أثر الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
ودور المؤسسة العسكرية في الوحدة الوطنية
يتناول هذا المبحث التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب والنظام السياسي، ومدى قدرة النظام السياسي على الاستجابة للمتغيرات الداخلية في هذه الجوانب، ومدى نجاحه في التعامل مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة لمدى تقبل الشعب لسياسات النظام وبالتالي التحامه معه، من دون وجود فجوة بين النظام الحاكم والشعب المحكوم، إضافة للمنافذ التي يستطيع بها الشعب التعبير عن رأيه من سياسات النظام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فيتناول المبحث دور المؤسسة العسكرية كمؤسسة من الواجب أن تضم جميع فئات المجتمع، في تحقيق الوحدة الوطنية، إضافة لدورها في الحفاظ على كيان الدولة. ومدى استطاعتها أن تكون من صميم الشعب وليس مؤسسة متعالية ومنفصلة عنه.
أولاً: أثر الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي
الوضع السياسي والاجتماعي
منذ بداية حكم البكر عمل جاهداً على استقطاب الشيوعيين له، وقد كان رفضهم سبباً لاضطهادهم وملاحقتهم، حتى انضم الحزب الشيوعي للجبهة الوطنية القومية، وقد استفاد البعث من هذا الاندماج لكسب تأييد الاتحاد السوفياتي كممول أساسي للسلاح والمساعدات، إضافة لرغبته في إحداث انشقاق داخل الحزب الشيوعي، وإخراجه للعلن سيضعفه، ويسهل تصفيته بعدما سبب الكثير من المشاكل للنظام ، من خلال جناح القيادة المنشقة للحزب بقيادة (عزيز الحاج) حيث قام بغارات على أقسام الشرطة والمصارف، إلى أن تمكن منه النظام( ).
كما تعرض النظام لانتقاد حركة القوميين العرب، والجناح اليساري في حزب البعث الموالي للبعث السوري، مما عرضهم لملاحقة النظام والاضطهاد( )،خاصة أن وجود مؤسس البعث ميشيل عفلق في العراق وتأييده للبعث العراقي، جعله يكتسب شرعية أكثر مما كان في سوريا( )،بعد التزام أعضاء القيادة القطرية منذ عام 1964 بالقرارات التي أصدرها آنذاك وهي( ):
1- يجب سيادة قيادة واحدة تأمر وتطاع، من دون وجود أجنحة في حزب البعث.
2- يجب أن يكون العسكر وليس المدنيون هم الأداة الضاربة للحزب.
3- وجود لجنة من العسكريين وقائدهم قائمة على القرابة والمنطقة ، وحد أدنى من العقائدية.
وعلى هذا الأساس تم إبعاد وتصفية التيار اليساري فتم اعتقال أعضاء بالقيادة القطرية ومنهم :عبد الخالق السامرائي، وشفيق الكحالي، وهرب أحمد العزاوي إلى سوريا، ليشكل تنظيماً جديداً ضد البكر هناك، لكن تمكنت أجهزة الأمن العراقية من اغتياله، كما تم إبعاد بعض أعضاء القيادة القطرية،وأعدم رئيس المكتب العسكري لحزب البعث محمد فاضل، إضافة لمؤسس البعث في العراق فؤاد الركابي، الذي كان قد شكل تنظيماً في العهد العارفي سمى بحركة الوحدويين الاشتراكيين( ).
ومنذ بداية حركة 17يوليو تخوفت الحركات الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء ، حيث رأى زعيم الحركة الإسلامية عبد الصاحب دخيل أن العراق في ظل هذا الحكم سيكون دموياً ، كما قام المرجع محسن الحكيم بالدعوة للتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين السنية وحزب التحرير الإسلامي بزعامة عبد العزيز البدري، ومع حزب الدعوة بغية القيام بانقلاب مضاد ، إلا أن المرجعية لم تعلن الثورة( ).
وهذا عرضهم للملاحقة، فتم إعدام زعيم الإخوان المسلمين ، وحزب التحرير الإسلامي الشيخ عبد العزيز البدري وشقيقه ، كما تم إعدام مجموعة من الضباط الموالين لهم، إضافة إلى مؤسس الحزب الإسلامي الشيخ (ناظم العاصي)، كما اضطر الكثيرين بسبب حملة الإعدامات والملاحقات للهرب خارج العراق مثل فليح السامرائي، وطه الحلواني، وأوقف حزب الإخوان منظمته رسمياً في الخامس من أبريل 1971 ، بعد أن رأى أن استمرار هذا التنظيم يعني تصفية أعضاءه، لذلك بدأ يعمل سراً ضد النظام، أما حزب الدعوة، فقد صودرت أمواله وسحبت إجازة جامعة الكوفة، وتعرض الدارسين والتجار العراقيين الموالين له والذين من أصول إيرانية للملاحقة( ). مما حذا بالمرجع محسن الحكيم الذي دعى للتظاهر ضد النظام وانتقاده، إلى تغيير آراءه، ورأى عدم مواجهة النظام، ليكلا يتعرض حزب الدعوة للمزيد من الملاحقات.
ويؤكد نائب الرئيس العراقي ووزير الدفاع حردان التكريتي أن البكر عقد اجتماعاً تناول فيه استراتيجيتة للقضاء على الحركة الدينية الشيعية، وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على ما يلي( ):
1- استمرار الحملة ضد رجال الدين واعتقال أكبر عدد منهم، والإعلان عنهم كجواسيس يعملون لحساب إيران.
2- التسلل إلى صفوف رجال الدين الشيعة في محاولة لاحتوائهم وضرب بعضهم ببعض.
3- اختلاق مجموعة من رجال الدين المزورين وفرصتهم على الشعب.
4- القيام باغتيالات فردية في صفوف رجال الدين القاطنين في إيران ولبنان ودول أخرى.
5- تقليص نشاطات رجال الدين وحصرها في إقامة الصلوات وإعطاء المسائل الشرعية، وذلك بإلغاء إجازات مدارسهم ومستشفياتهم ومكتباتهم العامة، ومصادرة أموالهم أو تجميد أرصدتهم.
وعند تسلم المرجع أبو القاسم الخوئي المرجعية في العراق إثر وفاة المرجع محسن الحكيم نهاية 1970، فضَّل ألا يعمل بالسياسة ويستخدم مبدأ التقية حيال النظام، بينما رأى المرجع محمد باقر الصدر ضرورة التدخل بالسياسة من خلال حزب الدعوة، فقام بتجديد هيكل المرجعية الشيعية وصوغها بصيغة سياسية ، وكان على صلة بزعيم الشيعة في لبنان موسى الصدر الذي شكل حركة المحرومين في لبنان، وأسس المجلس الأعلى للشيعة، على أساس دعواه، حيث استفاد من ظروف المجتمع اللبناني القائم على التعدية الدينية والسياسية والاعتراف بها رسمياً، إلا أن النظام العراقي اعتبر هذه الدعوات رجعية وتؤدي لتقسيم المجتمع، ورغم ذلك استمر الخوئي مبتعداً عن التدخل في السياسة على أساس أن يصبح زعيماً سياسياً على غرار موسى الصدر، على اعتبار أن الرأي السياسي أو الحركة الإسلامية الشيعية لابد أن تصدر عن المرجعية ، وهذا محال لأن المرجعية لم تتغير في هيكلها، حيث أن المرجع الشيعي يقوم بدور نائب الإمام الغائب، بينما فرق الصدر بين المرجعية الموضوعية والمرجعية الذاتية، حيث رأى أن المرجعية الذاتية هي أن تتكون في بنائها من المرجع ومقلديه مع شرط الاعتراف بها من قبل العلماء الآخرين، وقراراتها تراعي قواعد وتقاليد الشيعة الاثني عشرية – ويمكن للمرجع كمجتهد أن يصدر قرارات جديدة تبعاً لعلمه وتقديره( ).
أما المرجعية الموضوعية فهي تشكل سبباً لضرورة حدوث تغيير، وأهم مهامها( ):
1- نشر تعليم الإسلام بقدر المستطاع بين المسلمين ومحاولة تزويد كل فرد بالتعليم الديني الذي يضمن التزامه بهذه التعاليم في سلوكه الشخصي.
2- إيجاد حركة فكرية واسعة الانتشار داخل الأمة التي يجب أن تحوي مبادئ الإسلام الصحيحة ، مثل المبادئ الأساسية والتي تؤكد أن الإسلام نظام متكامل متفهم لجميع أنواع الحياة واستخدام وسائل مناسبة لتثبيت هذه المبادئ.
3- إنجاز الاحتياجات الفكرية لمؤسسة إسلامية، والتي يمكنها أن تكون طريقاً لتسهيل الدراسات الإسلامية الكافية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المتعددة، والتي تتيح عقد مقارنة فكرية بين الإسلام ، وأي معتقد اجتماعي أخر، ، وتوسيع مجال الفقه الإسلامي بطريقة تجعله قادراً على إضفاء صفة الشرعية على جميع أنواع الحياة ، وكذلك تحسين المدارس الدينية ككل ، والارتفاع بها إلى مستوى هذه المسؤولية ككل.
4- تحمل مسؤولية رعاية الحركة الإسلامية، والإشراف على ما يشارك به القائمون على تلك الحركة لتفهم مسار مساندة كل حركة صحيحة، والحفاظ عليها وتغيير كل ما هو غير صحيح.
5- التأكيد من أن يتولى السلطة في الأمة العلماء ، بداية من المرجع وحتى أصغر القضاة في المرتبة ، وذلك عن طريق ضمان اهتماماتهم والاهتمام بشؤون الشعب، والعمل على أن تنضوي القوى الفعالة في مسار الإسلام.
وبحسب رأيه أنه لتحقيق هذه المهام تحتاج المرجعية لإطار مؤسسي جديد تتكون إدارته المركزية من ستة لجان هي( ):
1- لجنة لتنظيم شؤون الحوزات العلمية، المدارس الدينية الشيعية.
2- لجنة للبحث العلمي.
3- لجنة لشؤون العلماء، التي تنظم العلاقة بين العلماء والإدارة المركزية.
4- لجنة للشؤون الخارجية والتي تقيم اتصالات المرجعية بالعالم الإسلامي وبالقوى الدولية.
5- لجنة لمساندة الحركة الإسلامية.
6- لجنة مالية تراقب المصادر المالية وأنشطة المرجعية الموضوعية ، ولا ترتبط بشخص واحد كالمرجعية الذاتية فهي غير محدودة زمانياً ولا إقليمياً.
إلا أن المرجع الخوئي، رفض تأييد هذه الحركة، كما رفض التدخل في أحداث النجف وكربلاء التي قامت في فبراير 1977 ؛ بسبب سياسة التمييز بين شبكات المحسوبية والمحاباة في ظل نظام البعث، إضافة إلى نقد الحكومة من قبل الإسلاميين ونعتها بالعلمانية، وقد استغل حزب الدعوة المحظور هذه المظاهرات التي توافقت في توقيتها مع ذكرى عاشوراء، لإظهار الاستياء الشيعي من الحكومة، وتخلل المظاهرة أعمال عنف مع قوات الأمن، لكن تدخل الجيش وقوات الأمن أدى إلى السيطرة على المظاهرة، ثم أقيمت محكمة خاصة لمحاكمة قادة المظاهرة المتهمين بتنظيم الاحتجاج، وترأسها عضو مجلس قيادة الثورة عزت مصطفى مع وزيرين شيعيين، كانا في القيادة القطرية للحزب، حيث حكمت المحكمة على ثمانية من علماء الشيعة بالإعدام، وعدد آخر بالسجن، لكن رأى النظام أن هذه الأحكام كانت متساهلة فتم إقالة عزت مصطفى وأحد الوزراء الشيعة( ).
وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران آواخرعام 1978، تملك الزعماء الدينين في العراق مشاعر التفاؤل والحماس، فهاجم أعضاء حزب الدعوة مكاتب البعث، ومراكز الشرطة، وأعلنوا دعمهم للثورة الإسلامية، مما حذا بالنظام إلى القيام بعمليات اعتقالات ضد الشيعة، وعوقب لأعضاء الفعليون بالإعدام، وفي نفس الوقت قام النظام بتخصيص منح مالية ضخمة للأغراض الدينية، وأظهر الرعاية المتزايدة للإسلام في الخطب العامة ونظم زيارات للجنوب الشيعي، ولمدينة الثورة، وتوزيع الهدايا بشكل علني( ).
أما الحركة الناصرية، فرغم تأييدها للنظام منذ بداية حركته، إلا أنها تعرضت للاضطهاد بعد ذلك ولوحق أتباعها، مما دعاها للتحالف مع التيار البعثي اليساري الموالي لسوريا، وتشكيل جبهة من بعض الجماعات والأحزاب الصغيرة، لمقاومة النظام( ).
إلا أن ما أكسب البعث قوته وزاد من شرعيته، هو إقامته للجبهة الوطنية القومية، مع بعض الأحزاب الموالية له، وأهمها الحزب الشيوعي حيث طرح ميثاق العمل الوطني، في 27 فبراير 1971، وأصدر الحزب الشيوعي بياناً حول الميثاق جاء فيه أن مشروع الميثاق من حيث مضامينه واتجاهاته، معاد للإمبريالية، ويدعو القوى الوطنية المعادية لها وللرجعية – المقصود الحركات الدينية- إلى التعاون ، وقد وقع على الميثاق رسمياً في 17 يونيو1973( ).
وكان من أهم ثمار قيام هذه الجبهة، وتحالف البعث مع الحزب الشيوعي هو التنسيق بينهما ؛ لمكافحة ما دعي بالرجعية الدينية، حيث عملت صحيفة الحزب الشيوعي الرسمية (طريق الشعب) على الدعوة لملاحقة الإسلاميين ، ووقف الكثير من أعضاءه مع البعث في اضطهادهم وملاحقتهم واتهامها على أنها حركات تستغل المشاعر الدينية والطائفية ؛ لتثير الشعب ضد الحكم التقدمي الثوري ، الذي وقف في وجه الاحتكارات الإمبريالية، من خلال تأميم النفط العراقي، لذلك فقد رأى هذا الحزب، ضرورة التنسيق مع البعث للقيام بأعمال مشتركة ضد هذه الحركات( ).
وفي نفس الوقت أعلن البكر توافق سياسة البعث مع الشيوعيين، على أساس أنه ما كان للتأميم أن يتم لولا دعم القوى الوطنية، والأنظمة التقدمية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي( )، وفي أعقاب ذلك بدأ حزب البعث في استخدام لوائح الجبهة من أجل بسط سيطرته على التنظيمات الجماهيرية، وعلى نقابات العمال، وأعلن أن الجبهة ستقوم بوضع قوائم للمرشحين للمناسب في كل التنظيمات الشعبية، وأن اتحادات الشيوعيين أو البعثيين المستقلة سوف يتم دمجها في وحدة واحدة للاتحادات الوطنية وسيكون للبعث فيها دور مميز( )، وعلى هذا الأساس سمح للحزب الشيوعي بنشر أفكاره، والاعتراف الرسمي به، وتنظيم حقوقه علناً، وهذا ما حذا به إلى معاودة نشاطه في النقابات والاتحادات الفلاحية والطلابية والنسائية والجامعات والمدارس، وامتد إلى أنحاء كثيرة من العراق، وهذا ما أثار البعث الذي رأى أنه ينافسه في النقابات العمالية، وقام بالتضييق عليه، مما دفع الحزب الشيوعي إلى معاودة العمل السري، والتقليل من نشاطاته العلنية إلا أنه رغم ذلك حصل على ثلاث حقائب وزارية، هي وزارت الدولة، والري ، والعدل، إلا أن السلطة الحقيقية ظلت بيد مجلس قيادة الثورة، إضافة على الحكومات الرئيسية، إلا أنه بعد نجاح البكر في إبعاد كل من حردان التكريتي وصالح مهدي عماش عن مجلس قيادة الثورة ، ظهر صراع خفي بين البكر ونائبه صدام حسين، حيث كان يرى البكر ضرورة التقارب مع الغرب، بينما رأى صدام حسين ضرورة التقارب مع الشيوعيين والمعسكر الشيوعي، واشتد هذا الصراع عندما انتقد الحزب الشيوعي جنوح البكر نحو الغرب، وابتعاده عن المعسكر الشيوعي والاشتراكية عبر صحيفته (طريق الشعب) عام 1976 ؛ لذلك فقد رأى صدام حسين، ضرورة تفعيل الجبهة الوطنية القومية وتطبق علاقاتها على المنظمات الجماهيرية، وهذا مما سبب نقمة النظام على الشيوعيين، الذين اتهمهم نظام البكر بالعمالة لموسكو، فتم اعتقال 38 ضابطاً حكموا بالإعدام، ثم قام بعملية واسعة ضدهم، شملت حوالي سبعين ألف شخص، لذلك أصدر الحزب الشيوعي قراراً يدعو إلى من يستطيع من أفراده مغادرة العراق أن يفعل ذلك، واستقال الوزراء الشيوعيون ودعا بعض الشيوعيين إلى مقاومة النظام عبر جبال كردستان( ).
وفي بداية يوليو 1979 اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وقررت تقديم شعار "إنهاء الديكتاتورية"، وهي دعوة لإسقاط حكم البعث، على أساس ارتداده في النهج السياسي الاجتماعي، وإصراره على تخريب التحالف مع الحزب الشيوعي ومحاولته تصفيته، إضافة إلى اختلاف أيديولوجيا البعث مع الشيوعي، كون البعث يصر على قيادة الحزب الشيوعي تحت منهاجه وأيديولوجيته واستراتيجيته، وأن يظل هو قائداً للجبهة ، وعدم السماح للطبقة العاملة بالاشتراك الفعلي بالسلطة، وعلى هذا الأساس وضع الحزب استراتيجية لإسقاط البعث ، بعد أن اكتشف أن الجبهة كانت في حقيقتها أداة بعثية حيث كان الرأي النهائي في قراراتها لحزب البعث باعتباره الحزب القائد، وأن حزب البعث استطاع تجميد التنظيمات السياسية وجعلها تصب في صالحه لا سيما الحزب الشيوعي الذي تحول عدد كبير من أعضائه إلى مخبرين للسلطة ، وذلك للتعبير عن إخلاصهم للجبهة والنظام( ).
لذلك قام نائب البكر صدام حسين ضمن استراتيجيته للسيطرة على الحكم، على تعزيز سلطته ومعرفة ولاء البعض في حزب البعث والقوات المسلحة وذوي المناصب الرفيعة في الدولة لشخصه ، على تنظيم حملة صحفية ضد الحزب الشيوعي،وأعدم الكثير منهم على أساس انتقادهم لسياسة النظام تجاه الانفتاح على الغرب، واضطهاد الأكراد في الشمال ؛ لذلك انفصل رسمياً الحزب الشيوعي عن الجبهة الوطنية القومية، وهرب معظم قادة الحزب الشيوعي إلى الخارج( ).
وفيما يتعلق بحزب البارتي، فقد أيد حركة 17 يوليو 1968 ؛ بسبب ما أشارت إليه من رغبة في تحقيق الوحدة الوطنية، وإعطاء حقوق للأكراد، وقد تعززت هذه العلاقة بعد إعلان الحادي عشر من مارس 1970، إلا أن البارتي ظل على علاقة بإيران التي كانت تموله وتدعمه ضد النظام العراقي، وبالفعل فقد وقعت عدة صدامات من أعضاءه مع مراكز تابعة للنظام، بحجة عدم التطبيق الفعلي لاتفاقية الوحدة الوطنية ووحدة السيادة للدولة العراقية، واتهم البعث البارتي بالتعاون مع حكومة الشاه الرجعية بنظره، وأنها تسيء للنضال القومي الكردي، إلا أن البارتي انتقد ذلك مدعياً أنه في حالة دفاع عن الوجود( ).
ثم عمل البرزاني على ابتزاز الحكومة، من خلال تصريحاته عبر صحيفة حزبه الغير مرخصة (خه بات)، على أساس أن معارضته، تمثل المعارضة الكردية ككل، فدعى لتشكيل جبهة معارضة سماها القوى الوطنية والديمقراطية، ودعى لتشكيل حكومة ائتلافية لتنفيذ قانون الإصلاح الزراعي، وإعادة الحريات الديمقراطية الأساسية للمواطنين، وزيادة نسبة عائدات النفط، وإقامة أفضل علاقات ممكنة مع الحكومات العربية، ودعم حركات التحرر الوطني ومواجهة الإمبريالية، ومساندة الأمة العربية في تحقيق الوحدة، إلا أن كل هذه التصريحات لم تكن سوى مناورة سياسية لكسب الوقت، حتى يعلن الحرب على النظام فيما بعد، فقام حزبه بتفجير خزانات الغاز الطبيعي في كركوك، ثم قاوم الإصلاح الزراعي الذي دعت إليه الدولة، وقام أتباعه بتحريض الفلاحيين الأكراد على ترك قراهم ، ثم أحرقوها فيما بعد على أمل إلحاق هؤلاء الفلاحين بهم لاستغلال بقاءهم معهم ، ولمواصلة سياسية الابتزاز والارتزاق من أجهزة الدولة، على الرغم من أن البارتي اتهم هؤلاء بأنهم مدعومون من قبل الحكومة، لهذه الأسباب ابتعدت الكثير من العناصر الكردية عنه ، وانضمت إلى الحكومة، بعد الانتقاد الكبير من قبل الكثير من الأكراد غير العراقيين، للبارتي وإثناءهم على اتفاقية مارس، مثل المفكر الكردي عبد الرحمن قاسملو الذي اغتالته المخابرات الإيرانية بسبب ذلك( ).
ولم يكن رفض جلال الطلباني وتياره لاتفاقية مارس 1970 سوى؛ بسبب الحساسية بينه وبين البرزاني، بالرغم من أن النظام عمل على تحقيق هذه الاتفاقية، وأصدر حيال تحقيقها مرسوم جمهوري، بتشكيل لجنة عليا برئاسة نائبه الرئيس صدام حسين، ولم يمض سوى سنتين حتى استكمل تنفيذ معظم بنود الاتفاقية، إلا أن البرزاني أخذ يثير الشكوك ضد الحكومة مدعياً بأنها قدمت وعداً بمنح الجنسية العراقية لمائة ألف كردي إيراني، رغم أن الحكومة العراقية نفت ذك، ثم ادعى أن الحكومة تريد توطين عرب عراقيين في كركوك، معظمهم من المسيحيين، بالرغم من أن أكثر من مليون كردي سكنوا في المدن العراقية دون أن يعترض على وجودهم باعتبارهم جزءاً من الشعب العراقي( ).
ثم اتهم البرزاني الحكومة بمحاولتها اغتياله واغتيال إبنه إدريس، حيث جرت محاولتين فاشلتين لاغتيالهما، لكن أثبتت التحقيقات أن من كان يريد اغتيال ولده إدريس هم من الأكراد أنفسهم، ولم تكن أي فائدة للنظام من محاولة اغتياله هو، لأن من يريد اغتياله هو من يريد نسف الاتفاقية 11مارس، وهي ما تزال في بدايتها، وخاصة إيران التي لم تكن موافقة على هذه الاتفاقية، خاصة أن مدير الأمن العراقي اللواء ناظم كزار ثبتت علاقته بإيران بعد ذلك، حيث كان من أهدافه تخريب الاتفاقية، وتعريض الحكم الوطني للمخاطر عن طريق العودة للقتال في كردستان، وإشغال الدولة بالأكراد حتى يسهل عليه تنفيذ انقلابه ضد النظام، وما يثبت أن الفاعلين لم يكن لهم علاقة بسلطة البعث المباشرة، أنه لا مجال لفشل عملية اغتيال تقوم بها الدولة داخل حدودها، خاصة أن استمرار الاتفاقية ونجاحها معتمداً على بقاءهما على قيد الحياة( ).
وبعد انشقاق البارتي نتيجة تشكيل جلال الطلباني، لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني في دمشق عام 1975، واستقطاب الكثير من الأكراد الذين وجدوا صعوبة في التوفيق بين القيادة الفعلية للبرزاني، ومبادئهم القومية والاشتراكية، حيث كان تعنت البرزاني وعدم رغبته في الانضمام للجبهة الوطنية القومية، على أساس تأكيده أن انضمامه لابد أن يمنحه سيطرة كبيرة على الشؤون الكردية، وهذا ما يخالف بنود الجبهة، لذلك كان يعمل من أجل نقض اتفاقه مع النظام، في ظل تدهور العلاقة بين العراق وإيران، بعد احتلالها للجزر الإماراتية عام 1971، وبدء مشاكلها حول أحقية شط العرب، ومساعدتها البرزاني في حربه ضد النظام العراقي( ).
ووصل الأمر بالبرزاني إلى اتهام الحكومة بأنها تريد تقليص عدد الوزراء الأكراد في الحكومة، بعدما توفى وزير الإصلاح الزراعي (الكردي) بحادث سيارة، فقام مجلس قيادة الثورة بدمج وزارة الزراعة بوزارة الإصلاح الزراعي، فكان ادعاء البرزاني، قد جعل الحكومة تعمل على تشكيل لجنة من الجانبين لحل الأزمة( ).
وعلى إثر تشكيل الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطلباني، ودعمه من قبل نظام البعث السوري، وجعل مقره دمشق، مما أثار النظام العراقي الذي اتهم النظام السوري بأنه وراء أحداث النجف وكربلاء، مما أساء للعلاقة بين النظامين، إلى أن كانت اتفاقية كامب ديفيد 1978، مما حذا بالنظامين إلى تشكيل جبهة الصمود والتصدي ، والتوقيع على ميثاق العمل القومي المشترك في 26 أكتوبر 1978، وأن تتحقق الوحدة بين الدولتين، وأعلن فتح الحدود، وإلغاء تأشيرات السفر، وتشكيل هيئة مشتركة سياسية عليا، وتضاعف التجارة بين الدولتين، وأعلن فتح الحدود، وإلغاء تأشيرات السفر، وتشكيل هيئة مشتركة سياسية عليا، وقامت مراكز تجارية في دمشق وبغداد، وهذا مما أضعف من قوة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، في معارضته للنظام العراقي( ).
وعلى إثر انهيار الحركة الكردية بعد اتفاقية الجزائر عام 1975، تحرك بعض أعضاء البارتي مثل سامي عبد الرحمن لعقد اتفاق سري مع نجل الملا مصطفى البرزاني، وهو مسعود البرزاني، لتشكيل قيادة مؤقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي سمى اختصاراً بـ (حدك)، وأصبح مسعود رئيساً للحزب، وعمل على تشكيل قيادة عملت بدورها على بناء التشكيلات الحزبية والعسكرية، لتنطلق من جديد المفارز العسكرية (البيش ماركة) للعمل من جديد في كردستان اعتباراً من 26 مايو 1976، وآزرتها حركة ماركسية كردية تشكلت أواخر 1976، واتخذت دمشق مقراً لها( ).
وفي ظل ضعف الحركة الكردية إثر اتفاقية الجزائر 1975 ، عمل النظام على استقطاب الكثير من الأكراد في محاولة منه لزيادة الصلات بينهم وبين أجهزة السلطة، وطبق ذلك على بقية أنحاء العراق، وبناءاً على ذلك قام بعدة أمور أهمها( ):
1- بناء المنظمات الشيعية كنقابة العمال والجمعيات الفلاحية ومنظمات الطلبة والمنظمات النسائية والمهنية وغيرها.
2- تطبيق صيغة المجالس الشعبية وتأسيسها في جميع المحافظات.
3- انبثاق المجلسين التنفيذي والتشريعي لمنطقة الحكم الذاتي.
4- صدور التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن كوثيقة تاريخية استطاعت أن تشخص وتنتقد بدقة واقع أجهزة الدولة بكافة قطاعاتها ؛ بأسلوب لم تشهده أي من الحركات السياسية في المنطقة.
ولابد من الإشارة إلى أن معظم الصراعات وعدم الاستقرار في منطقة شمال العراق، لم تكن بين الحكومة والبارتي، بل كانت الحساسية بين الأكراد أنفسهم، سبباً في الكثير من الصراعات، والتي كانت عشائرية في كثير من الأحيان، إضافة إلى ضيق أفق البعض، ورغبته في مد النفوذ الاقتصادي والاجتماعي على منطقة كردستان، بسبب المنافسة على النفوذ والهيبة والسلطة والموارد المائية، بين تلك الأطراف، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت استقالة العضوان الكرديان المؤيدان للنظام، من مجلس الوزراء في 26 أغسطس 1971 احتجاجاً على الوجود المستمر لممثل جلال الطلباني في مجلس الوزراء هو طه محي الدين معروف الذي أصبح نائباً للرئيس البكر( )، كما أن جهاز الأمن الكردي (الباراستين) قام في نهاية 1973 بشن هجمات منظمة ضد الأكراد والشيوعيين( )، وقد توافق هذا الصراع مع نظام يرفض أي مساس بسلطته المطلقة، حتى أن أمين الجبهة الوطنية القومية نعيم حداد أكد أن حزب البعث مستعد أن يتخذ كل الإجراءات القاسية ضد معارضيه( )، لذلك استمر الصراع بين الأكراد والسلطة حتى اتفاقية الجزائر 1975، إلا أنه خف بعد ذلك بشكل كبير حتى نهاية حكم البكر.
وحول الصراع على السلطة ضمن حزب البعث، فبعد تمكن البكر من إبعاد عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداود، ومن ثم إبعاد حردان التكريتي وصالح مهدي عماش عن مجلس قيادة الثورة حدث الصراع الخفي بين البكر ونائبه صدام حسين وبالذات منذ عام 1976، حيث أخذت قوة صدام تزداد، بعد أن وطد قبضته على أجهزة الأمن ومنظمات الحزب، وتأسيسه لشبكة من المؤيدين لشخصه بين الضباط التكارتة وغيرهم، وفتح أمامهم باب الثراء والترقيات مقابل دعمه الشخصي، حيث كان قد وضع يده على أهم مورد من موارد العراق وهو النفط ؛ فحدد معدلات الإنتاج وتحكم باتفاق العائدات النفطية، وأصبح الوحيد الذي يعرف بدقة معدلات الدخل والاتفاق، وأصبح يتم تحويل نسبة ثابتة من العائدات النفطية العراقية إلى ودائع مصرفية في الخارج، على أساس أن ذلك من أجل اعتماد الكفاح البعثي المسلح، في حالة تمت الإطاحة بالنظام( ).
لكن يجب أن نشير أن هذا الصراع لم يكن في حال من الأحوال عشائرياً أو طائفياً، أو إقليمياً، وإن كان اعتمد على بعض المقربين من تياري البكر وصدام، فكلاهما من تكريت، وتكريت لم تكن تضم الكثير من العسكريين في عهد البكر وصدام فحسب، بل كانت تتميز بكثرتهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، بسبب تراجع نظام الملاحة النهرية آنئذ، وبالتالي تراجع حرفتها التقليدية في إنتاج المراكب الصغرى، وهذا ما حذا بالكثير من أفرادها إلى الهجرة إلى العاصمة والإقامة فيما عرف بحي التكارتة، كما اشتعل قسماً منهم في البناء، إلا أن أكثرهم انتسب إلى الكلية العسكرية بفضل أحد الضباط الموالين للملك فيصل الأول وهو (مولود مخلص)، الذي كان يرتبط مع التكارتة بعلاقة مصاهرة، ففتح لهم باب الدخول والتطوع في الجيش، وعلى هذا الأساس كانوا الأكثر بين الضباط( )، كما ظهر الصراع بينهم وبين كتلة النايف، الذي ينتمي إلى الرمادي مع مجموعته، إضافة إلى أن كتلة البكر كانت تضم بين طياتهما الكثير من مناطق العراق، وخلاصة القول أن القرابة العشائرية والمصاهرة بين البكر وصدام، لم تمنع صدام حسين على إجبار البكر عن التنازل عن الحكم بشكل سلمي لصالح صدام، وكانت آثار الحزن كانت بادية على وجهه عند إعلان استقالته( )، ورغم أن الكثير من مؤيدي البكر كانوا ضد هذا التنازل، مثل وزير البترول عدنان الحمداني ومدير الصناعة محمد عايش، حيث كانا من الداعين للتقارب العراقي السوري، وخاصة بعد معاهدة كامب ديفيد 1978، وحاولا إقناع البكر بالعدول عن رأيه والاحتفاظ بمناصبه، وتجريد صدام حسين من مناصبه، ومنعه من تولي الرئاسة غير أن صدام حسين استبق الأمر، وعقد مؤتمراً للحزب، في 12 يوليو 1979، وانتخب على أثره أميناً عاماً للحزب، حيث تنحى البكر عن الرئاسة وعن كافة مناصبه لصالح صدام حسين في 16 يوليو 1979 ( ).
• الوضع الاقتصادي
منذ نجاح حركة 17 يوليو1968 أوضح النظام الجديد أن حركته هي حركة اشتراكية لها استراتيجية محددة للتنمية وتهدف إلى ما يلي( ):
1- زيادة الإنتاج والاستخدام المكثف للتكنولوجيا المتطورة.
2- تصعيد الاستثمارات وتكوين رأس المال البشري.
3- الاهتمام بالإدخارات الاقتصادية الوطنية لما تشكله من أهمية في التنمية.
4- تصعيد الوعي الجماهيري للمشاركة بعملية التنمية.
5- ضمان تكيف الاستهلاك وتطوره مع الادخارات أو عدم تعارضه مع احتياجاته.
6- تنويع الصادرات وتوسيعها وزيادة وتائر نموها.
7- اعتمادها سياسة استيراد عقلانية ؛ بهدف تحسين المستوى المعاشي للسكان خصوصاً ذوي الدخل المحدود بالمجتمع.
8- توفر حوافز الاستثمار لتحريك القطاع العام وتنشيط فعاليته.
9- تبني مبادئ التنمية المتوازنة لعمليات التخطيط، مع التأكيد على الاستغلال الكفء للموارد الأولية المحلية، وتشجيع الصناعة الوطنية في استغلال الموارد الأولية من أجل تنويع الإنتاج المحلي أو المساعدة لمواجهة الطلب المحلي المتزايد.
وقد رسم النظام خطة تنموية لتحقيق هذه الأهداف من خلال عدة أمور هي( ):
1- زيادة الدخل القومي سنوياً بنسبة 7.1%
2- التركيز على تنمية القطاعات السلعية بالاقتصاد الوطني، خصوصاً الزراعة والصناعة التحويلية، واستغلال الموارد المعدنية لتقليل الاعتماد على قطاع النفط.
3- توزيع عادل لمشروعات التنمية على مناطق البلاد المختلفة.
4- تكثيف جهود التكامل العربي، من أجل استكمال عملية الاندماج أو الوحدة الاقتصادية العربية.
5- زيادة الخدمات الاجتماعية وتحسين أنماطها.
6- زيادة فرص العمل.
7- تنمية قطاع الزراعة، وزيادة الإنتاج الزراعي بمعدل سنوي قدره 70%.
8- تنمية قطاع الصناعة التحويلية وزيادته بمعدل 12%
9- إنجاز المشروعات الصناعية المباشر بها.
10- توسيع الصادرات من السلع المصنعة.
11- العمل لتحقيق الاكتفاء الذاتي للسلع والمنتوجات الصناعية.
12- تشجيع التكامل الصناعي العربي.
13- توسيع هياكل البنية التحتية بالاقتصاد الوطني كنتيجة حتمية لمتطلبات تطور الاقتصاد.
أما عن النتائج التي استطاع النظام تحقيقها على ضوء الخطة السابقة خلال الفترة (1970-1975) ، فتراوحت بين 1.8 في قطاع التعدين إلى 15% في قطاع البناء والتشييد، وبالنسبة للزراعة 19.3% ، أما الصناعة والتعدين 41.6%، والنقل والمواصلات 15.4%. والدفاع والمساكن وغيرها 17.5%. وخلال الفترة (1975-1980) فبلغ النمو الزراعي 2.6% أما الصناعات الاستخراجية والتحويلية فوصل إلى 20.7% ، والنقل والمواصلات 20.3% ، والخدمات الحكومية 13.5%( ).
وقد أنجز العراق خلال فترة البكر خطتين خمسين شاملتين تم وضعهما ضمن منظور قومي شامل، وأكدت القيادة على مركزية التخطيط، ولا مركزية التنفيذ، وقد تم تنفيذ الخطط الموضوعة وجرت متابعتهما بصيغ علمية وعملية، مع تأمين الترابط بين القطاعات المختلفة، واعتمد التخطيط التربوي والإقليمي والتخطيط للعلوم والتكنولوجيا ضمن منظور قومي.
وحاول البعث كسب الفلاح العراقي إلى جانبه ،حيث قام ببعض الإجراءات التي تؤثر على وضعه الاقتصادي والاجتماعي ، وأصدر قراراً منع بموجبه طرد الفلاحين من أرضهم لأي سبب كان ،كما ألغى حق اختيار الإقطاعي للأرض،وألغى مبدأ التعويض للإقطاعي عن الأراضي المصادرة بموجب قانون الإصلاح الزراعي ، وخفض الحد الأقصى لمساحة الأرض التي يحق للإقطاعي الاحتفاظ بها إلى 2000 دونم كحد أعلى ،وادخل التأمين الصحي في الريف ، وربط عدداً كبيراً من القرى بشبكة القوة الكهربائية ،كما جرى استصلاح حوالي أربعة ملايين دونم من الأراضي الزراعية ، وخفض أسعار الآلات الزراعية والأسمدة ، وانشأ الأسواق الشعبية للفواكه والخضروات دون وساطة ،وكان هدفه من كل هذه الإجراءات جر الفلاح العراقي إلى صفوف حزب البعث.
وعن نتائج هذه الخطط تشير البيانات إلى ارتفاع نسبة الأجور إلى 122% ، وارتفاع معدل الدخل النقدي للعامل الصناعي أكثر من ثلاثة أضعاف بدءاً من عام 1968 وحتى عام 1979، وزاد الانفاق الاستهلاكي الشهري للفرد بنسبة 290% ، وزادت رفاهية المواطنين، بارتفاع الدخل القومي بمعدل 27.7% بالأسعار الجارية خلال نفس الفترة السابقة، وارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي بمقدار 23.5% بالأسعار الجارية خلال نفس الفترة أيضاً( ).
وارتفعت مساهمة القطاع العام خلال نفس الفترة من 24.5% عام 1968 إلى 82% عام 1979، وزادت نسبة الاستثمارات فيه من 35% إلى 75% خلال نفس الفترة، كما ارتفعت مساهمة القطاع الخاص إلى الضعف أيضاً، وزادت نسبة الاستثمارات فيه إلى 176%، وارتفع إنتاج العراق من النفط الخام من 73 مليون طن سنة 1968 إلى 175 مليون طن عام 1979، وازدادت أعداد الجمعيات الفلاحية من 473 جمعية عام 1968 إلى 1987 جمعية عام 1979،وارتفع عدد أعضائها إلى 355 ألف عضو، خلال نفس الفترة ، وأقيمت السدود، وتم استصلاح مجموعة من الأراضي، وجهزت الكثير من الأسمدة الكيماوية للزراعة، وتسليف الفلاحين والجمعيات الفلاحية التعاونية، ومشاريع الثروة الحيوانية ومعامل الأعلاف( ).
وحدثت تنمية صناعية في مجالات مختلفة، وبلغ معدل النمو المركب للقطاع الصناعي خلال الفترة (1968-1979)، ما يعادل 18.4% سنوياً وارتفع دور القطاع العام في الصناعات الوطنية، بمعدل سنوي قدر 21.1% خلال نفس الفترة، وبلغت التخصصات المرصدة لقطاع الإسكان في خطة التنمية القومية 4.1% من مجموع تخصصات قطاع المباني والخدمات، وزاد عدد المباني من خلال القطاع الخاص الذي تمونه الدولة من خلال القروض المصرفية، إلى 316%، وزاد طول الطرق المبلطة ثلاثة أضعاف، وتحسنت طرق السكك الحديدية، وزادت بنسبة 113%، وزادت كمية البضائع والسلع المنقولة من3 مليون طن عام 1968 إلى 6.5 مليون طن عام 1979، وزادت نسبة البضائع المستوردة عن طريق الموانئ العراقية بنسبة مقدراها 455% من البضائع المستوردة ، و 225% من نسبة البضائع المصدرة، وزاد عدد سفن أسطول البواخر العراقية، وارتفعت حمولتها تسعة مرات عما كانت عليه عام 1968( ).
وارتفعت حصة القطاع التجاري العام من 41% عام 1968 إلى 89% عام 1979، وزادت الصادرات غير النفطية سنة 1979 بمعدل 3.5 ضعف عما كانت عليه عام 1968، وارتفعت حصة القطاع الاشتراكي– العام - إلى 90% من إجمالي الصادرات، وشكلت السلع المصنعة وغير المصنعة حوالي 7.5% من إجمالي الصادرات، وزاد معدل مشاركة القطاع العام في التجارة الداخلية بنسبة 53% من إجمالي مبيعات التجارة الداخلية( ).
وفي مجال الخدمات الاجتماعية، زاد الاهتمام بالصحة ورعاية الطفولة حيث ازداد عدد أفراد الأسرة بنسبة 52% عام 1979 عما كان عليه عام 1968 ، وارتفع عدد المنشآت الصحية بنسبة 150%، كما ارتفع عدد الأطباء العاملين إلى 216%، وصدر قانون الأحوال الشخصية وقانون العمل،وقانون الإصلاح الزراعي، وقانون مساهمة المرآة في القوات المسلحة، والقرارات الخاصة بمنح المرأة العاملة والموظفة إجازات قبل الولادة وبعدها، وتوفير دور الحضانة والأمومة والطفولة والرعاية الاجتماعية، وارتفعت مساهمة المرأة في قطاع التعليم والصناعة والتجارة( ).
وانخفضت الضرائب في فبراير 1974، وزاد الدخل القومي حوالي عشرة أضعاف، ثم تم دعم السلع الغذائية الرئيسية، واستمر رفع الأجور الدنيا سنوياً، وزادت مشاريع التعليم، وشنت حملة واسعة لمحو الأمية، وأنفقت مبالغ ضخمة على الصناعات الكبرى ومشروعات الأشغال العامة، مثل خط أنابيب الفاو لخدمة حقل نفط (الرميلة)، إضافة إلى إنشاء خط أنابيب كركوك، وقناة الثرثاء( ).
وتكمن الأسباب الرئيسية في هذا التطور الخدمي، والارتفاع في الدخل القومي والفردي، إلى ارتفاع سعر النفط عقب حرب أكتوبر 1973 إلى حوالي عشرة أضعاف، وكان العراق قد أمم نقطة قبل ذلك، فكانت هذه الفائدة عظيمة للنظام، حيث حدث دعم للنظام من قبل كل فئات المجتمع ؛ بسبب اهتمامه بفقراء المجتمع، وهذا مما أثار التيار الديني الذي أخذ يفقد هيمنته على قطاع كبير من المجتمع، بعد أن أصبحت قطاعات كبرى في المجتمع بعثية، إضافة لسيطرة البعث على الجهاز البيروقراطي للدولة، وبدأت استراتيجية تأليه الحاكم، وتعبئة الجماهير من خلال التنظيمات البعثية، وهذا مما أفقد أيديولوجية الحزب من أي محتوى حقيقي، وصارت عقيدة الحزب مجرد ألفاظ عاطفية غامضة( ).
وبما أن ازدياد أسعار النفط في السوق العالمية، يعتبر أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع الدخل القومي في البلدان النفطية، والتي يعتبر العراق من أهمها، لذلك عمل على تحويل جزءاً كبيراً من هذه الثروة لإنشاء البنية التحتية والأساسية لدعم مشروعات التنمية في جميع المجالات التي ذكرناها سابقاً، إلا أن البعث استطاع بذلك السيطرة على الأصول النقدية والاقتصادية، مدعياً أن التأميم كان نتيجة لجهود البعث، ورفضه الانحناء أمام إرادة شركات النفط، حيث ساهم ذلك في مصداقية ادعائه الثورية والتقدمية في ظل قدرته على توفير الكثير من احتياجات المواطنين( )، أنظر الجدول (3-2).
لكن أدى الانفاق الهائل من جانب الدولة أن أصبحت هي المستهلك الرئيسي للسلع والخدمات، ولما كانت معظم المشروعات في مجالات التنمية تنفذها شركات خاصة محلية أو أجنبية ، فأصبح دور الدولة أنها المحرك لتراكم رأس المال الخاص، وبذلك وفر النظام فرصاً كبيرة للثراء السريع وتراكم الثروة، وأصبح السوق هو العامل الأهم في تقرير السياسات الاقتصادية للنظام( ).
لكن اعتمد رأس المال الخاص على إنفاق الدولة، وأصبح معدل الزيادة في كل من الدخل والاتفاق في المشروعات الصناعية الكبرى للدولة متساوياً، وزادت أعداد الورش الصغيرة، حتى أصبح عدد العاملين في القطاع الخاص أكثر منهم في القطاع العام، ومعظم هؤلاء يعملون في مجال الإسكان بعد أن زادت تصاريح المباني حوالي ثلاثة أضعاف( ).
جدول (3-2) يوضح الناتج الإجمالي والدخل القومي ومتوسط
دخل الفرد بالأسعار الجارية (1967 – 1979)
السنة متوسط دخل الفرد (دع) الدخل القومي بالمليون (دع) الناتج القومي الإجمالي بالمليون (دع)
1967 89.6 754.2 937.7
1968 96.9 840.6 1062.6
169 98.4 956.2 1103.3
1970 103.9 956.9 1197.3
1971 110.9 1081.3 1375
1972 115.8 1166.9 1388.8
1973 135.8 1412.1 1587.5
1974 278.9 3002.5 3347.7
1975 337.2 3750.5 3970.5
1976 387.2 10588.8 4714.2
1979 825.9 10588.5 4714.2
المصدر : ماريوت وبيتر سلوجلت ، مرجع سابق ذكره ، ص 315
في ظل هذا الوضع تشكلت طبقة رأسمالية برجوازية، من خلال دخول كبار موظفي الدولة والرسميين في الحزب، في مجال الأعمال الخاصة، ومجال شراء وتأجير الأرض خاصة في ضواحي العاصمة بغداد، فكانوا قادرين من خلال شركات الاستيراد التابعة للدولة، على أن يشتروا كل احتياجات الري والعدادات والطلمبات، وكانت عوائد الاستئجار بالنسبة لهم مجزية، خاصة إذ ما أخذنا في الاعتبار أن قدراً من رؤوس الأموال المستثمرة تقرضها الدولة بشروط ميسرة، رغم فشل الكثير من هذه المشاريع بسبب صعوبة استخدام المكنات التي توفرها الدولة، نتيجة نقص الخبرة، أو نقص رأس المال بالنسبة للبعض، وهذا ما ساهم في تدهور الزراعة، في ظل هجرة الفلاحين من القرى إلى المدينة وخاصة العاصمة بغداد( ).
وكانت هجرة الفلاحين إلى المدينة قد عاد لعدة أسباب أهمها هي( ):
1- الفجوة بين الريف والمدينة.
2- توافر الخدمات الصحية والتعليمية في المدينة بشكل أكبر من الريف.
3- توافر المساكن الحضرية والمياه النقية.
4- ضعف الإنتاجية الزراعية والاستثمار في الريف.
5- سوء الإدارة والبيروقراطية التي تمت الإصلاحات الزراعية في ظلها.
6- توفر فرص العمل والرغبة في الحصول على دخل أكبر وغذاء أفضل.
وبالفعل فقد كان معدل النمو في المناطق الحضرية هو 6.1%، بينما كانت سالبة في الريف (-2.9) ، وهذا النمو لسكان الحضر أدى إلى زيادة مصاعب السكن التي كانت موجودة أصلاً، فأحدث هذا ازدحاماً سكانياً كبيراً، في بغداد، خاصة في حي مدينة الثورة والشورجي، حتى وصل عدد سكان هذين الحيين إلى ثلث سكان بغداد، كما أن هذه الهجرة قد أدت إلى ارتفاع المساكن في المدينة، وزادت من فرص المضاربة على الأرض والعقارات، وبالتالي ازدهر قطاع البناء والتشييد، لكن صاحب ذلك حدوث اختناقات كبيرة في الصناعة والخدمات المدنية، وزيادة الروتين في العلاقات الإدارية؛ بسبب الخوف من اتخاذ القرارات دون الرجوع باستمرار للسلطة العليا( ).
ولم يستثن النظام المنطقة الكردية في عمليات التنمية والتحديث، فقام بعمليات استثمارية هامة أكثر من أي منطقة أخرى في العراق، ليبين للأكراد أن التعامل مع الحكومة من شأنه أن يعود عليهم بمكافآت مادية كبيرة، ما داموا ملتزمين بموالاته، كما أن تركيز الحكومة على تطوير الطرقات ووسائل النقل والاتصال، يضمن للدولة إمكانية وصول القوات الحكومية إلى جميع أنحاء المنطقة الكردية في المستقبل( ).
لكن رغم زيادة القاعدة الشعبية للنظام بنتيجة الإنفاق والرفاهية على خلفية الارتفاع الكبير لأسعار النفط، إلا أنه استمر القهر ضد الشعب العراقي من قبل النظام، وبالذات من قبل بعض المسؤولين في الدولة، وقد انتقد المؤتمر الثامن للحزب تجاوزات بعض المسؤولين في أجهزة الأمن، بما أساء لسمعة الحزب، بسبب ضعف الرقابة عليهم، وثقة القيادة فيهم( ).
ومن سلبيات هذه المرحلة، ازدياد التبعية في مجال الزراعة والصناعة على الخارج في ظل الاعتماد على قطاع النفط في تنفيذ المشاريع الاقتصادية، حيث استمر الدخل القومي يعتمد على النفط ، حيث وصل هذا الاعتماد إلى 50%، بينما كان قبل عام 1968 الثلث، كما استمر القطاع الخاص يسيطر على قطاعات الزراعة والبناء والصناعة التحويلية والتعدين عدا النفط ، وكما استمر قطاع الخدمات (الإدارة العامة والأمن والدفاع) يعتمد على موارد الدولة، خاصة أنه استمر الانفاق على التسلح بنسبة 40% من موارد الدولة( )، والجدول رقم (3-3) يوضح ذلك.
السنة قطاع الدولة نسبة مئوية القطاع العام نسبة مئوية
1968 24.18% 75.82%
1969 25.59% 74.41%
1970 26.21% 73.79%
1971 25.64% 74.36%
1972 34.78% 65.22%
1973 50.59% 49.41%
1974 71.5% 28.5%
1975 76.5% 23.27%
1976 78.2% 21.9%
1977 80.4% 19.6%
1978 77.6% 22.4%
1979 74% 25%
جدول يوضح بالنسبة المئوية للقطاعين الخاص والعام خلال فترة البكر
المصدر عصام الخفاجي، مصدر سابق ذكره، ص26 ورقم الجدول (1).
وكان من آثار زيادة التبعية للشركات النفطية المستوردة للنفط وهي بالذات الشقيقات السبع، أن قرار زيادة الانفاق الحكومي، لم يعد يعتمد على الدولة بقدر اعتماده على قرارات الشركات السبع، وبقدرة السوق العالمية على استيعاب النفط المصدر، ومنذ ذلك الوقت أخذت الحكومة تحدد توزيع عوائد النفط حسب نسب تتراوح بين (50-70)% للإنفاق الاستثماري، والباقي يتجه لتمويل إنفاق الميزانية الاعتيادية التي تشمل الإنفاق الجاري، وعلى هذا الأساس أصبحت الدولة تتحكم بأكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي، وبأكبر مصدر للفائض الاقتصادي المتولد في المجتمع ، وهذا يؤكد أن الطبقية في المجتمع قد ارتبطت بالدولة خلال فترة حكم البكر، خاصة أن قطاعي الزراعة والصناعة أصبحا يعتمدان على قطاع المقاولات الأجنبي الذي شكل حوالي 90% من القطاع الخاص، وأصبح يهيمن على الاقتصاد وأصبحت قراراته ووجهة نشاطه محددة لنشاطات القطاعات الأخرى، وهذا مما أدى لتكوين برجوازية جديدة في المجتمع( ).
كما برز الصراع الطبقي في المجتمع العراقي بسبب عامل أخر هو قلة عدد المتعلمين في صفوف الشعب، حيث شكل حملة الشهادات ما فوق الثانوية أقل من 19%، بينما الحاملون على الشهادة الثانوية حوالي 81% من نسبة المتعلمين، وهذا مما أثر على دخول الأفراد التابعين لقطاع الدولة، والذين شكلوا مع قطاع المؤسسة العسكرية، حوالي 18% من نسبة العاملين، فحصلت فجوة في دخول موظفي الدولة بحسب مؤهلاتهم العلمية( ).
كما استمرت الطبقية في مجال الزراعة رغم تشريع قانون جديد للإصلاح الزراعي، تضمن تحديد الحد الأعلى للأراضي المروية بـ40 دونم، وهذا ما آثار بعض كبار مالكي الأكراد، ورؤوا أن هذا القرار هو محاولة من النظام من أجل تبعيث المنطقة الكردية وتغيير ديمغرافيتها، وهذا ما جعلهم يتحججون ببعض الحجج لمنع الاستيلاء على أراضيهم( ).
وقد أساء بعض المسؤولون للوحدة الوطنية في عملية الاستيلاء على الأراضي ، من خلال التأكيد على مصادرة الأراضي للخصوم السياسيين ولم تشمل هذه المصادرات أصدقاء النظام، بل كانوا يعطون الكثير من عطايا النظام، خاصة بعد أن أصبحت الدولة هي المالك الأكبر للأراضي بعد الاستيلاء على الأراضي الزراعية بسبب قانون الإصلاح الزراعى ، وبالتالى أخضعتها لسياستها الاقتصادية من خلال مشاريع الري الحديثة ، ومن خلال توزيع الأسمدة ، وتنظيم المحاصيل وأولويات التسويق ، وجعل الاستفادة للموالين للنظام ، كما استفاد المقربون من السلطة من توزيع عقود الايجار على أتباع مختارين ومن ثم توسيع شبكات عملائهم عبر الوصول الى أراضي تسيطر عليها الحكومة بشكل رئيسى ، وهذا أدى الى استفادة أشخاص هم أساساً من الملاك ، حتى أصبح ثلث الأراضى الزراعية فى العراق في أيدي 3% من الملاك المؤيدين للنظام ، ويدينون بثرواتهم وسلطتهم للنظام معترفين به ومعبرين عن تقديرهم له ، وهذا ما زود النظام بأداة للسيطرة على المجتمع ضد الفصائل الأكثر راديكالية( ) .
كما كان ترخيص بعض الشركات في مجال المقاولات يعتمد على مؤيدي الدولة من رجال الأعمال ، مستخدمة مبدأ المحاباة في ذلك حتى أن رخص الاستيراد والتجارة الخارجية خضعت لأجهزة الدولة المختلفة ؛ التي سيطرت على الاتحادات العمالية التي أعيد تنظيمها بعد حركة البعث العام 1968 ، وبناء عليه تم تشكيل طبقة اقتصادية تابعة للدولة تدين بوجودها لاستمرار السلطة القائمة ( ) .
أيضاً حدثت تبعية غذائية في العراق ؛ بسبب عدم قدرة الزراعة والصناعة على الوفاء بالتزامات الأمن الغذائي للشعب العراقي ، حيث شكل (80-90 ) % من المساحات الغذائية للسكان منتجات مستوردة وازدادت أسعارها إلى اثنى عشر ضعفاً ما كانت عليه قبل حركة 1968، وعلى هذا الأساس لم يعمل النظام على تحقيق الاكتفاء الذاتي بل أن سياسته أدت إلى زيادة التبعية الغذائية للخارج ، كما أن أولوية الاستيراد أعاقت التوجه نحو الصناعة الوطنية وشجعت على الهجرة من الريف إلى المدينة طلباً لأجور المدن الأعلى ، كما جاء ارتفاع سعر العملة ليوضح تقارير المنحنى الاستيرادى ، الذي أخذ يمنع إنماء مرتكزات محلية لاقتصاد وطني ، وتوسعت البيروقراطية الإدارية في كل مناحي الحياة( ).
وعلى هذا الأساس صارت نسبة سكان الريف 31% في نهاية حكم البكر؛ بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة ، وهذا ما أدى إلى ترييف المدينة وإلى تمزق نسيج تلاحمها التقليدي ، أما الريف فضربه الإفقار والتفريغ من سكانه ، فخلال هذه الفترة كانت نسبة النمو السكاني فيه سالبة ، وبلغت 2.9% ، بينما وصلت نسبة سكان بغداد إلى ثلث سكان العراق عام 1977 ، وبذلك تشكلت مدن الصفيح البدائية من الطين والقصب ومعظمها على امتداد الأنهار والقنوات ، أما البلدان المتوسطة فتم انتفاعها بخدمات محدودة جداً ( ) ، وبقي النظام بدون استراتيجية في الاقتصاد واعتبر الجزم بالأرقام التي تتصل بالاقتصاد العراقي جريمة يعاقب عليها القانون ، على أساس أنها تمس بالأمن القومي للدولة ( ).
وقد بلغت نسبة المنحدرين من الأرياف في عهد البكر 75% ، وكانت هذه الفئات التي امتلكت السلطة شديدة القسوة تجاه الطبقة العاملة وحركتها السياسية، كما أنها لم تستطع القضاء على نسبة البطالة رغم زيادة إنتاجية رأس المال بنسبة تساوى (70-78)% ( ) ، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثانية إلى الضعف ، وارتفاع الحصة النسبية لقطاع الدولة إلى 75% ، وهذا ما ساهم إلى حد ما في حدوث بعض التقدم في الخدمات الصحية والتعليمية في المناطق الريفية ، وان كانت هذه الخدمات مصاحبة لسيطرة الدولة على الريف ونشر مبادىء البعث فيه .
ورغم صدور قانون إلغاء تعويض الملاك الذين يستولى على أراضيهم بموجب قانون الإصلاح الزراعي الجديد لعام 1969 ، وارتفاع معدل النسبة المئوية السنوية لنفقات التنمية المخصصة للزراعة ، بسبب ارتباط هؤلاء بالسلطة الحاكمة كما ذكر سابقاً ( ) والجدول التالى (4-3) يوضح ذلك .
حجم الملكية النسبة المئوية لمجموع المساحة النسبة المئوية للملاك
من (5-25) فدان
من (25-75 ) فدان
أكثر من 75 فدان 32.2%
36.5%
31.3% 79.6 %
17.7 %
2.7%
جدول رقم (4-3) حجم وتوزيع ملكية الأرض
المصدر :( ماريوت وبيتر سوجلت) مرجع سابق ذكره
ص202 ، ورقم الجدول (4-4)
إلا أن هذا لا يعنى أن الدولة لم تهتم بالفلاحين المعدمين فقد قررت السلطة منذ عام 1972 إصدار قانون خاص للفلاحين الأكراد المتخلفين عن تسديد ديون المصرف الزراعي ، بسبب حرب الشمال ، بحيث بمنحهم سلفاً إضافية جديدة دون التقيد بالحد الأعلى لمبالغ التسليف ، بحيث تكفي السلفة الإضافية لتسديد ما بذمتهم وتمكينهم من معاودة نشاطهم الزراعي مرة ثانية( )
وعلى أثر تأميم العراق لشركة نفط العراق (أي بي سي ) قام بعض المعارضين لذلك بأعمال عنف في منطقة سنجار، فتشكلت محكمة خاصة في الموصل للنظر في هذه القضية وقد اتهم عدداً من أعضاء البارتي ، ثم تم اغتيال مدير إحدى نواحي سنجار مع رجال الأمن ، كما اغتيل قائم مقام سنجار إضافة لبعض العسكريين ( ) ، ورغم ذلك أصر العراق على معالجة الأزمة التي تعرض لها ؛ بسبب التأميم فدعى للتقشف وقلل من نسبة الواردات الخارجية ، لكن على إثر اندلاع حرب أكتوبر ، تصاعدت إيردات الدولة نتيجة ارتفاع سعر البرميل من ثلاثة دولارات الى 11.5 دولار ، وهذا جعل الحكومة العراقية تستحوذ على كامل عائدات النفط وارتفع سعر الدينار العراقى من 2.18 فى بداية عهد الثورة الى 3.38 عام 1969 ، ويوضح الجدول (5-3) تزايد إيردات النفط .
الجدول (4-5) يمثل إيردات النفط العراقي
السنة ايرادات النفط (مليون دولار) عدد السكان
1968
1970
1972
1974
1976
1978
1980 0.203
0.213
0.219
1.7
3.1
3.7
8.9 8.9
9.4
10
10.8
11.5
12.4
13.4
Government of Iraq, Annual Abstract of Statistics : OPEC, Annual Statistictical Bulletin , Central Book of Iraq Annual Report , International Monetary Fund, International Statistics Year Book , United Nations , Accounts Static's , Analysis of Main Aggregation 1980-1985 , New York , 1991
هذا الارتفاع في إيردات النفط ، وتوافر احتياطي ضخم من النفط حذا بالحكومة بأن مصلحة البلد تستلزم بناء صناعة وطنية متكاملة بعد نجاح الشركة الوطنية للنفط من إنتاج وتسويق النفط المستخرج من الحقول المشمولة بالقانون رقم 80 لعام 1961 ، وهذا أدى إلى تطوير القطاع النفطي ، وتسخير الثروة النفطية لاستخدامها دعامة أساسية للاقتصاد الوطني ، وللتنمية الاقتصادية في ظل زيادة الإنتاج النفطي من مليون برميل يومياً في بداية حركة 1968 إلى 3.5 مليون في نهاية عهد البكر( ) ، وهذا ما حذا بالحكومة إلى الاهتمام الكبير في جميع القطاعات الخدمية مما شكل دعامة جماهيرية واسعة للنظام من قبل الكثير من أبناء الشعب ، خاصة إذا ما عرفنا الدعاية الواسعة للنظام بأنه السبب في هذه الطفرة النفطية والاقتصادية في الزراعة والخدمات وبناء المصانع وتوسيع مساحة الأراضي الزراعية( ) ، وبناء جيش قدير وتجهيزه بأفضل الأسلحة ، والعمل على توحيد كافة الطوائف في بوتقة واحدة بعيداً عن النزاعات والحركات القبلية والعرقية والدينية ، ومحاولة إرضاء الأكراد وتلبية مطالب الشيعة والتركمان في مقابل الولاء للنظام( ) ، وقد اتبع النظام استراتيجية توظيف الحقد الشعبي تجاه البرجوازية التقليدية والإقطاع والمصالح الأجنبية لصالح برنامجه السياسي، بعدما استأصل رجال العهد العارفي بالسجن والإبعاد ، وقد تضمن برنامجه السياسي التطور تجاه الرأسمالية تحت واجهة بناء الاشتراكية ، من خلال هيمنة الدولة على علاقات الإنتاج في المجتمع من خلال تمركز القرار الاقتصادي وتوجيه الفائض المتولد ، والقوى المنتجة ، بعدما وصلت احتياطات العراق بالعملة الصعبة حوالي 33 مليار دولار ، وهذا ما جعل الميزان التجاري إيجابياً ، رغم المشاريع الضخمة التي نفذها النظام في مجال التنمية السياسية والرسمية والإعلامية( ) ، والتي كانت تشير إلى انتقال المجتمع نحو الاشتراكية ، وحتى أن مجلس قيادة الثورة العراقي أصدر قراراً يقضي بتنمية قطاع الدولة (العام) ، بالقطاع الاشتراكي ثم أخذ بعد ذلك يحل محلها تعبيرات أخرى ، مثل ثورة الطريق الجديد ، والطريق الخاص ، والازدهار الاقتصادي ، والقوة الاقتصادية ولم يعد الإعلام أو الدعاية يشيران إلى كلمة الطبقات الاجتماعية ، واستبدالها بكلمة الشرائح الاجتماعية للدلالة على تقسيمات وظيفية في صفوف الشعب غير القابل للانقسام ، مع اتخاذ مواقف توحي بأن الدولة خلقت الطبقة المسيطرة حالياً من فراغ ، وأن إرادة الدولة وقادتها هم وراء ما تم إنجازه ، وإنهم ممثلين للمصلحة الجماعية ، والدولة على هذا الأساس هي عامل تماسك للتشكيلة الاجتماعية وعامل إعادة إنتاج شروط النظام الذي يحدد سيطرة طبقة على أخرى( ).
وهناك عدة أسباب دفعت العراق للتوجه نحو الرأسمالية أهمها( ) :
1. وجود تطوير موضوعي سابق للرأسمالية .
2. زيادة قوة الدولة وتعاظم الموارد في أيديها .
3. وجود وضع دولي مناسب لتجارة المادة الأولية الأساس الذي يعتمد عليها العراق وهى النفط .
وقد مثلت القيادة السياسية الصاعدة بعد عام 1968 ، العملية الملائمة لدفع هذه الاتجاهات حيث تولى البعث السلطة السياسية واعتبر نفسه ممثلاً لكل الجماهير العراقية وكان القصد من ذلك هو توحيد التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية ، وخلق دولة مركزية موحدة من خلال إقامة سوق وطنية موحدة لا تعترف رسمياً بالطائفية والعشائرية والاثنية ، وتركز على صفتين فقط هما العربي والعراقي .
وبالرغم من أن القيادة السياسية ظلت مفصولة عن البرجوازية الصاعدة إلا أن هذه المرحلة أتاحت بروز وسيطرة هذه البرجوازية بشكل أكبر؛ بسبب ظهور قطاع المقاولات الخاص المحلى والأجنبي الذي هيمن على النشاط الاقتصادي وحركة السوق ، وكانت الدولة أكبر المستثمرين من البرجوازية المحلية ، كما أدى ذلك إلى اختلال في أسعار الموارد وعوامل الإنتاج وتهميش للزراعة وتدهورها ، وأصبح هناك تناقض اقتصادي بين السلطة الاقتصادية والبرجوازية الصاعدة حيث أن قرارات الدولة لم تعد قادرة على التحكم بالواقع الموضوعي ما لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح البرجوازية وقراراتها ، وهذا ما أدى إلى تغيرات متلاحقة في القيادة السياسية للدولة خلال هذه الفترة ( ) ، وما يثبت ذلك أن بعض رجال الأعمال طالبوا بأن يكون لهم نقابة خاصة برجال الأعمال ، لكن الدولة رفضت ذلك حتى لا يثبت أنها تسير نحو الطبقية والرأسمالية ، رغم حقيقة هذا الأمر ، لكن تشعب كوادرها الحزبية من خلال منظمات الحزب ، ونقابات العمال والنقابات المدنية والطلابية ونقابات المعلمين والجمعيات الفلاحية ونقابات الأطباء والمهندسين والمحامين ( ) وغرفة التجارة والاتحاد النسائي ، هذا التشعب جعل قرارات الدولة ودعايتها تسيطر على الفئات الشعبية الدنيا وتضعف نقدها للنظام .
وقد حاولت بعض الأحزاب الدينية إضافة إلى الحزب الشيوعي ، نقد هذا الوضع بسبب ما لحق رجال الدين الشيعة – بالنسبة للأحزاب الدينية – من مصادرة لأموالهم وترحيل التجار الشيعة ذوى الأصول الإيرانية ، حيث كان المجال التجاري للشيعة هو المجال الأهم بالنسبة لهم( ) ، أما الحزب الشيوعي فقد انتقد تحول العراق من عقد اتفاقياته مع الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية إلى عقد اتفاقيات جديدة مع العالم الغربي( )، إضافة لنقده لازدياد الفوارق الطبقية بسبب إجراءات الحكومة لصالح بعض المحسوبين على النظام من متعهدين ومعاونين في إطار خطط التنمية وما رافق ذلك من تحول كثير من أصحاب الصناعات اليدوية إلى عمال لدى الآخرين ؛ بسبب عدم قدرة صناعاتهم على المنافسة مع الصناعات الفردية المستوردة ، خاصة أن بعض المسؤولين قد استفاد من نزوح بعض هؤلاء من الريف إلى المدن حيث رأى فيهم عزوة لهم ، إذ كانوا ينتمون لنفس قبيلته أو عشيرته ، وبذلك يستطيع من خلالهم أن يصعد في المراتب العليا في الدولة وخاصة في الجيش ، وهذا ما عرَّض الشيوعيين للاضطهاد في خريف 1976 ، ورغم تدخل الاتحاد السوفياتي لحل الأزمة إلا أن النظام اعتبر هذا تدخلاً في شؤونه الداخلية ، وزادت شكوكه لولاء الحزب الشيوعي له( ) .
وبالرغم من ادعاء البعض أن النظام كان يحابى طائفة محددة على حساب طوائف أخرى إلا أن هذا الادعاء غير صحيح عملياً فرغم عشائرية النظام ومحاباته لصالح عشائر معينة ، إضافة إلى محاباة بعض المسؤولين في الدولة لصالح عشائرهم ، شأنهم شأن الكثير من الدول النامية إلا أن النظام منذ بدايته قام بحملات اعتقالات لرجال أعمال من ممثلي الشركات الغربية إضافة لعدداً من الوزراء والموظفين المدنيين السابقين ومعظمهم من المثلث العربي السني الممثل ببغداد والموصل وتكريت ، إضافة لمنطقة الفرات ومعظمهم من السنة أيضاً ( ) ، لكن هذا لا يعني أنه عمل على إقامة طبقة جديدة ، تتسم بالعشائرية لأن الكثير ممن أثروا خلال هذه الفترة من طوائف وأعراق أخرى ، وخاصة من الشيعة والأكراد الذين كانوا يوالون النظام ويتحمسون له .
ثانياً : دور الجيش في الوحدة الوطنية
منذ ما قبل حركة البعث في 17 يوليو 1948 كان للبعث قواه الشعبية التي عمل على الاحتفاظ بها وتنميتها مستفيداً من تجاربه السابقة ، كما كان له تنظيم سري يوازيها في القوات المسلحة ، إضافة إلى تحالفات قوية فيها وقد كانت قيادة البعث تبحث عن الظروف المناسبة لاستعادة السلطة .
واستطاع أمين القيادة القطرية لحزب البعث في العراق اللواء المتقاعد أحمد حسن البكر أن يعقد تحالفان سرية مع أهم أعوان رئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف ، وكان أبرزهم قائد الحرس الجمهوري إبراهيم عبد الرحمن الدواد ، وآمر سلاح دبابات القصر الجمهوري سعدون غيدان ، وقائد حامية بغداد اللواء حماد شهاب ، بيد أن الدواد أخبر نائب قائد الاستخبارات العقيد عبد الرازق النايف بالخطة على أمل تعاونه معهم ، وقد اضطر البكر للموافقة على اشتراك النايف خوفاً من فشل الخطة بعد أن تسربت له وهدد بإفشالها ؛ إذا لم يشترك وتكون له رئاسة الوزراء ، وبعد نجاح الحركة في 17 يوليو حصل النايف على رئاسة الوزراء والدواد على وزارة الدفاع ، أما البعثيون فهم البكر لرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة ، وحردان التكريتى لقيادة الأركان ، وصالح مهدى عماش لوزارة الداخلية وانضم سعدون غيدان للحزب ، وأصبح أمراً للحرس الجمهورى ، وحماد شهاب ظل آمراً لحامية بغداد ، بعد ذلك برز الصراع بين مجموعتي النايف والبكر ؛ بسبب أن النايف أخذ يصرح بتصريحات فيها تناقض في نظرية البعث الاشتراكية ويعمل على التقارب مع الحركة الكردية واعداً البارتي بوعود شتى ، على أمل مساعدته في الانفراد بالسلطة مع أعوانه وأهمهم وزير الخارجية ناصر الحاني ذو الميول الغربية ، وباختصار حاول أن يلعب لعبة عبد السلام عارف فيتحالف مع البعث ثم يزيحه عن السلطة ( ) .
وعلى هذا الأساس لم يكن هناك بد من إسقاط شركاء البعث في السلطة وجعلها بعثية خالصة ، فتم إرسال الدواد بمهمة رسمية لتفقد القوات المرابطة في الأردن في 29 يوليو 1968 ، ثم دعي النايف لاجتماع مع البكر في نفس اليوم الذي بعث فيه الداود ، حيث تم القبض على النايف وإبعاده إلى الخارج على متن طائرة ، وأرسل البكر إلى قائد القوات المرابطة في الأردن أن يكون الدواد رئيساً للبعثة العسكرية ويبقي هناك .
بعد ذلك تم الإعلان عن سقوط النايف وتشكيل حكومة جديدة برئاسة البكر، الذي أوضح أن اشتراك النايف في الحركة كان وليد ظروف طارئة ، وليس نتيجة توافق سياسي أو تنازل من البعث عن سياسته القومية ، وعلى هذا الأساس أصبح الحكم كله بعثياً منذ 30 يوليو 1968( ) .
وقد اتهم البعث عقب حركته ، أن عبد الرحمن عارف مسؤول ضمنياً عن هزيمة يونيو 1967 ، وبرر انقلابه بأن هناك عناصر رجعية تريد السيطرة على الحكم ، وإذا ماكتب لها ذلك ، فسيؤدي ذلك إلى انقسام الجيش ، وقيام حكم ديكتاتوري قاس ، وهذا قد يؤدي لانهيار حزب البعث ، وقد كان البيان الاول للانقلاب قد وعد بالسلام في كردستان وتحقيق العدالة الاجتماعية وخدمة الشعب، رغم أن أسباب الانقلاب بالنسبة للنايف والدواد تختلف عن هذه الأهداف ، فالنايف يتسم بالانتهازية وذو أطماع سلطوية ، وما يؤكد ذلك اشتراطه الحصول على منصب رئيس الحكومة ، وبالنسبة للدواد فقد كان ذو ميول إسلامية ويتخوف من عودة الضباط الناصريين إلى الجيش ، بعد أن أفشل إحدى انقلاباتهم ضد عارف . وهو ماعرف بانقلاب العقيد (عارف عبد الرزاق) فكان تخوفه من رجوعهم وانتقامهم منه ، إضافة لعدم رغبته بالاشتراكية التي يتبنونها ، أيضاً كان تخوف البعث من الاعتماد على ضباطاً غير بعثيين في السلطة أو اشتراكهم فيها ، بعد التجربة السابقة التي التى مروا بها عام 1963 جعلهم يؤثرون إبعادهم بأي وسيلة كانت ( ) .
وقد تجلت سلبية الجماهير في هذه الحركة أنها رأت أنه لم يكن هناك مبرر للانقلاب مادام الانقلاب لم يحقق ما أورده في بيانه الأول مثل عودة الحياة الديمقراطية ، وإتاحة الفرصة للجميع ، وسيادة القانون ، فكان استبدال رئيس الحكومة طاهر يحيي بالنايف ، والرئيس عارف بالبكر ، لم يحقق لها شيئاً ، ورأت أن الوصول إلى السلطة صادر من خلال سيطرة مجموعة من الضباط المتنافسين خاصة أن أيديولوجية البعث تبرر الوصول للسلطة من خلال القوة على أساس أن أعضاء البعث هم صفوة الأمة ، وأن استعمالهم القسوة ضد الآخرين هو من أجل إعادتهم إلى الطريق الصحيح الذي يجهلونه ، وعلى هذا الأساس قام ضباط البعث بحركة 30 يوليو 1968 ، ولم تلق حركتهم هذه أي نوع من المعارضة من قبل العناصر المشاركة في الحكومة ( ) .
وبعد هذه الحركة ( 30 يوليو ) تم تبعيث القوات المسلحة وقيادة الأركان إضافة إلى الإدارات الحكومية الأخرى ، لدرجة أنه لم تعد تخلو وظيفة من دوائر الدولة من أن يكون الموظف ينتسب لحزب البعث إضافة للمنظمات الجماهيرية( ).
وبعد سقوط كتلة النايف إثر حركة 30 يوليو كانت هناك ثلاث كتل عسكرية متنافسة على الحكم وهي : ( كتلة البكر ، كتلة حردان التكريتي، وكتلة صالح مهدي عماش ) ، وبسبب التنافس بين حردان وعماش أضعف كل واحد منهم الآخر لصالح كتلة البكر ، الذي استغلها لعزل الاثنين من مناصبهما وتعيينهما سفراء في الخارج إلا أن حردان التكريتى أخذ ينقذ الحكم في الخارج وألف مذكرات ادعى فيها الكثير من الأقاويل التي تسيء لنظام البكر ، فتم اغتياله في الكويت عام 1971( ) ، أما ضباط العهد العارفي فقد تم التخلص منهم إما بالإبعاد أو السجن أو الإعدام فحكم على إبراهيم قيس الأنصاري الذي كان يشغل قيادة الأركان بالسجن اثنى عشر عاماً ، وسجن اللواء عبد العزيز العقيلي وأعدم ، كما سرح بعض الضباط البعثيين الموالين لسوريا مثل عبد الكريم مصطفى نصرت ، ومن ثتم تم اغتياله وكان السبب في ذلك لعلاقته بالقيادة القطرية للبعث في سوريا ، كما سرح العديد من الضباط الآخرين ( ) .
وقد آثر نظام البكر دمج العشائر العراقية عبر الجيش وقوى الأمن حيث تعددت وسائط الدمج ما بين المكتب العسكري للحزب وبين مكتب العلاقات العامة ، وهو بمثابة جهاز الأمن القومي ، إضافة إلى لجنة العشائر التي أنشأتها القيادة القطرية عملاً بتوجيهات البكر ، وتركز نشاطها في المناطق الحدودية مع سوريا حيث التداخل العشائري وتهريب السلاح وتسلل الأفراد( ) .
كما تشكلت وحدات الحماية وهو مؤسسة متفرعة عن جهاز الأمن الخاص التابع لحزب البعث ، إلا أن معظم أفرادها كانوا من التكارتة والمناطق المحيطة بهم فكان يؤتى بواحدهم وهو في الخامسة عشرة من العمر ، فتتولى السلطة أموره المالية ، وتشرف على زواجه وتأثيث بيته ، وذلك على غرار الجيش الانكشارى في العهد العثماني ، وهؤلاء يغدو ولاءهم للنظام فقط بعد عزلهم عن المجتمع الذي أوجدهم ، ويتم إخضاعهم لدورات عسكرية مكثفة تنمى القسوة فيهم ، ويعيشون في تجمعات عائلية مغلقة ، فيها أماكن للتمتع والترفيه ، وأسواق معزولة ولا يبارحون أماكنهم ومساكنهم إلا في مواكب سيارات معتمة الزجاج ، تسير في الشوارع بسرعة مذهلة ، فيما الرشاشات بادية من نوافذها جاهزة لإطلاق النار على كل من يقطع طريق الموكب ، وعادة ما تخلوا الطرقات من المارة لدى عبور هذا الموكب فهي تشبه مليشيات الحروب الأهلية( ) .
كما عمل البكر على تأمين مركزه من خلال بناء جهازه الأمني الخاص به برئاسة قريبه صدام حسين ، وأداته في ذلك حزب البعث وفى نهاية عام 1970 أعلن عن إعطاء ثلاثة آلاف رتبة عسكرية جديدة وبالرغم من أنهم ليسوا عسكريين ، إلا أن إعطائهم هذه الرتب كان لكسب ولاءهم ، وقد جعل قائدهم نائبه صدام حسين الذي لم يكن حتى ذلك الوقت يحمل رتبة عسكرية ، لكن استطاع صدام حسين من خلال سيطرته على مكتب الأمن الوطني التابع لمجلس قيادة الثورة ، وهو جهاز الأمن الخاص بالبكر، تعقب حركة المعارضة السياسية والدينية من خلال مدير الأمن اللواء ناظم كزار إضافة لمسؤوليته عن ميليشيا البعث المسماة (الحرس الوطنى) أو (كتائب الفداء) وبذلك استطاع النظام تسخير الجيش والأمن لاستمرار سيطرة البعث على السلطة ( ) .
أيضاً كان إبعاد كل من حردان التكريتي وصالح مهدي عماش عن مجلس قيادة الثورة وعن نيابة رئاسة الحكومة كونهما كانا نائبين للبكر ف نوفمبر 1969، ووضع كل من حماد شهاب وسعدون غيدان مكانهما ، إضافة إلى حملة تنقلات واسعة في الجيش قد قوى من سلطة البكر داخل الجيش من خلال إبعاده لمنافسيه على الحكم ( ).
ثم عهد لأحد المقربين من السلطة وهو طه الجزراوي والذى اتخذ تسمية طه ياسين رمضان بعد ذلك ، عهد اليه بتشكيل الجيش الشعبي على أساس أنه سيكون من أجل الدفاع عن الثورة والبعث والجماهير( ) ، لكن عملياً كان هذا الجيش لإسقاط أي محاولة انقلابية يقوم بها أحد أفراد الجيش النظامي ؛ لأنه قد زود الجيش الشعبي بجميع المعدات العسكرية التي تجعله قادراً على مواجهة أي قوة عسكرية تحاول الإطاحة بالنظام حتى أنه قد ضوعف أفراد الجيش الشعبي عام 1976 ، وزادت فرص العمل في الأجهزة الأمنية ( ) وأصبحت المليشيات البعثية – الحرس الوطني– منظراً مألوفاً في المظاهرات والإضرابات تعتقل وتضطهد المشاركين فيها( )
وبعد ذلك أعلن البكر أن مسؤولية قيادة الجيش وتوجيهه سياسياً تقع على عاتق مجلس قيادة الثورة وحده ، وأنه لا حزب سوى البعث سوف ينفذ أي نشاط سياسي أو تنظيمي داخل القوات المسلحة ، ولا مكان لغير أعضاءه فيه وفى مجلس قيادة الثورة التي تعتبر الجهة العليا لصنع القرار ، ورغم ذلك فقد أيد الشيوعيون ذلك وقرروا أن ميثاق الجهة الوطنية القومية هو أساس التعاون بينهم وبين البعث ، لكن ما لبث الشيوعيون أن أصبحوا يقومون بنشاطات داخل القوات المسلحة ؛ مما حذا بالبعث إلى سجن وإعدام قسماً منهم ثم أعلن البكر وفق مرسوم جمهوري بمنع كل النشاطات السياسية غير البعثية في القوات المسلحة بما فيها قراءة الصحف الشيوعية ، وأعلنت صحيفة الثورة أنها ستطال كل من يحاول اختراق القوات المسلحة( ).
كما رأى أحد منظري حزب البعث وهو طارق عزيز ، ضرورة تسخير القوى العسكرية لأهداف وأغراض السلطة في قمع عناصر المعارضة الداخلية ، والعمل من محور آخر على تسليط تلك العناصر العسكرية على بعضها البعض بما يخدم أمن النظام الحاكم ، بغض النظر عن أي اعتبارات حتى يطمئن النظام إلى استقطاب دعائم حكمه بدون منازع ، وبالفعل فالجيش العراقي قد تم استغلاله من قبل النظام ، حتى أن بعض أفراد الجيش أخذوا يشعرون بالدونية أمام قادة النظام الذين يملكون إمكانية تحريكه كيفما يشاءون ، وهذا ما دفع البعض من قطاعاته وفصائله إلى التذمر والتمرد ( ) .
وفى ذلك يرى البعض أن البعث قد استطاع ابتلاع الجيش وجعله تابعاً له حتى أصبح التكريم والتبجيل والثناء من قبل المثقفون العراقيون وقيادة الحزب والحركات السياسية تنهال على الجيش العراقي، رغم أن هذا الجيش هو الذي ثبت الحكم الديكتاتوري وأبعدهم عن امتلاك حق التعبير وامتلاك الثقافة( ) ، بالرغم من ادعاء البكر أن هذا الجيش قد بني بناءاً قومياً وطنياً ، وتشبع بالقدرات العسكرية والفنية ، بما يحقق روح العلاقات الوطنية والعلاقات العسكرية الأصيلة( ) ، وما يدحض هذا الادعاء أن النظام أسس دورة لتخريج الضباط من البعثين مدتها ثلاثة أشهر فقط عام 1969 , كان يتخرج منها الشاب وهو لا يعرف من أمور الجيش إلا كيف يتجسس على تحركات الضباط الكبار , وأمرت قيادة البعث كل الضباط بالتقيد بأوامر أفراد الحزب فقط ( ) .
وما يؤكد أن الجيش ظل موضع تنافس هو المحاولات الانقلابية المتكررة ضد النظام أو الحركات والانتفاضات التي نددت به وحاربته، ففي يناير 1970 أعلن عن اكتشاف مؤامرة انقلابية لها علاقة بإيران الشاه من خلال أحد ضباط العهد العارفي الذي كان قد شغل عدة مناصب في ذلك العهد ، وهو اللواء عبد الغنى الراوي ، فتشكلت محكمة خاصة برئاسة مدير الأمن ناظم كزار وأعدم اثنين وأربعين متهماً( ) ، لكن مالبث أن قام ناظم كزار بمحاولة انقلابية ، أثناء زيارة البكر لبولندا حيث اعتقل كل من وزير الداخلية سعدون غيدان ، ووزير الدفاع حماد شهاب ، وبعث بعض أتباعه لاغتيال البكر حال عودته إلى مطار بغداد ، لكن تأخر الطائرة التي كانت تقل البكر أشعر أتباعه أن المؤامرة قد كشفت فلاذوا بالفرار وهرب كزار ومعه الرهائن إلى الحدود الإيرانية طلباً للنجاة ؛ واشتراط على النظام شروطاً عديدة لكن النظام رفضها ، ومنها مفاوضته في منزل عبد الخالق السامرائي ، رغم أن السامرائي لم يكن له أي علاقة بالمؤامرة وعندما رأى أنه لا فائدة ترجى من التفاوض استمر بالسير نحو الحدود الإيرانية ، بعد أن قتل وزير الدفاع الفريق حماد شهاب . وأصاب الفريق سعدون غيدان إصابات بالغة ( ) ، وعلى إثر فشل هذه العملية عمل النظام على استغلالها في التخلص من كل من يشك في ولاءهم له ، فتم إعدام ثلاثين ضابطاً من كبار الضباط بمن فيهم رئيس المكتب العسكري لحزب البعث وعلى أثر ذلك برز بعض الضباط ذوي القرابة من بعض رموز السلطة مثل سعدون شاكر وبرزان التكريتى الذى تسلم تنظيم أجهزة الدولة( ) .
وفى إطار تحليل الانقلاب الفاشل لكزار ، فشأنه كقاتل محترف ، يتسم باللاأخلاقية ، وعاشق للتعذيب ، ومصاب بمرض السادية مما أثار أعضاء القيادة القطرية في حزب البعث ، الذين طالبوا بإبعاده تخوفاً من ذلك ، لما سيؤدى به من قضايا فيما لو أبعد عن منصبه ، لذلك كان يرفض التقارب مع الشيوعيون أو البارتي حتى يبقى النظام بحاجة لمجهوداته ، وهذه من الأسباب التي جعلته يقوم بانقلاب ( ) .
لكن مما يؤخذ على الرئيس أحمد حسن البكر أنه وضع كل الأجهزة الأمنية قي يد مقربيه ، وخاصة قريبه صدام حسين مثل الجهاز الخاص وهو جهاز الأمن التابع للحزب ، وجهاز أمن الرئاسة ، وجهاز أمن الدولة الذي يرأسه ناظم كزار، إضافة لسيطرة مليشيات الحزب – الحرس الوطني – على الشوارع والمدن وخاصة بغداد وكل ذلك ليعطى الانطباع أن النظام يتمتع بشعبية واسعة ، خاصة بعد موجة الاعتقالات التي طالت كل من ينتقد النظام – واتهامهم بالتجسس والعمالة ، ونقل المحاكمات على شاشات التلفزيون ، وهذا ما جعل الشعب يتخوف من النظام وينقاد إليه كيفما يشاء ( ).
ورغم أن البكر كان ضابطاً نموذجياً يهتم براحة أتباعه ، وقادر على إيجاد روابط مع زملائه الضباط ، ويستعمل الخطاب الراديكالي البعثي كلما اقتضت الحاجة ، إضافة لقوميته العروبية الطاغية ووعيه لتمايزات المجتمع العراقي ، العرقية والمذهبية على وجه الخصوص، إلا أنه عشائرياً إلى حد كبير ، حيث وضع أبناء عشيرته في مراكز حساسة ( ) فعلى سبيل المثال منح رتبة فريق لقريبه صدام حسين عام 1976 رغم أن صدام حسين كان مدنياً ، وهذه من الأسباب التي أدت لزيادة قوة صدام حسين ، حيث أعلن بعد ذلك عن مضاعفة عناصر الجيش الشعبي الذي كان في يد أحد مقربيه وهو طه ياسين رمضان ثم عزز سيطرته على الحزب بزيادة عدد أعضاء القيادة القطرية إلى 21 عضو في يناير 1977 ، ثم تخلى البكر في نهاية 1977 عن وزارة الدفاع لصالح زوج ابنته عدنان خير الله طلفاح – الذي يرتبط بدوره برابطة قرابة مع صدام حسين كونه ابن خاله وأخو زوجته وكان هذا التغيير قد شدد في المناصب على العلاقات القبلية ، ومهد الطريق لوصول صدام حسين للسلطة في ظل إجراء تنقلات في القوات المسلحة بحيث تكون موالية لشخصية صدام حسين( ) ، حيث عمل على الضغط على البكر من خلال اعتقال وقتل أنصاره المخلصين وزرع أنصاره وأقاربه والموالين له في كافة المناصب العليا في البلاد ، وتهميش دور البكر وتجاهل قراراته الصادرة وعدم تنفيذها ، وهذا مما حذا بالبكر إلى اقتراح ترك السلطة ؛ لأسباب صحية لكن السبب الحقيقي كان لتجنب اللحظة التي يمكن أن يلقى فيها حتفه في إطار الصراع على السلطة معه( ) ، حتى أن معظم أفراد الشعب العراقي ذكر استقالة البكر على أنها إقالة بدون شك ، حتى أن صهر الرئيس صدام حسين وهو الفريق كامل المجيد اتهم صدام حسين عند لجوءه إلى الأردن ؛ بتسميم البكر تسميماً بطيئاً إلى أن توفى في نهاية عام 1982( ) .
كما أنه في ظل الصراع على السلطة بين البكر وصدام ، قام أحد أنصار صدام بجعل الجيش الشعبي قوة موازية للجيش النظامي ، ووفر له كل المعدات ، وزاد من عدد عناصره إلى أن وصل إلى 150 ألف في عام 1979 ، وجعل ميزانية الجيش تعادل 40% من ميزانية الدولة ، وأصبحت تنظيمات البعث بدءاً من الحلقة إلى الفرقة إلى الشعبة إلى الفرع إلى القيادة القطرية ، تعمل لصالح الجهاز الأمني للحزب المتصل مباشرة بصدام حسين حيث وصل أعضاء الحزب في نهاية عهد البكر إلى مليون ونصف المليون من الأعضاء ، وأصبح الولاء للبعث هو أداة استقرار النظام ( ) .
وأخذ البعث في تفتيت المؤسسة العسكرية النظامية وإفراغها من أعرافها في ظل برنامجه الثوري ، و اتسعت قاعدة عسكرة المجتمع، وسماع قرقعة السلاح بصوت واضح خارج الثكنة وأخذت الروح العسكرية الخالصة بالاضمحلال فانتهى البعث إلى خليط غير متجانس بين ما هو عسكري وما هو مدني ويفقد كل منهما المجتمع العسكري والمجتمع المدني نظامه الخاص وأعرافه المستقرة( ).
ورغم وجود منافسين لصدام حسين على السلطة في ظل سلطة البكر إلا أنهم كانوا يتوجسون خوفاً من أن منافستهم إياه ستضعهم في موقف مخيف ، فيما لو فشلوا بالسيطرة على الحكم ونجح هو في ذلك ، وقد حاول البكر بالفعل الاتفاق مع بعض المسؤولين في حزب البعث العراقي المصممين على منع صدام حسين من الوصول إلى السلطة على أساس أن قيام الوحدة بين سوريا والعراق سيتيح للبكر تسمية نائبه الرئيس السوري حافظ الأسد كرئيس لسوريا والعراق بعده ( ) ، حيث شعر النائب صدام حسين بعد تلاقى البكر والأسد حول الوحدة بينهما ، أن المقصود من هذه الوحدة هو استبعاده وعزله مما حذا به إلى الضغط على البكر للتخلي عن الرئاسة وتسليمها له، حتى أنه في أعقاب زيارة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام للعراق لتهنئة صدام حسين بالرئاسة ، التقى بالبكر الذي حذره من صدام حسين ، وضرورة إعلان الوحدة فوراً ، على أساس أن يكون حسب اتفاق البكر والأسد ،الرئيس السوري حافظ الأسد رئيساً لدولة الوحدة ، على اعتبار أنه سيكون نائبه في دولة الوحدة ، وبالتالي رئيساً للدولة الجديدة فيما لو تنحى البكر عن الرئاسة خاصة أن الرئيس الأسد كان يرى أن يصبح عبد الخالق السامرائي نائباً له وليس صدام حسين( ) .
ويرى البعض أن الأهداف الحقيقية لهذا الانقلاب الأبيض تصب كلها في صالح الولايات المتحدة الأمريكية وهي ( ) :
1. إفشال أي تقارب بين سوريا والعراق ، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما ، وتخريب الجهود التي بذلها البكر لتحقيق وتطبيق ميثاق العمل القومي الذي عقده مع سوريا ، حيث آثار ذلك الولايات المتحدة ، لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل .
2. احتواء الثورة الإسلامية في إيران لاسيما أن قادة النظام الإيرانى الجديد لم يكتفوا بالسيطرة على الحكم في إيران ، بل أخذوا يتطلعون لتصدير الثورة ونشر مفاهيمها الإسلامية في الدول المجاورة وهذا ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في الخليج ، ووجدت أن أفضل وسيلة لذلك ، هو إشعال الحرب بين العراق وإيران وجعلها تمتد أطول فترة ممكنة .
3. مكافحة النشاطات الشيوعية والإسلامية التي تأثرت بالثورة الإيرانية .
4. تطلعات صدام لأن يصبح بديلاً لشاه إيران كشرطي للخليج ، بعد سقوط عرش الشاه على يد الخميني، إضافة لرغبته في تزعم العالم العربي بعد خروج مصر عقب اتفاقية كامب ديفيد 1978 من المواجهة مع إسرائيل ، وبالفعل قامت الولايات المتحدة ببعث نائب وزير خارجيتها إلى البكر للتطلع على الموقف العراقي ، حول الوحدة مع سوريا والثورة الإيرانية ، وما يؤثره ذلك على أمن إسرائيل . إلا أن صدام حسين التقى بالوفد ووعد سراً بتخريب العلاقات مع سوريا وشن الحرب ضد إيران ، ولم يمضى على ذلك إلا فترة وجيزة حتى أجبر البكر على التخلي عن السلطة ، وبعد عدة ساعات تولى كل السلطات متخطياً الحزب وقياداته ، ومجلس قيادة الثورة ، المفروض به أن يقوم بانتخاب رئيس الجمهورية فيما لو خلا منصبه
أما عن دور الجيش في الاضطرابات والحركات المناهضة للحكومة ، ففي فبراير1977أعلنت حالة الطوارىء في صفوف حزب البعث وجاءت أوامر القيادة إلى الجيش النظامي والجيش الشعبي وقوات الأمن والشرطة والمخابرات ، بضرورة سحق الانتفاضة ، وقد تم قصف المظاهرة بالدبابات والطائرات ، وسقط آلاف الجرحى واعتقل الآلاف منهم ، ورغم وصول المتظاهرين إلى كربلاء إلا أن القوات الحكومية اعتقلت حوالي ثلاثين ألف شخص منهم، وأوقفت الانتفاضة واتهمتها بالشعوبية والرجعية ، واتهمت حزب الدعوة الذي دعا إليها بالعمالة والتعاون مع الاستعمار والإمبريالية ضد الحكم التقدمي الثوري ( ) .
ولكن لو حللنا هذا الحكم التقدمي الثوري لتبين لنا الكثير من التناقضات فيه ، فرغم أن البكر كان نزيهاً وابن مؤسسة عسكرية ، وشديد الصلة بجذوره الفلاحية ، إضافة لتواضعه في المأكل والملبس ، وعدم محاولته الانتقال إلى طبقة غير طبقته التي نشأ منها ، إلا أن حبه للسلطة كان يدفعه لعمل أي شيء ، حتى ولو كان قاسياً ، فحين عمل على إبعاد الدواد عن وزارة الدفاع ، أصدر أمراً إلى قائد القوات العراقية في الأردن بضرورة اعتقال الدواد وسوقه محفوراً إلى بغداد ، لكن أقنعه قائد القوات بأن هذا يسيء للشرف العسكري ، كما أن تغاضي البكر عن أعمال بعض قادة الجيش وعدم مبالاته بما يفعلون ، رغم أنهم كان من الواجب أن يكونوا قدوة يحتذى بها ، فعلى سبيل المثال ، كان حردان التكريتي يستقدم مطربته المفضلة بطائرة عسكرية خاصة ، وكأن الجيش والسلاح ملكه هو وليس ملكاً للشعب ، أما سعدون غيدان فكان دائم الذهاب إلى مجالس الشراب واللهو، أيضاً صالح مهدي عماش يقضى معظم أوقاته في مجالس الشعر والأدب بدون مبالاة بمصير الوطن ومسؤولياته الاختصاصية المهنية( ) .
أيضاً كان التعيين في القوات المسلحة ، وتدخل البكر في تعيين البعض ، وإجبار البعض على التقاعد مع الحصول على معاشات سخية ، إذا لم يكن بالمستطاع ضمان ارتباطهم به ، كل ذلك كان مؤدياً ؛ لأن يسيس القوات المسلحة ويجعلها بعثية بدلاً من بقائها حيادية للزود عن حياض الوطن وليست ملكاً لفئة أو حزب ما ، إنما هي للشعب العراقي ككل ( ).
وكان ظهور التفاوت الطبقي في المؤسسة العسكرية ، قد أثر سلبياً على ولاء الشعب للقوات المسلحة، فقد كانت الفوارق كبيرة جداً بين أفراد القوات المسلحة ، إضافة لابتعاد الضباط عن الجنود وانعزالهم عنهم بسبب ما أعطاه النظام لهم من امتيازات في السكن والخدمات والمواقع الإدارية والقيادية ومخصصات غلاء المعيشة، وترتفع هذه المخصصات بارتفاع رتبة الضباط ( ).
وفيما يخص عدم الاستقرار في الشمال فمنذ بداية حركة 17 يوليو ،والبارتي رغم ادعائه بتأييدها إلا أنه كان يتوجس منها ولا يثق بها وبقاداتها، كما أنه رغم قبوله باتفاقية مارس 1970 ، إلا أنه اتهم الحكومة بعد ذلك بعدم تنفيذ جميع بنود الاتفاقية ، ثم أخذ البرزاني يحث رجاله على الظهور المسلح ونسف بعض المعابر والمنشآت ، وتم اختطاف مدير إحدى المناطق فى الشمال ، على أساس أن هذا الخطف رداً على اعتقال الحكومة لبعض أنصاره، ثم قام بنسف مخازن للعتاد في أربيل ، ومحطات بنزين وبعض المواقع العسكرية ، وتم الكشف عن مخططاً لاغتيال مدير أمن أربيل وبعض المسؤولين في حزب البعث ( ) .
ثم قدم البرزاني مذكرة إلى الحكومة طالب فيها بأن يكون للأكراد مناصب قيادية في الجيش ، بدون أن يدرك أن ثمة فارق بين أن يكون قائد الجيش أو معاونه كردياً أو عربياً بحكم كفائته ، وبين أن يفرض ذلك كشرط ملزم ، وعلى هذا الأساس فهذا المطلب ليس بريئاً فمن الممكن أن يكون هدف البرزاني ، فرض ضباط بالذات يدينون له بالولاء ، رغم أن الثقة بينه وبين البعث لم تترسخ، والدليل على ذلك أن خمسة جنرالات أكراد تقلدوا منصب رئاسة الأركان في العهد الملكي ، وذلك عندما كانت الثقة بينهم وبين الحكومة كبيرة كما أن هذه المذكرة طلبت من الحكومة ضرورة انسحاب القوات العراقية من الشمال الكردي بالرغم من أن هذه القوات لم تكن بهدف فرض سياسة الدولة بالقوة والبطش أو لخدمة النظام ، فهي قوات للجيش العراقى الذي يضم كل فئات الشعب من أجل الدفاع عن حدود الوطن ، كما أن تواجدها كان بناءاً على اتفاقية مارس 1970 إضافة إلى أنها كانت متواجدة منذ ما قبل حركة 16 يوليو ، زد على ذلك أن شمال العراق هو الجزء الأكثر تهديداً من قبل دول الجوار سواء تركيا أم إيران ، وهذا ما يفسر الحرص الحكومي الشديد على تواجد الجيش العراقي في الشمال ، خاصة أن قوات البارتي لا تستطيع مواجهة تهديد عدوان خارجي على العراق ( ) .
وما يدل على أهمية تواجد هذا الجيش وأنه جيش للشعب ككل ، أنه عندما وقعت صدامات مسلحة بين عشائر كردية وعشائر عربية ، قام الجيش العراقي بضرب الجانبين لتهدئة الأحوال ، رغم أن جماعة البارتي كانوا يدعمون الجانب الكردي العشائري ، بدل أن يقفوا على الحياد رغم أن البارتي نفى تدخله لصالحهم ( ).
ومن المفارقات أن البارتي منذ حركة 1968 كان يطالب بإبعاد الجيش عن التدخل في حل الخلافات القومية ، رغم أنه لم يطالب بإبعاد الجيش عن التدخل في السياسة ، فهو يحرض على أن يكون للجنود والضباط الأكراد ارتباطها السياسي والتنظيمي به ، على أساس أن العراق مؤلف من قوميتين أساسيتين ، ولا بد أن يكون لكل منهما تنظيمه السياسي وهذا مما يجعل البارتي يفرق بين فئات وأبناء الوطن الواحد ( ) .
أما حول علاقة السلطة المركزية بإدارة الحكم الذاتي التي أرستها اتفاقية 11 مارس 1970 ، فهي ترى أن الجيش والشرطة والأمن في منطقة الحكم الذاتي بوزارة الداخلية المركزية تسري عليها نفس القوانين المطبقة في أنحاء العراق المختلفة ، ولرئيس المجلس التنفيذي في منطقة الحكم الذاتي ، تكليف قوات الشرطة والأمن والجيش ، بالعمل في المنطقة الكردية ضمن حدود وظائفها ، وعلى ذلك يلاحظ على قانون الحكم الذاتي استمرار سيطرة السلطة المركزية على الشرطة والأمن والجيش داخل إقليم الحكم الذاتي( ) .
وبسبب الحرب بين البارتي والقوات الحكومية التي بدأت في منتصف 1974 ، هددت آبار النفط في كركوك وهجر وقتل الآلاف وهذا ما دفع البرزاني إلى إرسال برقية إلى الأمم المتحدة في الثامن من أغسطس 1974 مدعياً أن النظام هو الذي يشن حرب ظالمة ضد الأكراد ، وأن المجلس التشريعي الذي شكله البكر لا يسمح لهم بممارسة دورهم وحقهم الوطني في مؤسسات الحكم الذاتي ، وقد أثرت هذه الحرب على معنويات الجيش العراقي حيث وصلت الخسائر خلال الفترة من (1974-1975) إلى ستين ألف قتيل ، وهذا من الأسباب التي جعلت الحكومة تتفاوض مع إيران التي تمول البارتي ، إلى أن عقدت اتفاقية الجزائر 1975 ، حيث انتهت الحركة الكردية بعد توقف الدعم الإيراني والأمريكي لها( ) ، ثم قام النظام بعمليات ترحيل كثيفة لمناطق التوتر، كما تم ترحيل بعض القبائل العربية للمنطقة الكردية ، في عملية من النظام لإدماج أبناء المنطقة الواحدة، حتى أن عشيرة البرزاني نفسها تم نقلها إلى جنوب العراق ، وبلغ عدد من أعيد اسكانهم عام 1978 حوالي 150 ألف كردي ، ولجأ حوالي (200)ألف إلى إيران( ).
لكن مما يجدر الإشارة إليه أن عدم الاستقرار الذي ساد المنطقة الشمالية لم يكن بسبب الصراع بين البارتي وقوات الحكومة فحسب بل كانت هناك اضطرا بات عشائرية مسلحة هددت الكثير من طاقات الأكراد ، وأبناء العشائر الكردية بينما بقى بعض شيوخ العشائر الكردية (الإقطاعيون) محافظين على مكانتهم ، ورغم أن الدولة قد قررت لهم قرى جديدة بدل التي دمرت بسبب الحرب ، إلا أنهم قدموا إلى هذه القرى بشكل مظاهرة عسكرية واغتصبوا بالقوة عدداً من القرى المجاورة ، إضافة للخمس وعشرين قرية التي خصصت لهم ، وهذا يعود للفوضى التي تسودهم ، وعدم مبالاة الكثير منهم باللوائح والقوانين( ) .
نخلص من هذا المبحث أنه رغم الطفرة النفطية التي حدثت خلال فترة حكم البكر، ورغم تحسن المستوى الاقتصادي القومي والفردي للمجتمع العراقي ، إلا أنه تشكلت طبقة جديدة مرتبطة بالنظام واستفادت من إجراءاته وهذا ما ولد صراعاً طبقياً ، ظهرت أثاره الواضحة في إضعاف الوحدة الوطنية ، كما أن محاباة النظام لبعض الأفراد ممن يوالونه سواء على المستوى العشائري أو الحزبي ، جعل هناك فروقاً شاسعة بين الكثير من أبناء الشعب والنظام ، أيضاً لم يكن الجيش العراقى معبراً عن كل فئات المجتمع بسبب تسييسه لصالح الحزب الحاكم وإبعاد الكثير من قادة الجيش أو الضباط ممن يشك النظام في ولاءهم له، إضافة إلى عدم شعور الكثير من الأكراد وخاصة البارتي بأن هذا الجيش هو جيشهم، وأنهم جزء من الشعب العراقي ، كل هذه الأشياء جعلت المؤشرين الذين حددتهما الدراسة في هذا المبحث وهما تفاعل الشعب مع النظام سياسياً واجتماعياً واقتصادياً إضافة إلى انتماء الشعب للمؤسسة العسكرية وشعوره بأنها تمثله ، جعلت هذين المؤشرين لا يشيران إلى منحى ايجابي في الوحدة الوطنية ، وبالتالي فلم يستطع النظام تحقيق الوحدة الوطنية بالمستوى الذي يجعل هذين المحددين إيجابيين في موضوع الوحدة الوطنية .
وبذلك تتلخص نتيجة هذا الفصل أن البعث لم يستطع تحقيق محددات الوحدة الوطنية ، التي حددتها الدراسة ، رغم محاولاته الحثيثة لذلك ، لكن الطابع الديكتاتوري الذي طبع نظام الحكم ، إضافة لعدم قدرة النظام على التعامل مع التمايزات العشائرية بالدرجة الأولى إضافة للتمايزات الإقليمية والحزبية والطبقية خاصة بعد النمو الاقتصادي السريع في هذا العهد ، حيث برزت طبقة جديدة مرتبطة بالنظام عشائرياً أو حزبياً أو طبقياً إضافة للفجوة التي تشكلت بين الشعب والمؤسسة العسكرية التي ظهرت كأنها جزءاً منفصلاً عن الشعب ومارست دوراً سلبياً تجاهه ، وعلى هذا الأساس فلم يستطع البعث تحقيق الوحدة الوطنية خلال فترة حكم البكر التي امتدت من 17 يوليو 1968 وحتى تسلم صدام حسين للحكم في 17 يوليو 1979 ، فإذا كان نظام البكر لم يستطع تجاوز تمايزات المجتمع العراقي بالشكل الذي يجعل مسار الوحدة الوطنية يسير بالاتجاه الإيجابي ، فهل استطاع البعث في عهد الرئيس العراقي الجديد صدام حسين تجاوز هذه التمايزات والتعامل معها بكل روية وحكمة؟ أم انه لم يستطع ذلك واستمر الضعف في تحقيق الوحدة الوطنية ؟ هذا ما سيبينه لنا الفصل القادم الذي سيقدم لنا عن دور البعث في تحقيق الوحدة الوطنية خلال فترة حكم الرئيس صدام حسين .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق