تداعيات فترة حكم البعث 1963 على الوحدة الوطنية
" فترة الأخوين عارف 1963-1968"
تعتبر فترة الأخوين عارف التي ابتدأت في المراحل الأخيرة لعام 1963 وبالتحديد منذ الثامن عشر من نوفمبر عام 1963، وحتى سقوط النظام على يد البعث في السابع عشر من يوليو عام 1968، تعتبر من تداعيات الفترة السابقة أي فترة حكم البعث، لكن تميز البعث خلالها أي خلال هذه الفترة بأنه أصبح من الفئات المعارضة لهذا الحكم، وعمل على استغلال كافة أخطاء النظام، تمهيداً لإسقاطه في النهاية وخاصة فيما يخص تداعي النظام الذي ضعفت خلاله الوحدة الوطنية، حيث استغل البعث هذا الضعف لاستعادة السلطة، وما يؤكد أن هذه الفترة هي من تداعيات الفترة السابقة، أن النظام الجديد عمل على تبنني شعارات البعث، في الوحدة، حيث سعى للوحة مع مصر، وفي الحرية، حيث سعى لإبعاد العراق عن التبعية الاقتصادية والسياسية للخارج ولو نظرياً، أما الاشتراكية، فمن خلال تبنيه لإجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، إلا أن ضعف هذا النظام في الآونة الأخيرة نتيجة قلة اعتماده على فئات الشعب المختلفة، واعتماده على الأشخاص المؤيدين له، إضافة لتذمر الكثير من الضباط والفئات الاجتماعية، نتيجة الأزمات الاقتصادية التي عاناها ، إضافة لأسباب أخرى كثيرة، سهلت المهمة لإسقاطه من خلال البعث عام 1963م.
• موقع محددات الوحدة الوطنية
أولاً : احترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية
بعد سقوط البعث على يد عبد السلام عارف، عمل هدنة مع الأكراد، نتيجة تدخل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، رغبة منه في حل المشكلة الكردية، وأصدرت الحكومة الجديدة بيان وقف إطلاق النار والسعي لتحقيق ما يلي( ):
1- إقرار الحقوق القومية للشعب الكردي ضمن الوحدة العراقية، وإقرار ذلك في الدستور.
2- إطلاق سراح الموقوفين والمحجوزين ورفع القيود عن الأموال المنقولة وغير المنقولة.
3- رفع الحصار الاقتصادي عن شمال العراق.
4- إعلان نظام الإدارة المحلية في شمال العراق، وإعادة الموظفين والمستخدمين الذين فصلوا أو تركوا الخدمة بسبب حوادث الشمال.
5- تعمير المنطقة الشمالية وتعويض أصحاب الأملاك بسبب الأعمال العسكرية والفيضانات ، واتخاذ التدابير الكافية لاستقرار المنطقة من خلال قيامها بإجراءين هما : الأول: اتخذت الحكومة في الرابع من أبريل 1964- عندما أصدرت الدستور المؤقت ـ الذي نص في مادته الأولى أن الشعب العراقي جزء من الأمة العربية، ويستهدف الوحدة العربية الشاملة، وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت ممكن مبتدأة بالوحدة مع مصر ، وفي المادة التاسعة عشرة نص على أن العراقيين متساويين في الحقوق والواجبات، ولا تمييز بينهم بسبب جنس أو دين، ويتعاون العراقيون بما فيهم الأكراد والعرب لما فيه مصلحة الوطن.
وقد اشترك الأكراد في مباحثات الوحدة، من خلال ممثل البارتي لدى الحكومة وهو جلال الطالباني، كما أن هذه الهدنة بالرغم من أهميتها لتحقيق الاستقرار للنظام، إلا أنها لم تستمر سوى لمنتصف فترة عام 1964، حيث كانت الحكومة تجري مفاوضات جادة مع حزب البارتي، إلا أن الشكوك التي كان يحملها كل جانب للآخر، والاستراتيجية الدولية والإقليمية في المنطقة، عملت على تصديع هذه المفاوضات، فمثلاً قام شاه إيران محمد رضا بهلوي بإغراء قيادة حزب الباري بالأموال ؛ بسبب تخوفه من التقارب بين النظامين العراقي والمصري( ).
ويلاحظ من خلال المفاوضات التي أجراها عبد السلام عارف، مع البارتي، والتي أوقفت القتال لفترة محدودة، أن عارف قد تبنى جميع البنود التي توصل إليها البعث مع الأكراد، كما أنه قد اعترف بزعامة الملا مصطفى البرزاني حيث أدلى بموجب هذا الاتفاق ببيان أكد فيه إيقاف إطلاق النار للمحافظة على الصف الوطني وإفساح المجال أمام السلطة الوطنية ؛ للمبادرة إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة بإعادة الحياة الطبيعية والأمن والاستقرار إلى العراق ، وتهيئة الفرصة لإقرار الحقوق القومية للمواطنين الأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة وطنية واحدة، وإرساء الأخوة الوطنية العربية الكردية، على أمتن القواعد بما يصونها من الضعف ويحصنها من دسائس المتصيدين والطامعين ( ).
لكن تدخل دول لها مصلحة في إنهاء هذا التقارب كإيران الشاه، جعلت مساعي عبد السلام عارف لإعمار الشمال رغبة منه في حل القضية الكردية من خلال ذلك، من دون التحقيق العملي للاتفاق مع البرزاني، صاحب التأثير الأيديولوجي والديني على الأكراد، إضافة لأهدافه المحددة، مما جعل القتال يعود من جديد منتصف عام 1964، وصرح عبد السلام عارف في ذلك ببيان يناقض بياناته السابقة بقوله: " على أن جميع الذين حاولوا الظهور في حياة الأكراد كزعماء وحاولوا بذر بذور الشقاق بين الشعب الواحد في الوطن الواحد ، قد باؤوا بالفشل، ولم يحظوا إلا بتأييد القلة من بعض الأكراد والنفعيين والانتهازيين واللاعبين على الحبال"( ).
وعلى هذا الأساس ساد القتال في الشمال، بسبب انعدام الثقة والنوايا العدوانية لدى الجانبين، وقد اتسمت العلاقات بعد ذلك بالتطرف والحدة، بسبب أن عبد السلام عارف أخذ يصور الحركة الكردية بأنها حركة انفصالية معادية للأمة العربية، ويحاول استقطاب التأييد الشعبي من بقية أفراد الشعب وخاصة من التيار القومي العروبي، والظهور بمظهر الداعية القومي الوحدوي، كما حاول البارتي بالمقابل التخلص من الاتفاق مع الحكومة، بادعائه أن هناك خلافات في حزب البارتي، حيث اتهمت قيادات في حزب البارتي يقودها تيار جلال الطلباني، بأن البرزاني قد أنهى القتال في فبراير 1964 مع النظام من دون الرجوع إلى قواعد الحزب، فرد عليهم البرزاني بأن ذلك من صلاحياته كونه القائد الأعلى للقوات الكردية، بعد أن انخفضت معنويات الأكراد بسبب تخلي مصر عن تأييد البارتي بعد سقوط البعث العراقي، كما أن البرزاني اتهم معارضيه بأنهم على علاقة بالمعاهدة المركزية (السنتو) وهي عبارة عن حلف بغداد القديم، بعد أن غيرت اسمها إلى هذا الاسم بعد انسحاب العراق منها، عقب ثورة العراق عام 1958، ودلل البرزاني على هذه العلاقة، بسبب زيارة جلال الطلباني لإيران، وعلى هذا الأساس قام البرزاني بفصل جلال الطلباني ومؤيديه، بالرغم من علاقة المصاهرة• بينه وبين الطلباني( ).
ورغم حالة الحرب بين النظام العراقي والأكراد إلا أن الأكراد ظلوا يطالبون الحكومة ببعض الأمور لإنهاء حركتهم المسلحة، فقد تقدموا بمذكرة في الحادي عشر من أغسطس عام 1964 طالبوا فيها بتعديل المادة التاسعة عشرة من الدستور العراقي المؤقت الذي أعلن عنه عبد السلام عارف عام 1964، والتي تنص على تعاون المواطنين كافة في الحفاظ على كيان هذا الوطن بما فيهم العرب الأكراد، ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية، وتبديلها بـ : "يقر الدستور حقوق الشعب الكردي على أساس الحكم الذاتي ضمن الوحدة العراقية"( ) ، كما استنكرت المذكرة حل الأحزاب العراقية وحصرها بالاتحاد الاشتراكي لعربي، ورأت أن الكردي لا يمكن أن ينعزل بالعمل السياسي المشروع كجزء من حق المواطنة، لكن الحكم يريد أن يكون الكردي عربياً أو على الأقل هادراً لكرديته، بغية أن يتمتع بأبسط حقوق المواطنة في وطنه( ).
كما انتقدت المذكرة قرار الحكومة أنها لا تستطيع تنفيذ الاتفاق الذي حصل بينها وبين الأكراد ؛ بحجة عدم وجود برلمان منتخب ، وأن الأكراد مستعدون للتضحية من أجل الحفاظ على حقوقهم وتحقيق أهدافهم، وأنهم يطالبون بالحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية الدستورية الديمقراطية، أسوة بما حققته الحكومة اليوغسلافية والسويسرية، وغيرها من الحكومات، من خلال تحقيق المساواة القومية لجميع القوميات بداخلها، وهذا جعل الحكومة تعمد إلى تقديم مشروع حكومي يقر بالاعتراف بالحقوق القومية للأكراد ضمن الوحدة العراقية، دون تذويبها أو تقريبها، وتعديل الدستور العراقي بأن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، وأن يقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية على أساس مبدأ المشاركة الفعلية في الحكم ضمن الوحدة العراقية، وأن لهم من الوظائف ما للعرب، وبالنسبة للغة الكردية، فمن حقهم تعليمها في المدارس الابتدائية والإعدادية مع اللغة العربية( ).
إلا أن البارتي رفض هذه المقترحات، وأصر على مطالبة وفق المذكرة التي بعثها، ووجه رسالة للحكومة في الثامن عشر من فبراير 1965 يقول فيها: "وعليه فإننا نتطلع إلى أن تعيد الحكومة النظر في حلولها المقترحة بشكل يؤمن الحد الأدنى من مطالب الثورة الكردية، ويحفظ في الوقت نفسه هيبة الدولة، ويعزز وحدة الشعب الوطنية لما فيه خير وصلاح المواطنين جميعاً"( ).
لكن الحكومة العراقية، لم تعر أي اهتمام لتلك المطالب وذلك النداء واتسمت بعدم المصداقية في معاملتها مع الأكراد، واتهمت البرزاني بالعمالة للغرب، نعتته بأنه انفصالي، وزعيم عصابة، ومحترف شغب، وبالمقابل فقد اتهم البرزاني الحكومة بالتميز العنصري ضد الأكراد في شغل الوظائف العامة وفي الجيش، وقيامها بتهجير السكان من القرى الكردية وإحلال عشائر عربية محلها، وأن الدستور الذي وضعته - دستور مؤقت- هو دستور غامض في مجال الحقوق القومية للأكراد، وأن حجة الحكومة العراقية إرجاء توضيح الحقوق القومية للأكراد على أساس عدم وجود برلمان منتخب، يتناقض مع إصدارها لقوانين اشتراكية تخص الأكراد وكيانهم ، إضافة لما أصدرته من قوانين قومية وحدوية، دون الرجوع لاستفتاء شعبي، وأن الاتحاد الاشتراكي العربي الذين تشكل لا يتيح المجال للعمل السياسي لدى الأكراد، لأنه تنظيم قومي عربي، لا مكانة للأكراد فيه، كما أن هذا التنظيم هو الوحيد في العراق، وأن الحكومة قد فرضت على كثير من المناطق الكردية موظفون عرب كممثلين للأكراد( ).
وقد رفضت الحكومة القيام بأي تنازلات تجاه البارتي على أساس أن مطالبه انفصالية، بسبب المطالبة بجيش خاص في الشمال يتبع الأكراد، وتكون المنطقة الكردية محافظة لوحدها ولها تنظيم خاص بها، وبمعنى أخر نفس المطالب التي طالب بها البعث، وكان قد رفضها البعث قبل ذلك والتي بسببها اندلعت حرب البعث مع الأكراد، ونتيجة رفض الحكومة لمطالب البرزاني عدَّل البعض تلك المطالب، وأكد أن مطالبه تنحصر فقط في عودة الموظفين والعاطلين والجنود الأكراد إلى أعمالهم السابقة، وأن الأكراد سيشتركون في الاتحاد الاشتراكي العربي، على صورة معينة، من ذلك التنظيم، مع ضرورة أن ينص الدستور على أن: "الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، ويقر الدستور الحقوق القومية الكردية على أساس مبدأ المشاركة الفعلية في الحكم ضمن الوحدة العراقية"( ).
ورغم قبول الحكومة بهذا التعديل إلا أن البارتي سرعان ما عاد ورفض تلك المطالب، مطالباً بالمطالب التي رفضتها الحكومة سابقاً، ورفضها البعث قبل ذلك، وقال حول ذلك : " إن ذلك أقل من المستوى الأدنى لما تطلبه الثورة، .. وهذا ما لا يمكن"( )، وأكد أنه في حال قيام وحدة أو اتحاد بين العراق ودول عربية أخرى، تصبح محافظة كردستان إقليمياً يتمتع بنفس الحقوق التي تتمتع بها الأقاليم المكونة لتلك الوحدة أو الاتحاد، وتلتزم، بنفس واجباتها، وتسمى بإقليم كردستان، مع إضافة وزارة تسمى وزارة الشؤون الكردية، وترتبط بالمنطقة الشمالية، وأن تعتبر اللغة الكردية هي لغة التعليم والدوائر والمحاكم في المنطقة الكردية، كما تستعمل اللغة العربية عند الضرورة، أما المخابرات مع المراجع الرسمية خارج حدود المنطقة الكردية فتكون باللغة العربية، وللشعب الكردي الحق في تكوين تنظيم سياسي خاص به، وإقامة تعاون بينه وبين التنظيمات السياسية العربية المعترف بها قانونياً( ) ، وبالنسبة للبيش ماركة، فيعودون إلى ماكانوا يعملون سابقاً ، سواءاً في سلك الشرطة، أو الجيش، أو الإدارات المحلية، أو حرس الحدود ( ).
إلا أن الحكومة رفضت ذلك على أساس أن تعيين وزير مسؤول عن المناطق الكردية، هو إقرار لانفصال، كردي مبطن، ولا يمكن إقامة محافظة تشمل جميع المناطق الكردية باقتطاع أجزاء من محافظات أخرى، كما لا يمكن الموافقة على استمرار البيش ماركة، والاعتراف بها كقوة ثالثة، كما يطالب بذلك البرزاني، إضافة إلى أن البارتي لم يلتزم بالهدنة التي وقعها مع الحكومة سابقاً عام 1964 ، حيث قام بتجاوزات عددية من اغتيالات ضد الجنود العراقيين في الشمال من خلال البيش ماركة، إضافة للممارسته أعمالاً تسيء إلى سمعته وذلك ضد المسؤولين الأكراد المتعاونين مع الحكومة، مثل اغتيال العقيد المتقاعد (بدر الدين علي) الذي كان يشغل منصب متصرف (لواء) أربيل، واغتيال المذيع الكردي في إذاعة بغداد (شاهين الطالباني) الذي كان يعمل بالقسم الكردي في تلك الإذاعة، وحوادث النهب والسلب، وفرض الرسوم الجمركية على البضائع، وإيقاف السيارات وتفتيشها، وحرق الجرارات المرسلة لمساعدة السكان لفلاحة الأرض وإصدار منشورات معادية للحكومة، وتحدي السلطة القائمة والمراكز الحكومية، وفرض الإتاوات على الأكراد، من أجل دفع مرتبات البيش ماركة( ).
وهكذا بدأت حرب الشمال مرة أخرى، بعد جمود المفاوضات بين الجانبين واتهام بعضهما البعض بنقض الهدنة بينهما، وقد استطاع الجيش العراقي منذ بدء هذه الحرب منتصف 1964 وحتى مقتل عبد السلام عارف في الثالث عشر من ابريل عام 1966 أن يستولي على معظم المناطق التي كانت بيد البرزاني، إلا أن حادث مقتل عارف، أضعف من معنويات الجيش العراقي، بسبب تصدع الأوضاع في بغداد، وتسليم المسؤولية لآخرين، مما أدى لخسارة الجيش العراقي مع الأكراد في معركة (هندرين) بشكل مهين، وبسبب هذه الهزيمة، أعلنت الحكومة الجديدة برئاسة عبد الرحمن البزاز في التاسع والعشرين من يونيو عام 1966 بياناً تضمن التزامها ببعض الأمور دون أن تلزم البارتي بشئ، رغم أن تلك الأمور هي نفس الأمور التي رفضتها الحكومات السابقة، والتي من الممكن أن تؤدي إلى فصل الشمال عن جسم الوطن، وأصدرت قانون العفو عن المتمردين ممن يسلم سلاحه، رغم أن البارتي ظل يسيطر على سبعة أقضية بنواحيها، ولديه حكومة خاصة به، ولا يستطيع أي كان الذهاب إليها إلا بإذن منه، أما الجزء الآخر من الشمال الذي يسيطر عليه الجيش، فإن جماعة جلال الطلباني الذي انشق بشكل غير رسمي عن الملا مصطفى البرزاني، فهو يشارك بالسيطرة على هذه المناطق، ويبث دعايته بين الجنود الأكراد في الجيش، وله مكاتب في جميع الأقضية الكردية، ورغم ذلك زادت نفقات الحكومة على مناطق الشمال، بسبب أن الحكومة أصبحت تصرف على جماعة البرزاني والطالباني، مقابل عدم تمردهم بعد أن كانوا يتلقون مساعدات من الخارج( ) ، كما عدل رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز المادة التاسعة عشرة، والتي كانت أهم مطالب الأكراد، حيث نص بعد تعديلها على أن المواطنين العراقيين متساوون في الحقوق العامة والواجبات دون أي تمييز على أساس العنصر أو الأصل أو اللغة أوالدين، وأن هذا الدستور يؤكد على الحقوق القومية للأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة قومية أخوية تجمعهما ( ) ، وبغض النظر عن محاسن مشروع البزاز لإنهاء لقتال في الشمال إلا أنه لم يكن سوى تكرار لمشروع البعث الذي اقترحه على البارتي، لكن يختلف في مادته الأولى التي تقر بأن الحكومة قد عدلت الدستور المؤقت واعترفت بالحقوق القومية للأكراد، وهي مستعدة لتأكيد هذا الاعتراف وتضمينه بالدستور الدائم، بحيث تصبح القومية الكردية والحقوق القومية للأكراد معترفاً بها، وأنه سيتساوى العرب والأكراد في الحقوق والواجبات( ).
ورغم محاسن مشروع البزاز، إلا أنه لم يكن سوى هدنة مؤقتة، لأن القتال لم يحسم لصالح أحد، وأصاب العراق بأضرار فادحة اقتصادياً واجتماعياً خصوصاً في الشمال، كما أن هذا القرار لم يعد الأكراد بالحكم الذاتي، وهو المطلب الرئيسي للأكراد، وقد حدد البزاز الحقوق القومية للأكراد بقوله:" إننا نحترم القومية واللغة الكردية، ونعترف بحقوق الأكراد، لكننا نرفض التخلي عن جزء من أرض الوطن"( ) ، وبذلك أراد البزاز تطمين العناصر العربية القومية، أن الاعتراف بالحقوق القومية وبنوع من الاستقلال الإداري للأكراد لا يعني انفصالهم، كما أراد تطمين تركيا وإيران حول ذلك، بسبب تخوفهما من حكم ذاتي يهددهم أيضاً، بالرغم من أن الحكم الذاتي لا يعني انفصال الأكراد عن العراق أو استقلالهم عنه.
إلا أن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، رفضت مشروع البزاز الذي اتفق مع البارتي لإنهاء القتال في الشمال، وأعلنت من مقرها في بيروت في يونيو 1966، أنها وإن كانت تؤيد الحل السلمي، إلا أنها لا تؤيد هذه الخطة، وأصدرت بياناً حول ذلك قالت فيه : " إن القيادة القومية ترى أن كل اتفاقية، إذا لم تبتعد عن روح المناورة، وعن الروح الانفصالية، لا يمكن أن يكتب لها النجاح"( ).
وقد صدق حدث القيادة القومية، إذ لم تستطيع الحكومة الالتزام بتطبيق الاتفاقية، كما أن البارتي نفسه لم يلزم بها، وسرعان ما أصبحت حبراً على ورق حتى أن البرزاني، اتهم الحكومة بأنها تعمل على استخدام خصومه في محاولة منها لشق الحركة الكردية، وإن قانون العفو لم يطبق حسب الأصول المتفق عليها، وأن ممثل وزارة الدفاع، كان يعترض على نصوص الاتفاقية والقوانين التطبيقية، بالرغم من أن المنهاج الوزاري لحكومة البزاز أعلن ، أن حكومته ستعمل على إعادة الأمن التام إلى ربوع العراق كافة، والحفاظ على وحدته الترابيه وإن قانون الإدارة المحلية الجديد سيؤكد ذاتيه القومية الكردية، ويمكن الأكراد في الشمال من الحفاظ على لغتهم وتراثهم الفكري، وتمكينهم من النشاطات المحلية التي لا تتعارض مع وحدة البلاد، ولا تمهد بأي حال من الأحوال لانتقاص جزء من أطراف العراق( ) ، كما أن البزاز كان قد أكد في بيان آخر في التاسع عشر من يونيو 1966 أن حكومته مستعدة للاعتراف بالقومية الكردية، وبحقوق الأكراد القومية ، وأن الحكومة قد أعدت منهاجاً كاملاً لسياستها بالنسبة للأكراد يقوم على ، الاعتراف الكامل بحقوقهم القومية ، وتمكينهم من الإدارة اللامركزية في كل نواحيهم وأقضيتهم وألويتهم ، إضافة لتمكينهم من النشاطات التي تتصل بذاتيتهم ، مع الاعتراف الكامل بلغتهم وتراثهم الفكري وكل متطلبات قوميتهم ، وإصدار العفو عن الذين يلقون سلاحهم مع العمل من أجل إعمار كل القرى وكل المدن والقرى التي أتلفت بسبب العنف القائم، وأن العراق ليس عراق العرب وحدهم، كونه عراق العرب والأكراد على حد سواء ( ).
وكان البرزاني نفسه، قال حول هذا البيان ـ بالرغم من أنه يتضمن نفس بيان البعث عام 1963 – ما مفاده : " إن ما جاء في هذا البيان هو تعبير صادق عن رغبة أبناء الشعب عرباً وأكراداً لتحقيق ما يصبوا إليه العراق، من سلم وازدهار وتحقيق لوحدته الوطنية"( ).
وقد أذاع البيان كل من رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز، وممثل البرزاني (حبيب كريم) في التاسع والعشرين من يونيو 1966( )، وقد تضمن عدداً من النقاط هي :
(1) اعتراف الحكومة بالقومية الكردية في الدستور الدائم، بحيث تصبح هناك قوميتين رئيسيتين هما: العرب والأكراد، وكذلك الاعتراف بها في قانون المحافظات على أساس من اللامركزية بحيث يكون لكل لواء، ولكل ناحية شخصية معنوية معترف بها.
(2) اعتراف الحكومة باللغة الكردية كلغة رسمية مع اللغة العربية في المناطق التي تكون غالبية سكانها أكراداً، وتكون هذه اللغة لغة التعليم مع العربية.
(3) تمثيل الأكراد في المجلس الوطني القادم بالعدد الذي يتناسب مع مجموع السكان الهيكلي، كما يشارك الأكراد أخوانهم العرب في كافة الوظائف العامة بنسبة سكانها.
(4) تخصيص عدد من البعثات، والمنح الدراسية في مختلف الفروع، وعلى كافة المستويات للأكراد، لإرسالهم للتخصص في خارج البلاد، واهتمام جامعة بغداد بدراسة اللغة الكردية.
(5) السماح للأكراد بإنشاء التنظيمات السياسية في حدود القانون، وحق التعبير عن رغباتهم في الصحف الكردية والعربية.
(6) إصدار عفو عام عن كافة الذين ساهموا في أعمال العنف في الشمال عندما تنتهي هذه الأعمال، وإعادة جميع الموظفين الأكراد إلى وظائفهم السابقة.
(7) إصدار التعليمات إلى أفراد القوات المسلحة والشرطة بالبدء في العودة إلى وحداتهم بأسلحتهم عقب صدور هذا البيان على أن يتم ذلك في خلال مدة أقصاها شهران.
(8) تسليم الأكراد أسلحتهم ومعداتهم إلى الحكومة التي ستعمل على عودتهم إلى الحياة الطبيعية وستكون الحكومة مسؤولة عن إعاشتهم في هذه المدة.
(9) عودة الحكام الأكراد إلى أماكنهم ومناصبهم بعد إحلال الأمن واستعادة السلام.
(10) تأليف هيئة خاصة لإعمار المنطقة الكردية، على أن يخصص لها المبالغ اللازمة، وإسناد إدارة مصالح الشمال إلى وزير مسؤول، وصرف الأموال التي تبذل في مقاومة العنف في الشمال على إعمار المنطقة.
(11) تعويض كل الذين أصابهم أضرار من أعمال العنف في الشمال، والعناية بكل ضحايا هذه الأعمال.
(12) الحكومة وحدها هي المسؤولة عن أمن البلاد الداخلي، والخارجي، وأن لها من جيشها وقواتها المسلحة، ما يمكنها من أداء هذا الواجب المقدس.
كما أنه بعد هذا البيان قام الرئيس عبد الرحمن عارف بزيارة الملا مصطفى البرزاني في الشمال، وأكد أن لقائه معه كان لقاءاً أخوياً، وسيؤدي إلى مزيد من النتائج الحسنة ( ) ، وبدوره أكد البرزاني أهمية هذا الاتفاق بأنه يجب على الجميع أن يكتلوا جهودهم ، من أجل البناء، في ظل وطن كريم وأن القوميتين العربية والكردية، تتعاونان مع بعضهما البعض، وأن كل منهما سنداً للآخرى ( ).
كما حدث صراع بين أنصار البزاز، الذين يرون تقارب العراق مع كل من بريطانيا وإيران لحل القضية الكردية، وبين أنصار ناجي طالب، الذين يرون وجوب استدعاء قوات مصرية تتدخل بشكل مباشر في إقرار السياسة الناصرية في العراق، خاصة بعد أن أكد الرئيس المصري جمال عبد الناصر في لقاءه مع عبد الرحمن البزاز مساندة مصر للعراق لإنهاء التمرد القائم في جزء منه، حيث كان أول تصريح مصري يصف الحركة الكردية بالتمرد، رغم وجود إذاعة كردية في القاهرة، وفيها ممثل للبارتي( )، لهذه الأسباب قدم البزاز استقالته، وتولى الحكومة اللواء ناجي طالب، الذي لم يهتم بالقضية الكردية، ولم يلتزم ببنود اتفاقية البزاز، وقالت صحيفة الجمهورية الرسمية: "شعبنا سيكتم أنفاس من يخرج عن إرادته"( ).
وتخوفاً من قطع جسور التواصل مع الأكراد بسبب تشدد حكومة ناجي طالب، قام الرئيس عبد الرحمن عارف بزيارة البرزاني في الشمال، وفسر المشكلة الكردية بقوله : " إن مشكلة الأكراد نتيجة سياسية وسوء إدارة"( )، وبالمقابل قال البرزاني: "القومية العربية هي شقيقة القومية العربية على مر التاريخ"( ).
لكن رغم ذلك استمرت المناوشات بين البارتي والقوات الحكومية، كما استمرت بعض التصريحات المتشددة من بعض العسكريين في الجيش العراقي مثل وزير الدفاع الأسبق اللواء عبد العزيز العقيلي، حيث كان يرى أن هذه الحرب ضرورية، لأنها لا تقوم بين الحكومة والأكراد، وإنما بين الحكومة، وبعض المرتدين الذين لا يمثلون الأكراد مثل الملا مصطفى البرزاني، والدليل على ذلك عدم حرصه على مصلحتهم، واضطهاده للأكراد غير المؤيدين له، ومقاسمته لأرزاقهم، كما رأى أن الجيش العراقي يخوض حرباً مشروعة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن حربه إنسانية وطنية، بعد رفض البرزاني التقيد بمبادرات السلام، وتعريضه الوطن العراقي لعملية استنزاف عسكري ومالي واقتصادي وسياسي يؤدي بالعراق إلى الخراب والدمار( ).
ورغم توقف الأكراد خلال حرب يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل، والتي اشترك فيه الجيش العراقي، وإعلان الحكومة الجديدة التي شكلها الفريق طاهر يحيي أنها (حكومة حرب)، خاصة في ظل توقف ضخ النفط العراقي عبر سوريا، بسبب تأخر دفع شركة (أي بي سي) الأنكلو أمريكية الرسوم المستحقة للحكومة السورية، كرسوم مرور أنابيب النفط المار عبر سوريا، إضافة للأزمة الاقتصادية، التي حصلت في العراق، بسبب الفيضانات ورغم ذلك أخذ البارتي يستغل هذه الأوضاع الشاذة، ليطالب بكيان كردي ذو حكم ذاتي، رغم كل الوسائل الدبلوماسية التي عملتها الحكومة على إقناعهم بالعدول عنها، ولم تنجح مباحثاتها معهم، وهدد الوزير الكردي الذي كان بالحكومة، أنه إذا لم يحصل ذلك فإنه سوف يستقيل، مما حذا بالحكومة، إلى إجراء محادثات من خلال لجنة وزارية مع الأكراد لحل الأزمة، والسماح للأكراد بالعودة إلى قراهم بسبب العمليات العسكرية التي حدثت بين الجيش والأكراد( )، ودعت الحكومة أيضاً، رؤساء العشائر الكردية في الموصل إلى عدم الالتفات للدسائس التي تثير الشك بين أبناء الوطن الواحد، وأن الحكومة ستلتزم بمبدأ سيادة القانون وسترعى جميع المواطنين عرباً وأكراداً، وستحافظ على مصالح الجميع، وستلتزم باتفاقية البزاز مع البارتي، وأكد على ذلك رئيس الحكومة طاهر يحيي بقوله: " ليس من سياستنا أن نهمل أحد أو نفرط بحقوق أحد ويهمنا أن تشعروا ويشعر كل مواطن بالأمان أو الحرية"( ).
كما قام رئيس الحكومة بزيارة الملا مصطفى البرزاني في مقره في (راندوز) في السادس عشر من سبتمبر 1967، وبحث معه قضايا إعمار الشمال، واستغلال ثروات البلاد، بما يضمن الرفاهية والخير للجميع، وقال البرزاني حول ذلك: " إن واجبنا جميعاً يفرض أن نتصرف إلى العمل المثمر لبناء بلدنا وتطوره"( )، وتم تعيين أحد الأكراد ـ إضافة للوزير الكردي في الحكومة وهو إحسان سيرزاد وزيراً للبلديات والأشغال، وعلى هذا الأساس ساد نوع من الهدوء المنطقة الشمالية، لكن عدم قدرة الحكومة على تنفيذ الاتفاقية المبرمة، إضافة إلى عدم التزام البارتي، بها أيضاً، أتاح نوعاً من المناوشات في بعض الأحيان بين الجيش العراقي، والحركة المسلحة الكردية، وهذا يعني أن الحرب لم تتوقف بشكل نهائي في الشمال، واستمر هذا الوضع حتى سقوط النظام العارفي في السابع عشر من يوليو 1968م.
وبذلك نجد أن النظام العارفي، لم يستطع أن يقدم أي إنجاز نهائي لحل القضية الكردية، بسبب أنه لم يستطع إزالة انعدام الثقة بين الأكراد والحكومة، واستغلال عبد السلام عارف المسألة الكردية لإنجاح سياسته الداخلية، ومطامحه الشخصية، وعدم سعيه لإيجاد أي حل لهذه القضية ، بل وتشتيته للجهود التي بذلها الزعيم المصري جمال عبد الناصر لحلها( ) ، فهذه العقلية من رأس النظام العراقي تؤكد أنه غير جدير بحكم العراق، ما دام غير قادر على إيجاد مشكلة من أهم المشاكل التي يتعرض فيها كيان الوطن للتشقق، بسبب هذا التفكير السطحي ، أيضاً كان ضعف نظام عبد الرحمن عارف، وتحكم بعض العسكريين في سياسة النظام من خلال الحكومات السكرية، وعدم التزاماتها باتفاقياتها مع البارتي، بشكل يجعل الثقة تستمر بينهما، مما زاد من الهوة بين النظام والحركة المسلحة الكردية.
وفي كلا حكمي عبد السلام عارف، وشقيقه عبد الرحمن، لم يكن هدف البارتي الانفصال عن الجسم العراقي، والدليل على ذلك هو رفض هذا الحزب وجود حزب شيوعي يعمل على مستوى كردستان العراق، مؤكداً أن لكل دولة حزب شيوعي خاص بها، ويعمل على كل مستوى الدولة ( ).
وحول الاعتراف بالكويت وعلاقات العراق معها، فقد أثبت المبحث السابق، رأي عبد السلام عارف، بموضوع الكويت حيث طالب أن يتخلى عن الرئاسة مقابل قيادته لإحدى فرق الجيش لضم الكويت للدولة العراقية بالقوة ، لكن خفت حدة لهجته هذه خلال فترة حكمه للعراق، بسبب ارتباط نظامه بالنظام الناصري في مصر، الذي يرى عدم إتاحة الفرصة للتدخلات الخارجية، من خلال إثارة العلاقة الخاصة للعراق مع الكويت، وقد سار على هذا النهج الرئيس عبد الرحمن عارف، بالرغم من إيمانه الضمني بأنها أرض عراقية•، وبسبب أهمية الكويت بالنسبة للعراق، عمل النظام العارفي على محاولة جذب الكويت له، من خلال توقيع بعض الاتفاقيات الاقتصادية معه، فأجرت الحكومة العراقية برئاسة طاهر يحيي اتفاقاً مع الحكومة الكويتية بداية 1968، تؤجر بموجبه جزيرة بوبيان ذات الموقع الاستراتيجي المهم بالنسبة للساحل العراقي على الخليج العربي، واتفق الطرفان أن تكون هذه المدة تسعة وتسعين عاماً، وبمبلغ رمزي، وقد قال أحد أعضاء الوفد الكويت حول ذلك الاتفاق: " أننا أجرنا بوبيان لاعتقادنا بأن الوحدة العربية آتية في المستقبل القريب"( ).
كما أجريت مباحثات حول الاستثمارات الكويتية في العراق، من أجل تحقيق التنمية بين البلدين، وتم الاتفاق أيضاً على تزويد الكويت بالمياه العذبة العراقية من شط العرب، وضرورة التنسيق الإعلامي بين البلدين، مع انتقال الأيدي العاملة العراقية للعمل في الكويت، وتبين أحوال العمالة العراقية في الكويت( ).
وقد صرح مسؤول في وزارة التخطيط العراقية في السابع يوليو 1968 أنه تم الاتفاق مع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، من أجل تمويل كهربة مشروع سد سامراء ومشروع ورقة البصرة، والتنقيب عن الكبريت في شمال العراق، من حقل المشراق الذي يزيد احتياطه عن مائتين وخمسين مليون طن( ) ، وعلى هذا الأساس كانت علاقة العراق مع الكويت خلال فترة النظام العارفي تتسم بالإيجابية، والتعاون التكاملي بين الطرفين ومن دون أي حساسية تثير أي منهما تجاه الآخر، وربما يعود السبب بسبب المشكلة الأكثر حساسية بالنسبة للعراق، وهي قضية الشمال الكردي وما يثيره من عدم استقرار سياسي للنظام.
وحول مشكلة التمايز المذهبي في العراق، فقد اتسم النظام العارفي، في شقه الأول ـ حكم عبد السلام عارف ـ بأنه كان طائفياً بسبب طائفية عبد السلام عارف تجاه الشيعة( )،وهذا ما أثار الشيعة في العراق ضد نظامه، وعلى هذا الأساس يقول أحد السياسيين البارزين من الشيعة وهو محمد رضى الشبيبي في مذكرة قدمها إلى الحكومة العراقية في الثامن والعشرين من أكتوبر 1965 ،حيث كان رئيس الحكومة عبد الرحمن البزاز، معبراً فيها عن الاستياء الشيعي من سياسة التمييز المذهبي ضدهم، حيث رأى أن التفرقة الطائفية لم تكن مشكلة سافرة من مشاكل الحكم كما هي في ظل ذلك الحكم ، ولم تكن مصدراً باعثاً على القلق المستحوذ على الشعب، وطالما تنادى المخلصون بإتباع نهج آخر تراعى فيه المساواة المطلقة، التي أكدت عليها الشرائع المساوية والقوانين والوضعية ، وأن معظم أفراد الشعب ساخطة من جراء ذلك، وأنها تعتبر كرامتها مهانة وحقوقها مهضومة، وخاصة أنه قد ترافق ذلك بسوء اختيار من يمثلونها في جهاز الحكم ، وإذا كان من الممكن أن تغض هذه الكثرة الشعبية نظرها عن بعض حقوقها في وظائف الدولة، وترك شبابها المثقف من حملة الشهادات العالية وغيرهم دون عمل، لكنها لن تغض النظر عن التقصير المتعمد في إنعاش مرافقها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وعن التعريض بعروبتها وآصالتها، وكرامتها وإخلاصها للوطن وللدولة من خلال بعض المسؤولين والصحف، والدواوين الكبيرة في الدولة، ومن يشغلها تدل على سياسة محاباة خصوصاً، خاصة وأن كثير من هؤلاء لايملكون المؤهلات والكفاءات لشغلها ( ).
يلاحظ من هذه المذكرة أن النظام كان يمارس سياسة المحاباة تجاه الطائفة السنية في العراق، ويفضلهم في الدوائر الحكومية، على غيرهم من أبناء الوطن، من الشيعة، اعتماداً على أن رئاسة الدولة والحكومة خلال فترة عبد السلام عارف كانت سنية، حتى وإن كان معظم وزراء الحكومات خلال هذه الفترة من الشيعة، كما أن اهتمام الدولة كان في المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، كان متركزاً على السنة دون الشيعة، إضافة لما كان يثيره هذا النظام من تعريض بأصول الشيعة وتشكيك في إخلاصهم للوطن ويستدل على ذلك بأن أكثر مسؤولي الدواوين من السنة.
كما أن محاولة عبد السلام عارف، التدخل الديني ضد الأكراد من خلال دعوة المرجع الشيعي الأعلى في العراق محسن الحكيم، بأن يصدر فتوى أن الحرب ضد الأكراد هي حرب مشروعة، هي محاولة لبث الشقاق في المجمع العراقي، وقد رفض محسن الحكيم ذلك، مؤكداً أنه كمرجع أعلى لشيعة العراق، لا يمكنه أن يفرق بين جماعات الشعب وهذا إن دل فإنما يدل أن نظام عبد السلام عارف، كان يفرق بين جماعات الشعب، وهذا ما جعل (جماعة العلماء) الشيعية إلى أن تطالب بضرورة تحقيق المساواة بين المواطنين وتجنب ممارسة الظلم ضد الشيعة( ) ، لأن المذهب أو الدين هو ثقافة دينية للفرد في المجتمع ويجب على بقية أفراد المجتمع احترامها بغض النظر عن مناصبهم ومستوياتهم في الدولة، خاصة أنه قد عملت بعض العناصر المعارضة لنظام الحكم على إثارة العاطفة الدينية ضده( ).
ومما يدل على عدم احترام الرئيس عبد السلام عارف لثقافة الآخرين وعقائدهم أنه كان يرفض زيارة المراجع الشيعية، إضافة إلى أنه دعا الملا مصطفى البرزاني للتحالف معه ضد الشيعة( )، وعلى هذا الأساس فيعتبر عبد السلام عارف بنزعاته المذهبية والطائفية، فاشلاً في إحداث الوحدة الوطنية في العراق، بخلاف من سبقه من الرؤساء وخاصة عبد الكريم قاسم الذي اتسم بتسامحه تجاه الجميع، وهذا مما أثار الشيعة في العراق ضد نظامه، ونعتهم إياه بالطائفي.
لكن قد اختلف الوضع في ظل نظام شقيقه عبد الرحمن عارف، الذين كان رغم ضعفه، أكثر انفتاحاً على الشعب من خلال تسامحه المذهبي والديني، والقومي، فلم يذكر له أي بادرة أساء فيها لطائفة من الطوائف أو مذهب من المذاهب، وهذه نقطة حسنة تسجل لنظامه.
وفي ميدان احترام الدولة لثقافة المجتمع، فقد شرعت بعض الحكومات خلال هذه الفترة، بالنهوض بمسؤوليات التربية الثقافية والقومية لبعض الفئات المجتمعية كالعمال، بتدعيم ثقافتهم القومية، من خلال قانون المؤسسة الثقافية العمالية، لإعدادهم ليكونوا مواطنين لهم دورهم الرئيسي في بناء وطنهم وتنمية الوعي الثقافي سواء كان قومياً أو دينياً.
وبناءاً على ذلك فقد أعفت الحكومات العراقية خلال هذه الفترة المعابد والمساجد والكنائس الدينية من أجور الماء والكهرباء، وافتتحت بعض الكنائس عام 1964 مثل كنيسة الرسولين (مار بطرس) و(ماربولس) في بغداد، وسمحت لمواكب العزاء المتجهة إلى كربلاء من مختلف أنحاء العراق في ذكرى عاشوراء، بعد أن ألغاها نظام عبد الكريم قاسم، إضافة لاستمرار الدولة في دعم الخدمات التعليمية بغية الاستفادة من الكادر الثقافي والتعليمي لتحقيق التطور في المجتمع( )، لكن هذا الدور لم يحقق قفزة نوعية فظل تطوره واستمراره خاضعاً للوضع الاقتصادي للدولة.
يتبين لنا مما سبق أن النظام العارفي بشقيه، الشق الأول نظام عبد السلام عارف، والشق الثاني نظام شقيقه عبد الرحمن، كلاهما لم يستطع الحفاظ السلمي على وحدة البلاد، والحفاظ على التنوع الثقافي والمذهبي فيها، فكانت ممارسات النظام الطائفية في بعض الأحيان مدعاة لأحداث الشقاق داخل الدولة، وإن كانت هذه الممارسات تمثلت بالشق الأول من النظام العارفي، لكن بما أن الشق الثاني يتبع الشق الأول فكلاهما يمثل نظاماً واحداً، كما أن النظام لم يعن بالاهتمام بالقضية الكردية، وتداعياتها، بسبب عدم التزام الحكومات العراقية خلال هذه الفترة بتطبيق اتفاقياتها مع الأكراد، لكن لابد أن نشير هنا إلى الروح الانفصالية لبعض الأعضاء في حزب البارتي، وأحياناً مطالبها التي تهدد وحدة البلاد بدل أن تسعى إلى الاندماج معها، إضافة لعدم احترامها الرئيسي للغة الرسمية للبلاد وهي اللغة العربية، فالكثير من الدول فيها تعدد قومي ولغوي، لكن تبقى اللغة الرسمية هي أساس التعامل والتعليم بالنسبة للجميع، لكن البارتي كان يسعى لأن يجعل اللغة الكردية هي أساس التعامل والتعليم في المنطقة الكردية، ضارباً عرض الحائط بالتاريخ المشترك للعرب والأكراد في العراق، كما أن مطالبه كانت ذات تأثير سلبي على تطور الثقافة والتعليم والاندماج في المجتمع لجميع الفئات فيه بسبب أن مطالبه تثير القوميات الأخرى في العراق، وعلى هذا الأساس فيتحمل النظام العارفي والبارتي مشكلة إضعاف الوحدة الوطنية فيما يتعلق باحترام ووحدة البلاد ولغتها الرسمية وثقافتها الوطنية، وبالتالي يكون المحدد الأول للوحدة الوطنية في هذا المبحث لم يتحقق، وهذا يعني انتفاء أحد الشروط الأساسية للوحدة الوطنية في العراق، كما حددتها الدراسة.
ثانياً : الحرية والعدالة والمساواة في ظل النظام العارفي
بعد انقلاب عبد السلام عارف في 18 نوفمبر 1963، اتبع سياسة قاسية تجاه معارضيه، بسبب أنه كان يهدف إلى حكم البلاد حكماً أتوقراطياً، فأبعد نائبه أحمد حسن البكر ووضعه في الإقامة الجبرية، وفرض عليه أن يوقع إقراراً بأنه لن يمارس السياسة بعد ذلك، كما رفض رجوع أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث- التي حلها ميشيل عفلق عندما جاء لحل أزمة الحزب في نوفمبر1963-، حيث تم نفي حازم جواد مرة أخرى عند وصوله بغداد، وقد يكون فعل ذلك في إطار محاولته لتصفية حزب البعث نهائياً من العراق، حتى أنه أبعد النائب العام للجيش والقوات المسلحة، وقائد الأركان، حردان التكريتي، عن الجيش وعين بدل منه أحد الناصريين وهو عارف عبد الرزاق، كما أنه أخذ يثير البعثيين بسبب نعته الأمين القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي ميشيل عفلق بأنه مسيحي وملحد ، رغم علمانية البعث والبعثيين، وكان قبل ذلك قد حرض على قتل أعضاء القيادة القومية لحزب البعث، الذين جاؤوا لحل أزمة البعث في العراق عام 1963( ).
وبدل أن يرأب الصدع الذي حصل بين أبناء الشعب، بسبب ممارسة بعض أعضاء الحرس القومي، لبعض الأعمال القاسية تجاه الشعب، فأنه استغلها لنعت كل البعثيين بأنهم هم أساس هذه العمليات والمحرضين عليها، في إطار محاولاته لإبعاد الشعب عن هذا الحزب، ففتح أبواب السجون، وأماكن التعذيب أمام المواطنين، وسمى البعثيين بالمنحرفين، وأصدر كتيب حولهم سماه "المنحرفون"( ) ، بالرغم من أن أحد أهم مؤيديه وهو طاهر يحيي، والذي جعله رئيساً للوزراء بعد انقلابه كان أحد أعضاء القيادة القطرية للبعث العراقي، إضافة إلى أن عبد السلام عارف وطاهر يحيي كانا ضمن النظام القديم حيث كانا أعضاء في مجلس قيادة الثورة ، حتى أن طاهر يحيي نفسه أخذ يهاجم حزب البعث مدعياً أنه لا يمثل الشعب ، وعند أعضائه نزعة حزبية لا وطنية ، وأنه أضعف الوحدة الوطنية وأقامفجوة بين الشعب والنظام ، وزرع الأحقاد بين المواطنين ، وجرح كرامتهم( ) ، ثم أحد يدعو لوحدة الصف وسيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية طبقاً لمفاهيم الاشتراكية العربية، وضمان الحريات الأساسية التي تكفل للمواطنين الإنسانية والكرامة، وتحميهم من العنف والطغيان، من أجل تحقيق الازدهار والتقدم، وضرورة إقامة جبهة قومية مفتوحة على جميع القوى الوطنية دون أي تمييز أو تفرقة، من أجل تحقيق العدالة وسيادة القانون، وضرورة دعم القضاء، وضمان استقلاله وحياده، لتمكينه من توطيد أركان العدل في ظل القوانين والنظم المرعبة، وتعديل القوانين بما يكفل إحقاق الحق وصيانة حقوق الأفراد وتسهيل المعاملات ورعاية المنظمات والجمعيات، وأن القانون هو فوق الشبهات، وأن هدف الحكومة تقليل الفوارق بين الطبقات وتقليص الفجوات الاجتماعية والمعاشية فيما بينها في حدود العدل والقانون( )
رغم أن عبد السلام عارف عمل على استمرار العلاقات التقليدية في المجتمع العراقي، وهو الذي غذاها وشجعها من خلال استرضاء قطاعات المجتمع المحافظة اقتصادياً ودينياً، حيث شكل المشايخ في الأرياف والملاك والمقاولون في المدن ورجال الدين، شبكة من العلاقات بين سيد وتابع، ووفرت لها عائدات النفط العراقية فرصاً أكثر للنمو، من خلال المكافئات الحكومية، وكل ذلك بهدف جعل الحكم موالياً له بشكل مطلق( ).
أيضاً عمل على تشكيل حرس جمهوري من أبناء قبيلته (الجُميلة)، وهذا ما جعله يطمئن إليهم، حيث أصبحوا يدعمونه بسبب انتمائه لقبيلتهم، وليس بسبب برنامجه السياسي، حتى أنه أصبح يخص أبناء قبيلته بمعاملة خاصة، ويستفيدون بشكل أكبر من موارد الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية( ).
كما صدر في ظل حكم عبد السلام عارف قانون السلامة الوطنية العراقي، في نهاية يناير1965، حيث يبيح هذا القانون لرئيس الوزراء ـ الموالي ضرورة لرئيس الجمهورية ـ لفرض قيود على حرية الأشخاص في التنقل والمرور ومنع التجول في أماكن مخصصة وفي أوقات محددة، ويحق له اعتقال الأشخاص الذين يشتبه بهم، وحجزهم، وفرض الإقامة الجبرية عليهم في بيوتهم، وتفتيش الأماكن والأشخاص الذين يشتبه بهم وفرض قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع وتفريق الاجتماعات والتجمعات بالقوة إذا كان يخشى منها الإخلال بالأمن العام، كما يحق له حل التجمعات والجمعيات والنوادي والنقابات، إذا ثبت أنها تعارض الدولة، ويحق له منع سفر من يراه معادياً للنظام وللحاكم، وفرض القيود على السفر إلى الخارج، وفرض الرقابة على الصحف والمجلات والكتب والنشرات والأشرطة الصوتية والمرئية، إذا كانت تعارض مبادئ وسياسة الدولة، كما أجاز هذا القانون الحق لرئيس الدولة في إسقاط أو تخفيف العقوبة، وقد ظل هذا القانون ساري المفعول حتى سقوط النظام العارفي عام 1968( ).
ويلاحظ من هذا القانون أنه ينتهك أبسط حقوق الإنسان عندما يعطي لرئيس الوزراء السلطات المطلقة، فرغم أن تحقيق الأمن القومي ضرورة وواجباً على النظام، إلا أن هذا القانون، يمنع أن يكون هناك أي معارضة للنظام، وهذا يعني أن هذا النظام يتجه إلى الفاشية، خاصة أن عبد السلام عارف منع وجود أي حزب سياسي في البلاد، وبالتالي تكون تصريحات النظام حبراً على الورق، في ظل وجود هذا القانون( ).
وفي ظل هذا النظام حاول الملا مصطفى البرزاني، الذي كان له اتفاقاً مع عبد السلام عارف، لإسقاط البعث العراقي، تحت تأثير ضغوط خارجية عليه، وتخوفاً من الوحدة السورية العراقية، بعد ما قام المجلس الأعلى للدفاع المشترك بين سوريا والعراق، وأعلن عن اتفاقية عسكرية وقيادة موحدة للجيشين العراقي والسوري، كما تم الإعلان في أواخر يوليو 1963 عن قيام وحدة فيدرالية سورية عراقية، وحاول البرزاني أن يحصل على أشياء يراد منها تقليل اندماج الشمال العراقي بالوطن الأم، من خلال طلبه لإنشاء وزارة تسمى بوزارة الشؤون الكردية، وترتبط بها ألوية المنطقة الشمالية في كافة النواحي وتشرف على القضايا الإدارية والثقافية في المنطقة، لكن الحكومة رفضت ذلك على أساس أن هذا يعتبر استقلالاً( )، وعلى هذا الأساس فإن عارف في إطار تحالفه مع البرزاني، لم يكن يدرك أن هذا الاتفاق قد يؤثر على المصلحة العليا للبلاد وتحقيق العدالة بين جميع أقاليم البلاد، وهو يعلم النوايا الاستقلالية للبرزاني ، كما أنه في ظل نظام عبد السلام عارف تشكل المجلس الوطني لقيادة الثورة في العاشر من مايو 1964تحت مرسوم رقم 61 ، والذي ينص على أن يتولى هذا المجلس السلطة التشريعية للدولة والإشراف العام على شؤون الجمهورية لحماية الثورة وتحقيق أهدافها خلال الفترة الانتقالية ، وأن يمارس رئيس الجمهورية صلاحيات المجلس الوطني لقيادة الثورة لمدة عام قابلة للتجديد تلقائياً كلما تطلب الأمر ذلك، وهذا يعني الأوتوقراطية التي عمل من أجل تحقيقها عبد السلام عارف ، والتي تتناقض مع حرية البلاد والمواطنين وتحقيق المساواة والعدالة ، كونه يجعل البلاد ومصيرها في يد رجل واحد .
أيضاً في ظل نظام عبد السلام عارف، تشكل الاتحاد الاشتراكي، الذي أراد عارف، أن يجعله يضم جميع القوى السياسية الموالية له في البلاد، ورغم ذلك ظل هذا التنظيم حبراً على الورق، إضافة إلى تأسيسه للدستور المؤقت، والذي حدد فيه الحقوق القومية للأكراد، لكنه لم يحدد ماهيتها ومظاهرها، مما دعا برئيس الحزب الوطني الديمقراطي سابقاً، (كامل الجادرجي)، إلى انتقاد هذا الدستور، من خلال مذكرة قدمها للرئيس عبد السلام عارف( ).
وفي ظل هذا النظام، لم تستطع الحركة الدينية الشيعية، أن تعبر عن نفسها رغم أن القيادة الدينية السياسية ظلت في يد المرجع الديني محسن الحكيم، إضافة لما أصدره النظام من قانون التنظيم الضريبي للأوقاف، حيث استخدم أموال الأوقاف لتمويل المؤسسات الدينية السنية، وهذا مما أثار الشيعة الذين طالبوا أن يخصص جزء من الإيرادات لصالح المؤسسات الشيعية، حتى أن المرجع الشيعي محسن الحكيم سلك سياسة هجومية ضد السياسة الطائفية للنظام( )، رأى أنه من واجب الحكومة أن تعامل القوميات والطوائف المختلفة على قدم المساواة حتى يشعر الجميع أن اهتماماتهم تراعى، لأن هناك هوة بين الشعب والحكومة، بسبب ممارساتها الطائفية والإقليمية ، وهذا ما يؤدي إلى إعراض الشعب عنها ( ) ، ويلاحظ من ذلك أن النظام كان يمارس سياسة إقليمية ومذهبية، وعرفية تجاه فئات الشعب العراقي، وهذا مما يتناقض مع الحرية والمساواة العدالة التي كان من الواجب أن يراعيها النظام، هذا إذما علمنا أن رجال الدين السنة في فترة عبد السلام عارف، ومن بعده شقيقه عبد الرحمن، كانوا يتلقون أموالاً من الأوقاف الدينية، بينما رجال الدين الشيعة لا يتلقون ذلك( )، وهذا مما يثير مجموعة من أكبر فئات المجتمع العراقي ضد النظام.
كما اتهم المرجع الديني الأكبر لدى الشيعة في العراق محسن الحكيم، الرئيس عبد السلام عارف بالطائفية، لأنه يعمل على استئثار السنة بالحكم من خلال بعض الإجراءات وأهم هذه الإجراءات التي ذكرها هي( ):
1- تكوين الطبقة العليا السياسية (عرقياً ومذهبياً) كان يقتصر على السنة العرب ، وكان معظمهم ناصرية، لأن البعث كان يمثل الشيعة بشكل أكبر.
2- اعتماد عبد السلام عارف، على قبيلة الجميلة، وتقليد أفرادها أهم المناصب الحساسة في الدولة، مثل المخابرات، والدفاع، ولم يستثن سوى ناجي طالب الذي كان من المؤيدين لعارف.
3- كان موقف عارف من الجماعات الإسلامية، متوقفاً على المذهب الذي ينتمون إليها، فقد أعطى حزب الإخوان المسلمين في العراق ـ بالرغم من حظر حزبهم ـ حريات أكثر ما كان لهم قبل ذلك، على أساس أنه يمثل حزباً إسلامياً سنياً.
كما اتهم الكثير من أصحاب رؤوس الأموال من الشيعة، أن النظام عمل إجراءات التأميم للصناعة والتجارة عام 1964، بهدف استبعاد الشيعة من الاقتصاد، حيث كانت التجارة هي مجال عمل الطبقات الشيعية المتوسطة والغنية، كما أنه حلت غرف التجارة والصناعة، التي كانت تمثل أكثر الشيعة، إضافة لقيامه بتأسيس مؤسسات اقتصادية متخصصة تحت رئاسة سياسيين سنيين معينين، وعلى هذا الأساس كان تخوف الشيعة من الاتحاد مع مصر الذي كان يعمل له عارف، على أساس أن هذا الاتحاد، سيجعل الشيعة أقلية، بالرغم من أن جمال عبد الناصر اشترط عليه ضرورة تلاؤم البيئة الاجتماعية والسياسية العراقية مع مثيلتها في مصر، بسبب تخوفه أن يحصل في العراق كما حصل في سوريا عام 1961 عند انهيار الوحدة بين سوريا ومصر( ).
كما تذمر الشيعة من المادة (41) من الدستور المؤقت الذي أعلنه عبد السلام عارف عام 1964، من أن رئيس الدولة لابد أن يكون ناشئاً من أسرة عراقية تحمل الجنسية العثمانية في عام (1900)، رغم أنه حتى عام (1900) كان معظم شيعة العراق يحملون الجنسية الفارسية بسبب تهربهم من أداء الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، ومطالبتهم بحماية الدولة الفارسية الشيعية لهم، وعلى هذا الأساس حرم القسم الأكبر من الشيعة من الترشيح لرئاسة الدولة العراقية، كما أجاز نفس الدستور، سحب الجنسية العراقية ممن منحوا الجنسية العراقية، حيث كان قد صدر قانون الجنسية العراقية عام 1963، وأكثر هؤلاء الذين منحوا كانوا من الشيعة، على اعتبار أن السنة يعتبرون مواطنين أصليين، أما الآخرون فمجنسون( ).
كما قدم أحد السياسيين الشيعة البارزين وهو محمد رضا الشبيبي مذكرة لحكومة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز عام 1965 أكد فيها أن الشعور الوطني الذي يتجلى بالغيرة الوطنية والحب العميق للعراق هو الحافز الأول لصيانة وحدة البلاد، ولكن الأحداث والكوارث التي حلت به نتيجة تصارع الأهواء وتشجيع التفرقة أضعفت هذا الشعور النبيل، لذلك فمن الضروري وضع أسس قانون الانتخابات المباشرة خلال فترتها المحددة في الدستور المؤقت، على أن يجري ذلك بإشراف سلطة محايدة تضمن للشعب حرية الصحافة والرأي والتعبير، من خلال القيام باستفتاء الشعب عليه( ) ، وبناءاً عليه يتبين أن النظام قد حدَّ من حرية المواطنين، وشجع التفرقة بين المواطنين، ولم يعر أي اهتمام لرأي الشعب في القضايا الحاسمة، التي كان من الواجب أن يكون للشعب رأي فيها .
كما تخلى عبد السلام عارف عن الأعراف العسكرية، من خلال استخدامه لمنصبه في تعيين شقيقه قائداً للأركان، ورفعه إلى رتبة فريق في الجيش، رغم أنه لم يكن عنده شهادة دورة الأركان، كما تقتضي التقاليد العسكرية، إضافة إلى أن تعيينه رئيساً للبلاد بعد مقتل أخيه عبد السلام عارف، كان لاعتبارات شخصية من خلال لجنة من الضباط المتنافسين ذوي الرتب الكبيرة، والتي لا تملك أي صفة دستورية( )، خاصة أن شخصية عبد الرحمن عارف هي شخصية ضعيفة، وذات إمكانيات ذاتية محددة، كما لم يكن للشعب أي رأي في تعيينه رئيساً للبلاد.
وفي إطار محاولة عبد السلام عارف لتحسين صورة النظام، أتاح لحكومة عبد الرحمن البزاز ، على إتباع بعض الخطوات، التي تقلل من السخط الشعبي تجاهه، فحل مجلس قيادة الثورة، وأحيلت سلطاته التشريعية إلى الحكومة، ووعدت الحكومة بإطلاق الحريات السياسية، والحد من اعتقال المعارضين السياسيين، ووقف إجراءات التأميم، وإعطاء فرصة للقطاع الخاص، والشركات الخاصة، والسعي لرفع قيمة التعويضات التي تدفع للملاك، من أصحاب الأراضي المصادرة تحت شعار "الاشتراكية الحذرة"، كما عملت على تأسيس اقتصاد مختلط وفعال، إلا أن تخوف أصحاب رؤوس الأموال من استثمار أموالهم، بسبب الميول الاشتراكية لبعض الناصريين من أفراد الحكومة والجيش، إضافة لتخوف بعض المستثمرين في الزراعة من ذلك أيضاً، وهذا ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، حيث ظل العراق مستورداً للحبوب وبعض المنتجات الغذائية، إضافة لما أدت إليه الهجرة من الريف إلى المدينة، قد عقَّد مشاكل الإنتاجية الزراعية، وأثقل كاهل الحكومة في مجال الإسكان، وتوفير الرفاه الاقتصادي( )، وعلى هذا فإن عدم توفر العدالة والمساواة والحرية التي كانت في ظل النظام كان لها تداعياتها المؤسفة التي أدت إلى استمرار شك أصحاب رؤوس الأموال في كل إجراءات الحكومة حتى وإن كانت عادلة، وبالتالي استمر ضعف الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري في الدولة.
وفي ظل حكم الرئيس عبد الرحمن عارف، عملت حكومة عبد الرحمن البزاز على إطلاق سراح كثير من الأشخاص المتهمين بجرائم القتل والسرقة، واستغلال النفوذ والتجسس، رغم أن الكثير منهم كان من ذوي المكانة العالية في المجتمع، وهذا مما شجع الموظفين الصغار على انتهاج نهج الرشوة، والاستغلال والفساد، لأن من يدان بمثل هذه الجرائم كان يجب على الحكومة أن لا تدخله ضمن نطاق العفو، لأنه يسبب إضعاف الوحدة الوطنية في المجتمع، فحرية الإنسان تتوقف عن حرية الآخرين، بالرغم من أن الحكومة نفسها قد عملت على رفع القيود عن الصحافة، والعمل على تحقيق الضمانة لحرية الرأي والنشر في الصحف، وحري الاجتماع والكلام، بحيث يتسنى للناس الإطلاع على مختلف الأفكار، إضافة لما وعدت به من أنها ستجري انتخابات حرة يتم على أثرها تشكيل برلمان يشارك في الحكم، حيث يستطيع ممثلوا الشعب التكلم باسم الشعب، حيث لا تمثيل للشعب من دون إجراء انتخابات حرة، وكان الغرض من ذلك هو أن البزاز كان يبغي حل مشكلة التمرد الكردي، الذي بدوره سيقلل من التكاليف المالية على الحكومة، وبالتالي يفسح المجال للشعب للانخراط في تكتلات سياسية علنية بالشكل الذي يتفق مع ميولهم( )، إلا أن سقوط الحكومة بسبب رفض البعض لهذه الإجراءات كان له دوره في عدم نجاح البرنامج الإصلاحي للبزاز، حيث اتهمته هذه الفئات بالرجعية، وباستيراد مبادئ الغرب.
وكان قيام حكومات عسكرية بعد ذلك من خلال ناجي طالب، وطاهر يحيي وعبد الرحمن عارف قد أرجع العراق إلى عهد عبد السلام عارف، من إضعاف للحريات والعدالة، حيث قامت حكومة طاهر يحيي عام 1967، بالعمل لتحسين صورة النظام على أساس تمثيل الأكراد في الحكومة من خلال أحد الوزراء، الذين لا ينتمون للبارتي، ما أثار الملا مصطفى البرزاني الذي اتهم الحكومة بالديكتاتورية وأنها لا تمثل الشعب وقال حول ذلك:
" إن الوزارة لا تمثل الأكراد وأنها وليدة ظروف غير ديمقراطية ... ومن الضروري إحياء المؤسسات الاقتصادية خدمة للعراق والتعايش الكردي العربي .. يأتي انعدام الحكم الديمقراطي في البلاد وإطالة فترة الانتقال، وانعزال الحكم عن الشعب وعدم قدرته على العمل معه ؛ لأن تشكيل الحكومات المتعاقبة، لم يكن طبيعياً أو مستنداً على قاعدة شعبية ولا انبعثت عن إرادة الشعب ورغبته عن طريق نظام حكم برلماني صحيح ... لهذا فإن الحل الوحيد للخروج من الأزمات المستحكمة في رأينا هو تأليف حكومة وطنية تضم مختلف فئات مع نفوس الأكراد في العراق، واستجابة لمبدأ الشراكة في الوطن، وتأخذ هذه الحكومة على عاتقها التمهيد للحياة الديمقراطية البرلمانية، وتحصر مهمتها الرئيسية في تصفية الأوضاع الاستثنائية الشاذة التي هي السبب المباشر والرئيسي في أزمة الحكم المستعصية... أننا لا نريد مواصلة تحمل مسؤولية استمرار الأوضاع الشاذة وتكريس التشتت في وحدة الصف الوطني"( ).
يتبين من هذا القول أن الحكومة لم تكن تمثل جميع أطياف الشعب العراقي، وأنها لم تكن في ظل حكم ديمقراطي سليم، ولم تكن تمثل مختلف اتجاهات الشعب العراقي.
كما قامت الحكومة في الرابع من ديسمبر 1967 بإصدار قانون إنشاء المؤسسة العامة للصحافة والطباعة، مما أثار احتجاج الصحف الخاصة، بسبب إلغاء ذلك القانون لجميع صحف القطاع الخاص وعددها ستة عشر صحيفة، وحصر إجازات الصحف بموافقة مجلس الوزراء، حيث حصر إصدار الصحف بـ (الجمهورية ، والثورة، والمواطن، والمساء، والمرقب)، وباللغة الإنكليزية (بغداد، برزفر)، وعينت الحكومة موظفين حكوميين لرئاسة تحرير هذه الصحف، وحول هذه الخطوات الديكتاتورية قالت صحيفة (صوت العرب) البغدادية ، " إننا لا نملك سوى أن ننبه إلى خطورة هذا القرار الذي لا ترى فيه الجماهير إلا محاولة لإزالة معالم الحرية التي يضمنها الدستور العراقي وتؤكدها أبسط القواعد والقوانين الدولية"( ) ، حتى أن بعض الصحف المحايدة قد انتقدت هذا القانون، مؤكدة أن تأميم الحكومة للصحافة قد أفقدها أخر وسائل التعبير عن حركتها العامة ، مما اضطر الفئات السياسية المعارضة للحكم أن توجه بعض المذكرات السياسية لرئيس الجمهورية محذرة من خطورة تمادي الحكومة القائمة في سياستها المنافية للوحدة الوطنية ( ).
وبسبب السخط الشعبي من السياسية الديكتاتورية للنظام، اقترح عدداً من السياسيين على الرئيس عبد الرحمن عارف في آواخر ديسمبر 1967، تشكيل حكومة انتقالية تعمل على إقامة حكم ديمقراطي نيابي، وإنهاء الأزمة الخطيرة، والتأزم النفسي الذي يعانيه الشعب، وحذروه من تفاقم الوضع القائم في العراق، وطالبوا في بيانهم بضرورة إحكام مبدأ سيادة القانون ، والقضاء على الأسباب التي تؤدي إلى الفرقة والتمايز والتعصب، والنظر إلى الشعب كله نظرة واحدة بغض النظر عن معتقداته أفراده، أو أصولهم أو مسالكهم، وجعل مغانم هذا الوطن لهم كلهم، وضرورة إلتزام الحكومة، ببيان حكومة البزاز في التاسع والعشرين من يونيو 1966 نصاً وروحاً، وضرورة إنهاء الفترة الانتقالية للنظام، وتشريع قانون جديد للانتخابات يضمن حرية الانتخاب المباشر ويعبر عن إرادة الشعب الحرة من أجل انتخاب مجلس تأسيسي يضع الدستور الدائم الذي يجب أن تضاف فيه الحريات العامة بصورة جلية، لتقديم أسس الحياة الديمقراطية السليمة في هذا الوطن، وضرورة وضع قانون لمحاسبة الذين أثروا على حساب الشعب بأية كيفية كانت، أي بتطبيق قانون (من أين لك هذا)، بقصد صيانة الأموال العامة، ووضع حد للعبث والاستغلال والتحزب والاختلاس، وإلغاء الضرائب على غير القارين على دفعها، وتخفيف الأعباء عن كاهل صغار الموظفين وأصحاب الدخل المحدود من العمال والفلاحين وضمان مكاسبهم، وإيجاد موارد حقيقية من ثروات البلاد الطبيعية، وتمكين الشعب من الإطلاع على ما يجري بهذا الشأن بشكل واضح، وتحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية بإتباع سياسة اقتصادية رشيدة، والعمل على إقامة حكم ديمقراطي نيابي( ).
إلا أن النظام رفض هذا البيان واستمر في إجراءاته للحد من الحريات، وعدم تصحيح المسار الذي جعل الحكم ينحو نحو الفردية وانعدام العدالة والمساواة، وهذا ماحذا ببعض الصحف إلى انتقاد الوضع على اعتبار أنه يتجه نحو القضاء على الحريات الديمقراطية، ويزيد من اضطهاده للقوى التقدمية ، ويفتح أبواب السجون، والمعتقلات أمام أحرار العراق ، ويفتح المجال واسعاً أمام القوى الرجعية للقيام بنشاطها ويحاول التعاون مع بعضها وشركائها في الحكم ، وأن هذا الحكم يحاول إعادة الحرب مع الأكراد وإضعاف مقدرة الشعب العراقي ، وشل مقدرته العسكرية والبشرية والمادية في عمليات داخلية تقود لحرب أهلية في البلاد ( ).
وبسبب هذا الوضع من مصادرة لحريات الفكر والعدالة، مما أدى لانفجار الوضع في العراق باضرابات الطلاب في جامعة بغداد، والمدارس الثانوية، إضافة للمحامين والمهندسين، في الثالث عشر من يناير 1968، والتحمت هذه الظروف بممارسات النظام الطائفية والعنصرية، تجاه أفراد المجمع، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي الزراعي والصناعي والتجاري( ).
في ظل هذا الوضع انتشرت الشائعات ضد النظام، سواء ما كان منها صحيحاً أم زائفاً، واشتد عود الحزب الشيوعي الذي أخذ يتهم النظام بالضغط على الأحرار، وتعذيبهم، رغبة منه-النظام- في جعلهم يتركون الحزب الشيوعي، واتهم النظام بالرجعية ، حتى أن الحكومة ضبطت أسلحة محملة للحزب الشيوعي في العراق، في الأول من يوليو 1968( ).
في ظل هذه الأوضاع كان حزب البعث قد أعاد تشكيلاته الحزبية، وأرجع المبعدين البعثيين، وأخذ يقوى نفوذه في الجيش، حتى أنه شكل قوة رئيسية في البلاد، فأخذت بعض الصحف تثير النظام مرة أخرى ضد البعث( )، لإبعاد خطره عن الاستيلاء على الحكم، مستفيداً من انعدام الحرية والمساواة والعدالة في النظام، بالرغم مما أصاب البعث خلال هذه الفترة، من انقسامات بسبب انقلاب 23 فبراير 1966 في سوريا، ضد القيادة القومية، حيث انقسم البعث أيضاً في العراق إلى موال للقيادة القومية، وهو جناح أحمد حسن البكر، وموال لقيادة القطرية في سوريا، إضافة لما قام به علي صالح السعدي بعد طرده من القيادة القطرية، من تشكيل لتنظيم بعثي آخر أطلق عليه اسم (الحزب اليساري)( )،حيث انضم إليه بعض البعثيين في العراق.
يتبين لنا مما سبق أن النظام العارفي بشقيه، لم يستطع تحقق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة، فطبيعة نظام عبد السلام عارف الفردية والديكتاتورية والطائفية، واللامسؤولة والتي ترى تحقيق مصلحة النظام بالدرجة الأولى، بغض النظر عن تحقيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، جعلت الوحدة الوطنية تتعرض لهزات عنيفة، أثرت سلباً على وجودها في العراق، كما أن نظام عبد الرحمن عارف بحكوماته المتعاقبة، لم يستطع إصلاح ما أفسده نظام شقيقه بالقضاء على الطائفية والإقليمية، وتحقق الحرية والعدالة والمساواة لجميع أبناء الشعب، كل حسب الكفاءة والمقدرة، وكان بوسع هذا النظام التخلص من ترسبات الفترة السابقة، لكن طبيعة التركيبة المجتمعية للنظام وسيطرة فئات محددة ذات أبعاد طائفية وإقليمية وعشائرية، وطبقية، جعلت هذا النظام، يضعف الوحدة الوطنية بدل أن يزيدها قوة، وعلى ذلك فالنظام العارفي أضعف المحدد الثاني من الوحدة الوطنية حسب هذه الدراسة من هذا المبحث وهو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لجميع فئات الشعب أمام القانون.
ثالثاً : الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي
على الصعيد السياسي والاجتماعي لم يحدث تفاعل بين الشعب العراقي ونظامه السياسي خلال فترة تداعيات حكم البعث في فترة الأخوين عارف، فكان ضعف هذا التفاعل سبباً في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق، وبالتالي ساهم ذلك في سقوط النظام العارفي ، ففي إطار التفاعل السياسي بين الشعب والنظام أهمل عبد السلام عارف معظم فئات الشعب العراقي ليعتمد على التيار الناصري في حكمه وذلك بعد تخلصه من البعثيين الذين شاركوه في انقلابه، فأجبر أحمد حسن البكر الذي كان نائبه، على أن يوقع إقراراً بعدم ممارسة السياسة، وأن يتفرغ لشؤون الزراعة وتربية الماشية، وأجبره على نشر إقرار في الصحف العراقية، حتى أصبح العراقيون يلقبون البكر بأبو الهوايش أي الأبقار، وأبعد حردان التكريتي، عن قيادة الأركان، وأبعده عن القوات المسلحة بعد أن كان النائب العام لها، وأخذ يصف البعثيين بالشذوذ ، والقبح ، والإجرام، والانحراف( )، وبذلك فقد عمل على إهانة تياراً سياسياً كبيراً من الفئات المجتمعية في العراق.
لكن ما لبث أن أخذ يبتعد عن الناصريين(*) مما حذا برئيس الوزراء (عارف عبد الرازق) للقيام بمحاولة انقلابية، فكان رد فعل عارف، أن أبعدهم عن الحكم، كما أن من الأسباب التي دعته للإبتعاد عنهم هو بسبب تقاربهم من حركة القوميين العرب، الذين سموا بالحركيين، والذين كانوا يوالون جورج جيش، وكان ممثلة في بغداد (هاني الهندي)، وكان أكثر أعضاءها من الطلبة القوميين، حيث كانوا يؤيدون وحدة العراق مع مصر، إلا أنهم بعد هزيمة 1967، انحرفوا نحو الشيوعية، وأطلقوا على حركتهم اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ، وهي منظمة ماركسية تعتمد على حرب العصابات، لكن في العراق استعمل اسم "حركة القوميين العرب" ، التي اجتذبت بعض العمال العراقيين، مما جعل لها سلطة قوية مؤثرة في السياسة العراقية.
لكن مالبث عارف للعودة للاتجاه نحو مصر الناصرية، بعد تحالف الناصريين مع الحركيين ، حيث وجد نفسه بلا دعم ، فشكل مجلس رئاسي مشترك في السادس والعشرين من مايو 1964، كان الهدف منه تخطيط وتنسيق عمل الطرفين، في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتنفيذ الخطوات الضرورية لقيام اتحاد دستوري بين البلدين، ثم شكل تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق على غرار ما هو معمول في مصر، حيث سمي "الاتحاد الاشتراكي العربي : الإقليم العراقي"، وقد ضم هذا الاتحاد كل من الاستقلاليين والناصريين والحركيين، إضافة للبعثيين الذين تحولوا إلى ناصريين( ) ، ثم عمل على حل المجلس الرئاسي المشترك وشكل جهاز تنسيق سمي " القيادة السياسية الموحدة للعراق : الجمهورية العربية المتحدة " ، على أساس اتحاد القطريين في مدة أقصاها سنتين، إلا أن هذه القيادة ظلت دون فعالية، بسبب مخاوف عبد الناصر من فشل التجربة مع العراق كما فشلت مع سوريا، ولإدراكه أن القاعدة الشعبية لنظام عبد السلام عارف كانت صغيرة جداً، فالكثير من الطائفة التي ينتمي إليها وهي السنية لم يكن يدعمه، إضافة إلى الفئات المذهبية والطائفية الأخرى، فعلى سبيل المثال، لم تستمر الهدنة بين نظامه وبين البارتي، سوى لخمسة أيام، بالرغم من تدخل مصر لتحقيقها، وهذا ما أضعف من وضع الناصريين في العراق( ).
كما أنه في ظل نظام عبد السلام عارف، هرَّب الكثير من الرأسماليين العراقيين أموالهم إلى خارج البلاد، بسبب التأميم والإجراءات الاشتراكية التي اتبعها نظام عارف، وهذا مما هزَّ الاقتصاد العراقي، فازدادت البطالة، حتى وصلت إلى أكثر من عشرين ألف عاطل، وحدث التعارض بين الناصريين والمحافظين -الرافضين للتحولات الاشتراكية-، حيث قدم بعضهم استقالاتهم في الرابع من يوليو 1964، بسبب ميول عارف تجاه المحافظين، وهذا مما كان له أثر في تعيين عارف عبد الرازق ـ القريب لأحد قادة الحركيين وهو باسل الكبيسي – رئيسياً للوزراء في السادس من سبتمبر 1965، وتعيين السياسي المحافظ الدكتور عبد الرحمن البزاز، نائباً له، وبذلك حاول أن يوفق بين الناصريين والمحافظين، لكن إبعاد عارف عبد الرازق عن الحكومة بعد فشل محاولته الانقلابية، جعل عارف يكلف عبد الرحمن البزاز رئيساً للحكومة بدلاً منه، وهذا مما أثار الناصريين ضد نظم عارف رغم السمات القيادية للبزاز، فهو قد ترأس المنظمة المصدرة للنفط الأوبك، وشغل قبل ذلك منصب وزير النفط، إضافة لشغله أيضاً سفير العراق في لندن، وعميداً لكلية الحقوق في بغداد، ورئيساً لمعهد البحوث والدراسات العربية، وبذلك فقد اختلف عن العسكريين في تعدد سماته العلمية والقيادية ، وقد حاول أن يعيد الحكم إلى الديمقراطية النيابية، كونه مدنياً وليس عسكرياً، فقام برنامجه الوزاري على العمل على تحقيق وحدة العراق والحفاظ على سيادة القانون، واتباع سياسة عربية اشتراكية حكيمه، تستهدف مزيداً من الإنتاج والتوزيع العادل مع مراعاة مصالح القطاعيين الخاص والعام.
إضافة إلى الاستمرار في التعاون مع مصر مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة مع مصر( )، وحول رؤية عبد الرحمن البزاز للاشتراكية فقد أوضح ذلك في برنامج الحكومة ، أن الاشتراكية التي تفيد العراق هي الاشتراكية التي تنبع من الطبيعة العربية للشعب العراقي، هي اشتراكية تطمح إلى رفع مستوى المعيشة الفردي، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والحكومة تؤمن بالاشتراكية كوسيلة، ولا تخشى التأميم، لكن ليس هناك أي خطط مستقبلية للتأميم( ).
وكان هذا الإجراء لاستقدام رؤوس الأموال العراقية، من خلال أصحابها، وتشجيع الاستثمار بدل تهريبها إلى خارج العراق، بسبب إجراءات التأميم التي جعلتهم يتخوفون من إقامة أي مشروع في العراق، إلا أن عدم استقرار عبد الرحمن البزاز رئيساً للحكومة، وتولي أحد العسكريين بدلاً عنه ، أعاد الأمور إلى سابق عهدها، فعادت مخاوف المستثمرين من إجراءات التأميم، ومن ديكتاتورية الحكم وفي ذلك يقول البزاز: "من الأحسن كثيراً للشعب أن يخطأ في ممارسة حقوقه الديمقراطية حتى يصل ولو بعد وقت ما إلى الطريق الصحيح، من أن يحتكر السلطة شخص واحد أو جماعة واحدة تدفع إلى مهاوي الخطر بإدعائهم النخبة القادرة وحدها على معرفة ما هو صالح الشعب"( ).
وبسبب ميول عارف للانفراد بالحكم، عمل على إبعاد الناصريين مرة أخرى عن المشاركة في الحكم، ورفض طلبهم بضرورة السيطرة الحكومية على التجارة الخارجية، كما أنهم بالمقابل رفضوا النظام الدستوري الذي دعا إليه على أساس أنه نظام فردي ديكتاتوري، يتحكم فيه هو( )، كما رفضوا سيطرته على الجيش بشكل كامل، إضافة إلى تدخله في أعمال وزارة الداخلية والإرشاد دون الرجوع إلى الوزيرين المختصين، إضافة لاتفاقاته مع الشركات الأجنبية( ).
لقد أدت تدخلات عبد السلام عارف في الوزارات العراقية مثل وزارة الإعلام ، قد أثار الكثير من المسؤولين ضده ، على أساس أن هذا العمل قد أحدث فجوة بين النظام والشعب العراقي، وهذا من الأسباب التي دفعت بعض الوزراء يقدمون استقالتهم ، واعتبار أن أي ممارسة من هذا النوع قد أدت إلى تدهور الوضع الداخلي في العراق ( ) وتعميق للروح الطائفية، وتفتيت للوحدة بخلق الإقليمية، وقد حدد بعض هؤلاء الوزراء الأسباب الحقيقية لاستقالتهم بما يلي :
1. فقدان الثقة والانسجام بين الثوار.
2. انعدام الحكم الجماعي والاتجاه نحو الحكم الفردي.
3. تفتيت الوحدة الوطنية.
4. الاعتماد على العناصر الانتهازية الساذجة والمطبلة.
5. التدخل في شؤون الوزارات وفرض الموظفين على الوزراء دون اعتبار رأيهم الخاص.
6. تشجيع التكتلات في صفوف القوات المسلحة وإثارة الحقد في نفوس الضباط بعضهم ضد بعض.
7. عدم الالتزام ببرنامج العمل المتفق عليه في القاهرة في اجتماعات القيادة السياسية الأخيرة وذلك أنه لم يلزم بمبدأ القيادة الجماعية ، ولم يقبل بحث موضوع إنهاء التكتلات في الجيش ، ولم تسد الثقة والانسجام بين الثوار.
8. أصبح في اعتقادي أن الطريق إلى الوحدة بعيد المنال، وذلك لأن شروط إقامتها التي تستند على وحدة الجيش ووحدة الصف القومي لم ولن تتحقق لذلك أصبح مبرر وجودنا كوزراء وحدويين غير وارد .
يتبين من ذلك عدم وجود التوافق بين الشعب والنظام ؛ بسبب ممارسات النظام الفردية، واعتماده على بعض الأفراد الغير أكفاء في قيادة البلاد، وإثارة الشقاق بين صفوف المجتمع العراقي، وخاصة بين العسكريين، وابتعاد الحكومة عن البرامج التي وعدتها بالوحدة العربية، وبالفعل فقد أعلن جميع الوزراء الناصريون في يوليو 1965 استقالتهم، وهذا السر في تعيين العقيد عارف عبد الرازق رئيساً للحكومة، حتى لا يفقد عبد السلام عارف، أهم العناصر القيادية في الدولة وهم الناصريون، كون عارف عبد الرازق كان ناصرياً، ورغم ذلك، فقد عمل عبد السلام عارف، على ضرب الناصريين ببعضهم البعض، وهذا من أسباب قيام عارف عبدالرزاق بانقلابه الفاشل، في 15/9/1965 ، حيث حدث ذلك عندما كان عبد السلام عارف يحضر مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء، لذلك شكل الحكومة بعد ذلك عبد الرحمن البزاز( ).
أيضاً يؤكد أحد السياسيين وهو محمد رضا الشبيبي أسباب ابتعاد الشعب عن النظام والفجوة بينه وبين الشعب على اعتبار أن القانون رقم 80 لعام 1963 هو مكسباً وطنياً من الواجب الحفاظ عليه، لذلك فمن واجب السلطة أن تعرض نتيجة المفاوضات حول الاتحاد الاشتراكي على ممثلي الشعب حين تعود الحياة الدستورية إلى العراق حتى يقول الشعب كلمته فيها، وقد كان الهدف الأساسي من تكوين الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق، أن يضم منتسبي النقابات، ومختلف الفئات العاملة، غير أن هذه المنظمة لم يحالفها التوفيق على الرغم من إسناد السلطة لها مادياً ومعنوياً ؛ لأنها استندت على المصالح وقامت على مبدأ احتكار العمل السياسي وفكرة الحزب الواحد، وهذا غير مرغوب في البلاد ، ولهذا فمن الواجب أن تبادر الحكومة إلى تعديل القانون الذي قامت بموجبه هذه المنظمة ؛ لتتمكن الفئات الوطنية التي تستمد آراءها من صميم هذا البلد من ممارسة نشاطها السياسي ( ) ، فيتبين من ذلك أن الحكم الذي ادعى أنه يسعى للديمقراطية من خلال إقامة الاتحاد الاشتراكي العربي على أساس أن يضم جميع فئات المجتمع، لم يحقق المرجو منه، وقد استغله النظام، لإقامة حكم فردي، معتمد على نظام يشبه نظام الحزب الواحد المرفوض لدى الشعب العراقي، رغم أن عبد السلام عارف اعتمد فيه على الناصرين، الذين لم يشكلوا كتلة سياسية متماسكة، فكانت أفكارهم مختلفة حول القومية العربية والاشتراكية، والعالم الثالث، كما أن الكثير منهم ذو طموحات سياسية وشخصية أكثر من انتماءاتهم الأيديولوجية( ).
كما أنه في ظل هذا الحكم ، ضعفت الإجراءات على الشيوعيين، لإعطاء حكمه نوعاً من الانفتاح على بعض فئات الشعب، إلا أن الشيوعيون استغلوا هذه الحالة، وتسلل قسماً منهم عبر المناطق الكردية، وبدؤوا بتوزيع المنشورات التي تصف الحكم بالرجعي العسكرية، ثم عملوا على تشكيل منظمات شيوعية، وأسسوا إذاعة سميت "إذاعة صوت الشعب العراقي"، ثم شكلوا "اللجنة العليا لحركة الخارج للدفاع عن الشعب العراقي" ، تلك اللجنة التي كانت توجهها "لجنة تنظيم الخارج" التابعة للحزب الشيوعي، ثم دعوا إلى ضرورة تشكيل "جبهة اتحاد وطني"، وإنهاء الأحكام العرفية، وإطلاق سراح السجناء، وإعادة الموظفين والعمال إلى عملهم، ودعم الاستقلال الذاتي للأكراد، وتقوية الروابط مع الجمهورية العربية المتحدة، وتشكيل حكومة وطنية دستورية ديمقراطية( )، كما أخذوا ينتقدون بعض الفئات الحاكمة مثل حركة القوميين العرب، حيث تقول إحدى الصحف الشيوعية العراقية وهي "صحيفة العمل والعمال" البغدادية في عددها في 7/10/1965 : "إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بحركة القوميون العرب، ومن لف لفهم لن يستطيعوا إخفاء علاقتهم بالدوائر الاستعمارية، والمخابرات الأجنبية فإلى اليقظة والحذر يا جماهير الوحدة والاشتراكية المناضلة، والخزي والعار لحركة القوميين العرب عملاء الدوائر الاستعمارية الأجنبية"( ).
ولم يقتصر دورهم إلى هذا الحد بل طرحوا في 9 أكتوبر 1965 مسالة إسقاط حكومة عارف ، واستلام السلطة في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب ، وقُدم خلال الاجتماع مشروعان حول الموضوع( ) :
1-المشروع الأول ، قُدم من قبل عامر عبد الله ، الذي رأى أن سلطة عارف قد أصبحت معزولة بعد أن خرج منها الناصريون . كما أن عودة الحرب إلى المنطقة الكردية ، وزج ثلثي الجيش العراقي فيها من جهة ، واشتداد الخلافات بين عبد الناصر وعارف من جهة أخرى ، جعلت الظروف في صالح الحزب لتوجيه الضربة القاضية للنظام وإسقاطه واستلام السلطة .
2-أما المشروع الثاني ، فقد طرحه بهاء الدين نوري الذي شكك في استطاعة الحزب لوحده القيام بالتغيير ، وتخوف من تشكيل جبهة واسعة ضد الحزب ،ورأى أن مؤيدي الحزب غير مستعدين لمثل هذا العمل كما أن الأوضاع الدولية والعربية لا تساعد على ذلك ، رغم اعترافه بإمكانية نجاح التغيير ، لكنه رأى أن يسبق ذلك تعاون القوى السياسية المعارضة لحكم عارف ،وقد أيده في موقفه بعض أركان الحزب ، وفي نهاية المناقشات خرج الحزب بستة قرارات ،كان أهمها القرار المتعلق بمسألة قلب سلطة عبد السلام عارف .
وقد جرى الاتفاق في ذلك الاجتماع على الإعداد للانقلاب ، على أن يبذل كل جهد ممكن لقيام تعاون مع القوى الوطنية الأخرى ،كالحزب الديمقراطي الكردستاني ، والضباط القاسمون والعناصر القومية ذات التوجه الاشتراكي" الناصريون "،وأن لا يقوم الحزب بمفرده إلا في حالة عدم حصول التعاون المنشود على أن يكون المكتب السياسي مقتنعاً بان الظروف ملائمة والنجاح مؤكد ، وفي ختام الاجتماع تقرر إرسال رسالة من قيادة الخارج إلى اللجنة المركزية للحزب في العراق جواباً على رسالة الحزب ، وكانت وجهة نظر القيادة في الخارج ، تمثل تياراً وسطاً بين جناحي اللجنة المركزية ، ولكنها حذرت اللجنة المركزية من مغبة الإقدام على أي خطوة متسرعة مغامرة ، دون نضوج الشروط الموضوعية اللازمة للتغيير الثوري .
ورفضت لجنة تنظيم الخارج الرأي القائل بإلغاء فكرة العمل المستقل للحزب ورأت أن على الحزب أن يحاول تحقيق التعاون الوطني كهدف ثابت له في جميع الأحوال والظروف ، حتى ولو بدت تلك المحاولات صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة وما يعتريها من صعوبات ، كما رأت أن آفاق التعاون ستكون أوسع نطاقاً كلما زاد نفوذ الحزب بين صفوف الجماهير ، ورأت أيضاً أن على الحزب أن يلجأ إلى خطة مستقلة ، إذا كانت مؤيدو الحزب على استعداد كامل للإطاحة بالسلطة ، لكن إذا تلكأت القوى الوطنية في استيعابها لهذه الإمكانية ، أو رفضتها ، فعلى الحزب في هذه الحالة أن يسعى لتعبئة قوى واسعة من المؤيدين له ،كما أيدت لجنة تنظيم الخارج مسألة الإعداد لانتفاضة ضد النظام من خلال مؤيديه ، مع عدم الاستهانة بقوة النظام وأساليبه القمعية تجاه الحركات الشعبية ، وأيدت فكرة الاعتماد على الجهد الفعال لتنظيم الحزب ، داخل صفوف القوات المسلحة،في لحظة تطور الحركة الجماهيرية ووصولها إلى حالة الثورة ،أي استخدام عناصر الجيش الحزبية في الوقت المناسب تماماً لدعم الحركة الانقلابية ،وإسنادها نحو تحقيق أهدافها( ) .
كما رأت أن على الحزب أن يأخذ في الحسبان ،احتمال تطور الأوضاع إلى قيام حرب أهلية ، بسبب تواجد القوى الرجعية على الساحة من جهة ، وكون الحزب الشيوعي يمثل الاتجاهات اليسارية التقدمية ، ورأت أن الواجب في هذه الحالة يقتضي الإعداد الجيد للحرب الأهلية ، ووضع الثورة الكردية بعين الاعتبار كعنصر مساعد ، وحذرت لجنة تنظيم الخارج من التسرع بشكل مصطنع ، أو محاولة القفز فوق المراحل الضرورية للتطور والنضج الطبيعي للحزب ، والانتباه الدقيق لمحاولات النظام توريط الحزب للإقدام على خطوة متسرعة ، لكي يوجه له الضربة ، وفي الختام حددت الرسالة الأهداف الآنية للحزب ذات الأهمية الضرورية وهي( ):
1 ـ السعي لتقوية مواقع الحزب داخل الجيش ، دون محاولة إحداث أي ضجة ، والعمل على حماية التنظيم العسكري ، وتطوير إمكانياته جنباً إلى جنب مع تطوير إمكانيات الجماهير الشعبية
2 ـ بذل الجهود المتواصلة من أجل التعاون الوطني ، والسعي لتشكيل التحالفات مع القوى الوطنية التي لها الاستعداد للتعاون من أجل الإطاحة بالنظام .
3 ـ تثقيف جماهير الحزب ورفاقه ، بشكل هادئ وتدريجي ، دون إحداث ضجة حول طرق نضال الحزب في المرحلة الراهنة ، وتنشيط الحركة الجماهيرية ومنظماتها كافة ،وتوحيد جهودها ، وحثها على التحرك الجماهيري ، كالإضرابات والاحتجاجات على الحرب في كردستان ، ودفع الفلاحين إلى مقاومة النظام ، والعصيان .
4 ـ التغلب على حالة القصور البارزة في الحزب ، وأهمية إصدار صحيفة الحزب على فترات غير بعيدة ومنتظمة ، والاهتمام بالكادر ، وأهمية إجراءات الحماية لقيادة الحزب وكوادره ، من أجل حماية أسرار الحزب الهامة .
وفي نهاية المطاف وجهت قيادة الخارج انتقاداً إلى الإجراءات التي اتخذتها لجنة الحزب المركزية في الداخل ، حول الانتخابات ، وإخراج بعض الأعضاء من عضوية اللجنة المركزية ، وإدخال أعضاء جدد في اللجنة ، بالإضافة إلى بقاء كافة الأعضاء السابقين ، سواء الموجود منهم في الداخل أو الخارج .
أيضاً عمل البعث في ظل حكم عبد السلام عارف، على معارضة الحكم، فبدأ بإنشاء قيادة قطرية جديدة في الثالث عشر من فبراير 1964، ضمت كل من: "أحمد حسن البكر، وطاهر يحيي-الذي كان مندساً فيهم لصالح عبدالسلام عارف-، ورشيد مصلح، وصدام حسين، وعلي غريم، وفؤاد شاكر مصطفى، وعبد الكريم الشيخلي" وتم إبعاد علي صالح السعدي وحازم جواد وطالب الشبيب عن القيادة القطرية في الفترة ما بين 5 ـ23 تشرين الأول ، وذلك بعد عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث ، في دمشق ، حيث كان قد جرى تعاون بين السعدي والأمين القطري في سوريا حمود الشوفي ،بعد أن ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين ، والسوريين ، وسيطرا على المؤتمر ، وقراراته ، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب ـ ميشيل عفلق ـ ، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي ، وحول المزارع التعاونية للفلاحين ( )، ثم قام البعث بمحاولة انقلابية ضد عبد السلام عارف في سبتمبر 1964، لكن فشلها أدى إلى سجن القائمين بها ومن ضمنهم صدام حسين المجيد التكريتي وإجبار أحمد حسن البكر على عدم التدخل في السياسة، والإقامة الجبرية عليه، مما أدى لنشوء قيادة أقوى، وعناصر سرية تعمل بشكل أكثر فعالية( ).
لهذه الأسباب جميعها لم يكن نظام عبد السلام عارف منسجماً مع الشعب، حتى أنه بعد مقتله بحادثه الطائرة في الثالث عشر من أبريل عام 1966، قد لقي كثيراً من التشفي من قبل معارضيه، وحول مقتله يقول فيصل حسونة: " ليس الحديث عن مصرع عبد السلام محاولة للكشف عن معالم جريمة غامضة كان ثمنها حياة بضعة رجال، وإنما هو مدخل إلى أحد الخيوط التي نسجت منها مؤامرة تعرضت فيها أمه بأكملها لمأساة رهيبة"( ).
وقد تولى الحكم أخوه الفريق عبد الرحمن عارف، وذلك بعد مقتله كونه مرشحاً وسطاً بين ضباط الجيش الذين اتفقوا على توليته الحكم، بعد اختلاف بينهم دام عدة أيام، وبسبب ذلك برز التيار الإسلامي الشيعي بشكل أكثر فعاليةً ليملأ الفراغ، وليكون بديلاً للأحزاب السرية العلمانية " الشيوعي والبعث"، وعلى هذا الأساس أصبح محسن الحكيم وحزبه "حزب الدعوة" الممثل الأول للشيعة في العراق، وجذب إليه الكثير من الأوساط الشعبية والطلبة( ).
وقد قام الشيوعيون ـ وأكثرهم من الشيعة ـ في ظل حكم عبد الرحمن عارف بتنظيم حركة مقاومة مسلحة ضده، معتبرين حكمه هو استمرار لحكم أخيه على أساس أنه بنظرهم نظاماً رجعياً عسكرياً، بالرغم مما قام به من إجراءات اشتراكية من تأمينات وإصلاح زراعي، حتى أن هذا الحزب رأى ضرورة إسقاط هذا النظام من خلال الحزب الشيوعي، وتسخير الجيش لتحقيق ذلك، وعلى هذا الأساس اقترح أعضاء الحزب مايلي( ):
1- الارتباط مع الأكراد الذين يقاومون الحكم العارفي.
2- تسليح أنصار الحزب الشيوعي، وتقوية تنظيم الحزب الشيوعي داخل الجيش.
لكن بالرغم من أن عدد أنصار الحزب الشيوعي بلغ الخمسة ألاف عضو فعال، إلا أنه لم يكن له تأثير على وحدات الجيش الهامة، بعكس أعضاء حزب البعث الذين لم يتجاوزوا الأربعة مائة عضو، إلا أن تأثيره على الجيش والحكومة كان أكبر بكثير ؛ بسبب انتساب الكثير من أفراده إلى الجيش( ).
كما أدت هزيمة العرب في يونيو 1967 إلى انقسام الحزب الشيوعي، بسبب أن السكرتير العام للحزب الشيوعي "عزيز محمد" كان يود إسقاط النظام، بينما تيار القيادة المركزية للحزب بقيادة عزيز حاج حيدر كان يرى ضرورة تسليح الشعب وقيادة الكفاح الشعبي، ومن ثم إقامة حكم شيوعي من خلال سيطرة طبقة العمال على السلطة، بالرغم من عدم شعبية هذا الحزب، من منطق أن الشيعة كان لهم شعور ديني تجاه المرجعية الشيعية، إضافة للسنة سواءاً كانوا عرباً أم أكراداً، حيث كان هناك توافق سني شيعي غير حكومي بين فرعي الإخوان المسلمين وحزب الدعوة في العراق، تجاه عدداً من القضايا، فقد أكد أحد قادة حزب الإخوان المسلمين، وهو الشيخ محمد محمود الشواف، أن العلماء الشيعة كانوا يكتبون مقالات تنشر في مجلة (الأخوة الإسلامية) التي كان يصدرها الإخوان المسلمين( ).
كما أنه في ظل حكم عبد الرحمن عارف قام الحزب الشيوعي ـ جناح عزيز الحاج(اللجنة المركزية) ـ بحركة عصيان مسلح، حيث احتلوا فيها عدداً من المخافر ومراكز الشرطة في جنوب العراق، وقامت السلطات المحلية باعتقالات واسعة ضدهم، وكان من أهم أسباب ذلك هو سياسة الانفتاح على فرنسا التي قام بها النظام، في مجال التعامل مع الخارج، كما قام الحزب الشيوعي بمداهمة دائرة حكومية في السليمانية، واستولى على أموالها لتحويل نشاط حركته داخل الأهوار في الجنوب، إضافة لقيامه بعمليات اغتيال في صفوف قوات الأمن العراقي، كما أنه قام بمحاولات لاغتيال قيادات من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث في العراق، على أساس الانتقام منهم ؛ بسبب ما لحقه من أذى في ظل حكم البعث عام 1963، إلا أن السلطات العراقية استطاعت السيطرة على الحركة الشيوعية المسلحة واعتقال الكثير من أفرادها،وقتل قائدها وهو خالد أحمد زكي( ).
كما قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي تشكيل وحدات عسكرية مسلحة صغيرة وثابتة في مختلف مناطق العراق، تقوم بتصفية أكثر قادة الشرطة قسوة، ثم تشكلت في سبتمبر 1967 منظمة شيوعية مستقلة اتخذت اسم الحزب الشيوعي (القيادة المركزية) ، حيث تبنت خطأ معادياً لنظام الحكم، ودعت إلى تسليح الجماهير والعنف الثوري المنظم، والنضال الشعبي المسلح في المدن والريف بهدف إقامة حكم شيوعي( ).
أما البعث فقد عاش سلسلة مراجعات في علاقات أفراده وحياتهم الداخلية وفشله في قيادة السلطة والجبهة القومية، وأسلوب معالجته للأحداث الطارئة والمخطط لها، وقد وجهت المؤتمرات القطرية والقومية نقدها له خلال هذه الفترة، مؤكدة على أنه كان من الواجب التعبير عن الحزب بالممارسة العملية وليس من خلال التنظير قبل الفعل، وعلى هذا الأساس عمل على التخطيط لتسلم السلطة مرة أخرى، منطلقاً من ضرورة التعامل مع الحركات والأحزاب السياسية الأخرى الموجودة على الساحة، ففتح الحوارات قبل حركة 17يوليو 1968 مع الشيوعيين ومع الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الجادرجي، ومع الحزب الديمقراطي التقدمي الكردستاني، بقيادة جلال الطلباني، وفتح حواراً آخر مع الحزب الوطني الديمقراطي (البارتي) بقيادة الملا مصطفى البرزاني، ومع الفئات القومية الأخرى من أجل مشاركتهم في إقامة حكم جديد يقوم على الائتلاف، لكن هذه الأطراف لم تتعاون معه، بسبب عدم إدراكها لأهمية تلك المرحلة، أو لأنها لم تكن تمتلك إمكانيات المساهمة المباشرة لتغيير الوضع ؛ بسبب ضعف قواعدها الشعبية، وتخوفها من فشل الانقلاب المزمع قيامه، وما سيترتب عليه من نتائج، لذلك اضطر البعث للقيام بالانقلاب لوحده من خلال الاتفاق مع بعض العسكريين، ثم عمل بعد ذلك على إبعادهم بسبب ارتباطهم الخارجية مثل عبد الرزاق النايف( )، الذي كان له اتصالات خارجية مع بعض الدول الغربية، إضافة لأنه كان قد حاول الاتصال ببعض البعثيين من خارج القيادة القطرية، مثل عبد الستار عبد اللطيف، ومن جماعة " الوحدويون الاشتراكيون الديمقراطيون" برئاسة فؤاد الركابي، الذي انفصل عن البعث مشكلاً هذا التنظيم، حيث وعده بأن يجعله رئيساً للوزراء، إلا أن الركابي رفض هذا العرض( ).
كما عمل أحمد حسن البكر، قبل انقلابه، بدعوة السياسيين المؤثرين، والضباط النافذين، للاجتماع في بيته في الأول من أبريل عام 1968 للاتفاق معهم على اتفاق مشروع للتوفيق بين جميع الأطراف السياسية بما يحقق الوحدة الوطنية، وقد اتفق الجميع على مايلي:( )
1- تشكيل حكومة انتقالية.
2- ضرورة وجود فترة انتقالية معينة مدتها عامان.
3- قيام الحكومة الانتقالية بإجراء انتخابات برلمانية، لكن اشترط البكر ضرورة حل الأزمات الداخلية قبل ذلك.
4- حل مشكلة الشمال من خلال التقاء الحكومة مع الشعب الكردي نفسه وليس مع زعمات تقليدية تدعي تمثيله.
5- تشكيل مجلس وطني يتألف من (30-50) عضو من العناصر الوطنية والثورية.
6- ضرورة إقامة جيش عربي موحد لحماية الحدود العربية المحيطة بفلسطين من أجل تحقيق الأمن القومي العربي والعراقي.
7- ضرورة الاهتمام بالجيش وزيادة كفاءته وقوته وتسليمه.
إلا أن عبد الرحمن عارف رفض تحقيق هذا الاتفاق، متذرعاً بأن الوقت غير مناسب لتحقيق ذلك، وبالرغم من محاولة حكومة طاهر يحيي في بداية عام 1968، إقامة جمعية تأسيسية تقوم بدور مجلس النواب، وتمارس الإشراف التشريعي على الحكومة، إلا أنها لم تستطع تحديد القوى السياسية التي تمثل جميع فئات الشعب العراقي ؛ فالأكراد مثلاً قوة منقسمة على نفسها ، كما أن جماعة الملا مصطفى البرزاني تعارض وجود الطالباني، وجماعة الطالباني ترفض الاجتماع بالبرزانيين وهناك فئة ثالثة ترفض الاجتماع بالطرفين، وحزب البعث منقسم على نفسه فبعض الأعضاء موالين للقيادة القطرية في سوريا والتي انقلبت على القيادة القومية في 23 فبراير 1966، وآخرون ـ جماعة البكر ـ موالين للقيادة القومية، والحزب الشيوعي منقسم عل نفسه بين مؤيدين للنظرية السوفياتية أو للنظرية الصينية، أما الفئات القومية واليسارية فتعمل لأهداف معينة، ومنها من يتبع أشخاصاً وكل هؤلاء من الصعب الموافقة بينهم( ).
في ظل هذه الظروف تراجعت حملة النظام العارفي ضد البعث؛ بسبب أن النظام أصبح منهمك القوى، وعاجز عن السيطرة على القوات المسلحة والنفاذ إلى داخلها، فعمل البعث على استقطاب عدداً من الضباط في الحزب، كما كان قد تم تعيين "صدام حسين" في خريف 1966 نائباً للأمن العام للقيادة القطرية للحزب ، وذلك عقب هروبه من السجن ، وتمكن استناداً من موقعه من تشكيل ميليشيا الحزب المسلحة، التي أعطت الانطباع بسيطرة البعث على الشارع، ثم عمل بعد هزيمة يونيو 1967، على توسيع منظمة الحزب، وبرز البعث بقوة أمام الشيوعيون، وأخذ بمعاداة النظام والحكومة، مبيناً عجزها في شأن الصراع العربي الإسرائيلي واتهامها بالفساد، وبدأ بوضع خطة لإقامة نظام بعثي من جديد، وعلى هذا الأساس كان تحالفه مع كبار الضباط المقربين من الحكم، وهم نائب قائد المخابرات العسكرية العقيد عبد الرازق النايف، وقائد الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن الداود، وقائد كتيبة دبابات القصر، المقدم سعدون غيدان، حيث أن هؤلاء لم يكونوا يستطيعوا القيام بالانقلاب لوحدهم، وذلك لعدم وجود أتباع لهم في القوات المسلحة، بحيث تكون قادرة على إمدادهم بتأييد كاف يضمن لهم ولاء بقية عناصر القوات المسلحة بعد تنفيذ الانقلاب، وعلى هذا الأساس قبلوا التحالف مع البعث( )، كما كان هؤلاء العسكريون، يخططون لإسقاط النظام منذ أكثر من سنة على انقلابهم، بسبب طموحاتهم الشخصية رغم أنهم كانوا المتحكمين عملياً بالنظام، ويستطيعون إسقاط أو تعيين أي حكومة يريدونها( ).
وبالنسبة للناصريين فقد حاولوا مرة أخرى -في ظل حكم عبد الرحمن عارف- السيطرة على الحكم من خلال العقيد عارف عبد الرازق بعد مجيئه من مصر 1967 ، مما هز الثقة بين النظامين العراقي والمصري، بسبب علاقة مصر بهذا الانقلاب، حيث أن فشل هذا الانقلاب، ترك فجوة بين النظام المصري وبين النظام العراقي، وهذا ما عزز من ضعف النظام، وسمح للمعارضين للنظام تنظيم صفوفهم من أجل إسقاطه ، خاصة بعدما حدث من تخلخل ما بين حكومة ناجي طالب، والحركة الكردية، بعد رفضها لسياسة عبد الرحمن البزاز، واتفاقيته معهم، حيث أتهم البرزاني بخرق الاتفاقية التي وقعت مع البزاز، كما اتهم البرزاني الحكومة بعد تقيدها بوعودها تجاه الأكراد ، وتحالفها مع بعض العشائر الكردية ضدهم، وتعزيزها للقوات الكردية الموالية للحكومية وهم "فرسان صلاح الدين"، إضافة لما ظهر من تعدد في اتجاهات أعضاء الحكومة، والنظام، وظهور الخلافات الكثيرة وزيادة قوة المعارضة للنظام بعد تخلي الناصريون عن النظام السياسي، مما أدى لسقوط الحكومة في 26 مايو 1967، فاضطر عبد الرحمن عارف لتشكيل حكومة برئاسته ، لكن رغم ذلك لم تستطع هذه الحكومة تقوية حالتها أمام المعارضة التي قدمت عدة مطالب حيوية هي( ):
1- تعيين مجلس وطني مؤقت لحين إجراء انتخاب مجلس الأمة.
2- تأليف وزارة ائتلافية تتولى تسوية المشاكل العالقة مع الأكراد.
3- اتخاذ وسائل أكثر فعالية تجاه المخاطر الصهيونية.
4- تقوية العلاقات مع الأقطار العربية المواجهة لإسرائيل.
5- المسارعة لإجراء انتخابات عامة خلال مدة لا تتجاوز السنتين.
6- اتخاذ الخطوات الجادة لتحقيق الوحدة العربية.
7- وضع إجراءات فعالة لمعالجة القضايا والمشاكل المالية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار والأمن وتساوي الفرص أمام المواطنين.
لكن لم تستطيع الحكومة تحقيق ذلك أو وعد المعارضة بتحقيق هذه المطالب، فكلف الرئيس عبد الرحمن عارف، الفريق طاهر يحيي لتشكيل حكومة، وحدة وطنية، فحاول أن يجعل حكومته تضم ثلاثة عناصر قومية اشتراكية، وهي حركة القوميين العرب، والناصريون، وتجمع الاشتراكيون العرب، إضافة للأكراد حيث مثلهم مصلح النقشبندي بيد أنه غير منتسب للبارتي، مما حذا بالملا مصطفى البرزاني، إلى انتقاد الحكومة مقدماً بعض النصائح لها لأجل تحقيق الوحدة الوطنية( ) ، منها ضرورة وجود برلمان منتخب من قبل الشعب وإيجاد جو من التعاون بين مختلف قطاعات الشعب واتجاهاته، وطوائفه وبين السلطة ؛ للخروج بالبلاد من الوضع القائم وتشريع قانون انتخاب ديمقراطي يضمن للعراقي حق الترشيح والانتخاب، وتبديد القيود التي تحمل في طياتها مبدأ العزل السياسي ، أو استمرار حصر التنظيم والعمل السياسي بين فئة واتجاه واحد في البلاد ، ولذلك لم يساهم الأكراد في الحكومة للاعتقاد أنها غير قادرة على إنجاز هذه المهام التي يتوقف عليها حل أزمة الحكم، وإن تصفية الأوضاع الاستثنائية لا يمكن أن تتم بدون الإيمان بالديمقراطية، وانتهاجها كنظام للحكم، وبقدرة هذا الشعب على تحديد مصالحه والتمتع بكامل حقوقه في التنظيم السياسي والمهني والنقابي، وتمتعه بحق التعبير عن رأيه من صحافة حرة وطنية ، وإطلاق سراح كافة السجناء والمعتقلين السياسيين، والاعتراف للقوى القومية العربية والكردية الديمقراطية بحقها في تنظيم صفوفها وتوجيه نظرها في القضية التي تهم مجموع الشعب ، وتحقيق العدل في كافة العلاقات بين السلطة والفئات السياسية وبينها وبين الأفراد ( ).
ورغم محاولة تصفية الأوضاع الاستثنائية، وتخفيف الضغط عليها من خلال إصدارها لقانون السلامة الوطنية القاضي بإلغاء جميع قرارات الأبعاد والحجز الصادرة عن الحاكم العسكري ؛ بسبب حوادث الشمال، وإلغاء أحكام الإعدام بحق ضباط العهد الملكي الذي صدر بحقهم حكم الإعدام في عهد قاسم -ولم يعدموا- ومنهم قائد الأركان اللواء محمد وفيق عارف، ونائبه اللواء غازي الداغتساني ووزير الخارجية برهان الدين باشي، واللواء عمر علي، إضافة للضباط والقادة البعثيين مثل منذر الونداوي، الذي كان لاجئاً في سوريا، وحردان التكريتي، وعلي صالح السعدي، وهاني الفكيكي، وحميد خلخال، وعمار علوش، حيث كانت قد صدرت بحقهم أحكام غيابية ( ).
كما ساد حكومة طاهر يحيي انقساماً واضحاً وتبلور داخلها تياران هما:
1- التيار المحافظ: الحريص على البقاء وإرضاء رئيس الجمهورية ناتج على أي قرار أو إجراء إصلاحي.
2- التيار الثوري، المتحمس للإصلاح بهدف استغلال ثروات العراق من نفط وكبريت لمصلحة العراق، وتخفيف الأعباء المالية عن المواطنين العراقيين.
إلا أن ميل رئيس الحكومة لإرضاء كبار الضباط من التيار المحافظ، جعل الشارع العراقي يمتلأ بالشائعات، واتهام الحكومة بالفساد والرشوة، من خلال بعض الضباط مثل العقيد عبد الرزاق النايف الذي شكل حركة الثوريين العرب، وإبراهيم الداود، وعملا هؤلاء على الاتصال ببعض السياسيين، للتحدث إليهم بشأن الوضع القائم، وكان من بين الحاضرين أحمد حسن البكر الذي نقد سياسة الحكومة، وسياسة الرئيس عارف، مما حذا بالحكومة إلى أن تسرع في تقديم استقالتها، فتخوف النايف والداود، من تشكيل حكومة جديدة برئاسة طاهر يحيى حيث كان سينتقم منهما لما أصابه من أذى بسببهما، إضافة لتخوفهما أن تأتي حكومة جديدة تفسد عليهما خططهما ، وتخوفهما من العفو الذي صدر بحق عارف عبد الرزاق ومؤيديه ، حيث كان من الممكن أن ينقموا منهما كونهما ممن أفشل الانقلاب الناصري( ).
وقد تهجم الرئيس عبد الرحمن عارف على الأحزاب السياسية العراقية ؛ مدعياً أنها ضد الوحدة الوطنية بسبب اتهاماتها الخاطئة وإشاعاتها التي تتسم بعدم المصداقية ، وبالنسبة للاتفاق الذي عقدته الحكومة مع إيراب فهو يعتبر أنها مرحلة مهمة من مراحل استغلال الموارد الطبيعية ( ) ، وقد استغلت المعارضة في ظل هذه الأوضاع الضعف العسكري للقوات المسلحة في المنطقة الشمالية، إضافة لتخوف التيارات الإسلامية من الخطر الشيوعي الذي بدأ يظهر في الجنوب، فاندلعت المظاهرات في بغداد وبقية المدن العراقية، واستغل حزب البعث الفرصة لإحياء شعبيته وانضم إلى المظاهرات، وأظهر نفسه وتأييده لها، وآثار الطلاب ضد نظام الحكم( )، ثم كان من سعي أحمد حسن البكر للاتصال مع كبار الضباط في القصر والذين كان لهم اتصالات مع المعارضة بالخارج من خلال السفير العراقي في بيروت ناصر الحاني، الذي كان يطمح للعودة سفيراً في الولايات المتحدة، بعد أن قطع العراق علاقاته مع الولايات المتحدة عقب حرب يونيو 1967، منسِّقاً مع قائد الحرس الجمهوري السابق الذي أبعده عبد الرحمن عارف ملحقاً عسكرياً في بيروت، وهو بشير طالب، حيث نظما كلاهما المعارضة في الخارج، ضد النظام المفتقر إلى التنظيم الحزبي والشعبي( ).
مما سبق يتضح أنه لم يكن هناك تفاعل سياسي بين النظام السياسي والشعب العراقي، فلا توافق مع الأحزاب السياسية، ولا توافق مع الأكراد، ولا توافق بين أعضاء الحكومة بتياراتها المختلفة، وعدم وجود نظام ديمقراطي شعبي يمثل الشعب، من خلال برلمان، ووجود الكثير من الانتهازيين في صفوف نظام الحكم، مما أتاح المجال لتقوية المعارضة السياسية ضد النظام فنشاطات الأحزاب السياسية، واستعانة بعضها ببعض الضباط لإسقاط النظام.
وعلى الجانب الاجتماعي فلم يكن التفاعل بين الشعب والنظام بأحسن حال من الجانب السياسي، فرغم أن بعض المسؤولون مثل عبد الرحمن البزاز، كان يصف أكثر الفئات الاجتماعية كبراً في العراق وهي فئة الشيعة، بأنهم الشيعة العرب، إشارة منه إلى الأخوة التي تربطهم مع إخوانهم السنة العرب، وكثيرة مديحه لهم، حتى أنه قد اشترك في حكومته الأولى عام 1965 إحدى عشر وزيراً شيعياً، وهذا يعني أنه كان بعيداً عن الطائفية، إلا أنه كان له زلة يؤاخذ عليها كونه يمثل الشعب العراقي بكل فئاته، ففي إحدى الاجتماعات العراقية المصرية من أجل الوحدة، وصف البزاز الشيعة بالشعوبيون، وأنهم أشد قسوة من الشيوعيين( )، وما كان يجب أن يفعل مسؤولاً مثله هذا العمل أو القول، لأنه إن كان بعض الشواذ شعوبيون، إلا أن الأكثرية كانت على مدى تاريخ العراق، تسودها الروح الوطنية والقومية والدينية.
كما أن رئيس الوزراء طاهر يحيي، رغم أن معظم وزراء حكوماته كانوا من الشيعة إلا أن له بعض المواقف التي كانت تثير بعض الفئات المجتمعية كالشيعة ضد النظام، ومثال على هذه المواقف أنه عندما حضر إلى مكتب أحد أصدقائه من التجار في سوق الشورجة ببغداد، في إحدى ليال الأيام العشرة الأولى من محرم، حيث كان التجار الشيعة يقيمون مجلس عزاء الإمام الحسين (رض)، وكان هناك خطبة لأحد المشايخ الشيعة تسمع من إحدى المساجد، وبدل أن يستحسن هذا الأمر إلا أنه ترك مكتب صديقه التاجر، وأقسم أن يضرب سوق الشورجة، وتواكبت هذه الإجراءات مع استيلاء الحكومة على التجارة الخارجية، وتقليص الاستيراد الذي كان يمنح للقطاع الخاص، والذي كان معظم كوادره من الشيعة ومنحت تلك المصادرات لمؤيدي السلطة( )، وفي هذا الأمر نقول أن شعور الشيعة سيكون ضد النظام في أمر مثل هذا، لأنهم سيعتبرون أن الأمر هو ضدهم، رغم أن الشارع العربي كله كان يسير بنفس الخطوات، من تأميم وإصلاح زراعي، لكن ظن الكثير من الشيعة أن قادة السلطة قد استغلوا نفوذهم للثراء، وفي ذلك رأى أحد السياسيين الشيعة وهو محمد رضا الشبيبي ، أن الطائفية قد اعتبرت بموجب القوانين العراقية جريمة يعاقب عليها، لكن عملياً لم تطبق هذه القوانين ولم تتحقق المساواة المطلقة التي أكدت عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وإن ثورات العراق كانت من أجل إقامة حكم وطني ديمقراطي يسهم بإقامته وينعم بخيراته أبناء الشعب كافة لا يفرقهم عنصر أو دين أو مذهب، وأن تستأصل جذور النعرات المفرقة باستئصال قواعد الاستعمار وركائزه، غير أن الأحداث أثبتت عكس ذلك حيث انبعثت روح التفرقة، بشكل أشد وأعنف من ذي قبل ( ) ، فالتفرقة الطائفية قد شملت معظم المسؤولين أو القائمين بأمور الحكم، وهذا مما كان له أثر بالغ ضد النظام، من قبل أكبر الطوائف المذهبية في العراق وهي الطائفة الشيعية، فلم تنفع زيارات رئيس الحكومة طاهر يحيي للمراجع الشيعية مثل السيد محسن الحكيم، وهو أكبر المراجع الشيعية آنذاك في العراق، حيث رافقه عدة مرات للمطار في سفره من أجل أداء فريضة الحج ، كما لم ينفعه أن معظم وزراءه من الشيعة، فزلة واحدة قد تسيئ إلى النظام لأنها تصدر من مسؤول يمثل الشعب، لكن طاهر يحيي الذي وصل إلى الحكم اعتماداً على صداقته من عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن، يتسم بالتملق الشديد، فرغم أنه كان بعثياً وترك البعث عام 1964، إلا أنه أخذ يصف انقلاب عارف عام 1963 بأنه ثورة تصحيحية لمسار البعث( )، وعلى هذا الأساس كانت دعوته لتشكيل الحركة العربية الواحدة، التي ضمت مجموعة من الأحزاب الموالية للنظام بحيث تكون حزباً واحداً، يتيح له فيما بعد دمجها ضمن تنظيم الحكم الذي شكله وهو الاتحاد الاشتراك العربي، حيث تشكلت هذه الحركة، وأعدت مشروعها وميثاقها ونظامها الداخلي في التاسع من أبريل من عام 1964، ولم يشترك فيها حزب البعث حيث أصبح في موضع الملاحقة السياسية من النظام، وكانت الأحزاب والكتل التي اشتركت فيها هي: (حركة القوميون العرب، والحركة الوحدوية الاشتراكية، والوحدويون الاشتراكيون الديمقراطيين، والرابطة القومية العربية، والحزب العربي الاشتراكي، وكتلة الضباط الأحرار) ، وحددت أهدافها بالوحدة والحرية والاشتراكية والديمقراطية، إلا أن عبد السلام عارف، ما لبث أن عارض ميثاقها ووصفه بالعلماني( )، وأخذ يثير الشقاق بين أعضائها بما يؤدي إلى القطيعة بينها رغبة منه في الاستئثار بالحكم، وهذا مما ساهم أيضاً في زادة نفرة الكثيرين من حكمه ، فلكل كتلة مجموعة من أفراد الشعب الموالين لها، وخاصة حزب البعث الذي كان له الكثير من المؤيدين في صفوف الطلاب والضباط في الجيش، فإبعاده وملاحقته بشكل كامل لابد أن يثير الكثير من أبناء الشعب ضد النظام.
لكن بالمقابل رأت بعض الشخصيات الشعبية والمراجع والدينية الشيعية –على خلاف ما يشيعه البعض من ميوله الطائفية-في عارف الرجل المتدين الملتزم بمباديء الاسلام والعروبة والذي يكن حب واحترام لرجال الدين الشيعة ، وعلى هذا الأساس كان إرسالها له بيانات التأييد وأخرى للتنسيق والمناشدة بغية تحقيق تطلعات الجماهير وقد تطورت هذه العلاقة إلى علاقة تنسيق واجتماعات متبادلة مع الشخصيات والمراجع الشيعية ، من خلال استطاعته بناء علاقات احترام خاصة متبادلة مع بعض الشخصيات الشيعية البارزة في عهده ، مثل السيد محمد كاشف الغطاء رئيس جمعية منتدى النجف الأشرف لآل البيت والذي عمد-عارف- إلى تقديمه إلى الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى زياراته للقاهرة في حفل استقبال خاص أعد لكاشف الغطاء في قصر عابدين ، وذلك للتباحث بشأن مشروع الوحدة الثلاثية . وكذلك المرجع الديني السيد عبد المحسن الحكيم الذي كان يناديه "بالرئيس الحاج" و "ابننا الحاج"، حيث كان يكن تقدير خاص للسيد الحكيم، فكان يبعث رئيس الوزراء وبصحبته عدداً من الوزراء عند رغبته بالاتصال بزعيم المرجعية الشيعية في الحوزة ، وما يؤكد ذلك أنه بعث عدة مرات رئيس الوزراء طاهر يحيي للنجف الأشرف لاستشارة الحكيم في أمور الدولة ، كما كان يبتعث رئيس الوزراء لاستقبال المرجع الديني عند عودته من السفر خارج العراق ، وموافقته على استقبال المرجع الديني الشيعي الإيراني روح الله الخميني الذي طلب اللجوء السياسي إلى العراق ، كما يذكر مؤيديه أيضاً أنه كان في جلساته الخاصة ينتقد بعض رجال الدين لبعض التيارات المتشدده لتطرفها في بعض المسائل قائلاً: " أنا لست ضد الشيعة أو أي طرف أو فئة عراقية ولكني ضد السلوك الطائفي" ، كما اتصل بالمرجعيات الدينية الشيعية إضافة للسنية بغية تحديث القانون العراقي من خلال اقتباسات من الشريعة الإسلامية ، وهو أول من أقر رسمياً احتفالات عاشوراء ومن خلال الإذاعة والتلفزيون ، كما كانت لديه علاقات مع شخصيات وساسة ورجال دين مسيحيين فكان يتردد عليه بانتظام المطران رئيس طائفة الأرثوذوكس ، وكان دائم المزاح معهم فعلى إثر حملة التعريب التي أشرف عليها مصطفى جواد صرح عارف مازحاً : " لا يوجد بعد اليوم جون وججو" ويقصد بضرورة نبذ الأسماء الأجنبية والوافدة والتوجه نحو الوحدة الوطنية التي دعا لها( ).
إلا أن سياسة النظام الوحدوية مع مصر، كانت تثير الأكراد، والشيعة معاً، حيث كان يرى الأكراد أن الدولة القادمة ستكون ذات منطق عروبي ليس للأكراد فيها رأي، أما الشيعة فرؤوا أنهم سيصبحون أقلية غير حاكمة – برغم أنهم أكثرية في ظل دولة العراق- أمام دولة ذات أكثرية سنية وحاكمة ( )، بعد ما لمسوا سياسة بعض أفراد النظام الطائفية تجاههم في بعض الأمور.
كما أنه من المفيد الإشارة إلى أن النظام العارفي وإن كان له بعض الأخطاء إلا أنه لم يميز بين أفراد الشعب في أشياء كثيرة منها تشريعية لقانون الضمان الاجتماعي لجميع أفراد الشعب على حد سواء، حيث يضمن هذا القانون إعانات الحكومة للعمال، ومنح الأمومة للعاملات، وحق المرتب التقاعدي ففي حالات المرض والعطل والشيخوخة، وإعانات الأرامل، واليتامى، وإنشاء صندوق الصحة والترقية الاجتماعية، وتشريع قانون المؤسسة الثقافية العمالية، وتنمية الوعي الثقافي، من أجل قيام الحركة النقابية والعمالية على أعمدة أساسية من الوعي السليم الذي يتجه بها وجهةً قومية بناءة ، وإعداد القادة النقابيين لينهضوا بمسؤولياتهم تجاه الحركة العمالية، وتم تحقيق التلاقي بين الشيوعيين والناصريين والبعثيين في تمثيل النقابات، فأقاموا جبهة وطنية واحدة، رغم ما كان بينهم من خلافات قبل ذلك( )، كما اهتمت الدولة برعاية الشباب والعمل على الارتقاء بهم ثقافياً، وصحياً، وإعلامياً، وتحفيزهم على التمسك بالتراث العراقي وتطويره بما يواكب العصر الحديث.
لكن رغم ذلك فإن ممارسات بعض مسؤولي النظام اللامسؤولة، في عدم المساواة بين أبناء الشعب، ووجود بعض الأحزاب في ظل حكم عبد الرحمن عارف، حيث شهد عهده نوعاً من الانفتاح على الأحزاب السياسية، وأخذ بعضها يثير الشعب ضد النظام على أساس أنه قومي عربي –بالنسبة للأكراد ، ومذهبي -بالنسبة للشيعة – وكل ذلك بهدف إضعاف الحكومة( ) ، وهذا مما أضعف التأييد الشعبي للنظام، فانتشرت الشائعات حول الفساد، وأتهم التجار أن الضباط يبيعون علناً رخص الاستيراد، ويهدرون الأموال العامة لاستعمالاتهم الخاصة، وفقد النظام هيبته، فأخذ بعض الأفراد يتهمون النظام بالإقليمية على أساس أن قادة النظام كانوا من إقليم (عانه، والفلوجة، وتكريت، وراوة، وهيت)، كما أخذ البعض يصف الحكومة بأنها لا قانونية( ).
كل هذه الأشياء جعلت إصلاحات النظام الاجتماعية، ومحاولة بعض قياداته التفاعل الاجتماعي مع الشعب، تذهب سداً في ظل عدم شعور النظام بمسؤولياته تجاه الشعب، وتجاه تناقضات المجتمع العراقي، حيث لم يحدث تفاعل اجتماعي بين الشعب والنظام، لهذه الأسباب، إضافة إلى وجود روح لا مسؤولة عند بعض المسؤولين، الذين كان من الواجب أن يكونوا قدوة من أجل تحقيق الوحدة الوطنية، لا أن يكونوا عبئاً عليها، وأداة من أدوات الشقاق الاجتماعي بين النظام والشعب.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فلم يحدث تفاعل سياسي واجتماعي ؛ بسبب عدم وجود سياسية اقتصادية رشيدة يتبعها النظام مع الشعب، فقد عمل النظام على تأميم جميع المصاريف وشركات التأميم، والمؤسسات الصناعية والتجارية، وأنشأ الهيئة الاقتصادية للمصارف التابعة للدولة على أساس إدارتها للمصالح المؤممة، وتخصيص 25% من أرباح الشركات المؤممة لصالح العمال والموظفين العاملين، وتمثيلهم في مجالس إدارة الشركات( ).
ورغم أن بعض الحركات الاشتراكية قد أشادت بقرارات التأميم، التي أعلنتها حكومة طاهر يحيي، مثل حركة القوميين العرب، التي وصفت هذه الإجراءات بأنها بداية التحول الوحدوي للاشتراكية، إلا أن غرفة تجارة بغداد هاجمت قرارات التأميم، بسبب ما أدت إليه من تردي في الوضع الاقتصادي، واقترحت تشكيل لجنة استشارية لوضع مقترحات لرسم معالم سياسية اقتصادية جديدة في البلد تنجيه من مزالق الخطر ولتحقيق الاستقرار السياسي( ).
كما نشأ صراع بين دعاة إلغاء القطاع العام وإحلال الحرية الاقتصادية وبين الحكومة، بسبب هذه التأميمات التي أحدثتها الدولة، على أساس أن ذلك هو في صالح الشعب، وحلاً للأزمة الاقتصادية، واتهمت الحكومة معارضيها بالرجعية والتخلف، رغم أن إجراءات التأميم قد أدت إلى إضعاف الاقتصاد العراقي، وتسارع في نقص رؤوس الأموال، وارتفاع معدل البطالة، وأدت مصادرة الأراضي إلى تراجع الاستثمار في الزراعة، وعلى هذا الأساس بدأت مفاوضات الحكومة مع شركة النفط العراقية (أي بي سي)، في محاولة منها للتوصل إلى تسوية للمسائل العالقة، وعلاج بعض الآثار السلبية التي خلَّفها قانون الاستثمار رقم (80) على الإيرادات الحكومية، ذلك القانون الذي تم بموجبه انتزاع 95% من الأراضي التي كانت في حوزة هذه الشركة في العراق، حيث كان هذا القانون ضربة لمصالح هذه الشركة، لذلك عملت هذه الشركة على إضعاف النظام العراقي، من خلال تخفيض معدلات الزيادة في الإنتاج العراقي، بما يحدث أزمات اقتصادية( ). وعلى هذا الأساس ضعفت معدلات التنمية الاقتصادية في العراق، وبين الجدول رقم (3-3) ذلك:
الجدول (3– 3) يبين معدل التنمية في العراق في العهد العارفي
السنة نسب التغيير في التنمية الاقتصادية
1963 + 3.8%
1964 + 9.9%
1965 + 7.4%
1966 + 5 %
1967 - 7.1%
1968 - 5.7%
وعلى هذا الأساس كان النمو الاقتصادي بطيئاً ووسطياً بلغ 2.9%، بسبب عدم الاستقرار السياسي، وطبيعة النظام السياسي الفردية، وجمود علاقات الإنتاج وقوانين الإدارة الاقتصادية، وتخلف قوى الإنتاج وعلاقاته مع استمرار النمط شبه الإقطاعي في الزراعة وشبه الرأسمالي في الصناعة( ).
كما تبين بعض الدراسات أن زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي والنفطي خلال فترة الأخوين عارف، لم يحصل فيها زيادة تذكر، رغم ادعاء النظام وحكوماته المتعاقبة ذلك، فبقيت نسبة عدد العاملين بالصناعات التحويلية في المصافي بين (1.8 – 1.9)% من مجموع العاملين في العراق، انخفضت صادرات العراق النفطية، خلال نفس الفترة (1964-1968) إلى (47.3%، 44.6%، 43.5%، 38.4%، 45% )، رغم أنها كانت عام 1963 قد وصلت إلى 50%( )، وبين الجدول (2-2) مدى الزيادة في الناتج القومي للنفط والصناعات التحويلية والتعدين، وبين نسبة الناتج القومي للزراعة بالنسبة للناتج العام، وعلى هذا الأساس فلم تتحقق أي زيادة في التنمية الاقتصادية بل تناقصت في أواخر عهد النظام، وسجل الميزان التجاري خلال هذه الفترة عجزاً وانخفاضاً، بلغ 20% عام 1964، 3.4% عام 1965، و 9.2% سنة 1966( ).
ا لجدول (3-4) يبين نسبة الناتج القومي للزراعة بالنسبة للناتج القومي للنفط والتعدين والصناعات التحويلية
السنة نسبة الناتج القومي للزراعة النسبة للناتج العام (النسبة المئوية) نسبة الناتج القومي للنفط والتعدين والصناعات التحويلية (النسبة المئوية)
1963
1964
1965
1966
1967
1968 16.3%
19.5%
19.4%
19.4%
20.5%
19.2% 45.8%
43.4%
42%
41.7%
36.4%
42%
وقد أدى الضعف الاقتصادي إلى نتائج اجتماعية خطيرة تمثلت في الهجرة من الريف إلى المدينة، فانخفض سكان الريف من 44.8% خلال فترة الأخوين عارف، وازداد عدد العمال في المشاريع الصناعية( ) ، وحدثت اضطرابات عمالية، وتعرضت منشآت النفط في كركوك لأعمال تخريب في نهاية عام 1967، واعتقلت الحكومة عدداً من الناشطين ضدها، كما تعرضت منشآت أخرى لذلك، ولم يقتصر إجراءات التأميم في تأثيراتها السلبية على المواطنين والتجارة والاقتصاد، فقد عارضتها أيضاً، الفئات الدينية الإسلامية في العراق، من كلا المذهبين السني والشيعي، اللذين عبرا عن احتجاجهما على هذه الإجراءات على أساس أنها تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي، بالرغم من أن عبد السلام عارف حاول أن يصدر عدداً ن التشريعات على أساس تقيده بالإسلام، إلا أن المنظمات الدينية الشيعية أكدت استقلالها عن نظامه، ونددت بالتأميم والإصلاح الزراعي معتبرة أنها انتهاكاً لمبدأ الملكية الفردية ومخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، مما حذا بعبد السلام عارف إلى إنشاء وحدة أمنية خاصة لمراقبة المنظمات الشيعية والحد من تأثيرها( ).
وحول ضعف التفاعل الاقتصادي بين الشعب والنظام ؛ بسبب إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي يرى محمد رضا الشبيبي أن النقابات في العراق تعرضت لمختلف أوجه الضغط السياسي، وهذا ما حرفها عن خدمة منتسبيها في حدود صلاحيتها، وأغراضها المهنية، كما تحملت الفئات العاملة تبعات ذلك، ففصل وسجن كثير منهم، وحرمت عائلاتهم من مصادر عيشها، لذلك فمن واجب الحكومة أن تعيد النظر في إحكام قانون العمل ، آخذة بعين الاعتبار الأخطاء التي ظهرت لدى تطبيق ذلك القانون ، وأن تفسح المجال لقيام نقابات مهنية تراعي مصالح المنتسبين إليها رعاية حقه؛ وذلك عند تطبيق القرارات الاشتراكية ، فأصبحت أوضاع العراق المالية والاقتصادية، تزداد تخبطاً وارتباكاً بسبب زيادة البطالة، وقلة الإنتاج، وتبذير أموال الدولة، وتهريب رؤوس الأموال الوطنية، والعجز في الموازنة ، وإن الاشتراكية التي طبقت في العراق لم تغير في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، بقدر ما حسنت أحوال طبقة معينة من الموظفين والمنتفعين على حساب الآخرين ، وقد ظهرت في قانون الإصلاح الزراعي أخطاء أدت إلى تخلف الزراعة، لذلك فمن الواجب إعادة النظر في أسس ذلك القانون ، والعمل على تطوير شؤون الزراعة، وحماية الإنتاج، وتحديد واجبات الزراع والعمل على تعويض المستولى على أراضيهم، ومنحهم أصحاب حق اللزمة، وإلغاء مبدأ المصادرة بشكل مطلق ، والقضاء على البطالة ، وإعادة النظر في موضع الضرائب، خاصة ضريبة الدخل وضريبة الشركات ، وإعادة النظر في القوانين الأخرى التي شرعت في ظروف مستعجلة فجاءت مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، وغير ملائمة لأوضاع العراق ، والتقاليد الاجتماعية، لأن الشريعة الإسلامية هي الأساس الراسخ الذي يقوم التشريع عليه، وأن أي قانون أو نظام يتعارض معها يعتبر تحدياً لشعور الأمة وعقيدتها الراسخة ( ).
وعلى ذلك فكانت الإجراءات الاشتراكية عاملاً عمل على إحداث فجوة في علاقات التفاعل الاقتصادي بين النظام السياسي والشعب العراقي، ورغم أن بعض الحكومات مثل حكومتي عبد الرحمن البزاز، عملت على العمل على التقليل من هذه الإجراءات والانفتاح على الغرب من خلال محاولته إعادة الاعتبار لكبار ملاكي الأرض القدامى ، وتقديم خدمات امتيازات لهم كان قد حرمهم منها قانون الإصلاح الزراعي منذ عهد قاسم ، فقد رفع معدل الفائدة المدفوعة للإقطاعيين عن ثمن الأرض المستملكة منهم بموجب القانون ، من نصف بالمائة إلى ثلاثة يالمائة سنوياً ، وبذلك حمل كثير من الفلاحين الفقراء أعباء ليست لهم القدرة على حملها ، مما أدى لتدهور أوضاعهم الاقتصادية أكثر فأكثر ، كما أنه قام بتحديد قيمة مياه فروع الأنهر التي تتدفق لسقي تلك الأراضي ، وبذلك حقق للإقطاعيين دخلاً كبيراً ، أقتطعه من دخول الفلاحين الضعيفة أصلاً، وهذا بدوره أدى إلى معارضة التيارات القومية واليسارية ضد حكومته ونعتتها بالعمالة للغرب ، وكان ذلك من أسباب سقوطها عام 1966 ، .
وفي إطار معالجة المشاكل الاقتصادية عمل النظام السياسي على إصدار قانون تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية، التي تعمل في جميع أنحاء العراق، ما ماعدا أماكن الامتياز للشركات الأجنبية، على أساس أن يخصص 50% من عائداتها للمشاريع الصناعية والزراعية من خلال مجلس التخطيط، وقد أجرت هذه الشركة مفاوضات مع شركة (إيراب) الفرنسية و(سانيولا) الأسبانية، بغية استثمار آبار جديدة في العراق، كما وقعت الحكومة عقداً مع شركة (سوفركار) لاستخراج الغاز من حقول كركوك، إضافة لعقد اتفاقية بين الحكومة وإحدى الشركات السوفياتية للتنقيب عن الكبريت في العراق، وقد كانت هذه الاتفاقيات مع هذه الشركات بسبب ضغط المعارضة على إيقاف التعامل مع الدول التي ساندت عدوان يونيو 1967 ، وبسبب إيقاف سوريا مرور البترول العراقي عبر الأنابيب المارة بسوريا، بسبب عدم دفع شركة النفط الأنكلوأمريكية (أي بي سي) لرسوم الجمركة، مما أثَّر على الاقتصاد العراقي وأنتهى لتعطل العديد من المشاريع الاقتصادية والعمرانية( )، مما حذا بالحكومة إلى إصدار تشريعات ضريبية ورسوم جديدة، ومنها ضريبة المجهود الحربي، إضافة لفرض قيود شديدة على السفر للخارج حفظاً للعملات الصعبة، والدعوة إلى التفتيش( ).
وقد أثارت اتفاقيات الحكومة مع هذه الشركات، لاستثمار النفط، والغاز، والكبريت في العراق، الشركات الأمريكية، خاصة بعد أن رفض النظام العراقي استثمار الكبريت من قبل شركة (بان أمريكان) في منطقة الشروق، فعملت على إسقاط النظام السياسي من خلال رشوة بعض الضباط المقربين مثل : عبد الرزاق النايف، وعبد الرحمن الداود، وذلك عن طريق الملحق العسكري في السفارة العراقية في بيروت بشير طالب، إضافة للسفير العراقي في بيروت ناصر الحاني، خاصة وأن الناصريون عملوا على زيادة التوتر بين النظام والشركة الأمريكية، بتوجهاتهم المتشددة وضغطهم على النظام، لتأميم شركة نفط العراق (أي بي سي)( )، وبالفعل فقد أصدرت الحكومة القانون رقم (97) الذي ُعد امتداداً للقانون رقم (80) الذي وضعه عبد الكريم قاسم الخاص بتأميم الشركة الأنكلوأمريكية في العراق، وأن تحل محلها شركة النفط العراقية والاستثمار الوطني للنفط العراقي، وما يؤكد ذلك هو تأكيد الرئيس عبد الرحمن عارف بعد سقوطه بسنوات بعيدة 1970 من خلال مقابلة له مع الباحث حنا بطاطو حول الدور الذي لعبته هذه الشركات لإسقاط حكمه الانقلابيين لم يكونوا سوى أداة حركها إغراء المال ،وإن شركات النفط العاملة في العراق هي التي حركتهم بعد أن عقدت الحكومة عقداً مع شركة إيراب الفرنسية ، وعقداً آخر مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق ، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية ، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان] الأمريكية( ) ، كما وقعت مجموعة من الأحزاب ضد اتفاقيات الحكومة مع الشركة الفرنسية (إيراب)، وأهم هذه الأحزاب كان الحركة الاشتراكية العربية بزعامة فؤاد الركابي، والحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي، والحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني (البارتي) بزعامة الملا مصطفى البرزاني وجلال الطلباني• ، والحزبان الشيوعيان السريان (القيادة المركزية، واللجنة المركزية)، وقد وصفت هذه الأحزاب اتفاقية الحكومة مع (إيراب) بصفقة الأغبياء، وأرؤوا أن يتولى العراق بنفسه استخراج بتروله( )، رغم أن الرئيس عبد الرحمن عارف تحدى المعارضة وقال حول هذه الاتفاقية في الرابع عشر من نوفمبر1967 : "إن هذا الاتفاق ستعود بالفائدة والوفاق على العراقيين خاصة والعرب عامة"( )، وأكدت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية بعد زيارة الرئيس عبد الرحمن عارف لفرنسا أن الرئيس العراقي كان ينتظر صدور بيان حول عقد مع شركة البترول الوطنية الفرنسية، وهي فرع لشركة إيراب لاستثمار حقل الكبريت العراقي في المشراق القادر على إنتاج مليون طن سنوياً، وإنه إذا ما نجحت فرنسا في ذلك فإنها ستوجه صفعة إلى المصالح الأنكلوسكسونية، لأن الاتفاقيتين الخاصتين بالزيت تشملان مناطق اقتطعت من امتياز شركة نفط العراق الأي بي سي التي تملكها مصالح أمريكية وبريطانية( ).
وعلى هذا الأساس فإن هذا الاتفاق قد توافق مع ضرب المصالح الأمريكية والبريطانية، إضافة لإثارة المعارضة ضد النظام.
أما فيما يخص حقول الكبريت في الشمال، فبسبب ضغط المعارضة قررت الحكومة استثمار هذه المناجم وطنياً ورفض العروض الأمريكية، وقال حول ذلك الرئيس عبد الرحمن عارف في الثامن من إبريل 1968 : " قررنا أن نستعمل تلك المناجم بأنفسنا بمساعدة الخبراء الذين اتفقنا معهم من بولونيا" ( )، وهذا ما أصاب المصالح الفرنسية بخيبة أمل كبيرة وعلقت على ذلك صحيفة لومنرا الفرنسية بقولها : " لقد أصاب التعاون الفرنسي العراقي بخيبة أمل كبرى بعد فشل استثمار مشروع الكبريت في المشراق الذي كانت الشركة الوطنية للبترول (اليتانا) المتعاونة مع الأمريكيين تنوي استثماره"( ).
وهكذا انصبت على النظام العراقي المشاكل الاقتصادية، وزيادة قوة المعارضة، والضغط الخارجي لشركة نفط العراق (الأنكلو سكوسونية)، وتخلخل النظام من الداخل، لتساهم هذه العوامل في إضعاف التفاعل الاقتصادي بين النظام السياسي والشعب العراقي.
مما سبق نستنتج أنه لم يحدث تفاعل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي كبير بين النظام السياسي العراقي وبين الشعب العراقي، بحيث يزيد من قوة الوحدة الوطنية، فظل الشعب العراقي محروم من التمثيل والتعبير عن نفسه، وعدم خضوع الحكام العسكريين إلى المحاسبة عن أعمالهم خارج الحلقة الضيقة التي يعتمد استمرارهم عليها، وهذا مما أدى إلى تشجيع المؤامرات على النظام وعلى الزعامات الشخصية، كما عمل النظام بدوره على إجهاض أي محاولة لتغيير الوضع نحو المشاركة الشعبية، مثلما فعل العسكر إبان حكومة عبد الرحمن البزاز، وأصبحت الدولة أداة للسلطة بانشغال القيادة في إدارة الموارد التي تسمح لها بتعذية شبكات المحسوبية والجهاز القمعي الذي يضمن بقاءهم في السلطة، وهذا ما جعل هؤلاء يحصلون على الحصة الأكبر من الامتيازات الأكبر في المجتمع، أما المحرومون من السلطة فرغم محاولاتهم إيصال صوتهم إلى الشعب، إلا أنهم لم يستطيعوا الحصول على أية مكتسبات سياسية أو القيام بدور بارز في الدولة التي بقي أصحاب العلاقات التاريخية في الدولة يسيطرون عليها ، حتى أن الإجراءات الاشتراكية قد أفادت أصحاب السلطة أكثر مما أفادت البسطاء من أبناء الشعب، بالرغم من أنها قد أضعفت الوضع الاقتصادي في العراق، كما كان للتدخلات الخارجية بسبب محاولة العراق الخروج من التبعية الاقتصادية، واستثمار موارده بنفسه، كان لها دور في تحريض بعض فئات الشعب ضد النظام، كل هذه الأشياء عمقت الفجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين النظام السياسي والشعب العراقي، وساهمت في إضعاف الوحدة الوطنية في العراق.
رابعاً : الهوية الوطنية للجيش
اتسم قادة الجيش العراقي في العهد العارفي بأنه بعيد عن تمثيل هوية الشعب العراقي ككل، كونه كان ينتمي لطائفة محددة، وإقليم محدد، واثنية محددة، وعشيرة محددة، حتى أن بعض القطعات العسكرية كالحرس الجمهوري، كان الجنود محددين وفقاً لمعايير طائفية وقومية وعشائرية وإقليمية، رغم أن أول حكومة له كان من قبل طاهر يحيي، الذي كان عسكرياً، ودعا لعدم تدخل الجيش بالسياسة( ).
فقد اعتمد عبد السلام عارف خلال فترة حكمه الأولى الممتدة من 18 نوفمبر 1963 وحتى فبراير 1964 على الضباط العارفيين الموالين له إضافة إلى الناصريين، والبعثين وهم الذين شاركوه بانقلابه ضد البعث، رغم أنه اضطهد خلال هذه الفترة الحرس القومي، من خلال الضباط الذين اعتمد عليهم من قبيلته الجميلة، التي تضم حوالي (1400) بيتاً، وتتواجد في منطقة الرمادي، وتتميز بحالتها الاقتصادية المتدينة ( ) ، وأهم هؤلاء كان العقيد سعيد الصليبي، الذي تسلم قيادة حامية بغداد ، و شقيقه الزعيم عبد الرحمن عارف،الذي تسلم قيادة الأركان بالوكالة، وقيادة القوات الميدانية، والفرقة الخمسة ، ثم جعل نفسه- الرئيس عبد السلام عارف- القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ، وأعطى نفسه سلطات استثنائية ، ثم حوَّل اللواء العشرين، إلى الحرس الجمهوري، حيث ضم هذا اللواء ثلاثة أفواج مشاة وكتيبة دبابات، وجعله الأداة الرئيسية في توفير الدعم الرئيسي له ، أما الضباط البعثيون الذين اعتمد عليهم فأهمهم ، النائب العام للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، اللواء حردان التكريتي ، ورئيس الوزراء، الفريق طاهر يحيي ، ووزير الداخلية، والحاكم العسكري العام، والزعيم رشيد مصلح ، نائب رئيس الجمهورية، الزعيم أحمد حسن البكر ، وكلهم كانوا أعضاء في المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، إضافة إلى كونهم كانوا جميعهم من تكريت، حتى أن البكر كان من قبيلة البكوات ذات النفوذ الاجتماعي الكبير، وكان لهم دور كبير في إسقاط البعث ونجاح انقلاب عارف، فالبكر هو الذي أمر بوضع الخطة للإطاحة بالحرس القومي، أما حردان التكريتي فهو الذي قاد الطائرات وقصف مقرات الحرس القومي وأضعفه ، أما الناصريون منهم فهم المؤيدين للوحدة العراقية المصرية وأهمهم ، مدير التخطيط العسكري الزعيم محمد مجيد ،ووزير الإرشاد الزعيم عبد الكريم فرحان ، وقائد سلاح الطيران العقيد عارف عبد الرزاق ،ووزير الخارجية المقدم صبحي عبد الحميد.
ثم عمل عبد السلام عارف على التحالف مع الضباط الناصريين لإخراج الضباط البعثيين، وعاملهم بكل قسوة واحتقار، ففي 4 ديسمبر 1963 أبعد وزير المواصلات عبد الستار عبد اللطيف وفي 16 ديسمبر 1963 أخرج حردان التكريتي عن قيادة سلاح الجو ثم أبعده عن وزارة الدفاع، وعن نيابته في قيادة القوات المسلحة ، وفي 4 يناير 1964 ألغى منصب نائب الرئيس، وأبعد البكر عن نيابته في الرئاسة وجعله سفيراً في الخارجية.
هذه الأسباب حملت البعث على العمل لإسقاط عبد السلام عارف، بعد طعنه إياهم بهذه الطعنه القاسية ، فحاولوا القيام بانقلاب عسكري في 4 سبتمبر 1964 على أساس أن يقوم الانقلابيون بنسف طائرة عارف عند اقلاعها إلى مصر، ثم شن هجوم بالمدرعات والطائرات على القصر الجمهوري، إلا أن الخطة فشلت، وأرسلت مصر قوة عسكرية قوامها ستة ألاف جندي للعراق لدعم حكم عارف في 5 سبتمبر 1964( ).
وبعد ذلك عمل عبد السلام عارف على إبعاد الضباط الناصريين من خلال التمييز بين الضباط ، مما دفع بالضباط الناصريين إلى الاستقالة من الحكومة، حيث يؤكد وزير الإصلاح الزراعي عبد الكريم فرحان، أن أسباب استقالتهم، كانت سبب ضعف النظام السياسي أمام الضباط العسكريين، العارفيين، واستجابته لكل مطالبهم وثقته المطلقة بهم، وهذا ما يفسر عدم تقارب الحكومة مع الفلاحين والعمال وأهم هؤلاء الضباط الذين ذكرهم هم: (إبراهيم عبد الرحمن الداود، وعبد الرزاق النايف)، حيث كان إبراهيم عبد الرحمن الداود يأمل أن يصبح رئيساً للجمهورية بعد إسقاط النظام، وهذا ما حذا به إلى الاتصال مع بعض الضباط في الجيش، وكانت حجته في ذلك أن عبد الناصر حكم مصر وهو برتبة مقدم، أما هو فبرتبة عقيد، لكن لم يستطع أن يكشف عن نواياه إلا بعد مقتل عبد السلام عارف، بسبب ما كان لعبد السلام عارف، من شبكة واسعة من الأتباع داخل القوات المسلحة، حيث تجمعه بكثير من عناصرها، روابط النسب، أو روابط ناشئة عن تركيبات المجتمع الرجعي العراقي، إضافة لاستغلاله التنافضات المتنامية في صفوف الجيش( )، ورفعه للشعارات القومية المؤثرة على الشعب، خاصة أنه كان يرتكز على دعم إعلامي كبير من قبل النظام الناصري في مصر، الذي عمل على فضح أخطاء حقبة البعث عام 1963، وذلك بعد فشله في إبعاد البعث عن السلطة في سوريا عقب فشل حركة جاسم علوان في 18 يوليو 1963، فكان دعمه لعارف، رداً على إبعاد الناصريين عن المشاركة في الحكم في سوريا، وأملاً في حدوث انقلاب ناصري أخر في سوريا، وإسقاط البعث السوري( )، علاوة على ذلك، كان أفراد الحرس الجمهوري، من نخبة القوات المسلحة، وجعل قيادته لأحد أقربائه وهو سعيد الصليبي، وجهزه بمختلف أنواع الأسلحة، وجعله يتمركز في موقع استراتيجي قرب بغداد، لحماية النظام من أية محاولة انقلابية، كما حدّث الجيش بمعدات وتسليح معاصرين ومن ضمنها الصفقة الشهيرة باستيراد الطائرة المقاتلة ميغ 21 والقاصفة انتونوف ومنظومات الدفاع الجوي عام 1965 وأوعز لوضع الخطط والدراسات لتأسيس جهاز المخابرات العراقي وكخطوة أولى تم تهيئة إحدى المديريات التابعة للاستخبارات العسكرية بالقيام بمهام مكافحة التجسس لحين توسيعها وتدريب منتسبيها لتصبح مستقبلاً جهاز مخابرات وطني حيث زار العراق لهذا الغرض وفد عسكري مصري ضمن إطار الاتحاد الثلاثي متضمناً عناصر من المخابرات المصرية كان من بينهم الشخصية الاستخبارية المعروفة رفعت الجمال المعروف برأفت الهجان( ).
وعلى هذا الأساس لم يعط للتنظيم المدني أي أهمية أمام القوة العسكرية والأيديولوجية القومية التي تؤيده، خاصة بعد أن أطلق حملة إعلامية على الشعب العراقي، ادعى فيها أنه صاحب الفضل الأول في ثورة يوليو 1958 وليس قاسم( ).
لهذه الأسباب قام الناصريون 15 سبتمبر 1965 بمحاولة انقلابية عام 1965، ضد نظام عبد السلام عارف، من قبل رئيس الوزراء العقيد عارف عبد الرزاق حيث جهزوا الدبابات للوصول للعاصمة، وذلك أثناء وجود عبد السلام عارف في الدار البيضاء في حضوره القمة العربية عام 1965، إلا أن قائد خامية بغداد العقيد سعيد الصليبي وقائد الحرس الجمهوري العقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود تدخلا وأحبطا المحاولة قبل تطورها، وهذا ما وتر العلاقات بين عبد السلام عارف، وعبد الناصر( ).
بعد ذلك أصبح أفراد قبيلة عبد السلام عارف، هم الحكام الوحيدين في الدولة، وأصبح سعيد الصليبي يشارك عبد السلام عارف في الحلول، كما أصبح مستشاراً له، إضافة للمقدم عبد الرزاق النايف الذي جعله مراقباً لأجهزة المخابرات العسكرية، وحل المجلس الوطني لقيادة الثورة، ونقل صلاحياته إلى حكومة عبد الرحمن البزاز، وأصبحت صياغة السياسية الدفاعية والإشراف على الأمن الداخلي من اختصاص جهاز عسكري جديد هو (مجلس الدفاع الوطني) ( )، ويلاحظ من هذا الإجراء أن هذه السياسة لم تكن سوى للتخلص من غير الموالين بشكل مطلق للرئيس عارف، والدليل على ذلك أن مجلس الدفاع الوطني هو له نفس صلاحيات المجلس الوطني لقيادة الثورة، مع تبديل بعض الوجوه، إضافة لاستمرار الضباط في تدخلاتهم في السياسة الحكومية، فبسبب اتفاقية البزاز مع البارتي على حل القضية الكردية، اعترض بعض الضباط في الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع اللواء "عبد العزيز العقيلي" الذي دعا في اجتماع المؤتمر الوطني في التاسع عشر من أكتوبر 1966 إلى ضرورة استمرار القتال، متهماً الحركة الكردية بالعمالة، وأن الحكومة قد أخطأت بثلاثة أخطاء هي( ):
1- التفاوض مع المتمردين.
2- إطلاق سراح المعتقلين الأكراد.
3- الموافقة على نظام اللامركزية، الذي أدى إلى إقامة ما يسمى بمحافظة كردستان.
وقد أيده في ذلك العديد من الضباط، وأخذوا يزايدون على القضية الكردية، بتصريحات عنيفة، رغبة منهم في طموحات سياسية، وهذا مما عمق الخلافات بين الحكومات السياسية والأكراد، خاصة أن قائد الأركان بالوكالة الفريق عبد الرحمن عارف كان قد أيد تصريحات العقيلي ( )، وهذا دليل على أن عبد السلام عارف، كان من أهدافه إثارة الخلافات حول القضية الكردية، إضافة لتأييده الضمني لتصريحات العسكريين.
وكان من أسباب تدخل العسكريين ومعارضتهم لحكومة البزاز، هو أن بعضهم كان ناصري، وبما أن عبد الناصر عارض توجهات البزاز، الاشتراكية الغربية، التي اعتبرها اشتراكية رجعية، وتهدف إلى الابتعاد عن الاشتراكية الناصرية التقدمية، خاصة بعد أن أقام البزاز، علاقات ودية مع إيران وتركيا، حيث اعتبر ذلك مهادنة للسياسة العربية، ولا يتفق ذلك مع سياسة البلدان الثورية، وقد يؤدي ذلك إلى استغلال الموقف من قبل البعثيين للسيطرة على الحكم( ) ، وحتى لا تصطدم الحكومة مع الجيش حاول البزاز استرضاء قادة الجيش ، على اعتبار أن الجيش العراقي يدرك مسؤولياته، وسيحافظ على وحدة العراق، وسيقوم بدوره في الإنشاء والتعمير ورعاية المواطنين كافة وحمايتهم ، وهو لا يؤمن بالعنف حينما لا يكون للعنف ضرورة، لأنه يريد السلم حينما يكون طريق السلم مفتوحاً ومرغوباً فيه من جميع الأطراف ( ) ، لكن كان هذا الموقف بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش العراقي في الشمال، فاعتبر الضباط أن اتفاق البزاز التي أتى بعد هزيمة عسكرية، هو إهانة للجيش، خاصة أن الحكومة قامت بإطلاق سراح عدداً من جواسيس حزب البارتي التي اعتقلهم الجيش، حيث كانوا يراقبون تحركات الجيش وحكم عليهم بالإعدام، وهذا مما ساهم في تشجيع التجسس في الجيش ، وعلى هذا الأساس فقد رأى العديد من قادة الجيش أن الحكومة قد فرطت بتضحيات الجيش في الشمال وكافأت المتمردين، واستسلمت لهم رغم قدرة الجيش على هزيمتهم، حيث تعهد البزاز في 29 يونيو 1966 بتعويض ضحايا أعمال العنف في الشمال، مما اعتبر ذلك إهانة للجيش، على أساس أنه يجعله معتدياً، ويجعل المعتدين معتدى عليهم، وأن هذا ستكون عواقبه وخيمة، حيث سيشجع التمرد، ويثبط الجيش والشعب، ويستهين بدماء أبناءه ، ويستهين بدماء أبناءه( ).
رغم أن هذا يوفر على الحكومة الكثير من المتاعب، والأموال التي تصرف ؛ بسبب هذه الحرب التي لا فائدة منها، وما يدل على ذلك أن الحرب انتهت في الشمال في عهد البزاز، وتم إذاعة بيان الحكومة حول ذلك، وزار وزير الدفاع اللواء شاكر محمود شكري، زعيم البارتي الملا مصطفى البرزاني، مؤكداً أنه قد وجد أن الأكراد لا يفكرون بالانفصال، وهدفهم الوحدة الوطنية في العراق، ويؤمنون بالثورة العراقية، وقياداتها، وأن العرب والأكراد أخوة، ولا تستطيع قوى الشر أن تتسلل إلى صفوفهم، وتوقفت الإذاعة الكردية التي كانت تبث من مقر الملا مصطفى البرزاني، عن البحث بعودة السلام، حتى أن الملا مصطفى البرزاني قد أهدى وزير الدفاع مسدسه الشخصي، أما وزير الدفاع فقد قدم له نسخة من المصحف الشريف( ).
وتجدر الإشارة إلى أن إنهاء الحرب في الشمال قد أخاف بعض الضباط وأن ذلك سيقلل من امتيازاتهم المالية، وسيبعدهم عن التدخل في السياسة من خلال دعوته لإنشاء المجلس التشريعي، فأخذوا يدعون أن ذلك سيؤدي إلى استقلال المنطقة الكردية عن العراق، ثم أخذوا يضغطون على حكومة البزاز إلى أن استقالت وتسلم الحكم أحد العسكريين وهو الزعيم ناجي طالب( ).
وبسبب الحالة العشائرية والإقليمية والشخصية التي سادت ضباط الجيش خلال فترة حكم عبد السلام عارف، تم اختيار عبد الرحمن عارف رئيساً للجمهورية، بدعوى أن مجلس الدفاع الوطني، يتكون أعضاءه من مؤيدي عارف، إضافة لعدم فعالية مجلس الوزراء، رغم أن الاتجاه الشعبي المدني كان يرى أن يكون الرئيس هو عبد الرحمن البزاز كونه مديناً، بحيث تعود الشرعية الدستورية إلى البلاد، إلا أن الاتجاه العسكري رأى أن يكون الرئيس عسكرياً فإن لم يكن عبد الرحمن عارف، فوزير الدفاع السابق اللواء عبد العزيز العقيلي، أو الفريق طاهر يحيي، رغم أن البزاز قد فاز بالجولة الأولى من الانتخابات، حيث أنه في دورة الاقتراع الأولى ، حصل البزاز على 14صوتاً ، من مجموع 28صوتاً ، فيما حصل عبد الرحمن عارف على 13 صوتاً ، ونال عبد العزيز العقيلي على صوت واحد فقط ، هو صوته ، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11ضابطاً من مجموع 12، باستثناء العقيلي ، فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز ،وعضوان لعارف ، ولكون أي من الأطراف الثلاث لم يفز بأغلبية الثلثين ، بموجب الدستور فقد جرت دورة ثانية ، كان فيها تأثير الضباط حاسماً ، فقد أصروا على انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن ، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية ، مما أضطر البزاز إلى سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبد الرحمن عارف ، فقد كانت القوى المسيطرة على الجيش -وخاصة عدد من أقرباء عارف ، وفي المقدمة منهم العقيد سعيد الصليبي - لها القول الفصل في عملية الانتخاب ، كما أن عبد الناصر ، والناصريين ، حيث تدخل المشير عبد الحكيم عامر، وعبد الحميد السراج الذي كان لاجئاً في مصر، لأن يكون عبد الرحمن عارف رئيسياً، بحث يبقى النظام العراقي ناصرياً ؛ فوقفوا إلى جانب عبد الرحمن عارف ، ضد البزاز ، المعروف بنزعته القومية اليمينية، هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن عارف ، الذي يتسم بالضعف ، وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد ، وقلة طموحه ، جعل البزاز ورفاقه يرضخون لانتخاب عارف ، ويفضلونه على أي مرشح آخر ، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره على مراكزهم في السلطة( ).
بالرغم من أن عبد الرحمن عارف يتميز بضعف الشخصية أمام الجيش، وعجزه عن تأسيس شبكات محسوبية مثلما فعل أخوه ، ولم يتمتع الرئيس بخبرة واسعه في السياسية الدولية كان عبد الرحمن يفتقر إلى الدهاء والطاقة ، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات ، ويفتقد للحدس السياسي، والمعرفة بالشؤون العامة ، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة ، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة ، فكان مفتقداً لأي طموح ، ولذلك فقد كان ألعوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين ، الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية ، معتمدين على الولاءات العشائرية ، والإقليمية ، ولم تكن خلال فترة حكمه أي سياسة مميزة أو واضحة إلا بعض الإنجازات المحدودة على صعيد إكمال بعض مما بدأ به الرئيس السابق عبد السلام عارف في مجال العمران وكذلك في مجال التسليح، مما أدى لنشاط الأحزاب في عهده والتي اخترقت القوات المسلحة، وظهرت الخلافات بين ضباط الجيش، وهذا مما ساهم في سقوط الحكومات العسكرية، مثل حكومة ناجي طالب، أو طاهر يحيي، أو حتى الحكومة التي شكلها عبد الرحمن عارف، والتي جعلها كلها من العسكر، بعد اهتزت صورة النظام بعد هزيمة يونيو 1967، على أساس عدم مشاركة الجيش العراقي بشكل فعال فيها( ) ، حيث لم يكن العراق مهيأ، ولا مستعدا لتلك الحرب ،فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في الحرب ضد البارتي ، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك ،التي تزيد على ألف كم،ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة ، عند الحدود السورية الأردنية ،حيث أوعز لها عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة وهو العسكري الذي كان بالأمس رئيساً لأركان الجيش ، ثم أصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة ، بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد ، فقد وقف يخطب من دار الإذاعة والتلفزيون معلناً تحرك القوات العراقية إلى ساحة المعركة ، وكان ذلك التصرف خير منبه لإسرائيل لتهاجم طائراتها القوات العراقية وهي في طريقها عبر الصحراء منزلة بها الخسائر الكبيرة ، ومن الأخطاء الكبيرة في تصرفاته ، أنه وقف يخطب بعد نهاية الحرب مؤكداً بخطابه أن إسرائيل تعرف عن العرب أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.
في ظل هذه الأوضاع لم يستطع عبد الرحمن عارف أن يقيم علاقات سرية مع الكتل العسكرية المتنافسة، وظل يعتمد في استمرار حكمة على الحرس الجمهوري، معتقداً أن ولاء قبيلته التي معظم أفرادها من الحرس الجمهوري كاف لذلك، كما ترك للآخرين مهمة تنظيم الوحدات الأخرى في الجيش، لكنه فشل في دمجهم في دائرة المقربين له، وهذا ما جعله عاجزاً فرض سيطرته على الخلافات الحزبية بين الضباط، ولم يحسن استغلالها لصالح حكمه، كما لم يستطع حماية الحكم المدني من الانهيار في ظل حكومة البزاز الثابتة، أمام عداء ضباط الجيش لها( )
وبسبب اتجاهات نظام عبد الرحمن عارف، الابتعاد عن السياسة الناصرية في مصر، دعم النظام المصري العقيد عارف عبد الرازق الذي كان لاجئاً في مصر، على القيام بانقلابه، في 29 يونيو 1966، حيث تسلل سراً إلى العراق، ثم قام بحركة مسلحة في الموصل، واتصل بمعسكر أبو غريب، والتاجي غرب بغداد، وانضم إليه قائد الفرقة الرابعة في الموصل ومن خلال مطارها العسكري، توجهت عدة طائرات لقصف معسكر الرشيد في بغداد، لكنها فشلت، وأخفقت المحاولات الأخرى للاستيلاء على المعسكرات، وتم القبض على عارف عبد الرزاق في الموصل، وبعد فترة جرت تسوية سياسية مع مصر حوله، حيث أطلق سراحه بعد تدخل عبد الناصر بشأنه( ).
وفي ظل حكم عبد الرحمن عارف، تسنى للعسكر إسقاط حكومة البزاز ليتولى أحد العسكريين وهو الزعيم ناجي طالب، الذي وعد العسكر أنه سيعيد هيبة النظام والقوات المسلحة بعد اتفاقية البزاز مع البارتي، وعلى هذا الأساس أصبح ضباط الجيش لهم نوع من الوصاية على الحكومة والنظام، لكن تميزت هذه الحكومة، بأنها لم تستطع معالجة الأزمة الاقتصادية، مما أدى لسقوطها بعد أشهر قليلة من تشكيلها، فشكل الحكومة الفريق عبد الرحمن عارف، والتي قامت خلالها حرب يونيو 1967، ولم يشارك العراق إلا بقوات رمزية بسبب فوضى الحكم وضعف المعنويات والافتقار إلى السلاح الفعال، بعد استنفاذ القوة العراقية بسبب حرب الشمال، وفقدان الجيش لخيرة ضباطه ؛ بسبب عمليات الأبعاد والتسريح في إطار الصراعات على السلطة ، فكانت الشخصية الضعيفة للرئيس عارف في المشاركة الفعلية في هذه الحرب تعكس الأوضاع العراقية والفوضى فيها( ) ، فلم ينفعه تسامحه ومحاولاته في فسح المجال لمعارضيه بنوع من الديمقراطية وتأسيسه لما يعرف بالمجلس الرئاسي الاستشاري الذي ضم عدداً من رؤساء الوزارات السابقين وكان يعد بعضهم من الخصوم، واستقباله عدداً من القطعات العسكرية والأسراب الجوية المصرية والفلسطينية للقيام بعمليات عسكرية انطلاقاً من الأراضي العراقية ومن ضمنها عملية إيلات.
فازداد السخط الشعبي بعد هزيمة يونيو 1967، لذلك عمل النظام على قطع علاقاته مع بريطانيا والولايات المتحدة، وأبقى على القوات العراقية الرمزية في الأردن، لكن لم يستطع النظام رغم ذلك إنهاء الازدراء الشعبي بسبب ضعف الجيش وأوضاعه المتردية، مما دفع بالرئيس عبد الرحمن عارف لمعالجة الأزمة بتقوية الجيش من خلال زيادة تسليحه، فقام بسلسلة زيارات للدول الأوروبية، وعمل على زيادة عائدات النفط من خلال قيامه ببعض الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية النفطية( ).
وفي العاشر من يونيو 1967 كلف الرئيس عبد الرحمن عارف، الفريق طاهر يحيي بتشكيل الحكومة، إلا أنه رغم رئيس الحكومة الجديد عمل على جعل معظم أعضائها من المدنين، بحيث يستطيع إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة، بيد أنه واجه مشكلة انتساب العديد من قادة الجيش إلى الأحزاب السياسية، مما جعل الضغط على الحكومة كبيراً من قبل المعارضة، رغم الدعوات الوحدوية التي دعت إليها الحكومة، على أساس تجاوز هزيمة يونيو 1967( )، لكن من محاسن هذه الحكومة أنها عملت على تجاوز الأزمة الاقتصادية، من خلال اتفاقياتها مع الشركة الفرنسية (إيراب) لاستثمار النفط، فقامت الدوائر الغربية، بإثارة المعارضة في الداخل، والتي يخضع الكثير منها للعشائرية والطائفية والأمور الشخصية، وقاد الحملة المعارضة شقيق وزير الدفاع الأسبق عبد العزيز العقيلي وهو (غانم العقيلي) الذي قال: " إن الاتفاق مع إيراب هي في كل الأحوال بمثابة استعمار جديد للعراق أسوء من الاستعمار الكلاسيكي المتهمة به الأي بي سي"( ) ، كما بدأ السياسيون العسكريون يتدخلون في الحياة السياسية بشكل سافر وشكلوا لجنة سياسية على أساس حل الأزمة الحكومية، وعقدوا اجتماعهم في منزل اللواء المتقاعد أحمد حسن البكر، بعد السماح بعودته إلى الحياة السياسية ، وقرروا عدة أمور أهمها الاستمرار في العناية بالجيش من كل الوجوه، وتعزيز قياداته بالأكفاء من الضباط الذين أدت ظروف الماضي إلى تركهم في الجيش ، ويجب العمل بدأب على تخليص الجيش من التدخل في شؤون الأمن الداخلي ؛ ليتفرغ لمهمته الأصلية الكبرى، للمساهمة في معركة العرب الكبرى( ).
وفي نهاية مارس 1968 اجتمع الرئيس عبد الرحمن عارف مع هؤلاء العسكريين السياسيين وبحث معهم عن حل للمسائل السياسية والاقتصادية، على أمل تجديد الفترة الانتقالية لتشكيل مجلس تشريعي إلى سنتين آخرين، وتشكيل حكومة جديدة، إلا أنه في منتصف أبريل من نفس العام حدث انشقاق بين النظام من جهة وبين المعارضة السياسية العسكرية من جهة أخرى، حيث عقدت المعارضة، اجتماعاً، حضره رئيس الوزراء طاهر يحيي، في منزل اللواء أحمد حسن البكر، وقدموا مذكرة إلى الرئيس عبد الرحمن عارف، احتجوا فيها على الوضع الراهن من عدة نواح اقتصادية وعسكرية وسياسية واجتماعية، وأكدوا أن اجتماعاتهم السابقة لم يسفر عن أية نتائج إيجابية لذلك فقد اتفقوا على عدة أمور أهمها( ):
(1) تشكيل مجلس وطني من ثلاثين عضواً يمارسون اختصاصات السلطة التشريعية وتشارك في رسم سياسة البلاد داخلياً.
(2) تشكيل وزارة ائتلافية قوية تتصف بالكفاءة والنزاهة والماضي النظيف، والشعور بالمسؤولية لتحقيق حل المشكلة في الشمال وإجراء انتخابات عامة في البلاد بأسرع ما يمكن في مدة أقصاها سنتان.
(3) تأمين الاستقرار والأمن وتحقيق مبدأ سيادة القانون، وحماية الحريات العامة وتكافؤ الفرص بين المواطنين.
إلا أن الحكومة رفضت أي تبديل وزاري، كما رفض عبد الرحمن عارف، تغيير الحكومة، ورفض الاجتماع بالسياسيين العسكريين، على أساس أن مطالبهم متناقضة، وطالبهم أن يضيفوا مطالبهم على شكل ميثاق أو خطة محددة، ورغم أنهم قاموا بذلك، بعد اجتماعهم مرة أخرى في منزل البكر، إلا أن الرئيس عبد الرحمن عارف رفض تشكيل وزارة ائتلافية، واستصعب هذا الأمر.
وقد استاء هؤلاء السياسيون من إهمال مطالبهم، وبدؤوا بعقد اجتماعات سرية للانقلاب على النظام معتبرين أن مذكرتهم الأخيرة هي بمثابة إنذار أخير للنظام، إلا أن النظام أحس بالخطر فشرع بالعمل لإقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، لكن مع نفس رئيس الوزراء الفريق طاهر يحيي، رغم أن كل الحكومات التي شكلها لم تستطع معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية في العراق، وهذا مما دعا لتخوف بعض الانقلابيين مثل نائب قائد المخابرات العسكرية (عبد الرزاق النايف) الذي كان قد شكل كتلة سماها (حركة الثوريين العرب) ، ومع قائد الحرس الجمهورية عبد الرحمن إبراهيم الداود، لذلك أجرى النايف عدة اتصالات مع بعض القادة العسكريين، ورأى أن أحمد حسن البكر هو أفضل من يحقق له مطالبه( ).
إضافة إلى ذلك أن من أسباب تحرك النايف هو أنه كان قد عمل مع الداود على إضعاف حكومة طاهر يحيي بإثارة الناصريين ضده، ورأى أنه فيما لو تشكلت حكومة جديدة برئاسة طاهر يحيي، فإنه سيشرع بتصفية الضباط الموالين للنايف، وبالفعل فقد بدأ مع قائد الأركان اللواء إبراهيم فيصل الأنصاري بعمليات تسريح لأنصاره، ورغم تدخل عبد الرحمن عارف لإيقاف هذه التنقلات إلا أنها لم تلغ، فكان هذا حافزاً للنايف للتعجيل بالانقلاب قبل تشكيل الحكومة الجديدة، خاصة بعد أن عرف الفريق يحيي طاهر بخطط النايف للقيام بانقلاب يطيح بالنظام ،وذلك بعد وصول أخبار اتصالاته مع القوات العراقية المتواجدة في الأردن، إضافة إلى اتصالاته مع الملحق العسكري في بيروت العقيد بشير طالب، والسفير العراقي في بيروت ناصر الحاني ، خاصة بعد أن رفض الرئيس عبد الرحمن عارف، أن يشكل الحكومة عبد الغني الراوي، ورفض السفير العراقي في موسكو (محسن حسين الحبيب) تشكيل الحكومة، بعد أن نصحه بعض السياسيين بأن انقلاباً وشيكاً لابد منه سيحصل قريباً( ).
وقد عمل النايف على عقد اجتماعاً في وزارة الدفاع مع بعض السياسيين العسكريين تداول فيه موضوع الأمن وسمعة الحكومة، وتفش الرشوة والفساد وتقاعس الموظفين وإهمالهم، حيث اتهم رئيس الحكومة الفريق طاهر يحيي، بالفساد( )، ورغم ذلك لم يتجاوب معه من الضباط إلا القليل.
في هذه الأثناء كان أحمد حسن البكر مع القيادة القطرية لحزب البعث يدرس طبقة التركيبة العسكرية التي تسيطر على أهم النقاط الحساسة في بغداد خاصة ، والعراق بشكل عام، وبعد هذه الدراسة التي استغرقت عدة اجتماعات رأى البعث: إن مدير الاستخبارات العسكرية شفيق الدراجي الذي كان على صلة بالقيادة القطرية لحزب البعث من خلال اللواء أحمد حسن البكر (المتقاعد)، إلا أنه كان شخصية ضعيفة ومترددة بينما معاونه العقيد عبد الرزاق النايف أكثر ذكاءاً وجرأة، وأنه لا يوجد بين الضباط البعثيين رتبة عسكرية أكثر من رتبة مقدم، لذلك فمن الضروري الاستعانة بضباط مؤثرين من خارج تشكيلات البعث، ورغم رفض قيادة البعث الاتصال بعبد الرزاق النايف كونه على علاقات خارجية مشبوهة بالخارج، لذلك فقد توجه البعث إلى العقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود، الذي كان يقود الحرس الجمهوري، على أساس توجهاته القومية، إلا أن تأثره بعبد الرزاق النايف حيث لم يكن يرفض له طلباً، ويعتبره مثله الأعلى ، لذلك فقد رأى البكر ضرورة الاتصال بضباط أخرين مثل اللواء سعيد صليبي، وهو آمر موقع بغداد، والعقيد مشحن الحردان آمر الانضباط العسكري، وكلفهما بإقناع الدود، على لقاءه بالبكر، وبالفعل فقد حصل اللقاء بينهما، ووافق الداود على العمل مع البكر، بعد أن اشترط عليه البكر بعدم إشراك (النايف)، كما اتصل البكر بالعقيد سعدون غيدان آمر كتيبة الدبابات في الحرس الجمهوري، الذي وافق على العمل مع حزب البعث، وأنه سيفتح أبواب القصر الجمهوري للانقلابيين، كما اتصل البكر مع بعض الضباط الآخرين ووعد بترقيتهم في حال نجاح الانقلاب، كما عمل الفريق المتقاعد صالح مهدي عماش على التنسيق في بيته مع الانقلابين، إلا أن الداود أخبر النايف بأمر الانقلاب، فاضطر البكر إلى إشراكه في الانقلاب ووعده برئاسة الحكومة، لكنه عمل على التنسيق مع مرافقه لمراقبة تحركاته ، وقتله إن هو تحرك وفقاً لخط غير الخط المرسوم له( ).
وعلى هذا الأساس استغل الضباط الثلاثة، العقيد عبد الرزاق النايف، والعقيد عبد الرحمن إبراهيم الداود، والمقدم سعدون غيدان، فرصة غياب آمر موقع بغداد العميد سعيد الصليبي، وتحركوا مع حلفاءهم من القادة البعثيين العسكريين السابقين (أحمد حسن البكر، وحردان التكريتي، وصالح مهدي عماش ..إلخ)، للسيطرة على القصر، حيث فتح لهم سعدون غيدان، في ليلة السادس عشر من يوليو 1968 ،فتم السيطرة على القصر بإطلاق خمسة طلقات تحذير للرئيس عبد الرحمن عارف، ثم اتصل البكر بعبد الرحمن عارف قائلاً له: " إن التغيير لم يكن ضدك شخصياً، بل لإنقاذ البلد من الفتنة والأزمات، وأن حمايتك مطلوبة، وإن القيادة قررت تسفيرك إلى الخارج"( ) ، حيث تم أخذ عبد الرحمن عارف إلى بيته ومن ثم إلى المطار حيث نفى إلى لندن.وفي صباح السابع عشر من يوليو 1968 أعلن البكر عن سقوط النظام، وتشكيل مجلس قيادة ثورة برئاسته، وتسلم مقاليد الحكم، واصفاً أن هذا الحكم هو ثورة بيضاء، ، وأنه ثورة من أجل إنهاء الحكم الفاسد والانتهازي، والبعيد عن الوطنية والخبرة السياسية والاقتصادية والبعيد عن مصالح الشعب والجماهير المناضلة، وبناءاً عليه فقد تم إقصاء الفريق عبد الرحمن عارف من مناصبه وإحالته إلى التقاعد ، وإقصاء حكومة الفريق طاهر يحيي ، وتشكيل مجلس قيادة الثورة يتولى شؤون البلاد ( ) ، ثم أكد مصدر عسكري رسمي أن العناصر التي قامت بالانقلاب هي عناصر قومية معتدلة، وإن الانقلاب هدفه القضاء على الفساد والرشوة وإجراء انتخابات نيابية لاختيار ممثلين حقيقيين عن الشعب، وأن رئيس الجمهورية، يجب أن ينتخب بواسطة صنادق الاقتراع لا بواسطة السلاح، وأن الرئاسة ستبقى بالتناوب بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حتى يتم انتخاب رئيس للجمهورية عن طريق الشعب ويوضع دستور دائم للبلاد ، وأن الانقلاب كان متوقعاً حدوثه منذ أكثر من عام، من قبل جميع الأحزاب والشخصيات العراقية التي كانت متفقة على مهاجمة حكومة الفريق يحيى، ولكن لم يكن باستطاعتها القيام بأي إجراء حاسم دون تأييد عسكري ( ) ، وعلى هذا الأساس فإن العسكريين ما كانوا ليقوموا بالانقلاب لولا مآخذهم على الفساد الذي طال أجهزة الدولة كافة( )،واستغلالهم لموارد الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، إضافة إلى ديكتاتورية الحكم، وابتعادهم عن الشعب، على اعتبار أن الانقلابيين هم من الشعب وللشعب، وبالفعل لم يكن جيش النظام في عهد عارف يمثل كامل الشعب العراقي، حيث أن عدد ضباط الجيش خلال هذه الفترة : 20% من الشيعة العرب، 70% من السنة العرب، 10% من الأكراد والمسيحيين والأقليات الأخرى ، وهذا لا يمثل النسب الحقيقية لسكان العراق من هنا نجد أن جيش النظام لم يكن يعبر عن حقيقة وهوية الجيش العراقي بشكل عام، إضافة لما استشرى في ظله من علاقات شخصية وعشائرية وقرابية، وإقليمية،وعلى هذا الأساس فالجيش في مثل هذه الحالة ليس معبراً عن ماهية الشعب وبالتالي فدوره في الوحدة الوطنية كان ضعيفاً، والدليل على ذلك الانقلابات المتتالية التي كان نهايتها انقلاب 17 يوليو 1968 وسقوط النظام، إضافة إلى تدخل العسكريين بالسياسة، ورفضهم لأي حكومة تحد من امتيازاتهم وطموحاتهم.
وبذلك نخلص من هذا المبحث أن نظام الأخويين عارف، الذي يعتبر من تداعيات نظام البعث السابق عام 1963، لم يستطع أن يحقق الوحدة الوطنية بالمعنى الإيجابي لها، فلم يستطع حل مشكلة الأكراد في الشمال، والحفاظ على وحدة كيان الدولة بشكل سلمي، وبما يحقق احترام الثقافة الوطنية للبلاد ولغتها الرسمية، إضافة إلى الثقافات الوطنية لفئات العراق الأخرى، كما أنه لم يستطع تحقيق الحرية العدالة والمساواة في الدولة، بما يجعل المواطنين العراقيين على قدر المساواة، وبما يحقق لهم موارداً متساوية، بغض النظر عن الفئة، أو الطائفة أو الإقليم أو الطبقة، أو العشيرة أو العرق، أيضاً، لم يستطع هذا النظام تحقيق التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشعب العراقي ونظامه السياسي، بحيث يردم الهوة بين النظام والشعب، بحيث يكون النظام معبراً بشكل فعلي عن الشعب، إضافة إلى ذلك أن الهوية الوطنية للجيش العراقي لم تكن تعبر عن الشعب العراقي ككل، حيث اتسم قادة الجيش، بانتمائهم لإقليم وعشائر وطائفة وعرق محدد، فرغم أن القيادة كانت تضم جميع الفئات إلا أن عدم تساوي الفئات في المناصب جعل الجيش غير معبِّر عن تشكيلات المجتمع العراقي.
وعلى هذا الأساس نخلص من هذا الفصل أن كلا نظامي البعث وتداعياته -فترة الأخويين عارف- ، لم يستطيعا تحقيق الوحدة الوطنية في العراق وفق محددات الدراسة، فكلاها لم يستطيع حل المشكلة الكردية، إضافة إلى بروز النزعة الطائفية، في فترة الأخويين عارف خاصة في شقها الأول، كما أن كلاهما لم يستطع التعبير عن الثقافة الوطنية العراقية ولغتها الرسمية خاص بين الأكراد، ولم يستطعا تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، فالجيش الشعبي للبعث أعطى سمعة سيئة للنظام، وأضعف الوحدة الوطنية، أيضاً، انتهازية بعض المسؤولين في كلا العهدي البعث وعارف، ساهم في إضعاف الوحدة الوطنية، كما لم يحصل تفاعل سياسي واقتصادي واجتماعي بين الشعب والنظام السياسي في كلا العهدين، فبقيت الهوة كبيرة بين الشعب والنظام، وإن كانت أكبر في ظل النظام العارفي، كما أن الجيش لم يعبر في كلا العهدين عن الشعب العراقي، وإن كان تعبيره بشكل أكبر في ظل نظام البعث ، بسبب اعتماد النظام العارفي على فئات بعينها ذات خصائص عشائرية وإقليمية ومذهبية إضافة لعوامل شخصية، إلا أن ذلك لم ينجه من الانقلاب عليه من عناصر كان يعتمد عليها ويثق بها بشكل مطلق.
فإذا كان كلا النظامين البعثي والعارفي لم يستطيعا زيادة قوة الوحدة الوطنية وفق مؤشرات الدراسة فهل استطاع البعث بعد استيلاءه على الحكم في 17 يوليو 1968 أن يقوي الوحدة الوطنية في البلاد، بعد دعواته القومية والوحدوية، وتأكيده أنه سيتبنى النهج الديمقراطي في تسيير سياسة البلاد، وأنه سيحقق العدالة الاجتماعية، ويبعد الانتهازيين والمنتفعين عن أجهزة الدولة، هذا ما ستبينه لنا الفصول القادمة، والتي ستبدأ بالمرحلة التي حكم فيها قائد حركة 17 يوليو 1967 وهو أحمد حسن البكر، الذي اتخذ رتبة المشير (المهيب) بعد نجاح حركته.
الجمعة، 21 مايو 2010
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)