإعلامي.
4- ومسألة ضم كركوك، على أساس جعلها ضمن الحكم الذاتي، والاستفادة من عائداتها النفطية، فقد رأى البعث أن الإحصاء السكاني أظهر أن الأكراد أقلية فيها ، وليسوا الأكثرية، كما أن هذا الشرط من المستحيل أن يقبلها النظام، ولا يدخل ضمن الاتفاقية، وفيه التفاف على سيادة الدولة ، ووضع ثرواتها العامة موضع مساومة وابتزاز سياسي لصالح فئة دون أخرى من أبناء الشعب العراقي، لأن ثروة كركوك النفطية هي ثروة عراقية عامة، تتفق على شؤون البلد ككل وفق سياسة اقتصادية متوازنة ومعلنة، كما أن شمال العراق هو جزء من العراق يتمتع بخاصية الحكم الذاتي، وهذا لا يتيح أن يكون له وضع مالي أو اقتصادي مستقل ومتميز، لأنه حتى في ظل الفيدرالية لا يوجد هذا الوضع، لأن ثروات الاتحاد الفيدرالي ليست مجزأة أو تخص هذا الإقليم أو ذاك والكل له حصة فيه دون تخصيص أو تميز، إضافة إلى أن الحكومة خصصت لإقليم كردستان أضعاف ما خصصته للأقاليم العراقية الأخرى، بسبب ما لحقته من أضرار خلال سنوات الحرب( ).
5- وحول ضم قضاء سنجار ومنطقة الشيخان، وهي من معاقل الطائفة اليزيدية، إلى محافظة دهوك الداخلية التي تقع ضمن منطقة الحكم الذاتي، فهذه المنطقة متمايزة جغرافياً وديمغرافياً عن تلك المنطقة، لذلك رأى النظام العراقي ضمتها إلى محافظة الموصل( ).
6- وحول تعديل الدستور العراقي المؤقت، الذي نص على أن العراق هو جزء من لأمة العربية، فكان رد الحكومة على ذلك أن العراق هو جزء من الأمة العربية المجزأة إلى مجموعة من الدول مثل الشعب الكردي المجزأ إلى أربعة أجزاء، وعلى هذا الأساس أن حدود العراق هي حدود مصطنعة( ).
كل هذه الأمور جعلت البرزاني يعمل على إقامة قواعد قوية في المنطقة التي يسيطر عليها، وجذب جماعات من الطالبة والمثقفين الأكراد داخل وخارج العراق لصالح قضيته، وشكل جهازاً أمنياً سماه (الباراستين)، حيث كان له مصادر تمويل كبيرة تحت تصرفه وتحول الصراع من مجرد حرب عصابات إلى حرب تقليدية دخلت فيها قوى دولية كبرى، وأصبح البرزاني في وضع يسمح له بالمناورة الخطرة معتمداً على إيران والولايات المتحدة( )، وعلى هذا الأساس انفجرت الحرب بين القوات الحكومية، وقوى الأكراد في السليمانية وسنجار، وبسبب هذه الحرب هاجر الكثير من الأكراد مناطقهم وخربت خطوط السكك الحديدية ومنشآت النفط، وقد اشتدت هذه الحرب في عام 1974،وادعى البعث أن البارتي لا يمثل الأكراد، لذلك اتجه إلى التلاقي مع العناصر الكردية المؤيدة له والتي تعتبر أن البارتي لا يمثل الأكراد ،لذلك اتجه إلى التلاقي مع العناصر الكردية المؤيدة للحكومة والمعادية للبارتي، حيث انتقد الكثير من الأكراد علاقة البرزاني بالولايات المتحدة، خاصة بعد أن عرض عليها جزءاً من موارد النفط في كركوك، فيما لو ساعدته ضد الحكومة العراقية، مدعياً أن حقول النفط في كركوك هي ملكاً فقط للأكراد، وعلى هذا الأساس اتهم البعث أن البرزاني يسعى للانفصال، خاصة بعد أن قدم شروطاً تعجيزية في انضمامه للجبهة القومية الوطنية، حيث رأى البارتي أن بنود بيان مارس لم تنفذ كما هو متفق عليه، فعلى الرغم من أن اللغة الكردية قد تم إدخالها في التعليم المدرسي، إلا أن الأكراد لم يحصلوا على حقوقهم في الوزارات، وسلطة اتخاذ القرار ولم يلتزم النظام لتغيير حالة الحرمان التي عانت منها المناطق الكردية، في مجالات الاقتصاد والبنية الأساسية، وأن النظام يحاول تغيير ديمغرافية كركوك، بتشجيع هجرة العرب إليها وخاصة المسيحيين، خاصة بعد أن أجبرت صحيفة (التآخي) الكردية عن التوقف عدة مرات، وبعد أن قام النظام بترحيل حوالي 30 ألف عراقي كردي، مدعياً أنهم من أصول إيرانية، حيث برر البعث ترحيلهم بأنه نتيجة احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث( ) ، كما اعتبرت القيادة الكردية أن دخول الحزب الشيوعي في الجبهة الوطنية القومية التقدمية مع حزب البعث ،في ذلك الوقت ضربة موجهة لهم ،وأخذ يوجه اللوم والانتقاد للحزب الشيوعي،وتطور النقد على صفحات جريدة الحزب الرسمية ( خه بات) ، في حين راح الحزب الشيوعي يحث القيادة الكردية على الانضمام للجبهة ،والنضال من خلالها ، إلا أن جهوده لم تثمر في هذا الاتجاه ،بل على العكس توترت العلاقات بينهما إلى درجة خطيرة ،وتصاعدت بسرعة إلى حد التصادم المسلح بين الحزبين في كردستان ، وشنت صحافة الحزبين حملات إعلامية ساخنة على بعضها البعض .
وبعد إعلان الدستور المؤقت الجديد في 11 مارس 1974، أعطت الحكومة، البرزاني خمسة عشر يوماً، لكي ينضم للجبهة الوطنية القومية إلا أن البارتي رفض ذلك مطالباً بزيادة حدود منطقة الحكم الذاتي، عما هو متفق عليه، في بيان مارس 1970،وطالب بنسبة مئوية من دخل النفط بما يتناسب مع عدد السكان الأكراد، رغم أن بعض الأكراد أيد الحكومة ومنهم الابن الأكبر للبرزاني، وهو عبد الله البرزاني، الذي انشق عن والده، وعلى ذلك اندلع القتال رسمياً في منتصف 1974، حيث حشد البرزاني حوالي 50 ألف من قوات (البيش ماركة)، إضافة إلى 50 ألف من غير النظامين، وفرض حظر التجول، واشتد القتال بين قواته والقوات الحكومية ووصل عدد المهجرين بسبب هذه الحرب إلى 110 ألف عاشوا في معسكرات مؤقتة في إيران، هاربين من مناطق القتال، وأصيب ألاف الجنود العراقيين والموالين للبارتي، وازداد معدل الإنفاق العسكري إلى الضعف، وتدخلت إيران لصالح الأكراد، وأخذت تضرب مناطق حدودية عراقية، كما زودت البارتي بمدافع عيار 155 مللي، و122 مللي، وقذائف (رابير) وكادت تقوم حرب شاملة بين العراق وإيران، ولولا حكمة البكر كرجل عسكري يدرك ما تؤديه الحرب من مأسي وخسائر ، لذلك آثر العمل على تدخل بعض الدول العربية لحل المشكلة ، وقد اسفر هذا التدخل إلى عقد اتفاقية الجزائر ( ).
فتم الاتفاق وفق معاهدة الجزائر، التي شهد عليها الكثير من القادة العرب على ما يلي( ):
1- التسليم بكل مطالب الشاه التاريخية، وإعادة رسم الحدود حسب رغبة الشاه، على أساس إلغاء اتفاقية 1937، وانقسام السيادة على شط العرب، إضافة إلى ضم بعض المناطق الحدودية العراقية إلى إيران في سربيل ذهاب، وزين القوس، والخفاجيو وغيرها.
2- تنفيذ مطالب إيرانية متعلقة بالمعارضة الإيرانية في النجف ، حيث كانت تدعم من قبل الحكومة العراقية.
3- تنفيذ المطلب العراقي الوحيد بأن يتوقف شاه إيران عن دعم الحركة الكردية العراقية، وغلق الحدود الإيرانية أمامهم.
وقد اضطر النظام العراقي إلى هذه الاتفاقية، بالرغم من أن التنازل عن أراضي عراقية وتسليمها طوعاً لإيران هو أمراً بالغ التأثير على أمن العراق القومي، وعلى الأمن القومي العربي كله، خاصة أن ما تم التنازل عنه هو نصف كامل السيادة على ممر حيوي هام يعتبر من أهم الممرات في العالم، وهو شط العرب، كما أن هذه الاتفاقية لم تتضمن إشارة إلى الجزر الإماراتية الثلاث التي أحتلتها إيران عام 1971، ولا إلى التخطيط النهائي للحدود، حيث كان العراق يطالب بإقليم عربستان (خوزستان) الخاضع للحكم الإيراني، ويدعم المقاومة فيه ضد إيران، وقد أعطت هذه الاتفاقية، حقوق مرور للحجاج الإيرانيين بين العراق وإيران، إضافة إلى أنها كانت مقدمة لعدد من الاتفاقيات الأخرى في المجالات المختلفة( ).
وبموجب اتفاقية الجزائر وموافقة إيران تم إيقاف دعمها للأكراد، وسيطرت القوات الحكومية على المناطق الكردية التي كانت خاضعة للبارتي، واستسلم ألاف الأكراد خلال عدة أسابيع، وقبل معظمهم، عفو الحكومة عنهم فيما هرب البرزاني وقيادة البارتي إلى إيران، عابر بن الحدود وانضموا إلى نحو (150) ألف لاجئ مدني سبق وفروا من مناطق القتال قبل ذلك( ).
ثم أخذت الحكومة تهاجم البارتي إعلامياً، على أساس أن قيادته عجزت عن صياغة برنامج سياسي وثوري، وعن تطوير خط استراتيجي وفكري وعملي صحيح، وأنها استندت إلى مبادئ إقطاعية وبرجوازية ورجعية، لكن سرعان ما عادت بعد ذلك حركة كردية جديدة، مشكلة الاتحاد الوطني الكردستاني، وأصدرت بياناً في الأول من يونيو 1975 جاء فيه: "إننا نتشرف بالإعلان عن تصميم مناضلي شعبنا على مواصلة النضال الثوري المنظم في صفوف الجماهير الشعبية ضمن اتحاد وطني كردستاني"( )، وادعت أن الهدف الأساسي لهذه الحركة هو الديمقراطية في العراق، والحكم الذاتي لكردستان، وظهر البرزاني مرة أخرى بقيادة مؤقتة، وبدأ بأعمال عسكرية ضد السلطة في مايو 1976، لكن كانت ضئيلة ولم تسبب مشاكل مهمة للنظام.
وعلى أثر اتفاقية الجزائر واصل النظام العراقي خطة مارس 1970 تجاه المنطقة الكردية، فتم تعيين جمعية تشريعية بدأت جلساتها في أربيل، وتم تعيين (طه محي الدين معروف) نائباً للرئيس، وبدأت حملة نقل جماعية للأكراد من المناطق الحدودية مع إيران، وتركيا إلى مستوطنات جديدة قريبة ليستقروا من جديد في مجتمع ذي أغلبية شيعية، حيث تقول التقارير أنه تم نقل حوالي نصف مليون كردي من قراهم الأم، ومنعوا من العودة إليها تحت طائلة الموت، وبالمقابل شجع النظام العائلات العربية على الانتقال نحو الجنوب في نفس تلك المستوطنات، رغبة منه في انصهار عملي للأكراد والعرب تحت بوتقة الوحدة العراقية، ولتبريره استبعاد الأكراد عن مناطقهم( ).
لكن سقوط شاه إيران نتيجة الثورة الإسلامية عام 1979،جعل اتفاقية الجزائر تفقد الكثير من قوتها، مما قوى الحركة الكردية في العراق، التي اتخذت لها قواعد في كردستان إيران، مما حذا بحزب البعث إلى التنسيق مع تركيا في أبريل 1978، بغية تنسيق السياسات ضد الحركة الكردية الجديدة، وأعلنت أنه سيتم منع أية محاولات لاختراق حدود العراق عبر تركيا( )، وقد سمت الاتفاقية التي تمت بين العراق وتركيا باسم اتفاقية الأمن المتبادل وبموجبها يحق لكل دولة أن تطارد الأكراد داخل حدود الدولة الأخرى لمسافة حددتها الاتفاقية، وتقدم هذه الاتفاقية لتركيا الغطاء القانوني لمطاردة الأكراد داخل أراضي العراق، وضرب قواعد حزب العمال الكردستاني في العراق.
وفي إطار التمايز المذهبي في العراق، حاول البكر منذ بداية حركته عام 1968، إقناع المرجع الشيعي محسن الحكيم، بإدانة الحكومة الإيرانية علناً في نزاعها مع العراق حول شط العرب، بعد أن أثار موضوع الدعم العراقي للمقاومة في خوزستان، والمطالبة به، حيث عمد الشاه إلى خرق اتفاقية 1937، وتجاهل ادعاءات العراق بالسيادة على شط العرب، وأخذ يمد الأكراد بالمساعدات العسكرية، ويحرض رجال الدين الشيعة ضد نظام البكر، ويعمل على توريطه في صراع داخلي، باستغلال طبيعة النظام العراقي، إلا أن المرجع محسن الحكيم رفض ذلك، مما حذا بالبكر إلى اعتقال طلاب الدين الإيرانيين وطردهم من العراق، وإغلاق جامعة الكوفة في النجف، ومصادرة أملاكها، وطرد الآلاف من العراقيين ذوي الأصول الإيرانية، وكل ذلك تحت حملة (استئصال الخطر الشيعي من جذوره) مما حذا بالحكيم إلى أن يقوم بمظاهرات احتجاج في النجف، وهذا ما حذا بالنظام إلى اعتقال ابنه (مهدي الحكيم)، واتهامه بالتجسس، ومنع الناس من زيارته( ).
وبسبب تخوف الحكومة من الجبهة الإسلامية المشتركة التي كانت تتألف من السنة والشيعة، مما حذا بها إلى الرجوع عن ادعائها السابق باحترام القيم الدينية، فمنعت تلاوة القرآن على الشبكات الإذاعية للدولة ، وأوقف تدريس الدين في المدارس الحكومية، مما أدى إلى اعتراضات واسعة، وأعمال شغب ومظاهرات استمرت لعدة أيام في الجنوب الشيعي، إلا أن قوات الأمن قمعتها، وهذه الحالة من الأسباب التي جعلت المرجع محسن الحكيم يعطي فتوى يحرم فيها الانضمام لحزب البعث، وهذا مما شجع منظمات إسلامية شيعية وسنية، على مهاجمة أجهزة الأمن، الذي اتهم هذه المنظمات برغبتها في إسقاط النظام التقدمي، لذلك قام بعمليات تطهير واعتقال ضد أفراد ينتمون إلى تلك المنظمات، وترافق ذلك مع مزيد من الطرد للشيعة العراقيين من أصول إيرانية، واضطهاد كل من يشك بانتمائه لمنظمات دينية مثل حزبي الإخوان المسلمين والدعوة( )، رغم أن هذا يتناقص مع الدستور المؤقت التي صدر في سبتمبر 1968، والذي يقول فيه: "الإسلام دين الدولة، والعائلة أساس المجتمع"( ).
وبسبب الدعوات المضادة للنظام من قبل حزب الدعوة، الذي يتناقض بأيديولوجيته مع البعث، على أساس أنه يعتبر أن العروبة والقومية هي دعوة موروثة عن الزمن الإمبراطوري، وتهدف إلى التعالي على العجم والفرس، لذلك عمل النظام على الحد من الحياة الثقافية والدينية للشيعة، وعطل الحلقات الدراسية، ومنع الاحتفالات الدينية لكسر شوكة رجال الدين، واتهامهم بالعمالة وتم إعدام (عبد الحسين جيتا) الذي كان يشغل مسؤول المؤسسات الحسينية في البصرة، على أساس علاقته بالجواسيس اليهود العراقيين الذين تم إعدامهم عام 1969، كما تم اعتقال مهدي الحكيم( )، ثم أصدرت مجلة العمل الشعبي الرسمية في 7 أبريل 1969، قراراً رسمياً صادراً من القيادتين القومية والقطرية ينص على "ضرورة القضاء على المرجعية الدينية باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب"( ).
ولم يكن حزب الدعوة لوحده ضد النظام بل كانت هناك منظمات وحركات إسلامية شيعية أخرى، مثل حركة المرجعية التي كان يرأسها محمد الشيرازي، وحركة (جند الإمام المهدي)، وحركة منظمة الشباب المسلم، برئاسة عارف البصري، وحركة المرجع مهدي الخالصي في الكاظمية، وحركة العقائديون وكل هذه الحركات كانت تعمل سراً ضد النظام( ).
وقد كان رأت المؤسسات الدينية الشيعية أن مخطط نظام البكر لتصفية الحركة الإسلامية الشيعية يقوم على مايلي :( )
بالنسبة للمرجعية (الحوزة العلمية):
1- منع استمرار الكثير من الطلبة الإيرانيين في الحوزات العلمية، ومنع التحاق الطلبة الجدد فيها.
2- الحد من التحاق الطلبة العراقيين بالحوزة بمختلف الوسائل كإلصاق التهم بهم ومطاردتهم واعتقالهم، ورفض إعطائهم أي تأجيل أو إعفاء من الخدمة العسكرية أسوة بطلبة الثانويات والكليات الأخرى.
3- إصدار قانون منع بموجبه تسجيل الطلبة في مؤسسات الحوزة التي لا تحمل ترخيصاً رسمياً.
4- غلق معظم منافذ الإمداد المالي الشرعي كالزكاة والخمس وغيرها من الوصول إلى الحوزة العلمية من خارج العراق.
5- القيام بحملة تهجير وتشريد واسعة النطاق شملت الكثير من أساتذة وطلاب الجامعة، وبعض الفقهاء، بعد إسقاط الجنسية العراقية أو الإقامة القانونية عنهم.
6- التضييق المشدد على من تبقى من العلماء ومنع بعضهم من إلقاء محاضراته ودروسه، وحصرهم في زاوية ضيقة جداً، إضافة إلى اعتقال وإخضاع قسماً منهم للتعذيب النفسي والجسدي.
7- ممارسة مختلف الضغوط على مؤسسات الجامعة لغرض ربطها بأجهزة الحكومة، وإخضاعها لسياسة البعث.
8- إدخال ما يقارب مئة وخمسين بعثياً في الجامعة الدينية في محاولة لحرفها وتخريبها من الداخل.
9- إيجاد مجموعة من المراجع (المعممة) المزيفين المرتبطين بالسلطة ودعمهم بمختلف الوسائل ، وفرضهم على الجماهير كممثلين للمرجعية والجامعة العلمية.
10- محاولة النفوذ إلى أجهزة المراجع وبيوتهم ومكاتبهم الخاصة ، وإيجاد مجموعات ضغط حكومية تحيط بهم.
11- إنشاء أو دعم بعض المؤسسات الدينية الحكومية.
12- وضع العتبات المقدسة الشيعية (مراقد الأئمة) تحت الإدارة الحكومية المباشرة، وتحويل ثرواتها وأموالها كافة لخزينة الدولة ، ومصادرة نفائسها الفريدة من المخطوطات والكتب والهدايا.
13- مصادرة الكثير من المكتبات الإسلامية العامة وما تحتويه من نوادر المخطوطات العلمية والأدبية، وشمل ذلك بعض المكتبات الخاصة بالعلماء أيضاً.
14- تشويه صورة المراجع الدينية والعلماء الدينيين في أذهان الشعب، باستخدام الدعاية الإعلامية ضدهم.
وبالنسبة لاستراتيجية النظام حيال الحركة السياسية الشيعية( ):
1- حرمانها من أي تحرك أو نشاط علمي من خلال منافذها الطبيعية كالمساجد والحسينيات والمؤسسات الدينية، ومنعها من الظهور على المسرح الاجتماعي والسياسي العام، وحرمانها من استثمار أي وسيلة من وسائل النشر والإعلام.
2- منعها من إيصال أفكارها الإسلامية إلى الأمة، والسماح لمختلف الأفكار الوضعية بالظهور ومخاطبة الجمهور.
3- القيام بحملات اعتقال وملاحقة وتشريد واسعة، وإصدار الأحكام المختلفة كالإعدام والسجن المؤبد ضد أبنائها دون أي محاكمة حقيقية.
4- إحكام الحصار الثقافي والاجتماعي عليها، ومنع أبنائها من دخول بعض الكليات، مثل الكليات العسكرية والسياسية والتربوية.
5- القيام بحملات تشتيت ضد أبناء الحركة كإبعادهم إلى وظائف حكومية خارج مناطق سكناهم، وفي المناطق النائية بالذات، وعزلهم عن عوائلهم ومجتمعاتهم وحرمانهم من الامتيازات المعاشية والاجتماعية الأخرى.
6- بث فكرة أن العمل التنظيمي أو الحزبي لا يجوز في الإسلام وتجنيد عدداً من عملاء المخابرات من المعممين البعثيين ونشرها في صفوف الأمة.
استراتيجية النظام على الصعيد الثقافي والاجتماعي حيال الحركات الدينية كانت من خلال ما يلي( ):
1- إغلاق الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الإسلامية ومنع دخول الصادر منها إلى الخارج.
2- الحد من انتشار الكتاب الإسلامي ومحاربته، وذلك بمنع طبعه واستيراده وتوزيعه وبيعه وتداوله.
3- شن حملة اعتقال وتنكيل بحق الكتاب والمفكرين الإسلاميين.
4- منع بث الشعائر الإسلامية كالآذان وصلاة الجمعة والمراسيم الدينية من خلال الإذاعة والتليفزيون.
5- منع إقامة الكثير من الشعائر الإسلامية كالاحتفالات والمجالس الحسينية.
6- نشر مختلف الأفكار الوضعية المناقضة للإسلام بشكل مكثف.
7- محاولة ربط أئمة المساجد وخطباء المنابر بأجهزة السلطة من خلال فرض رواتب شهرية عليهم، ومن ثم تحديد الموضوعات التي يتحدثون فيها، وإعدادها من قبل دوائر الأمن العاملة تحت اسم وزارة الأوقاف.
8- إغلاق جميع المؤسسات الإسلامية للتربية والتعليم كالمدارس والثانويات والكليات والجمعيات الخيرية وغيرها.
9- احتكار جميع وسائل الإعلام بشكل كامل، بما فيها الإذاعة والتليفزيون، والصحف والمجلات ودور النشر والسينما والمسرح.
10- احتكار وسائل التربية والتعليم والسيطرة على برامج المدارس والجامعات.
11- محاولة محو الثقافة الإسلامية، والشعور الديني لدى الكبار، وعموم أبناء الشعب من خلال حملة (محو الأمية) وغيرها.
12- القيام بحملة إفساد واسعة تستهدف كل مبادئ وتقاليد وأعراف المجتمع العراقي المسلم، كنشر وتشجيع الأفلام والبرامج المضللة، وبرامج الترفيه، وحفلات الرقص المحلي والأجنبي.
13- زيادة الطاقة الإنتاجية لمعامل الخمور والمسكرات ومضاعفة استيرادها من الخارج.
14- التشجيع على فتح حانات الخمور والبارات والملاهي الليلية، ومساعدتها بمختلف الإمكانيات المادية والمعنوية.
15- إنشاء مراكز واتحادات الشباب ومنظمات الطلائع والفتوة المختلطة، وجعلها بؤراً لانتزاع دين وعقيدة الأحداث والشباب من الجنسين، وسلب كل ما لديهم من التزامات خلقية وعرفية.
16- التركيز الكامل على القرى والأرياف العشائرية في محاولة مدروسة لتحويلها إلى مجتمع منحرف لا يؤمن بأبسط المبادئ والالتزامات الدينية والعرقية، من خلال إفسادها وإشاعة مختلف الممارسات اللاأخلاقية فيها.
17- الضغط على كل من يتمسك بالممارسات العبادية والدينية واتهامه بمختلف الاتهامات كالرجعية والتخلف والتحجر والتعقيد، وتشويه سمعته والتشهير والاستهزاء به.
18- إصدار قوانين مدنية منافية للشريعة الإسلامية في المجال الاجتماعي، كقانون الأحوال الشخصية ومسائل الإرث والزواج وغيرها.
19- محاربة الحجاب الإسلامي في المدرسة والجامعة والشارع ومعظم مرافق الدولة، وتشجيع ودعم الشعور والخلاعة والابتذال.
20- ممارسة سياسة إذلالية للشعب من خلال عدم توفير أبسط ضروراته الأساسية، كالسلع الاستهلاكية الغذائية وغيرها، وافتعال الأزمات على مختلف الأصعدة والمجالات الاقتصادية والحياتية.
وقد اتهمت المرجعيات الشيعية الحكومة بأنها قد نفذت هذه الاستراتيجيات عملياً باعتقال قادة حزب الدعوة في كافة المدن الشيعية وفي يوليو 1974
تم اعتقال المرجع محمد باقر الصدر، والشيخ عارف البصري، وقد مورست على المعتقلين جميع أنواع التعذيب في جميع المعتقلات العراقية، ثم حوكموا أمام محكمة الثورة، بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة ونشر أفكار هدامة ضد البعث والإخلال بالأمن العام، وقد أصدرت المحكمة حكماً بإعدام قسماً منهم، وسجن أكثر من ألف( ) ، ورغم بعض المبالغات التي وصفتها هذه المرجعيات إلا أنها تحتوي الكثير من الأحداث الحقيقية التي ساهمت إلى حد بعيد في وجود فجوة كبيرة بين البعث والأحزاب الدينية وخاصة الشيعية .
كما كان خلال الفترة (1968-1973) مصادمات حدودية بين العراق والكويت، لكن جرى تسويتها بين الجانبين في عام 1979 وأعلن البكر عن ذلك بقوله: "بناءاً على نظرتنا العربية الواضحة فإننا نعمل على تعميق التفاهم مع البلدان العربية في الخليج" ( ).
وفي يناير 1976، الذي توافق مع الشهر العربي (صفر)،جرت العادة أن يقيم المسلمون الشيعة عزاءاً بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (رض)، فقد أعاد في ذلك اليوم الإمام زين العابدين علي بن الحسين (رض) الرأس الشريف مع بقية رؤوس آل البيت النبوي، إلى مدينة كربلاء لتدفن هناك، وقد رأى الشيعة أن الصحابي الجليل (جابر بن عبد الله الأنصاري) (رض)، قد زار مرقد الإمام الحسين (رض) في هذا اليوم، وعلى هذا الأساس رأى الشيعة أن الأجر يتضاعف فيما لو ذهب الأفراد مشياً على الأقدام لزيارة قبر الإمام الحسين (رض) في كربلاء، لذلك فقد ذهبت مسيرة محتشدة من النجف إلى كربلاء واصطدمت بقوات الأمن، التي قامت بعمليات اعتقالات اتسمت بالعنف، لكن تمكنت المسيرة من الوصول إلى كربلاء، مما حذا بالسلطة إلى إصدار قرار بمنع المسيرات الحسينية السنوية (الراجلة) إلى كربلاء، وتم تنبيه وجهاء المدينة وشبابها، ورؤساء المواكب بأن قرارات الحزب يجب تنفيذها، لكن لم يتم الاستجابة لقرار السلطة الحاكمة، بل احتشد أكثر من 250 ألف شخص في فبراير 1977، واتجهوا نحو كربلاء هاتفين بسقوط البعث، وقد سيطر المتظاهرون على الطريق الرئيسي بين النجف وكربلاء، وهاجموا سيارات الشرطة والسجن في منطقة الجمهورية التابعة للنجف، وأطلقوا سراح المعتقلين الذين اعتقلتهم السلطة بسبب هذه الأحداث، فأعلنت حالة الطوارئ في صفوف حزب البعث، وتم إخماد هذه المظاهرات بقسوة( ).
وقد تأثرت هذه المظاهرات بالفكر الإسلامي للمرجع محمد باقر الصدر الذي أخذ ينقض النظام السياسي والاقتصادي في العراق، من خلال مؤلفاته مثل (فلسفتنا) و(اقتصادنا) ، ثم كان هو المحرك الروحي الرئيسي لتكوين حزب الدعوة، الذي كان سرياً، ودعا لإقامة نظام إسلامي، وأخذ يصدر صحيفة (صوت الدعوة) السرية، وقد كانت المبادئ الرئيسية لأفكار الصدر تتلخص فيما يلي( ).
1- إن الإسلام لم يمارس كما ينبغي على مدار تاريخه.
2- الإسلام حدد المبادئ الأساسية والأصول العامة للأمور السياسية وكان يكفيه إصلاح الفساد.
3- منذ سيطرة القوى الإمبريالية، على العالم الإسلامي، حلت المبادئ الأجنبية كالرأسمالية والديمقراطية والماركسية، وكان لهذه الأيديولوجية آثاراً معاكسةً على تطور الفكر الإسلامي، وفقد المسلمون بنتيجة ذلك القدرة على إدراك أن الإسلام يعتبر منهجاً كاملاً لكل أمور الحياة عندهم، وفي مثل هذا الموقف لا يكفي مجرد الإصلاح،بل يجب أن يحل الإسلام محل مختلف النظم الاجتماعية غير الإسلامية والمبادئ الأيديولوجية لها، وتحقيق هذا الهدف يعد واجباً ثورياً.
من هذا المنطلق وجد النظام نفسه أمام مواجهة مع هذا التيار، فأنشئ فرقاً متصلة في كل أجهزة الأمن للتعامل مع جماعات المعارضة الشيعية والسنية على حد سواء، مع دعم ومساندة التيارات الدينية الموالية للسلطة، أو المحايدة، التي ترى عدم التدخل بالسياسة ( ).
بالرغم من أن البكر نفسه حاول أن يبني لنفسه سمعة دينية تتسم بالتقى والورع، بعد أن ضمَّن الدستور العراقي المؤقت، أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، رغم انتقاد رجال الدين الإسلامي عن الطابع الاشتراكي للنظام، وإيقاف تعويض الدولة عن الأراضي المستولى عليها بنتيجة الإصلاح الزراعي الجديد الذي أصدره عام 1969 ، وتعيينه لرجال ينتمون إلى الجناح اليساري للحزب في الوظائف العامة، وتأثره بالعشائرية والفردية والعلمانية ( ).
وبعد انتهاء هذه المظاهرات والاحتجاجات من قبل حزب الدعوة أواخر 1976، عمل النظام على التقارب مع علماء الشيعة في محاولة منه لكسب التأييد والموالاة، فأخذ يشجع على الاعتماد الرسمي الصريح على المواقف الإسلامية، ويتغنى بالقيم الإسلامية، ورعاية بعض العلماء، وفق استراتيجية الترغيب والترهيب، ثم عمل على تصعيد أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث إلى مجلس قيادة الثورة بحيث أصبح بعض العراقيين الشيعة أعضاء في مجلس قيادة الثورة( ).
لكن حينما تفجرت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة روح الله الخميني الصديق الحميم للمرجع محمد باقر الصدر، والذي يحمل أفكاراً مشابهة له ، لذلك أيد الصدر مع أتباعه، هذه الثورة التي انتهت بسقوط الشاه في الأول من أبريل 1979، وأعلن الصدر تعطيل الدراسة في الجامعة النجفية ابتهاجاً بانتصار الثورة، وخرجت في نفس اليوم تظاهرات سلمية من مسجد الخضراء في النجف، لكن السلطة تصدت لها، واعتقلت العديد من المظاهرين، وفي اليوم التالي منعت السلطات قيام تظاهرات مماثلة، واعتدت على المصلين( ).
ومما زاد من خلاف الصدر مع النظام، أن الصدر بعث ببرقية تهنئة إلى الخميني يهنئه بها، وتبعه المرجع أبو القاسم الخوئي في برقية أخرى، لذلك عمل النظام على معالجة الموقف باتباع استراتيجية حجب تأثير هذه الثورة عن الشعب العراقي، وكسب تأييده للنظام، فأخذ يتودد إلى العشائر والعمال والفلاحين ويمنحهم الهبات والامتيازات والوعود، وحقهم من حركة البناء والعمران، وازدادت حركة التسوق والتجارة، بهدف إلهاء الشعب وصرفه عما يجري في إيران ، في ظل تحسن دخل الفرد العراقي، كما اتشحت الدولة بوشاح الدين، فأخذت تهتم ببناء المساجد والأضرحة، وتكررت زيارة المسؤولين إلى العتبات المقدسة عند الشيعة خاصة، ورافق ذلك عملية إفساد اجتماعي واسعة تمثلت بازدياد إنشاء البارات وحانات الخمور والملاهي، وتولت السلطة أمن هذه المؤسسات رسمياً تحت عنوان (مؤسسات سياحية) ، وهذا أمر غريب عن أعراف المجتمع العراقي المحافظ، وصاحب ذلك محاربة واسعة للحجاب ومنعه في الجامعات، وكثير من مؤسسات الدولة الرسمية، ومراقبة المساجد، وملاحقة الشباب المتدين( ).
ورغم كل إجراءات السلطة إلا أن هذا لم يمنع من اندلاع أعمال العنف ضد السلطة بتحريض من الإمام محمد باقر الصدر، الذي اتخذ مجموعة من الإجراءات ضد السلطة أهمها( ):
1- أفتى بحرمة الانتساب لحزب البعث أو التعاون معه تحت أي عنوان حتى لو كان الانتماء شكلياً.
2- أفتى بحرمة دخول الطالبات إلى الجامعة بدون الالتزام الكامل بالحجاب الإسلامي.
3- أصدر حكماً شرعياً بحرمة الصلاة خلف رجال الدين الموالين للنظام الحاكم.
4- اتهم النظام الحاكم بالتعاون مع الدوائر الغربية، لمنع وصول الثورة الإسلامية إلى العراق من خلال ضرب حزب الدعوة.
ثم أشيع أن الصدر يريد مغادرة العراق، مما حذا بالخميني في إيران، إلى نصحه بعدم المغادرة، وهذا أدى بأنصار الصدر للادعاء أن النظام إنما أطلق هذه الإشاعة، وأن الصدر لا ينوي المغادرة وأعلنوا مبايعته للثورة ضد النظام، وتوافد عليه المؤيدون، مما حذا بالسلطة إلى إعلان الاستنفار العام، واعتقال الصدر واقتياده إلى بغداد، فاندلعت المظاهرات بتحريض من أخت الصدر آمنة حيدر الملقبة ببنت الهدى في 12 يونيو 1979، إلا أن السلطة واجهت المظاهرة بعنف، وتم إطلاق الرصاص على المتظاهرين واعتقال الكثير منهم ، وهذا أدى إلى انطلاق مظاهرات في بعض الدول منددة بالنظام ؛ لذلك تخوفت السلطة من الرأي العام العالمي، فأطلقت سراحه في نفس اليوم( ).
وحول احترام اللغة والثقافة والتعليم، فقد اهتم النظام منذ حركته عام 1968 بها، وعمل على خلق الإنسان العراقي الجديد، الذي يحصل على عمله من خلال ولاءه للنظام، ويؤمن بالسلطة الأبوية، فتأسست عبادة الفرد، من خلال التماثيل والنصب، والجداريات والشعارات، وفي خطاب للنائب صدام حسين عام 1977، عندما ألقى خطاباً على موظفي وزارة التربية العراقية قال فيه:
"عليكم بتطويق الكبار عن طريق أبنائهم، ......، علموا الطالب والتلميذ أن يعترض على والديه إذا سمعهما يتحدثان في أسرار الدولة........ عليكم أن تضعوا في كل زاوية إبناً للثورة، وعيناً أمينة وعقلاً سديداً يتسلم تعليماته من مراكز الثورة المسؤولة .... يجب أن تعلموا الطفل أن يحذر من الأجنبي، لأن الأجنبي هو عين لبلاده، وبعضهم وسائل مخربة للثورة..... إن الطفل في جانب من علاقته مع المعلم، كقطعة المرمر البكر في يد النحات، حيث يمتلك القدرة على إعطاءها الشكل الجميل المطلوب، دون أن يتركها للزمن، وتقلبات عوامل الطبيعة"( ).
وعلى هذا الأساس أصبحت المدرسة الرسمية تحاول أن تحل محل الأهل وعمل جهاز أمن الحزب على إفساد سائر العلاقات داخل البيوت، وبين جيران الحي السكني، وموظفوا الوحدة الإدارية، فأصبح الإنسان البعثي الجديد يختلف عن الإنسان العراقي قبل الثورة، بسبب التحولات السكانية والديمقراطية فيه، حيث أصبح كائناً منزوع عن كتل التلاحم التقليدي وضعيف الصلة أو عديمها بذاكرة الماضي، من خلال تحوير التاريخ على هدى النظام وآراءه، وعسكرة التلاميذ والطلبة( ).
لكن هذا لا يعني أن التأثير الحكومي كان كله سلبياً فقد برزت جوانب إيجابية قام بها النظام، وتجلت بكثير من الأمور فقد قرر بيان الحادي عشر من مارس 1970، الحقوق الثقافية للشعب العراقي الكردي كما يلي( ):
1- إنشاء جامعة في منطقة الحكم الذاتي سميت جامعة صلاح الدين.
2- إنشاء مجمع علمي كردي.
3- تدريس اللغة الكردية في جميع المدارس والمعاهد والجامعات ودور المعلمين والمعلمات والكلية العسكرية وكلية الشرطة.
4- اعتبار اللغة الكردية لغة التدريس في المناطق إلى أغلبية سكانها من الأكراد( ).
5- تعميم الكتب والمؤلفات الكردية والعلمية والأدبية والسياسية المعبرة عن المطامح الوطنية والقومية للشعب الكردي، وتمكين الأدباء والشعراء والكتاب الأكراد من تأسيس اتحاد لهم وطبع مؤلفاتهم وتوفير جميع الفرص والإمكانيات أمامهم؛ لتنمية قدراتهم ومواهبهم العلمية والفنية.
6- تأسيس دار للطباعة والنشر باللغة الكردية واستحداث مديرية عامة للثقافة الكردية، وإصدار صحيفة أسبوعية ومجلة شهرية باللغة الكردية، وزيادة البرامج الكردية في تليفزيون كركوك ريثما يتم إنشاء محطة خاصة للبث التليفزيوني باللغة الكردية.
7- اعتبار عبد نوروز عيداً وطنياً في الجمهورية العراقية، وذلك ضمن مشاركة الشعب العربي للشعب الكردي بأعياده.
8- إعطاء الحق للشعب الكردي بإقامة منظمات طلابية وشبيبة ونسائية ومعلمين.
9- اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان تمتع الشعب الكردي في محافظات السليمانية وأربيل ودهوك بالحكم الذاتي.
وبالنسبة لحقوق الأغلبية التركمانية فقد قرر القانون رقم 89 بتاريخ 24 يناير 1971 حقوقهم الثقافية في المناطق التي يشكلون أغلبية فيها، وقد جاء في هذا القانون مايلي :
1- تدرس اللغة التركمانية في مرحلة الدراسة الابتدائية.
2- جعل كافة وسائل الإيضاح المدرسية باللغة التركمانية في المدارس التي تعتمدها لغة تدريسية.
3- استحداث مديرية للدراسة التركمانية بوزارة التربية والتعليم.
4- تمكين الأدباء والشعراء والكتاب التركمان من تأسيس اتحاد لهم ، والعمل على مساعدتهم وتمكينهم من طبع مؤلفاتهم، وتوفير الفرص لزيادة قدراتهم وقابليتهم اللغوية، وربط هذا الاتحاد باتحاد الأدباء والكتاب في القطر العراقي.
5- استحداث مديرية للثقافة التركمانية ترتبط بوزارة الثقافة والإعلام.
6- إصدار صحيفة أسبوعية ومجلة شهرية باللغة التركمانية.
7- زيادة البرامج التركمانية في تليفزيون كركوك.
كما صدر القانون رقم 251 في 16 أبريل 1972، الذي دار حول حقوق المواطنين العراقيين الناطقين بالسريانية، من ممارسة حقوقهم الثقافية وحددها القانون بـ :
1- اعتبار اللغة السريانية لغة التعليم في المدارس الابتدائية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بها، من الأشوريين والكلدان والسريان، على أن تكون اللغة العربية إلزامية عليهم.
2- تدريس اللغة السريانية في المدارس المتوسطة والثانوية التي غالبية تلاميذها من الناطقين بها.
3- تدريس اللغة السريانية في كلية الآداب – جامعة بغداد – كإحدى اللغات القديمة.
4- استحداث برامج خاصة باللغة السريانية في إذاعة الجمهورية العراقية ومحطتي تليفزيون كركوك ونينوى.
5- إصدار مجلة شهرية باللغة السريانية من قبل وزارة الثقافة والإعلام.
6- إنشاء جمعية للأدباء والكتاب الناطقين بالغة السريانية، وضمان تمثيلهم في الاتحادات والجمعيات الثقافية والأدبية في العراق.
7- مساعدة المؤلفين والكتاب والمترجمين الناطقين باللغة السريانية مادياً ومعنوياً بطبع ونشر إنتاجهم الثقافي والأدبي.
8- تمكين المواطنين الناطقين بالسريانية من فتح النوادي الثقافية والفنية وتشكيل الفرق الفنية والمسرحية ؛ لإجبار وتطوير التراث والفنون الشعبية.
وعلى ضوء مبادئ حزب البعث تمارس وزارة الثقافة والإعلام فاعليتها في عدة حقول هي( ):
1- رعاية الثقافة والفنون في جميع ميادينها وتطويرها بشكل عام، ورعاية ثقافة وفنون الأقليات القومية ضمن مفهوم وحدة الثقافة والفنون الوطنية.
2- الاهتمام بشؤون الثقافة والفنون في الوطن العربي، والحرص على سلامة اللغة العربية، وتأكيد قدرتها التعبيرية في جميع الميادين.
3- إحياء التراث العربي الإسلامي، والتعريف بالحضارة العربية، وبأصولها العريقة، وقيمها ومنجزاتها، وتأكيد تفاعلها مع الحضارة الإنسانية، وإبراز دور الشخصية العربية في الثقافة والفنون العالمية( ).
4- مكافحة الاتجاهات العنصرية والرجعية والشعوبية والرأسمالية في الميادين الثقافية والفنية كافة ، وهذا ما جعل البكر يعطي في بيان رسمي كافة حقوق المواطنة للجالية اليهودية بما في ذلك حق الهجرة إلى خارج العراق( ) ، والعمل على تحقيق الوحدة الفكرية الثقافية ضمن فكر حزب البعث، وكانت الاستراتيجية في ذلك، بزيادة الاهتمام بالتعليم في كافة مراحله، وهذا أدى إلى نهضة علمية كبيرة وتناقص معدلات الأمية( ).
5- إعطاء تاريخ خاص للعراق، فأعلن البكر عن ابتداء مهرجان الربيع عام 1970، وهو من الأعياد السومرية والبابلية القديمة، وأخذ يعطي بعض المدن أسماء أخرى غير أسمائها مثل ذي قار، ونينوى وذلك بقصد إعطاء شرعية لنظامه القومي( ).
6- أصبحت الموسيقى والفنون والتراث تتحول بعد الثورة إلى جزءاً من إعلام النظام، مما أدى إلى فصلها عن موروثها، وتوقفت عن التجدد، حيث أصبح الغناء والشعر والفن هو للبعث الصامد الذي اتسم بالطابع الريفي ؛ بسبب الانتقال الريفي الكبير وتأثيره السلبي على المدينة وما يؤكد ذلك، أن القانون رقم 206 لعام 1968 حدد حدود التعبير السياسي والثقافي، وألا تكون ناقدة للنظام، رغم أن الدستور العراقي أظهر خلاف ذلك في مادته 26 لعام 1976 لكن ظل معمول بالقانون (206)( ).
وعلى ذلك فلم يستطع حزب البعث رغم بعض إيجابيات هذه المرحلة، أن يحقق المحدد الأول من محددات الدراسة الخاص بالوحدة الوطنية ، بسبب عدم استطاعته تحقيق الاحترام الطوعي للبلاد ووحدتها، حيث كان البارتي عاملاً سلبياً أثر على ذلك من خلال ممارساته التي أحدثت شرخاً في الوحدة الوطنية، لكن هذا لا ينفي انعدام المسؤولية في كثير من جوانبها على حزب البعث القائد للدولة والمجتمع، نتيجة الممارسات الخاطئة في تعامله مع هذه القضية، كما أنه رغم كونه دعى للحفاظ على التراث الثقافي، إلا أنه وقف سداً منيعاً أمام الحركات الإسلامية بشكل عام، والشيعية بشكل خاص ، ولم يرى أن المجتمع العراقي مجتمعاً محافظاً يرفض التوجهات العلمانية في كثير من جوانبها، وهذا مما أحدث شرخاً آخر في علاقة النظام مع مؤيدي التيار الإسلامي، كما أنه رغم اهتمامه بالتعليم والتراث الثقافي واللغوي، لجميع القوميات الموجودة في العراق، إلا أنه حاول توظيفها لصالح أيديولوجية البعث وفكره، وهذا من العوامل التي ساهمت في إضعاف ثقة القوميات الأخرى به.
ثانياً-مدى توفر الحرية والمساواة والعدالة
• مدى تحقق الحرية
منذ حركة البعث 1968 ، عمل البكر على التقارب مع الشعب لمؤازرة حركته فقام وفقاً لذلك بعدة إجراءات أهمها : إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في الخامس من سبتمبر 1968 وإطلاق سراحهم ، وإصـدار قـرار بإعادة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 سبتمبر 1968 ، واحتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد ، لكن بالمقابل اتخذ أسلوباً قاسياً تجاه معارضيه، واتهامها بالعمالة والجاسوسية، للتخلص منها ولردع الآخرين ممن يعملون سراً ضد النظام،أو من الممكن أن يعارضوه، ففي يناير 1969 أعدم أربعة عشر جاسوساً اتهموا بالعمل لصالح إسرائيل وكان منهم تسعة من اليهود العراقيين، حيث عرض النظام اعترافاتهم على التليفزيون، وأكد أن هؤلاء لم يعدموا لأنهم يهود بل لأنهم عراقيون خونه، كما أن منهم مسلمين ومسيحيين، كما أعلن الحاخام الأكبر في بغداد بتصريحات علنية، أكد فيها أن المحاكمات كانت عادلة، وأن الطائفة اليهودية في بغداد تتمتع بالحرية والأمن في ظل النظام العراقي الجديد( )، ولابد أن هذه الإجراءات وهذه التصريحات كانت كجزء من استراتيجية النظام لإرهاب خصومه، فلا يعقل أن يعترف أحد عن عمالته من دون وجود أدلة دامغة تثبت ذلك، وهذه لم يوجدها النظام بل اكتفى باعترافاتهم ؛ لأن من الممكن أن يعترف الفرد تحت وطأة الترغيب والترهيب، خاصة أن هذه المحاكمات كانت قد تزامنت مع محاولة انقلابية يقودها أحد السياسيين السابقين وهو اللواء عبد الغني الراوي وكان ذو علامة بإيران ، كما أن هذه المحاكمات كانت بداية لتصفية التيار القومي ذو الميول الإسلامية حيث قدم رئيس الحكومة الأسبق عبد الرحمن البزاز مع متهمين من اليهود لإثبات تورطه بالجاسوسية ، وبناءاً على ذلك سنت مجموعة من القوانين التي تضفي الشرعية على إجراءات النظام ( ).
واتخذ البعث إجراءات صارمة ضد مؤسسات المرجعية الشيعية ، وتم طرد الطلاب الإيرانيين الشيعة في المدارس الشيعية ، ومنع صدور المجلة الوحيدة المصرح بها ، والتي كانت تحمل اسم رسالة الإسلام، وتجنيد طلاب المدارس الدينية –العراقيين– في الجيش واستمرار وضع الأماكن المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء تحت إشراف وزارة الأوقاف، مما اعتبره الشيعة إهانة لها وهذا ما حذا بالمرجع الشيعى محسن الحكيم إلى المطالبة بإلغاء كل هذه الإجراءات ضد الشيعة من دون أي شروط، حفاظاً على الوحدة الوطنية، لكن لم يستجب النظام لذلك ؛ مما حذا بالحكيم إلى الدعوة لعقد اجتماع في النجف ضم الزعماء الروحيين، وقدم نجله مهدي الحكيم عدة توصيات في هذا الاجتماع أهمها( ):
1- ينبغي أن تكون القوانين خاضعة للتشريع الإسلامي كون العراق بلداً مسلماً.
2- ضرورة محاكمة مرتكبي الاعتقادات والاعتداءات والفظائع ضد الشعب، من رجال الحكومة.
3- الأماكن الشيعية المقدسة ملك لكل المسلمين، وبالتالي فغير مسموح للحكومة منع الزائرين إليها.
4- يجب أن تظل المدارس الدينية والعلمية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء مفتوحة لجميع الطلاب بغض النظر جنسيتهم.
وعلى هذا الأساس اتجه المرجع محسن الحكيم للعمل ضد البعث في بغداد، مما حذا بالنظام إلى اعتقال ابنه مهدي الحكيم واتهامه بالجاسوسية عام1969، وهذا ما آثار المرجع محسن الحكيم، واعتبر أن هذا الإجراء المقصود منه هو وليس ابنه ، لذلك رأى ضرورة خروج ابنه من البلاد لتخفيف الضغط عليه.
ورغم الترحيل القسري لحوالي أربعين ألف شيعي كردي فيلي إلى إيران عام 1971 على أساس قانون الجنسية لعام 1963 ، إلا أن هذا الإجراء لم يلق أي احتجاج من قبل المرجع أبو القاسم الخوئي، الذي حل محل المرجع محسن الحكيم بعد وفاته عام 1970، بالرغم من أن هذا الإجراء قد آثار المرجع محمد باقر الصدر، الذي اعترض أيضاً على ترحيل الطلبة الإيرانيين من المدارس الشيعية، كما اعترض على القضاء على المصادر المالية لرجال الدين الشيعة، بتحويلها – أموال المراقد- لخزينة الدولة مباشرة( )، لذلك عمل الصدر على منع مؤيديه من الانضمام لأي حزب سياسي حتى ولو كان إسلامياً، بغية إبعادهم عن الشبهات ولعدم تعريضهم للاضطهاد، في ظل وجود حزب البعث في الحكم، خاصة بعد إعدام النظام لخمسة من قادة حزب الدعوة الذي كان يتزعمه سياسياً الشيخ عارف البصري في بغداد عام 1974، بالرغم من أن زعيمه الروحي المرجع باقر الصدر دعا أتباعه لاستغلال المواكب الشيعية الزائرة لمرقد الإمام الحسين (رض) في كربلاء، ضد حزب البعث، من خلال إلقاءها للشعارات السياسية ضده ؛ إلا أن تدخل الجيش وأجهزة الأمن استطاعا تسييس التعديات في فبراير 1977( ).
ولم يتوقف اضطهاد النظام عند حد المعارضة الشيعية، بل تجاوزه إلى اضطهاد الحركات الإسلامية السنية، فتم اعتقال الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، وهو الشيخ عبد العزيز البدري، الذي كان قد ندد بالحكم في أحد مساجد بغداد الرئيسية، وتم إعدامه بعد ذلك، إضافة إلى موجة من الاعتقالات ضد مؤيديه( ).
ورغم ذلك يشير البعض أنه رغم أن النظام فرض إشرافه المباشر على المواقع الدينية، إلا أن المراجع الشيعية، قد تمتعوا بسلطات واسعة وموارد ضخمة، كما لم يستطع النظام مصادرة أموالهم، لأن موجودات رجال الدين صعبة المراقبة، ويقع قسماً كبيراً منها خارج العراق في صورة عقارات وموجودات مصرفية، كما أن هؤلاء –رجال الدين- أوكلوا استثمار أموالهم إلى أفراد آخرين، وهذا ما جعل ثرواتهم تزداد( )، خاصة أنهم استطاعوا الاستفادة من الولاءات الطائفية للحفاظ على مواقعهم، كما استفاد المقربون منهم من السلطة من الاستفادة من الموارد الحكومية للصعود للمواقع البرجوازية، سواء تم ذلك عبر استغلال مناصب حكومية يحتلونها بأنفسهم ، أو عبر تأجير فنادق ومطاعم حكومية وإداراتها أو عبر المضاربة بقطع الأراضي السكنية التي توزعها الجمعيات التعاونية ، أو الدولة بأسعار رخيصة نسبياً، أو عبر الحصول على إجازات استيراد والمتاجرة بها( ).
كما أنه بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لمدير الأمن العراقي اللواء ناظم كزار ؛ اتخذ البكر مجموعة من الإجراءات الإدارية والدستورية لتثبيت سلطته، فتولى بنفسه وزارة الدفاع، وأعيد تنظيم جهاز المخابرات برئاسة قريبيه سعدون شاكر، وبرزان التكريتي – وهو الأخ الأصغر لنائبه صدام حسين- ثم أجرى تعدلاً دستورياً لإعادة تعريف وتحديد سلطات الرئيس، وبمقتضى المادة 57 أصبح الرئيس هو القائد العام للقوات المسلحة، إضافة لمنصبه الرئاسي، وأصبح يستطيع ممارسة سلطاته المباشرة أو من خلال مجلس الوزراء، أما المادة 98 من الدستور فقد منحت الرئيس سلطات إضافية، فأصبح موكلاً بالحفاظ على استقلال ووحدة البلاد وتكامل أراضيها، والإشراف على تطبيق الدستور والقوانين والقرارات والقضاء وتطوير المشروعات في كل أنحاء العراق، وفي تعيين وإقالة الوزراء والقضاة والموظفين المدنيين، والضباط وتوجيه أعمال الوزارات والقضاة والموظفين المدنيين، والضباط وتوجيه أعمال الوزارات، وباقي المؤسسات، ثم خفض عدد أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى سبعة أعضاء وهم البكر وصدام حسين، وسعدون غيدان، وعزت مصطفى، وعزت الدوري، ومرتضى الحديثي ،وطه ياسين رمضان، وأعلن عن تشكيل مجلس قومي ينتخب أعضاءه من قبل مجلس قيادة الثورة، إلا أن هذا المشروع ظل معطلاً طوال فترة حكم البكر( )، كما أنه منذ أن أصبحت السلطة الحقيقية بيد مجلس قيادة الثورة أصبح هؤلاء غير قابلين للمسائلة أمام أية هيئة حكومية للمحاسبة، وصار موقف زعماء البعث وسيطرتهم على الانفاق الحكومي غير معرض للنقد( ).
وبناءاً على هذا الوضع أصبح التخلص من الخصوم وسيلة محسوبة بدقة لاستمرار النظام وتستعمل بطريقة قاسية، مع تغطية إعلامية مطلوبة، إضافة إلى إجراءات مشددة للأمن( )، وقد أتاح هذا الحكم البوليسي ذو الطبيعة الديكتاتورية، الفرصة المطلقة أمام أصحاب النفوس الضعيفة، وأصحاب المطامع الشخصية والمتزلفين، وأصحاب الطموحات المادية، أتاح أمامهم ممارسة أساليب النفاق والتملق والتقرب من السلطة على حساب الآخرين الذين لقي بعضهم حتفه ، أو اختفى في السجون، أو حتى خارج البلاد، حيث أصبح معارضو النظام يتهمون بالجاسوسية والعمالة، ويتم تصفيتهم من خلال جهاز لأمن التابع مباشرة لحزب البعث، فعلى الرغم من وصوله إلى السلطة، إلا أن هذا الجهاز ظل مؤسسة سرية، تراقب كل مجالات الحياة في العراق( )، ومثالاً على ذلك كان عبد الخالق السامرائي عام 1973 يريد أن يطرح كراساً بعنوان "حزب الطبقة العاملة"؛ لتكريس نظريته بجعل الحزب حزباً للطبقة الفقيرة ، وأن تكون قيادة الحزب عمالية، وأشار إلى أن حزباً لا يقوده العمال سيظل مرهوناً لطبقة غير طبقة الشعب الكبرى، لذلك اتهم بالعمالة وتم سجنه( ).
• مدى توفر العدالة والمساواة
حاول النظام العراقي منذ حركة 17 يوليو 1968 أن يحقق العدالة والمساواة في العراق، فكانت الحكومة الأولى لعبد الرزاق النايف تمثل فئات المجتمع العراقي، العرقية والطائفية، إلا أن مجلس قيادة الثورة ظل محصوراً بالفاعلين الرئيسيين في الانقلاب وعلى إثر سقوط النايف عقب إزاحته في حركة 30 يوليو 1968 شكل البكر الحكومة، وتقلص تبعاً لذلك عدد الوزراء الأكراد تبعاً لتقلص عدد الوزراء بشكل عام، كما تقلص أعضاء مجلس قيادة الثورة( ).
لكن بموجب اتفاقية مارس 1970 للحكم الذاتي للأكراد اختار البكركما ذكرا سابقاً أحد الأكراد وهو طه محي الدين معروف ليكون نائبه، وجعله في مجلس قيادة الثورة، وعلى هذا الأساس تم تمثيل الأكراد في مجلس قيادة الثورة، والجبهة القومية الوطنية، ورئاسة الجمهورية، والحكومة والحكم الذاتي، كما تم السماح لصحيفة الثورة الكردية، بمواصلة الصدور باللغة الكردية( ).
كما أصدر البعث العفو عن الآشوريين ومرجعهم الديني المار شمعون الذي زار العراق لأول مرة منذ الخمسينات عام 1970، وتم إعادة أملاكه وأملاك الكنيسة، وتمثيل الآشوريين كعراقيين لهم نفس حقوق إخوانهم العرب، فدخلوا مختلف النشاطات والمجالات السياسية والمدينة في الدولة( ).
وعمل البكر على توفير ساحة من الحوار داخل حزب البعث، من خلال تلقي الاتهامات الموجهة للحزب، لكنه استخدم نظام المحاباة في المصالح المادية والموارد السلطوية لمؤيديه، بقصد الدعم الحزبي للنظام، وتعزيز الشبكات الموالية له، وخاصة من عشيرته وحلفائه، بقصد الاعتماد عليهم في الدفاع عن النظام ؛ بسبب هذه الامتيازات الممنوحة لهم ضد جميع الوافدين إلى النظام الجديد الذي أسس في العراق وخاصة جهاز الأمن والجيش، كما استفاد من هذا الوضع البعثيون الملتزمون بالحزب منذ عام 1963، والذين دعموا الحزب في الأزمات قبل نجاح حركة يوليو 1968، فحصلوا على الكثير من الموارد في الدولة، واستخدموا البعث للإيهام بوجود عمل جماعي( ).
لكن هذا لا يعني أن الصراع على السلطة قد حسم لصالح البكر وجماعته، وعشيرته، بل حدث الصراع بينه وبين أقرب المقربين له، من أبناء عشيرته، حيث ظهر تيار حردان التكريتي وصالح مهدي عماش على الساحة كقوة سياسية وعسكرية، ومن الممكن أن يشكل خطراً على سلطة البكر، لذلك عمل البكر على إضعاف قوتهما، ثم قام بعزلهما من مناصبها الوزارية، ثم نفى حردان التكريتي إلى الخارج ، وتم تصفيته عام 1971 في الكويت، كما جرد عماش من جميع مناصبه وتم تعيينه سفيراً للاتحاد السوفياتي في الخارج( )، وعين بدلاً منهما الفريق حماد شهاب والفريق سعدون غيدان ،
في مجلس قيادة الثورة، إضافة إلى صدام حسين الذي حافظ على منصبه كمسؤول عن كتائب الفداء التابعة لحزب البعث ،فضلاً عن إعطاءه منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة رغم أن عمره لم يكن يتجاوز 32 سنة( ).
ثم عمل البكر على توظيف الكثير من ميزانية الدولة على الأتباع والمريدين، وبناء أجهزة أمنية لمساعدته على مكافحة وتحطيم قوى المعارضة العراقية، وقد أتاحت له موارد النفط الخام، والمساعدات الفنية والتقنية الخارجية توفير مستلزمات إقامة وتطوير وتحديث تلك الأجهزة الأمنية والقمعية، وتنفيذ مشاريعه المناهضة لقوى المعارضة العراقية وخصومه السياسيين، فلقد عانت المعارضة العراقية خلال هذه الفترة، من العزلة الطويلة عن الوطن والشعب التي فرضها النظام عليها، وهذا أدى لعزلتها عن الشعب وعن القاعدة الشعبية المعارضة للنظام، ومن ضعف تأثيرها عليه، واغتراب في رسم السياسة اليومية، رغم أن سياسات النظام قد لعبت دوراً في اتساع قاعدة المعارضة الشعبية للنظام وتقليص القاعدة الاجتماعية للحكم في الداخل والخارج، ومعاناة النظام من العزلة الضاغطة( ).
كما عمل النظام على استئصال المنافسين له سواء بالسلطة ، أم بالشعارات فاعتقل المئات منهم، ومن رجال الأعمال الذين يمثلون مصالح تجارية أجنبية، والكثير من الوزراء والموظفون الناصريون ، كما لحق النظام بالمعارضين لتصفيتهم في الخارج، كما حدث في القاهرة عام 1972 حيث تم كشف مجموعة مسلحة تحاول تصفية بعض الناصريين( ).
ولم يكن ادعاء النظام بالكشف عن شبكة تجسس صهيونية، سوى للرد على الهجوم الإسرائيلي على القوات العراقية المرابطة بالأردن في الرابع من ديسمبر 1968 ، حيث أسفر عن قتل ستة عشر قتيلاً عراقياً، فتم إعدام أربعة عشر متهماً، تسعة منهم من يهود العراق، وعلى إثر ذلك شنت الدول الغربية حملة إعلامية ضد نظام البكر وقامت مجموعات بتلغيم سيارات وتفجيرها في شوارع بغداد، لنشر حالة الرعب لدى العراقيين، ولابد أن النظام هو الذي قام بذلك لتأكيد أنه مستهدف وأن العملاء يحاولون إثارة عدم الاستقرار رسمياً، وتم إصدار الكثير من القوانين القاسية جراء تلك العمليات( ).
ورغم أن البعث سمح للمنفيين الشيوعيين بالعودة للعراق، وإطلاق سراح السجناء منهم، لكنه لم يقبل بحرية العمل الحزبي، ولا بنشر دوريتهم (الثقافة الجديدة)، لكن بعد موافقة الحزب الشيوعي الانضمام للجبهة الوطنية القومية، سمح النظام لزعيم الحزب الشيوعي عزيز شريف أن يدخل في الحكومة، وتم تعيينه وزيراً للعدل، وذلك بعد أن قبل الحزب الشيوعي بشروط النظام وأهمها( ):
1- تثمين موضوعي وصريح للبعث، كحزب ثوري، وحدوي اشتراكي ديمقراطي.
2- تقييم ثورة 17يوليو 1968 بشكل صريح.
3- اعتراف بالدور القيادي لحزب البعث في الحكم والمنظمات والجبهة.
4- الالتزام بعدم إيجاد ولاءات خاصة داخل القوات المسلحة غير الولاء للثورة.
5- إبداء الرغبة في امتناع الامتدادات الدولية للحزب الشيوعي ، واقناعها بالتحالف مع فروع البعث في البلدان العربية الأخرى.
6- الرفض الكامل للدولة الصهيونية.
7- تبني النضال المسلح من أجل التحرير الكامل الفلسطيني.
8- القبول بالوحدة العربية على أنها الهدف الأسمى والأساسي الذي يوحد كل الأهداف.
9- الإيمان بالتحول الاشتراكي للعراق.
وقد قبل الشيوعيون هذه الشروط ولكن على مضض كونها تطلب منهم أن يكونوا بعثيين بشكل مباشر، لكن حث الاتحاد السوفياتي لهم شجعهم على القبول( ).
لكن هذا لا يعني أنهم استمروا في ولاءهم للنظام فقد قاوموا البعث منذ بداية حركته من خلال الاضرابات والمظاهرات ، كما أنهم ظلوا يتوجسون من نوايا النظام حيالهم حتى بعد انضمامهم للجبهة( )، خاصة بعد أن أصبح الانتماء لأحزاب أخرى غير البعث مستنكراً، ومعرضاً لأجهزة الأمن المسيطر عليها من قبل نائب البكر صدام حسين، إضافة لسيطرته على المراكز التجارية والاستثمارية( ).
ويرى أحد البعثيين حول منظمات البعث أنها كانت تضم عدداً من المؤسسات أهمها( ):
1- جهازاً قمعياً فعالاً يتشكل من ثلاث مؤسسات كبرى، استنفذت طاقة العمال المحلية وأفرغت المزارع من أبنائها، وهي المخابرات العامة والأمن العام والاستخبارات العسكرية، وأضيف إليها مؤسسة رابعة يعمل أفرادها مجاناً وهي مؤسسة الجهاز الحزبي المنتشرة في جميع مناطق العراق.
2- معامل التعذيب المجهزة بأحواض الأسيد ، ومكائن إتلاف الجثث ومعالجة المعتقلين والموقوفين وانتزاع اعترافاتهم.
3- استحداث معقتلات وسجون لحزب البعث ضد الموقوفين قبل عرضهم على معامل التعذيب.
4- محطات استخباراتية لمتابعة العراقيين في الخارج، والقيام بمهمات الاغتيال المطلوبة، وهي تتشكل من المراكز الثقافية ودور الصحف والمجلات الممولة، والمدارس العراقية في الخارج ومكاتب الخطوط الجوية والشركات التجارية، وهذه المؤسسات تعمل وكأنها بعيدة عن الحياة الدبلوماسية المكلفة عادة بالإشراف على هذه المحطات.
هذه الاستراتيجية أبعدت الكثير من نخبة المجتمع عن النظام، بسبب عدم توفر العدالة والمساواة بينها وبين النخبة الحاكمة، فكان احتجاج الشيوعيون على الاتفاقيات الاقتصادية التي أقامها النظام مع الغرب، وتأكيدهم على حرية الكلام والتنظيم ، قد عرضهم للكثير من الاضطهاد رغم أنهم كانوا في الجبهة الوطنية القومية، كما أنه رغم اشتراك بعض الشيوعيون بالحكومة إلا أن صحيفتهم كانت مراقبة، مما جعل الشيوعيون ينقسمون إلى تيارين، إحداهما ميال للنظام، والآخر ممسك بالمشاعر المادية للشيوعية، وهؤلاء هم الذين تعرضوا للاضطهاد( ).
لكن رغم ادعاء البعض أن النظام كان يمارس المحسوبية في شغل كوادر السلطة، إضافة للإقليمية والعشائرية ، على أساس أن النظام يحابي التكارتة بسبب أن الرئيس ونائبه من تكريت ، إلا أن هذا فيه بعض المبالغة، لأن الكثير من التكارية تعرضوا للاضطهاد ومنهم، حردان التكريتي ورشيد مصلح التكريتي، كما أن الكثير من أركان النظام لم يكن تكريتياً( ).
والسبب في بروز نجم التكريتيين لم يكن في عهد البكر، بل لأن الكثير من التكارتة، ومجموعة المثلث السني بشكل عام، كانوا أكثر عدداً في المؤسسة العسكرية، منذ العهد الملكي ، كما أن نسبتهم بدأت بالتناقص في الحكومة بدءاً من عام 1969 فلو تتبعنا الجدول (3-1) سنلاحظ هذا التناقص ، كما ازدادت نسبة تمثيل الشيعة إضافة لاشتراكهم في القيادة القطرية( )، ووصلت إلى 40% في القيادة القطرية ومجلس الوزراء واشتراك أربعة منهم في مجلس قيادة الثورة.

السنة العدد الإجمالي للأعضاء عدد التكارتة النسبة المئوية
1969
1970
1977
1977-1979 15
15
5
22 3
5
2
5 66%
33.3%
40%
22.7%
ممثلي التكريتي في الحكومة
جدول (3-1) ، تم تصميم هذا الجدول من قبل الباحث اعتماداً على بينات المرجع ، فرهاد إبراهيم ، مرجع سابق ذكره ، ص ص : 232-233
لكن هذا لا يعني أن العلاقات القرابية أو المحسوبية قد انتهت، فالعراق شأنه شأن أي دولة نامية يعاني من هذه المعضلة، رغم أن النظام حاول تقليلها من خلال ما عرف بـ (ميثاق العمل القومي) وهو نظام أساسي ولائحة للجبهة القومية الوطنية، حيث تلتزم جميع الأحزاب باتباع مبادئ حركة 1968، وبناءاً عليه فالسلطة الشرعية كانت خلال هذه الفترة تقوم على الدستور وميثاق العمل الوطني، وتحاول من خلال نظام القوانين أن تربط المجتمع بالدولة راديكالياً، بواسطة مجلس قيادة الثورة، الذي يصدر معظم هذه القوانين والقرارات، خاصة بعد التحامه بالقيادة القطرية للحزب ؛ وذلك لإضعاف واستبعاد أي شخص يشكل تهديداً للنظام( ).
ورغم أن حركة 1968 قد حاولت إلغاء الطبقية والعشائرية والإقليمية في المجتمع من خلال إجراءاتها المتعددة، مثل إلغاء الألقاب والنسب حيث ردت الأسماء إلى العائلة النواة، التي غالباً ما اختصرها اسم الأب، لكن هذا الموقف الثوري الرائع، كتم التراكيب الدموية والجهوية للنظام نفسه، فحذفت كلمة تكريتي، وسامرائي وغيرها ، كما تم تقريب بعثيين بلا عشائر إلا أن هؤلاء أخذوا ينقادون للسلطة وقياداتها الشخصية( )، كما أن أقارب بعض المسؤولين أخذوا يقومون بتجاوزات كثيرة، ورغم أنها كانت تصل تقاريرها إلى رأس النظام إلا أنه أحياناً كان يتساهل معها، بل إن من يقدم التقارير حول ذلك يقوم هؤلاء بإبعاده من الحكم، كما فعلوا مع عضو مجلس قيادة الثورة صلاح عمر العلي( ).
كما أن تمركز السلطة بيد مجلس قيادة الثورة على اعتبار أنه السلطة التشريعية العليا، بحكم القانون، جعل غياب الرقابة على أسلوب التصرف في الكثير من عوائد الدولة الاقتصادية ومنها النفطية، وبالتالي أصبحت هذه السلطة مطلقة اليد من الناحية القانونية في توجيه الموارد الموجهة التي تراها، وكانت الأداة المنفذة لسياسات السلطة العليا هذه، والقناة التي يمر عبرها الاتفاق الحكومي هي البيروقراطية الحكومية البعيدة هي الأخرى عن الخضوع للرقابة الدنيا، وهذا مما ساهم في وجود برجوازية في الجهاز الحكومي( ).
في ظل هذا اللاقي بين القطاع الخاص وجهاز الدولة المرسمل، تحولت العمولات والرشاوي الممنوحة، من قبل شركة المقاولة الدولية إلى ظاهرة شاملة بعد أن كانت محدودة، وبرغم تشريع قوانين صارمة تمنع تلك الممارسات، إلا أن هذه الظاهرة انتشرت بشكل كبير، وأكدت على ذلك أجهزة الإعلام العراقية، ثم أصدر النظام قوانين تعتبر العمولات والوساطات شكلاً من أشكال التجسس الاقتصادي، الذي تصل عقوبته إلى الإعدام، إلا أن هذه القوانين لم تعالج المشكلة، بل نقلتها إلى جهاز الدولة، حيث أصبح المسؤولون في الجهاز الحكومي يرتشون، حتى أصبح الكثير منهم من ذوي الأموال الطائلة (الطبقة البرجوازية)( ).
كما عمل بعض المحسوبين على الدولة على دعم المقاولين والقروض، والمكائن والموارد الأولية، بأسعار مدعومة، وعلى هذا الأساس أصبح المقاول يستنزف طاقة القطاع الحكومي من هذه العناصر، وقد رأى النظام في ذلك، إمكانية لمكافأة أنصاره، وتمكينه من القيام بتحويلات نقدية خارج الإطار الرسمي، وبما أن معظم القيادات العليا من العرب، لذلك رأت بعض الإثنيات الأخرى في الدولة العراقية في ذلك محاباة للعرب على حسابهم، فكانت كبار المقاولين العرب تصل إلى 93% ، أما الأكراد فهي 6% ، والتركمان 3%،وهذا يعني أن النظام لم يستطع تحقيق عدالة توزيعية بالنسبة للفئات القومية في المجتمع العراقي( ).
لكن هذا لا يعني أن الطبقة الغنية من العرب، قد اكتسبت هذه الأموال من خلال جهاز الدولة، فالكثير منهم كان لهم مشاريعهم الخاصة، إضافة لممارسة بعض التجار في الجنوب لاحتكار بعض المواد، وممارساتهم لتجارة تهريب الكثير من الصادرات والاستيرادات وخاصة الثروة الحيوانية التي كانت تتم عن طريق السعودية( ).
خاصة بعد تراجع الدولة العراقية عن احتكارها للتجارة الخارجية التي ازدادت من 14% عام 1968 إلى 38.8% في نهاية حكم البكر،وهذا ما سمح للقطاع الخاص بالحصول على إجازات الاستيراد، لمقاولي البناء والتجاروأصحاب الشركات الأجنبية المقاولة، ومع هذا التطور تراجع دور الدولة عن ضرورة تحقيق الأمن الغذائي، حيث أخذت الاستيرادات الغذائية والسلع الاستهلاكية تحقق نسباً متصاعدة من إجمالي الاستيرادات نتيجة تدهور القطاع الزراعي وتهميشه( ).
في ظل هذا الوضع عرفت مدن الشمال والغرب العربية نوعاً من النزعة الإقليمية، حيث يقوم جهاز المدينة ، أو متنفذوها في جهاز الدولة بتقدم خدمات لأبناء مناطقهم محاولين إيصالهم إلى مواقع اجتماعية مؤثرة ، أو تمكينهم من تحسين فرص عملهم على عكس مدن الجنوب والوسط ، التي تميزت علاقة عمالها المهاجرين بالتوتر والعداء مع الوجهاء، والمتنفذين، لأنهم كانوا يعيشون على هامش المجتمع المدني، وقد تميزت هذه العلاقة بالنسبة لمدن الشمال والغرب بوجود روابط تساعد على تنمية الوعي الطبقي وتقدس السلم الحكومي، وجهاز الدولة كفرصة من أجل تحقيق التقدم والصعود، وتمثل الحس الجماعي بالبؤس إلا حالات فردية يمكن للاجتهاد الشخصي أن يتجاوزها حتى وصل عدد العاملين في جهاز الأمن والداخلية إلى ثلث عدد العاملين في القطاع العام ، كما أن النظام نفسه تولى من خلال مدير الأجهزة الأمنية صدام حسين شؤون النفط ( )، وبذلك استطاع النظام السيطرة على الجمعيات العمالية والفلاحية والمهنية، واستطاع صياغة قانون جديد للعمل، وتغيير لوائح نقابات العمال، بطريقة جعلت من المستحيل على الشخص غير البعثي أن يصبح عضواً في قيادة النقابات، وتحولت التنظيمات الشعبية الأخرى إلى مؤسسات بيروقراطية، تقتصر المبادرة، ومسخرة لخدمة النظام، كما أن الكثير من موظفي نقابات العمال لم يكونوا ممثلين للعمال، بل موظفين رسميين تابعين لحزب البعث أو لجهازه الأمني، ,وبناءاً عليه تم تحجيم نشاط الحزب الشيوعي إلى درجة أنه قام بحل مراكزه التي كان قد كونها من أجل الحفاظ على نفوذه في إطار النقابات ، وأصبح الحزب الشيوعي يحصر نشاطاته داخل المراكز الرئيسية للحزب، حيث يتناول مشكلات الطبقة العاملة في نشراته فقط( ).
أيضاً كان تزايد رقي الطبقة الاقتصادية لبعض الفئات المحسوبة على النظام قد أدى إلى تزايد المعارضة ضد نظام الحكم، خاصة في ظل تزايد الهجرة من مدن الجنوب إلى بغداد، بعد تدهور الاقتصاد في هذه المناطق، وإهمال الزراعة والصناعة والتجارة، وتحول الدولة إلى دولة ريعية تعتمد على النفط، وانحطاط دور مدن الوسط والجنوب بسبب انحطاط دورها كمراكز تجارية، بين الريف والمدينة، وبفعل تراجع موقع المؤسسة الدينية الشيعية نتيجة عجزها عن منافسة الدولة المتضخمة الموارد، وقد أدى هذا الوضع إلى إتاحة الفرص للحركات السياسية الشيعية، لجذب هؤلاء وتصوير الواقع على أنه اضطهاد للشيعة، خاصة أن نسبة المقاولين من اتباع النظام كان معظمهم من السنة ، إضافة لازدياد نشاط الحزب الشيوعي حيالهم، وهذا ما جعل النظام يستأصل قسماً منهم( ).
كما استغلت هذه الحركات فشل السياسة الاقتصادية للدولة في مجالات عدة، حيث اتخذت شكلين أساسيين هما( ):
• الشعبوية في إصدار القوانين لإلغاء جميع التعويضات على الأراضي المصادرة، ودعم السلع الأساسية، وتقديم خدمات اجتماعية وحياتية محدودة، وتقليص الرسوم الضريبية، وخاصة بعد توافر موارد كبيرة بفعل الزيادة الهائلة في عائدات النفط وزيادة الرخاء الاقتصادي للشعب بشكل عام.
• ازدياد الاستثمار في الزراعة، من إدخال إصلاحات زراعية زيادة على الإصلاحات في العهود السابقة، كالأخذ في الاعتبار العلاقة بين نوعية الأرض، ونظام الري، وحجم الملكية المسموح بها،وتأسيس التعاونيات الزراعية، وإجبار المزارعين على الانضمام إليها للاستفادة مما تقدمه من مساعدات على شكل أسمدة وغيرها من المنافع التي استخدمتها الحكومة لتحويل الاستثمار إلى الزراعة، وتأسيس المزارع الجماعية ؛لاسترضاء الأعضاء اليساريين في الحزب، على أساس التودد إليهم لتوطيد السلطة.
إلا أن هذه الإجراءات لم يكتب لها النجاح ؛ بسبب أن المستفيدين كانوا من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة، إضافة لكثير من الملاك الزراعيين السابقين، حيث تراجعت معدلات الإنتاج الزراعي في ظل تراجع معدلات تزايد السكان، وهذا أدى إلى تبعية غذائية للخارج، حتى أصبح العراق مستورداً للحبوب، وتضاعفت أسعار المواد الغذائية المستوردة اثني عشرة ضعف عما كانت عليه قبل الحركة 1968م.
في ظل هذا الفشل، اندلعت الثورة الإسلامية في إيران، وبدأ رجال الدين الإيرانيون يحرضون حزب الدعوة، ومرجعه الروحي محمد باقر الصدر على الثورة ضد نظام الحكم، على أساس أنه هو قائد الشيعة العراقيين، وهذا ما شجعه للمطالبة بالديمقراطية وإنهاء دولة البعث، وإقامة الدولة الإسلامية، وإلغاء العضوية الإجبارية لحزب البعث، وإلغاء الإجراءات القمعية، والإفراج عن المعتقلين والمسجونين السياسيين ، وإعطاء الشعب الحق في اختيار ممثليه عن طريق انتخابات حرة للتعبير عن رأيه ، ورغم أن السلطة قامت باعتقاله ثم أفرجت عنه إلا أنه سرعان ما عاد للعمل السياسي ووجه بياناً إلى جميع الأحزاب والمذاهب في العراق، للوقوف ضد البعث، منكراً عليه أنه يعبر عن المسلمين السنة،وأنه ليس سوى عصابة قمعية ، واعتبر أن العضوية في حزب البعث تتناقض مع مبادئ الإسلام ، وهذا من الأسباب التي دعت الحكومة إلى اعتقاله مرة أخرى، ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية( ).
وعلى هذا الأساس فقدت المعارضة الشيعية قوتها الرئيسية، عندما فقد حزب الدعوة قوته ؛ بسبب موجات الاعتقال والملاحقة التي تعرض لها خلال الفترة (1974-1977)، وبعد ذلك فقدت المعارضة الشيعية كوادرها السياسية، بسبب اعتقالهم وإجبارهم على الرحيل من البلاد، يضاف إلى ذلك، أن كلاً من حركتي المعارضة الشيعية، وهما حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي لم تتمكنا حتى قيام الثورة الإيرانية من الاتفاق على خط سياسي مشترك، لذلك قامت السلطة في رغبة منها لاستئصال هذه المعارضة من جذورها باعتقال الصدر لعدة أسباب هي( ):
1- ترحيبه بالثورة الإيرانية من خلال رسالته التي وجهها إلى الخميني.
2- منع الصلاة خلف أمام وثيق الصلة بحزب البعث.
3- موافقته على وضع دستور للجمهورية الإسلامية في شكل فتوى بناءاً على استفتاء أجراه العلماء الشيعة في لبنان.
وبناء على ذلك يعتبر الصدر قد أخطأ في هذه الدعوات لعدة أسباب هي:
1- أن ظروف العراق الطائفية والعقائدية تختلف عن إيران.
2- إن حزب البعث كان قد أحكم قبضته بقوة على الدولة والمجتمع.
3- أن حركة المقاومة الشيعية أضعف من أن تقف في وجه سلطة حكومة البعث أو أن تسقطها.
4- إن النظام كان قد استقطب الكثير من رجال الدين الشيعة، من خلال تقديم الحوافز لهم معتمداً مبدأ المحاباة، وهذا مما جعلهم لا يوالون الصدر( ).
أما بالنسبة للتأميم الذي حاول النظام استغلاله على أساس أن المعارضة هي ضد السياسة التحررية للنظام فقد أشارت الباحثة الإنكليزية (بينروز) ، أن التأميم لشركة نفط العراق (ABC)، كان متوقعاً من قبل الجميع، فأي تنازل من جانب المفاوض العراقي يعني تراجعاً عن القانون رقم (80) لسنة 1961،وأي تنازل من جانب شركة نفط العراق، سيشكل سابقة بالاعتراف بحق المنتجين بالمصادرة في وقت كانت تجري فيه مفاوضات المشاركة مع دول الخليج، لذلك كان هدف المرحلة الأخيرة من المفاوضات، تأمين كل طرف لصورة حسنة عن نفسه أمام العالم، وانتزاع أفضل شروط التسوية لما بعد التأميم، وكان أهم ما يعني الشركات هو الحصول على حاجتها من النفط، بما يكفي لتجهيز عمليات المصب التابعة لها، كما أن العراق كان قد تراجع عن القانون رقم (80) القاضي بنزع 99.5% من الأراضي الممنوحة كامتياز لشركة (ABC) ، وترك المناطق التي كانت الشركة تمارس نشاطها فيها- في ذلك الوقت - تحت تصرف الشركة، كما لم ينص ذلك القانون على دفع تعويضات للشركة بعد تأميمها، كما تم الاتفاق على أساس تزويد الشركة بقيمة مواردها الثابتة والمقدرة عام 1970بـ104 مليون دولار من النفط الخام، وعلى ذلك، فلم تكن التسوية العراقية مع شركة نفط العراق مضرة بالشركة، كما استمر العراق بتصدير أكثر من نصف إنتاجه للشركات العالمية السبع المسماة بالشقيقات السبع( ).
لكن النظام عمل على استغلال قرار التأميم لشركة نفط العراق، لإثارة الشعب لصالحه، وليرسخ الاعتقاد بأن انتصار التأميم لم يكن للبعث وحده، بل بفضل الشعب العراقي تحت قيادة البعث، وقائده أحمد حسن البكر( ) ، وهذا ما جعل أي معارضة للنظام تنعت بالخيانة والرجعية، وعلى هذا الأساس استمر العمل بالدستور المؤقت، واستمرار قانون الأحكام العرفية، وقانون الطوارئ، رغم أن الدستور المؤقت يعني وجود فترة انتقالية تمر بها الدولة، وهو لا يصلح لكل السنوات المستقبلية، فلا توجد في الأعراف الدولية دولة انتقالية تعيش حالة الاستثناء لأكثر من سنة أو سنتين ، لكون الدولة لا تأخذ شكلها المستقر النهائي دون دستور دائم تظل الدولة غير مستقرة تفتقر إلى الركائز الأساسية لاستمرارها، وعلى هذا الأساس استمر القهر والإذلال المبرمج للنظام تحت شعار الثورية والتقدمية، وهذا ولَّد انكساراً في نفسية الإنسان العراقي وخلق منه أداة مشلولة ذاتياً مطواعة لأوامر مؤسسات النظام، يقف دائماً إلى جانب النظام، على اعتبار أنه لا يملك أي قوة تجعله يقول رأيه الصريح أو يعبر عنه.
وعلى هذا الأساس فشل البعث بما دعا إليه لإقامة مجتمع عراقي جديد بعيداً عن التمايز العراقي أو الطبقي أو الطائفي أو الإقليمي أو العشائري، وبالتالي في خلق إنسان عراقي جديد، وبالقضاء على أي انقسام في المجتمع العراقي، رغم ما أكد عليه في مؤتمره الحزبي الثامن والتاسع( )، كما استمرت العضوية في حزب البعث لا تمنح إلا لـ1.5% من مجموع الأعضاء البعثيين، بينما العضوية العادية (نصير ومؤيد) تمنح للقسم الأكبر من الشعب، وعلى ذلك استمر البعث يعبر عن أقلية قيادية في الدولة، على غرار الأحزاب الشيوعية في الدول الشيوعية في القرن الماضي( ).
واستمرت الدولة من خلال البعث، هي التي تخضع جميع التعاونيات والنقابات لإشرافها، إلا أن هذا الإشراف كان مفيداً في كثير من جوانبه للطبقة العامة ، حيث تحدد في ظلها شروط العمل واتحادات العمال والمعاشات والضمان الاجتماعي، وحداً أدنى من الأجور، وحداً أعلى لساعات العمل، ومنع تشغيل الأحداث، وحماية العمال من الفصل التعسفي، والتأمين الاجتماعي للعاملين، ونظم قانون جديد للعمل وتنظيم التعاونيات ونقابات العمال، وهذا مما وفر القوانين الجديدة للعمال، وتحقيق الآمان لهم، لكنها خضعت للنظام الحاكم واندمجت به، من خلال (اتحادات الحزب) وبذلك فقد العمال جزءاً من حريتهم( ) .
وبناءاً على هذه الأمور حدد الباحث ستورك الخصائص التالية لسلطة البعث في العراق بعد حركة 1968 وهي( ):
1- إن البرجوازية المحلية لم تستطع إنجاز مهمات ثورة 14 يوليو 1958، كما دعت لذلك، مما جعل البرجوازية الصغيرة تستولي على قيادة الثورة، بحكم قوتها العددية، وارتباطها التاريخي بالدولة، وتولت هذه البرجوازية الصغيرة المهمات التاريخية للبرجوازية مستخدمة الدولة، بصفتها أداتها ومنفذها إلى الريع النفطي، لتمويل الاقتصاد السياسي للبلد ولتحويل نفسها إلى برجوازية وظيفية.
2- إن النظام مثل ديكتاتورية للبرجوازية الصغيرة مع أن سياساته تجاه الطبقة العاملة لا تختلف عن سياسات الأنظمة الموالية صراحة للرأسمالية.
3- لم تستطع السلطة تحقيق استقرار لأي من أجنحة البرجوازية الصغيرة أو المراتب الوسيطية العراقية، مع أنها كانت تمثل ديكتاتورية البرجوازية الصغيرة.
4- مثل البعث بتركيب عضويته وتطوره الأيديولوجي المحدد ؛ الشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة والقوى الوسيطة.
فالبعث لم يخدم في صفوفه أو أنصاره جمهور الفلاحين أو البرجوازية الصغيرة، رغم أن أصوله هي البرجوازية الصغيرة، إلا أن سلطته ظلت مقيدة في الجوهر بمصالح وتصورات المالكين والبرجوازيين وتفرض ديكتاتوريتها على الطبقات الأخرى.
وبذلك نخلص من هذا المبحث أن البعث لم يستطع أن يحقق اثنين من محددات الوحدة الوطنية التي حددتهما الدراسة، وهما احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية وتوفير الحرية والمساواة والعدالة أمام القانون، بالرغم من أنه حاول تحقيق ذلك من خلال بعض القوانين التي سنها بغية تحقيق التحامه مع الشعب، إلا أن القضية الديكتاتورية لنظام الحكم، وتوغل الكثير من الانتهازيين في أجهزة الحكم ، وبروز الطابع العشائري، والإقليمي، والحزبي في جهاز الدولة، أدى إلى تولد طبقية جديدة في الدولة، أضعفت من المنحى الاشتراكي للنظام، وبالتالي ضعفت المساواة والعدالة، في ظل الدولة العراقية، في عهد الرئيس أحمد حسن البكر ، فإذا لم يستطع النظام تحقيق اثنين من مؤشري الوحدة الوطنية في هذا العهد فهل استطاع تحقيق المؤشرين الآخرين للوحدة الوطنية حسب ما حددته الدراسة ؟ ، وهما : مدى قدرة النظام على التفاعل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مع الشعب، ودور الجيش كمؤسسة عسكرية تشمل جميع فئات الشعب، هذا ما سيبينه لنا المبحث الثاني من هذا الفصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق