الفصل الثاني
العوامل الخارجية المؤدية
لعدم الاستقرار السياسي
المبحث الأول
تدخلات المعسكر الراسمالي
( الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا )
(1) الولايات المتحدة الأمريكية:
بدأ تدخل الولايات المتحدة في سوريا، كأول منطقة في الشرق الأوسط بدأتها تدخلاتها، وكان ذلك سنة 1865 ، لكنها إقتصرت على إرسال البعثات العلمية الإنجيلية وفتح المدارس في جبال العلويين، بدون أخذ أي مقابل من السكان ، ورغم ما أصاب مدرسي هذه البعثات على يد بعض المسلحين إلا أنها استمرت في فتحه( )ا، وبعد سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام 1914 وإنتهائها بانتصار الحلفاء، قررت عصبة الأمم الانتداب على منطقة الهلال الخصيب التي قسمت وفق إتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا، وقد بعثت عصبة الأمم لجنة أمريكية سميت لجنة كراين عام 1920 للتعرف على رغبات السكان، على أساس اختيارهم للدولة المنتدبة التي يفضلونها على غيرها، وقد رأى معظم السكان أن يكون الاستقلال النهائي مع رفض إتفاقية سايكس بيكو، وإذا لم يكن هناك بد من الانتداب، فتفضيل الولايات المتحدة على غيرها من الدول باعتبارها صاحبة رسالة في العالم تستند دوافعها على وحدانية البشر وريادة دورها العالمي، ولها تجارب في ذلك، فقد استقلت عن بريطانيا ووحدت أراضيها، وتقدمت في جميع العلوم، وأصبحت من أغنى دول العالم, فعشية الحرب العالمية الأولى كان دخلها يساوي دخل بقية دول العالم مجتمعة، لكن كان دخول الفرنسيين دمشق إثر معركة ميسلون، وقضائهم على استقلال سوريا، وإبعادهم الملك فيصل عن سوريا، له أثره في نفسية الشعب السوري الذي كان يرى تدخل الولايات المتحدة بعد أن أعلن الرئيس ولسون مبادئه الأربعة عشر( ).
ولدى دخول الولايات المتحدة الحرب ضد المحور، أيد الكثير من السياسيين ومنهم الرئيس شكري القوتلي الحرب على المحور، بل وأعلن الرئيس شكري الحرب على المحور عام 1945 عن سوريا ولبنان، وكان هذا الإعلان سبباً في دخولها مؤتمر سان فرنسيسكو عام 1945، والمشاركة في تأسيس هيئة الأمم المتحدة، حيث أيدت الولايات المتحدة خروج القوات البريطانية والفرنسية عن سوريا، مما كان له تأثيراً إيجابياً على الشعب السوري تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد خروج القوات الأجنبية عن سوريا في إبريل 1946، رفض الرئيس شكري القوتلي إتفاقية التابلاين وهي عبارة عن شركة الأنابيب البترولية المارة من السعودية إلى البحر المتوسط عبر سوريا، وتتبع شركة أرامكو، الأمريكية السعودية، كما رفض قرار الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل الذي أصدرته الأمم المتحدة، وسلك مسلكاً متشدداً تجاه إسرائيل برفضه إجراء أية تسوية بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، وطالب بلواء الإسكندرونة( )، وفي نفس هذا الوقت كانت نظرة الولايات المتحدة بقيادة الرئيس هاري ترومان، إلى سوريا، داخل إطار استراتيجتها الإقليمية، بوصفها تمثل قلب الشرق الأوسط، وخطوط البترول المارة بها، وطرقها الجوية الإستراتيجية، وضخامة كمية النفط والغاز فيها( ) إضافة للموارد الأخرى. وأهمية الإحتكارات الأمريكية فيها، ودورها الرئيسي في الأزمات السياسية بسبب موقعها كمدخل لشرق المتوسط، ونشاطها الكبير حكومة وشعباً في الشؤون السياسية والثقافية للعالم العربي، فكانت المشكلات التي نتجت عن إحتلال فلسطين، مثل مشكلات ترسيم الحدود، وموقفها من اللاجئين فيها منذ عام 1947، فكان الهدف من هذا التدخل هو تنصيب ديكتاتور أطلقت عليه ديكتاتور جمهورية الموز، وسمة هذا الديكتاتور هي عدائه للشيوعية، ورغبته بالسلام مع إسرائيل، ويحقق مصالحها الاقتصادية، وكان حسني الزعيم هو الرجل المطلوب لذلك ، فعمل على ما يلي:
• عقد إتفاقية الهدنة مع إسرائيل.
• قبل المساعدات الأمريكية والتي رفضها نظام شكري القوتلي.
• حسن العلاقات مع تركيا حليفة الغرب.
• عمل على تحطيم الشيوعية والقوى اليسارية في سوريا.
• صدق على إمتياز شركة أرامكو القاضي بأن تقوم شركة التايلاين بنقل النفط السعودي إلى البحر المتوسط.
وهذا ما أكده مسؤول المخابرات الأمريكية السي أي إيه في دمشق في كتابه لعبة الأمم بقوله: " إنتهينا إلى نتيجتين بخصوص سوريا، فهي مقبلة إما على ثورة دموية مسلحة يقودها الانتهازيون الإشتراكيون، أو حركة عسكرية بدعم سري منا ..... وبالطبع كنا مع خيارنا..... كان انقلاب الزعيم من إعدادنا وتنظيمنا ..... وقد حافظ الانقلاب كما رسمنا له، على صيغة سورية بحتة أمام الجميع "( ) ، وبالفعل قامت المخابرات الأمريكية بالتخطيط لهذا الانقلاب في السفارة الأمريكية في دمشق، وتحت توجيهها، ثم قتلته بواسطة سامي الحناوي بعد أن تمرد على أوامرها، كما كان حسني الزعيم على علاقة جيدة مع الملحق العسكري الأمريكي قبيل الانقلاب، وعشية الانقلاب طاف حسني الزعيم مع السفير الأمريكي في شوارع دمشق على متن سيارة مكشوفة، إضافة لعلاقته بالسي أي إيه، وقد برر مايلز كوبلاند هذا الانقلاب بأنه كان ضرورياً من أجل الديمقراطية في سوريا بحيث تكون مبنية على الإرادة الشعبية، وإلا فإن فوضى ثورة شعبية قد تطيح بالنظام الحاكم، وتنشيء ديكتاتورية قاسية( )، لذلك كانت الولايات المتحدة وحلفائها فرنسا وبريطانيا قد قرروا عدم بيع السلاح لسوريا قبيل حرب 1948، لإدراكهم ما سيؤول إليه تردى أداء الجيش السوري على نفسية الشعب السوري الذي يعتبر أن جيشه قادر على توحيد أجزاء الوطن السوري( ).
كما استفادت الولايات المتحدة وحلفاءها بجعل حسني الزعيم يخون زعيم الحزب القومي السوري أنطون سعادة، بسبب أيديولوجية هذا الحزب التي رأتها ستزعزع الحكومات الموالية لها مثل حكومة رياض الصلح في لبنان، والحكومات التركية والمصرية والإسرائيلية، باعتبارها ترفض إتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، وضم لواء الاسكندرونة إلى تركيا، وسيناء إلى مصر، ومن الممكن تقبلها من قبل الشعب السوري باعتبارها تمثل طبيعته وخصوصيته، إضافة لعمليتها ومنطقيتها وواقعيتها بالنسبة للكثيرين ( )، خاصة بعد أن روَّج الحزب القومي السوري بأن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن خلق دولة إسرائيل. بالرغم من أن المساعدات السوفياتية إضافة للدول الشيوعية كان أكبر من مساعدة الغرب لإنشاء هذه الدولة.
ولم يثبت أي علاقة للولايات المتحدة في انقلاب سامي الحناوي، بل على العكس عملت على استخدام عملائها لإيقاف نهجه باعتباره مؤيداً لمشروع الهلال الخصيب، وتسخيره الجيش لتحقيق هذا المطلب الشعبي، بعد فوز حزب الشعب بأغلبية مقاعد الجمعية التأسيسية، وهذا ما أكده وزير خارجية الولايات المتحدة (دين أشيسون) ( ) ، خاصة أن الشيشكلي كان على علاقة بـ مايلز كوبلاند، فكان انقلابه الأول في مصلحة الولايات المتحدة بعد أن نشط اليسار في مقاومة مشروع التابلاين واعتباره مشروع إمبريالي ( ) ، كما كان الشيشكلي قد أكد إستعداده لقبول السلام مع إسرائيل، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، والتفاوض لإجراء إتفاقية دفاع مشترك مع تركيا، والسعي للتوصل إلى إتفاقية مع الولايات المتحدة، بشأن المساعدات العسكرية، بعد أن رفض الرئيس هاشم الأتاسي مشروع النقطة الرابعة الذي أطلقه الرئيس هاري ترومان ومفاده: "إمداد الدول الأقل نمواً بالمساعدات التكنولوجية، والعسكرية وفي إطار دعم هذه الدول وتقويتها اقتصادياً، لتتمكن من مواجهة واستئصال النفوذ السوفياتي الشيوعي"( ) ، إضافة لرفض نظام هاشم الأتاسي الإشتراك في مشروع القيادة الشرق أوسطية التي لمحت إليه الدول الغربية، ومما يدل على علاقة الولايات المتحدة بانقلاب الشيشكلي أن أول حكومة بعد انقلابه وهي حكومة خالد العظم قامت بحملة اعتقالات واسعة للشيوعيين بعد قيامهم بمظاهرات إحتجاجاً على التدخل الأمريكي في كوريا عام 1950( ). كما أن الولايات المتحدة قد أصدرت في 29 مايو 1990، بالإتفاق مع بريطانيا وفرنسا الإعلان الثلاثي الذي تضمن تعهد هذه الدول الثلاثة بتأمين الوجود الإسرائيلي، وبتحقيق التوازن في سباق التسلح بين الدول العربية من جهة، وإسرائيل من الجهة المقابلة، والتعهد بالتصدي لأي محاولة لتعديل الوضع القائم / تعديل إتفاقية سايكس بيكو/ أو تغيير في الحدود التي أرستها إتفاقية الهدنة بين العرب وإسرائيل عام 1949، وقد زاد أعداد رجال السفارة الأمريكية في دمشق عقب الانقلاب الأول للشيشكلي، كما زاد عدد رجال الأعمال الأمريكيين في سوريا، ووقعت سوريا عدداً من الإتفاقيات التجارية مع الشركات الأمريكية مثل شركة باكتيل، وشركة نفط العراق البريطانية...، خاصة وأن الحكومات التي تشكلت خلال هذه الفترة كلها يمينية إضافة للرئيس هاشم الأتاسي ذي النزعة اليمينية( ).
وعندما شكل معروف الدواليبي في نوفمبر 1951 حكومة أعلنت أنها ستتبنى الحياد، وستشتري السلاح من الدول الشيوعية لكسر الاحتكار الغربي، ومعارضة تدخل الجيش في السياسة، وأن رئيس الوزراء نفسه سيتولى وزارة الدفاع إضافة لرئاسة الحكومة، ونادت بالإصلاحات الإشتراكية، كما رفضت المساعدات الأمريكية المشروطة بتوطين مليون فلسطيني في سوريا، وتفضيلها للسوفييت على الأمريكان إن تعلق الأمر بمسألة اللاجئين وبالتنازلات لإسرائيل، وهذا أدى إلى استياء الولايات المتحدة التي وصفت رئيس الحكومة بأنه أكبر زعيم عربي معاد للأمريكان، ولهذا السبب كان تأييدها لأديب الشيشكلي في انقلابه بعد 24 ساعة من تشكيل حكومة الدواليبي، حيث اتهم الشيشكلي حزب الشعب بالعمل لبيع سوريا وتخريب جيشها وإعادة الملكية، وسلم الشيشكلي السلطتين التشريعية والتنفيذية للزعيم فوزي سلو، على أن يساعده الأمناء العامون بدلاً من الوزراء( ) ، وبعد برهة من الزمن رشح نفسه للرئاسة ، وفق استفتاء في 9 يوليو 1953 وفاز في 11 يوليو 1953. وكان أول المهنئين له السفير الأمريكي في دمشق، ثم قام الشيشكلي بإجراء انتخابات في
9 أكتوبر 1953 فازت فيها /حركة التحرير/ بمعظم مقاعد البرلمان، أي بـ 72 مقعد من أصل 82 مقعد، ومقعد واحد فقط للحزب القومي السوري، وتسعة للمستقلين( )، وكان ابتعاد الشيشكلي عن الغرب بعد تسلمه مقاليد الحكم، خاصة عندما عقد في 24 مايو 1953 معاهدة مع نظام محمد مصدق الإيراني القومي، وأعلن تضامنه مع إيران ضد مخططات الغرب، ومناهضة حركة التحرير التي أنشأها للغرب، واشتراطه على التعاون مع الغرب من خلال أسس عادلة، ورفضه لمشروع النقطة الرابعة، ومطالبته بزيادة المخصصات المقدمة لسوريا من شركة البترول العراقية البريطانية التي تمر أنابيبها عبر سوريا، إلى نسبة 45 بالمائة من الأرباح، واعتباره أن المساعدات الأمريكية المقدمة لسوريا غير كافية، ورفضه لمشروع الدفاع الشرق أوسطي. وتهديده لإسرائيل بإلقائها بالبحر في ظل تأسيسه لجيش قوي متقدم على أحسن طراز، وإصراره على أن تحل الولايات المتحدة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مع ضرورة تدويل القدس، وترسيم الحدود، وجعل نصف الميزانية السورية تصرف على الجيش السوري، وتصاعد القرارات المناهضة للغرب وللصهيونية في عهده، ومعاداة الأحزاب له، وإصابته بجنون العظمة بعد أن جعل الاقتصاد السوري أحسن اقتصاديات الشرق الأوسط، كل هذه الأشياء قللت من إعتمادها عليه ومهدت السبيل لسقوطه في 25 فبراير 1954( ).
وبعد سقوطه ازداد النشاط الشيوعي في سوريا، لذلك قررت الولايات المتحدة تنفيذ نظرية دلاس على سوريا، تلك النظرية التي تتعلق بمفهوم الحزام الإستراتيجي الجنوبي ومؤداه : " فصل مسؤولية الدفاع الإقليمي عن مسألة الصراع الإسرائيلي أو الصراعات العربية العربية، من خلال مفهوم الردع الشامل عبر قواعد إقليمية هامة، يشن منها الهجوم على مراكز القوة السوفياتية مع التعاون مع القواعد الإقليمية ضد هذه القواعد"( )
، مما حذا بالقواعد اليسارية والشيوعية إلى زيادة نفوذها من خلال إدعائها بأن الولايات المتحدة تدعم اليمين المحافظ الممثل بحزب الشعب ذي الأغلبية البرلمانية، وتشويه صورته وصورةالحزب الوطني، خاصة بعد سقوط نظام محمد مصدق في إيران عام 1953 ومقتله على يد الانقلابيين، من خلال الجنرال زاهيدي، إضافة إلى انقلاب غواتمالا، وكلا الانقلابين، إيران وغواتمالا كانا بفعل المخابرات الأمريكية، وهذا أدى لزيادة قوة اليسار في المؤسسات السورية وخاصة المؤسسة العسكرية رغم أن اليمين ظل صاحب الشارع وصاحب الأغلبية في كل شيء يتعلق بالحياه السياسية السورية، لكن هذه الأغلبية ظلت أغلبية مجزأة غير منتظمة بعكس المعارضة اليسارية التي تتسم بالدقة والتنظيم الجيد( )، لذلك عملت الولايات المتحدة على الدخول في بعض المؤامرات الانقلابية تمهيداً لجر سوريا إلى الوحدة مع مصر، كون مصر مخترقة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتكون فائدة الولايات المتحدة من ذلك ابتعاد سوريا عن العراق أولاً والشيوعية ثانياً، لذلك عملت على اللعب بعدة أوراق فكانت تلعب مع المعارضة اليمينية من جهة، وتلعب مع القوى اليسارية القومية من جهة أخرى، وما يؤكد ذلك أن جميع محاولاتها الانقلابية سواءاً التي دخلت فيها بمفردها أو مع دول أخرى لاسقاط النظام، وإقامة حكم موال لها بشكل ظاهري وواضح، بائت بالفشل، كما أن الوحدة بين سوريا ومصر، حققت لها القضاء على الشيوعية في الدول المجاورة لسوريا، إضافة لسوريا نفسها، لذلك عملت الولايات المتحدة على تأكيد الدور المصري المعادي لبريطانيا وفرنسا في المنطقة، كما ضغطت اقتصادياً وتموينياً (النفط) على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لوقف العدوان الثلاثي على مصر في أغسطس 1956 ( ) وأكد على دورها في ذلك الرئيس جمال عبدالناصر بقوله: " إن الولايات المتحدة تبقى الصديق الوحيد لمصر بعد اشتراك فرنسا وبريطانيا في العدوان "( ) ، خاصة أن الولايات المتحدة كان لها الدور الأكبر في سقوط عرش الملك فاروق، وأن السفير الأمريكي هو الذي نصح الملك فاروق بالاستسلام على أساس تخوفه أن يسقط الحكم المصري بيد الإخوان المسلمين أو الشيوعيين، وما كان من علاقة لبعض أعضاء قيادة الثورة المصرية مع الولايات المتحدة ويعملون جواسيس لها مثل علي صبري وسامي شرف وغيرهما ( ).
ج
ومما أثار اليسار السوري أن الولايات المتحدة بعثت إلى سوريا في يونيو 1954 برئيس المخابرات العسكرية الأمريكية الجنرال تروده، مما حذا باليسار إلى المطالبة بتغيير وزير الدفاع معروف الدواليبي والضغط على الرئيس هاشم الأتاسي لرفض المساعدات الأجنبية، وضرورة رفع المستوى المعيشي، وتحقيق إصلاحات ديموقراطية، ويبرز التناقض في هذه الآراء أنه لا يمكن رفع المستوى المعيشي إن لم تقبل المساعدات الأمريكية، وهنا يتبين دور اليسار في تحقيق الإستراتيجية الأمريكية بشكل غير مباشر، وبالفعل أدى ذلك لسقوط الحكومة في يونيو 1954، فكانت بعض المحاولات الانقلابية التي تدخلت فيها الولايات المتحدة وأفشلتها في نفس الوقت، باعتبار أن عندها عملاء في الطرفين، /المعارضة والحكومة/، في نفس الوقت، بالرغم من دعوة السفير الأمريكي في دمشق على الدوام، بوضع حد للنشاط الشيوعي في سوريا، الذي كان يؤيده اليسار القومي بشكل ظاهري ( ) ، ومن أهم هذه المحاولات، خطة ألفا وتسمى أحياناً عملية التيه أو عملية الانتشار( )، وكانت عام 1956 حيث اجتمعت لجنة أمريكية بريطانية عراقية، لتدارس مخطط انقلاب عسكري، فقدمت الولايات المتحدة قسماً من الأسلحة للمتآمرين، كما قدم العراق قسماً آخر، إضافة إلى بعض الأموال، والرشاوي لبعض السياسيين، كما صرف زعيم الحزب الوطني في حلب ميخائيل إليان معظم ثروته لإنجاح الخطة التي ستكون نتائجها وحدة العراق وسوريا، وفي أكتوبر 1956 حشد العراق قسماً من قواته على الحدود الأردنية السورية بهدف دعم الانقلابيين، لكن كشفت المؤامرة نهاية 1956، خاصة أن من بين المتآمرين كان محمد معروف وله علاقة قوية بالسي أي إيه وكان يقود تكتلاً طائفياً في الجيش( )، إضافة إلى أن غسان جديد الذي كان يقود تكتلاً عسكرياً طائفياً في الجيش، وهرب إلى لبنان بعد تورطه في قتل عدنان المالكي، حيث طرد من الحزب القومي السوري، بعد ضلوعه في هذه المؤامرة، كما أشارت صحيفة المنار التابعة لحزب الإخوان المسلمين في الحادي عشر من إبريل من عام 1957، أن الحوراني وعفلق اجتمعا بالسفير الأمريكي لمدة ساعة، وهذا يثبت أن للولايات المتحدة عملاء في كلا الطرفين، المعارضة والحكومة، وبعد فشل الخطة السابقة وازدياد المد الشيوعي إثرها، أعلن آلن دلاس رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السي أي إيه، أنه لا توجد قيادة حقيقية في سوريا، وعلى الولايات المتحدة أن تبدأ بخطة أخرى، فكانت خطة أوين التي اشترك فيها الشيشكلي، وإبراهيم الحسيني الذي كان ملحقاً عسكرياً في إيطاليا، عام 1957، لكن كشفت الخطة أيضاً، وعلى إثر فشلها وتورط مسؤولين في السفارة الأمريكية فيها، أعلنت الحكومة السورية أن هوارد ستون ( مسؤول السي أي إيه في السفارة الأمريكية، وخبير انقلابات عسكرية، باعتباره نفذ عدداً من الانقلابات العسكرية وآخرها انقلاب زاهيدي ضد محمد مصدق في إيران)، شخصاً غير مرغوب فيه، إضافة إلى فرانك جيتون وهو مستشار السفير الأمريكي، ووضع الملحق العسكري الأمريكي بدمشق روبرت مالوري تحت المراقبة الشديدة، فردت الولايات المتحدة بطرد السفير السوري من واشنطن، ويرى الباحث أن هذه الإجراءات الروتينية غير مهمة مادامت الإستراتيجية الأمريكية تتحقق بشكل صحيح ومفيد بالنسبة لها ( ).
وفي يناير 1957، أعلن الرئيس الأمريكي أيزنهاور، عن مشروعه الذي سمي بمشروع أيزنهاور، والذي إتهم فيه الإتحاد السوفياتي برغبته في السيطرة على العالم من خلال نشره للشيوعية، وإن محور إهتمامه في الشرق الأوسط لهذا الغرض، كما رأى وزير خارجيته جون فوستر دلاس أن الولايات المتحدة تنظر إلى الدول المتخلفة، على أنها غير قادرة على المجابهة أمام الدول الكبرى، وأنها لابد أن تقع في شرك الشيوعية السوفياتية، وأنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تتدخل لتضمن استقلال هذه الدول، وعلى هذا الأساس خول الكونجرس الأمريكي، الرئيس أيزنهاور إقامة نظام دفاعي من خلال بعض الدول الشرق أوسطية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لوقف المد السوفياتي الذي يتهددها، وقد اشتركت عدة دول فيه أهمها العراق، وتركيا، ولبنان، فأرسلت الولايات المتحدة سكرتير وزير خارجيتها لوي هندرسون، إلى تركيا، وقابل كل من رئيس الحكومة التركية عدنان مندريس وملك العراق فيصل الصغير، وملك الأردن، حسين بن طلال، في أغسطس 1997، ثم قابل، رئيس لبنان كميل شمعون، بعد ذلك صرح هندرسون قائلاً:"إن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم الدعم الملائم لجيران سوريا المسلمين في حالة تعرضهم للإنتهاكات السورية "( ) ، وبما أن السي أي إيه مخترقة لمجلس قيادة الثورة المصرية، كما يؤكد ذلك مايلز كوبلاند، فقد تدخلت مصر وأعلنت شجبها للتدخل الأمريكي في الشئون العربية، وإن ما ستقدمه من مساعدات هو عبارة عن رشوة للأقطار المشتركة معها في الحرب الباردة لتقويض القومية العربية، رغم أن مصر نفسها كانت منذ انقلاب محمد نجيب وحتى تاريخ كتابة هذه السطور تتلقى المساعدات الأمريكية، وبسبب هذه السياسة المصرية تجاه مشروع أيزنهاور، توترت العلاقات المصرية العراقية، باعتبار أن العراق ولبنان أيدا المشروع، وكانت مصر قد تكفلت بالقضاء على المد الشيوعي في سوريا والعراق، وهذا أفسح المجال لها لتلقي المساعدات الأمريكية حيث منحتها الولايات المتحدة قرضاً من خلال صندوق النقد الدولي، لبناء السد العالي، ومن المعلوم أن هذه المساعدات تقع ضمن الإستراتيجية الأمريكية التي تقول: " إننا نستخدم برامجنا الاقتصادية والعسكرية، لدعم القائمين فعلاً أو نأتي بالنظام الذي يقدم وعداً بدعمنا"( ) ، لذلك ركزت الولايات المتحدة على دعم دور الزعيم الفرد الموالي لها باعتباره أقدر على معالجة الآثار المحلية والإقليمية المترتبة على سياسته، وحين يسقط هذا الزعيم فإن الولايات المتحدة، تركب موجه السخط النابعة من الشعب ضد نظام الحكم السابق، فكان استراتيجية الولايات المتحدة لإيقاف المد الشيوعي في سوريا، إضافة لإستراتيجياتها السالفة الذكر، بشن حرب سرية بالوكالة من خلال مؤيدي وعملاء حلفائها مثل أكرم الحوراني وعبدالحميد السراج وعفيف البرزي، وما يدل على ذلك، أنه عندما زار الصحفي الأمريكي، جوزيف ألسوب، سوريا في مايو عام 1956، تنبأ بأن عبدالحميد السراج سيكون الديكتاتور العسكري الجديد لسوريا، وستخضع السلطة السياسية في سوريا للزعامة السياسية المصرية، وأموال الرشاوي السعودية، وموهبة التنظيم الشيوعية، وقد تحققق حدثه بالفعل( ).
وقد دعت بريطانيا لإقامة حلف بغداد عام 1955 لسببين هما:
1- كونه سيكون سلاح عسكري ضد الإتحاد السوفياتي.
2- أداة سياسية للقوة البريطانية والعراقية في العالم العربي، بعد أن فقدت بريطانيا مصر في أعقاب حركة محمد نجيب في 23 يوليو 1952.
لكن الولايات المتحدة عارضت هذا الحلف بشكل خفي، بسبب رغبتها في أن تحل محلها ومحل فرنسا في الشرق الأوسط والعالم بشكل عام، وقد أدركت بريطانيا ذلك ولكنها آمنت بعدم قدرتها على منافسة الولايات المتحدة الأمريكية، فآثرت الانصياع وراءها، وكانت الولايات المتحدة، ضمن إستراتيجتها لتقويض الحلف، أن دخلت في اللجنة العسكرية لهذا الحلف في مارس 1957، حيث بدت وكأنها تريد مهاجمة سوريا، على أساس أن هذا الإنضمام يتيح لها بالإتفاق مع دول الحلف على مهاجمة سوريا، بحجة أنها تهدد أمن المنطقة، خاصة بعد أن اقترب الأسطول السادس من الشواطيء السورية، وتمركز قوات تركية على الحدود السورية، لكن كل ذلك كان لجعل سوريا تقترب من مصر وتبتعد عن العراق تمهيداً، لتحطيمها والسيطرة عليها، وإدخالها ضمن متطلبات السوق الرأسمالية العالمية الذي تقوده الولايات المتحدة، لأنه لا فائدة للولايات المتحدة بالتدخل العسكري في سوريا، باعتبار أن ذلك سيفسح المجال لزيادة التدخل البريطاني في المنطقة، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة، التي ترغب بالانفراد بالسيطرة، وتقويض أي قوى منافسة لها في المنطقة، إضافة لما سببه هذا الحلف من عدم استقرار حكومي في سوريا منذ قيامه عام 1954 وحتى الوحدة مع مصر عام 1958، لكن هذا لا يعني أن هذا الحلف هو وحده التي أثار تدخل الولايات المتحدة في سوريا، لأن تدخلها ازداد أكثر مع سقوط الشيشكلي منذ عام 1954، خاصة عندما قبلت سوريا بالصين لتشارك في معرض دمشق الدولي، حيث إحتجت الولايات المتحدة على قبول سوريا لمشاركة الصين الشعبية، باعتبارها لا تعترف بها في ذلك الوقت، فكان هذا الإحتجاج قد أثار مشاعر الشعب السوري الذي طالب بطرد السفير الأمريكي من دمشق( )، أيضاً كان رفض الحكومات السورية المتعاقبة لمبدأ أيزنهاور ، فقامت البضائع الأمريكية بمضاربة البضائع السورية في أوربا، وفسخت المصانع التركية والعراقية المعتمدة على القطن السوري عقودها مع سوريا، كما قاطعت معظم الدول المرتبطة بالولايات المتحدة، معرض دمشق الدولي، وأعلنت شركة نفط العراق الإنكلوأمريكية، تقليص إنتاجها، ووقف العمل في بناء أكبر خطوط النفط عبرها، وطردت آلاف العمال السوريين، كما رفض البنك الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة وحلفاءها، القروض إلى سوريا أو التعامل معها( )، فكان كبح جماح الوحش اليساري الذي صنعته الولايات المتحدة من خلال ما يسمى بالأحزاب القومية العربية، خاصة حزب البعث، من خلال سيطرة الولايات المتحدة على الدولة ذاتها من خلال النظام المصري المخترق من قبلها، وما يؤكد ذلك أنه في نهاية عام 1957 زار الموفد الأمريكي نورمان توماس سوريا، والتقى بالحوراني، قائلاً إنه: إتفق مع عبدالناصر، على حل مشكلة تزايد السكان في مصر، وإن الهلال الخصيب يواجه مشكلة نقص السكان، وقد أيد الحوراني هذا الرأى على أساس أنه سيزيد من فرص التنمية في سوريا باستيطان أعداد كبيرة من المصريين في سوريا، وكان لهذا الموفد الدور الأول في استئناف المساعدات والقروض الأمريكية لمصر، بعد لقائه بعبد الناصر، كما أن هذا الموفد قد أيد الوحدة المصرية السورية، وكان قد زار مع مرافقيه مكتب حزب البعث في دمشق وألقى محاضرة ، وكان لإستراتيجيتها (مصر) هذه النجاح،بعد التخلص من القوى اليمينية التي لا تواكب سياستها أو تجميدها وتعطيل حركتها من خلال الإستراتيجيات التي اتبعها حزب البعث ضد كلا الحزبين الرئيسيين الشعب والوطني، بإثارته للفتن داخلهما، كما تبين في الفصل السابق( ) ، أما دور الولايات المتحدة في التخلص من الحزب القومي السوري، وهو أخطر الأحزاب اليمينية، المعارضة لسياستها، فكان بسبب الشرارة التي أوقدها زعيم الحزب القومي السوري جورج عبدالمسيح، برفضه لجميع العروض التي عرضها عليه الموفد الأمريكي باراكس عام 1953، ثم رفض قيادة الحزب عام 1955 لأي تعاون مع الولايات المتحدة ، مما حذا بالمحلق العسكري الأمريكي بدمشق (ستيفنس)أن يخطط للقضاء على الحزب القومي السوري بمساعدة السفير المصري محمود رياض، ورئيس المكتب الثاني عبدالحميد السراج، وقائد الأركان شوكت شقير المهدد بالتسريح من قيادة الأركان باعتبار أن عدنان المالكي البديل الأفضل، فاستغلوا التوتر بين المالكي وبعض أعضاء الحزب المندسين فيه لتقويضه، وخاصة مجموعة غسان جديد، الذين نفذوا جريمتهم، فكانت الفائدة لشقير والسراج ومحمود رياض والبعث هو التخلص من المالكي، وتخلصت المخابرات الأمريكية من الحزب القومي السوري، في سوريا( ) ، ، وكون الحزب القومي السوري يهدد وجود الطائفية التي كان يؤمنبها غسان جديد التي يؤمنون بها بشكل مطلق، ، ثم عملت الولايات المتحدة على التخلص من باقي القوى اليمينية التي قد تعترض قيام الوحدة بين سوريا ومصر، حيث شجعت بعضها للقيام بانقلاب، ثم كشفت المؤامرة من خلال عملائها أيضاً، فكان انقلاب المقدم هشام العظم بالإتفاق مع السي أي إيه، في إبريل 1957، لكن تم الكشف عن العملية قبل بدء التنفيذ( ).
وبعد قيام الوحدة ، في مارس 1958، اتهم قادة البعث، وخاصة الحوراني، بأن عبدالناصر متآمر على الشعب السوري والفلسطيني، وأنه مرتبط بالولايات المتحدة( )، على أساس أن الرئيس محمد نجيب طلب مساعدة من الإتحاد السوفياتي عام 1953، واعترض على البند الرابع من اتفاقية الجلاء في أكتوبر 1954، المتعلق بالسماح لبريطانيا باستخدام قاعدة قناة السويس، في حالة حدوث اعتداء سوفياتي على تركيا أو أي دولة في الشرق الأوسط، وكانت موافقته لهذا البند ستجعل مصر تحصل على وعد بالجلاء وتقديم المساعدات الأمريكية التي تقدر بـ 20 مليون دولار، إضافة إلى 20 مليون دولار أخرى كمساعدات عسكرية، وأن الولايات المتحدة من خلال السي أي إيه قد أبعدته لهذا السبب وعقدت اتفاقية بنفس الشروط مع القيادة المصرية الجديدة بعده( ) ، كما أن نظام الوحدة قد أثار مشكلة الأكراد في سوريا بغية إشغال الشعب العراقي والسوري عن الوحدة بينهما، وفي سبيل تحقيق مصالح الغرب باسم القومية والإنسانية( )، فالغرب هو الذي أنشأ لهم المنظمات والمكاتب الكثيرة في كافة أنحاء أوربا، وهذا يتوافق مع الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط الرامية إلى تقسيمه إلى كانتونات طائفية وعرقية ( ).
وبعد الانفصال عن دولة الوحدة إثر انقلاب عبدالكريم النحلاوي في سبتمبر 1961، أكد أحد أعضاء السفارة الأمريكية في بيروت وهو المستر لودار، لعضو القيادة القطرية لحزب البعث الأردني جمال الشاعر أن الولايات المتحدة، ساهمت في انقلاب الانفصال لأن النظام المصري تجاوز حدوده، وأنها سترد له اعتباره بانقلاب مضاد يقوم به البعثيون. كما أكد ذلك أيضاً زعيم حزب الوحديون الاشتراكيون جمال الأتاسي، مؤكداً على علاقة الحوراني مع الولايات المتحدة لاسقاط الوحدة ( ).
أما النظام الذي ساد بعد سقوط الوحدة وهو نظام ناظم القدسي فقد اتسم بمعاداته للسياسة الأمريكية، لأن مصر كانت الكابح لموقف سوريا بالنسبة لقضية فلسطين، وقضية تحويل نهر الأردن. لذلك عملت الولايات المتحدة وإسرائيل على اسقاط هذا الوضع في سوريا. فكان عصيان جاسم علوان في حلب عام 1962 من تحريض القنصلية الأمريكية، إضافة لعلاقة النظام المصري به فقد وزعت القنصلية الأمريكية في حلب صور جمال عبدالناصر على المتظاهرين، وهذا ما حذا برئيس الحكومة خالد العظم إلى المطالبة بطرد القنصل الأمريكي، فرد السفير الأمريكي في دمشق، بأنه لو حدث هذا فإن الولايات المتحدة سترد بقوة، وما يؤكد على دور الولايات المتحدة لاسقاط الوضع القائم في سوريا إبان حكم ناظم القدسي ، ما أكده أحد المسؤولين الأمريكيين لأحد أعضاء الوفد السوري والذي زار الولايات المتحدة عام 1962 بقوله:"إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تؤيد أي نظام في العالم الثالث ما لم يكن فيه قائد الجيش ورئيس المخابرات على إتفاق تام مع الولايات المتحدة "( ) ، وكان تصريح رئيس الحكومة خالد العظم للسفير الأمريكي عقب تشكيل حكومته قد أثار الولايات المتحدة بشكل كبير، حيث قال : " إننا لا نخدعكم بالقول المستحب عندكم، فلا نعدكم بما يعدكم به غيرنا، فنحن لا نقبل الصلح مع إسرائيل، ولا تحويل نهر الأردن، ولا توطين اللاجئين الفلسطينيين، ولكننا لن نقوم بهجوم على إسرائيل"( ) ، وبسبب ذلك عملت الولايات المتحدة، منذ سقوط الوحدة على الضغط على البنك الدولي للحيلولة دون إقراض سوريا، التي تسلمت خزينة فارغة بعد سقوط الوحدة ( )، إضافة لما استولت عليه أجهزة الأمن المصرية من المشاريع والمصانع والراسمال لبعض السوريين واللبنانيين المتواجدين في مصر، وبعضهم كان موجود فيها منذ عقود طويلة، ووضع مدير البنك الدولي شروطاً كثيرة تهدد استقلال سوريا، مما أدى لرفض الحكومة هذه الشروط.
وبعد انقلاب زياد الحريري في 8 مارس 1963، تتالت على النظام الجديد القروض والمعونات بمبالغ ضخمة أكثر من المطلوب بحيث بلغت 40 مليون دولار، وهذا ما يؤكد أن الولايات المتحدة لم تكن راضية عن حكم ناظم القدسي، لذلك مهدت لانقلاب زياد الحريري، من خلال انقلاب مبدئي في العراق في 8 فبراير 1963، الذي كان من تدبير السي أي إيه، وهذا ما أكده علي صالح السعدي، حيث كانت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار على علاقة مع المخابرات الأمريكية، إضافة لدور ميشيل عفلق بعد ذلك في إسقاط البعث العراقي في أواخر 1963 خوفاً من الوحدة بين البعثين السوري والعراقي باعتبار أن القيادة القومية واحدة، فدعم عبدالسلام عارف وأيده في انقلابه على علي صالح السعدي وهاني الفكيكي وغيرهم من أعضاء القيادة القطرية البعثية العراقية، كما كان صلاح الدين البيطار وزياد الحريري على صلة بالسي أي إيه من خلال فريد دانيال وهو شقيق عاطف دانيال الذي كان على علاقة بالسي أي إيه منذ عهد الوحدة إضافة لعلاقته الحميمة بميشيل عفلق( ).
كما قام نظام البعث بعد 1963 بعقد إتفاقيتين مع الشركات الأمريكية النفطية، مما حذا بالحوراني أن يفضح هاتين الإتفاقيتين من خلال حزبه الجديد وهو الاشتراكيون العرب، حيث وزع صورة وثيقة البترول التي تؤكد أن النظام الجديد قد سلم موارد البترول السورية للشركات الأمريكية، مما حذا بنظام أمين الحافظ إلى زجهم في السجن حتى أكتوبر 1965، حتى أن السفير الأمريكي في بيروت (أرمان ماير) قال بعد انقلابي البعث في سوريا والعراق: " إن من حق حكومتي أن تؤيد حزب البعث الحاكم في سوريا والعراق، لما أظهره من شجاعة في مكافحة الشيوعية، ومن هنا كان اعتراف الولايات المتحدة السريع بنظام الحكم الجديد في كل من سوريا والعراق بعد الانقلابين الأخيرين، وتسلم البعث الحكم في لبلدين المتجاورين، ودعم سياسة الحكومتين السورية والعراقية التي ترمي لمكافحة الشيوعية "( ) كما أكد مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم هذه الحقيقة بقوله: " إن المخابرات الأمريكية مطالبة بخلق تيارات أكثر تطرفاً وتقدمية في الساحة العربية"( ) ، وعلى ذلك فلم تجد الولايات المتحدة حزباً أكثر تطرفاً من حزب البعث لتوصله إلى سدة الحكم ثم ليتفتت بذلك إلى عدة أجنحة يصل أشدها تطرفاً وهو التيار الماركسي الذي يؤيده صلاح جديد، وذلك عقب انقلاب 23 فبراير 1966. وقد أكد الرئيس أمين الحافظ في برنامج شاهد على العصر الذي تبثه قناة الجزيرة، أن اتفاق المعسكرين الشيوعي والرأسمالي هو الذي عين الرؤساء بعد انقلاب صلاح جديد في 23 فبراير 1966( )، والدليل على ذلك أنه رغم التطرف الظاهري ( )، لنظام الحكم الذي ساد في عهد (الأتاسي/الجديد) وعدم إستعداده لخوض أي معركة مع إسرائيل في ظل الفرق الشاسع بين الطرفين لصالح إسرائيل، إلا أن النظام خاض الحرب في يونيو 1967 وهزم، وأحتلت الجولان بدون قتال يذكر، وكانت الولايات المتحدة قد أكدت لوزير الدفاع الإسرائيلي قبيل الحرب أن إسرائيل سوف تكسب الحرب بسهولة، وفي مدة قصيرة، وحدث ما توقعته الولايات المتحدة، ورغم إلحاحها الظاهري على مشروع القرار 242 في 22 نوفمبر 1967 إلا أن النظام لم يقبل به بسبب تطرف النظام بدون مبرر، وقد أكد السفير السوري في مدريد العقيد دريد المفتي أن النظام عمل من خلال وزير الخارجية إبراهيم ماخوس، على حث إسبانيا للتدخل لدى الولايات المتحدة لقبول نتائج حرب 1967، حيث سلم وزير خارجية إسبانيا بعد ذلك للسفير السوري في مدريد المذكرة التالية:
" تهدي وزارة الخارجية الحكومة الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنها قامت بناءاً على رغبة الحكومة السورية بالإتصال بالجهات الأمريكية المختصة، لإعلامها برغبة سوريا في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران (يونيو) سنة 1967... وتود إعلامها أنها نتيجة لتلك الإتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبه الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سوريا على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها، تعكر الوضع الراهن "( ) .
وقد نفذت الحكومة السورية بالفعل ما طلب منها، وعلى ذلك كانت هدية نظام الأتاسي/جديد، للولايات المتحدة ،وإسرائيل هو تدمير الجيش السوري بالتسريحات أولاً وبالهزيمة ثانياً، والانسحاب من الجولان وتوريط مصر التي خسرت سيناء وقطاع غزة، وأيضاً الأردن التي خسرت الضفة الغربية، بهذه الحرب دون أن يتخذ النظام تدابير وقائية أو أن يقوم بحرب فعلية، كما أن الولايات المتحدة قد دعمت إسرائيل بحوالي 200 طائرة سكاي وفانتوم، ولم يستطع النظام استعادة هيبته، رغم تصريحاته التي أخذ يطلقها ليدفع عن نفسه محنة اللاشرعية الملازمة لنظامه منذ البداية وزادت حدتها عقب هزيمة 1967، مما دفعه لخوض حرب استنزاف بدأت عام 1969، ثم رفض مبادرة روجرز في 9 ديسمبر 1969 لحل النزاع العربي الإسرائيلي برغم قبول إسرائيل وعبدالناصر لها في يونيو 1970، حيث ندد النظام بالمبادرة وحرض عليها الفلسطينيين، مما حذا بإسرائيل ومصر إلى رفضها بسببه، رغم أنه كان الأولى بهذا النظام أن يأخذ ويطالب لكن المنهج اللاعقلاني الذي اتبعه كان يملي عليه التطرف في كل شيء، ومن المؤكد أن تطرفه هذا لم يكن بدافع ذاتي بل بتأثيرات خارجية، لأنه لا يعقل أن يرفض نظام منافع ذاتية، في ظل وضعه المتردي والذي في ظله إستحالة تحقيق أي إنجاز أو نصر( ) ، وهذا ما ساهم في نجاح الحركة التصحيحية بقيادة وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد حيث أسقط النظام السابق وأبعد جماعة جديد عن السلطة ، واتع سياسة أكث واقعية ، وهذا ما جعله ينجح في سياسته الخارجية أكثر ممن سبقه من الرؤساء .
2- بريطانيا :
لبريطانيا دور كبير في إثارة الأزمات ورسم كيان المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، فلها الدور الأول في سلخ عربستان العراقية عن جسم العراق وضمه لإيران عام 1925( )، وكانت هي المحرك للحرب العالمية الأولى، وعقد ثم تنفيذ إتفاقية سايكس بيكو عام 1916، إضافة لإتفاقيات أخرى مع الدول المنتصرة في الحرب الكونية الأولى لوضع الصيغة النهائية لتقسيم منطقة الهلال الخصيب ووعد بلفور، وسلخ لواء الإسكندرونة عن سوريا، إضافة لمنطقة كيلكية، وقد نصت المادة 22 حول الانتخابات على دول الهلال الخصيب التي قسمت بموجب معاهدة سايكس بيكو على ما يلي : " إلى أن تصل الشعوب التي كانت تحت الحكم التركي إلى درجة من التطور والرقي، تحولها أن تكون دولاً مستقلة, تعمل على إرشادها بعض الدول الكبرى في تنظيم أحوالها حتى تستطيع وحدها بعد فترة من الزمن أن تحكم نفسها وتدير شؤونها "( ) .
وكانت بريطانيا أولى الدول التي دخلت سوريا بعد هزيمة الدولة العثمانية عام 1917، وقد خرجت منها عام 1920 بناءاً على مؤتمر سان ريمو في إيطاليا عام 1920، والذي وضع الصيغة النهائية لاتفاقية سايكس بيكو مدخلاً في صلبه جزيرة قبرص باعتبارها جزءاً من المنطقة، وبخروج القوات البريطانية دخلت القوات الفرنسية دمشق عام 1920، لتنفيذ مقررات سايكس بيكو وسان ريمو، ولم يقتصر دخولها على تلك الفترة، بل تعداه إلى مرحلة الحرب الكونية الثانية، فعقب فشل حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، والتي اشترك فيها الثوار السوريين ودعمت بالأموال السورية، كان دخول بريطانيا العراق ثم سوريا، وظلت في سوريا حتى الجلاء في عام 1946 حيث جلت معها الجيوش الفرنسية، لكن كان للقوات البريطانية دور في وقف العدوان الفرنسي على مدينة دمشق عام 1945، بالرغم من دورها السلبي مع فرنسا في استغلال قضية الأكراد لتمزيق وحدة الشعب السوري، إضافة لدورها السلبي قديماً في إثارة الطائفية خلال العهد العثماني، وكان سبب إثارة هذه المشكلات بسبب أهمية سوريا لبريطانيا( )، فمنذ دخول بريطانيا سوريا تراءت لها أحلام الحروب الصليبية، وهزيمة ملكها ريتشارد قلب الأسد، وهذا ما عبر عنه قائد الجيوش البريطانية عند دخوله سوريا حيث قال أمام قبر صلاح الدين الأيوبي:" الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين "( ) وقال أيضاً: "نحن جئنا لنكمل عمل الصليبيين"( )، كما قال مخطط الحرب العالمية الأولى المعروف بلورانس العرب أو ملك العرب غير المتوج واسمه توماس لورانس: " من دمشق تحكم المنطقة العربية، لذلك يجب أن نحكم دمشق مباشرة إذا أمكن، وإلا فبواسطة حكومة من الأصدقاء شريطة أن تكون حكومة غير إسلامية، وذلك يعني انتصارنا في أي حرب تخوضها"( )، وهذا يفسر هزيمة سوريا بعد سقوط حكم الرئيس أمين الحافظ، حيث هزمت سوريا في حرب يونيو 1967 ، بينما لم تهزم قبل ذلك بل انتصرت في حرب 1948، وعام 1951، وعام 1962، كما يقول توماس لورانس أيضاً: " إذاً شئنا السلام في جنوبي سوريا (الأردن وفلسطين)، والسيطرة على جنوبي بلاد ما بين النهرين، وجميع المدن المقدسة (الحجاز)، فيجب أن تحكم دمشق مباشرة، أو عن طريق حكومة صديقة غير إسلامية"( )، وقد اتبعت بريطانيا وحليفتها فرنسا استراتيجية إضعاف سوريا والعراق، من خلال عدة خطط منها ألا يكون لهما سواحل كبيرة على البحار لخنقهما وإبعادهما عن أي نهضة حضارية، وأيضاً لتكريس انفصالهما واستمرار انفصال الأجزاء المنسلخة عنهما مثل الكويت، لبنان، الأردن، فلسطين .... الخ( ) ، وكان لها ذلك من خلال مؤامرة إنشاء الجامعة العربية من خلال وزير خارجيتها أنتوني إيدن عام 1942، بعد أن فرضت على الملك فاروق عميلها المعروف مصطفى النحاس باشا رئيساً للحكومة، وبه أسست الجامعة العربية، ووقع على ميثاقها في مارس 1945 وكان هدفها من ذلك إيقاف وحدة سوريا الطبيعية من خلال مشروع الهلال الخصيب( )، وكان هذا منهاج الأسرة الهاشمية في العراق، فبريطانيا لم تكن تقبل بأي وحدة عراقية سورية، ولو أنها أرادت وحدتها لكانت تستطيع ذلك بسهولة كونها كانت في سوريا قبل 1920، وبعد 1941 حتى الجلاء عام 1946، إضافة لما لها من علاقة وثيقة مع العشائر العربية المتواجدة في سوريا، إلا أنها عملت على الدوام على عدم دمج أفراد المنطقة الواحدة إضافة لمعارضتها لمشروع سوريا الكبرى الذي وضعه الأمير عبدالله /أمير شرقي الأردن/، ودعى إليه، ثم أصبح يطرح مشاريع الوحدة مع سوريا أو العراق، بما يهدد الإعلان الثلاثي الذي أقرته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، هو الإبقاء وعلى وضع المنطقة كما هو( )، لهذا عملت على التخلص منه من خلال أحد عملائها، وهذا ما أكده قائد الجيش الأردني السابق علي أبو نوار، كما أنها أصدرت بياناً بعد انقلاب حسني الزعيم عام 1949، ترفض فيه مشروع سوريا الكبرى ، يكمن السبب المادي لأهمية سوريا بالنسبة لبريطانيا، فيما أوضحه الباحث الإنكليزي باتريك سيل بقوله:
" إن من يقود الشرق الأوسط لابد له من السيطرة على سوريا، بسبب موقع سوريا الإستراتيجي، فهي تشرف على الممرات الشمالية الشرقية الموصلة إلى مصر، وعلى الطريق بين العراق والبحر المتوسط، وعلى شمال الجزيرة العربية، والحدود الشمالية للعالم العربي وهي رأس الحركة القومية العربية، وقلبها، منذ بداية القرن العشرين، وهي منبع الأفكار السياسية والمولدة لها، ومرتع الأحلام والتصورات الوطنية الكثيرة، فمعظم المبادئ والتيارات السياسية في العالم العربي ولدت في سوريا، وكانت حلب قبل سايكس بيكو، مركز إدارة الشؤون التجارية للأناضول، وكليكيا، والموصل، وبغداد، وفارس، وكانت الموانيء القائمة على البحر المتوسط تلعب دوراً في خدمة المناطق الداخلية، أما حمص وحماه فكانتا، تمدان القبائل البدوية والحماد السوري بالمؤن"( ) .
وبرغم العلاقات الودية التي سادت بين سوريا وبريطانيا عقب استقلال سوريا في 7 أغسطس 1943، خاصة عقب تدخلها عسكرياً ضد فرنسا عندما قصفت دمشق بالمدافع عام 1945، إضافة إلى نصيحة ونستون تشرشل للرئيس شكري القوتلي بإعلان الحرب على المحور في عام 1945، حتى يتسنى لها حضور مؤتمر سان فرنسيسكو في فبراير 1945، فرأس الوفد السوري آنذاك فارس الخوري( )، إلا أن بريطانيا كان لها جواسيسها في سوريا في نفس الوقت، مثل المستر لينغ والخبير فوكس ( )، كما عملت على خلق المحور المصري السعودي لمجابهة واستبعاد وحدة سوريا والعراق من خلال مشروعي الهلال الخصيب وسوريا الكبرى، وكان لهذين المشروعين الكثير من الآثار السلبية على استقرار الحكومات والأنظمة التي تدعو إليهما، سواءاً في سوريا أم في العراق( )، لذلك كانت استراتيجية الرئيس شكري القوتلي للحفاظ على الاستقرار الوزاري في نظامه، هو إتباع طريق الحياد، خاصة أنه كان على علاقة شخصية بأسرة آل سعود، وكانت بريطانيا راضية عن هذا الوضع، لذلك فقد عارضت انقلاب حسني الزعيم, حيث كانت على دراية تامة به، حتى أنها بعثت للرئيس شكري القوتلي تحذره من انقلاب محتمل سيقوم به حسني الزعيم، مما حذا بالقوتلي إلى استدعاء حسني الزعيم ليتأكد منه حول هذا الأمر، لكن حسني الزعيم استنكر هذه التهمة وأكد
على ولاءه المطلق للرئيس شكري القوتلي، الذي استبعد أن يقوم حسني الزعيم بهذا العمل( )، وما يؤكد على عدم رغبة بريطانيا بهذا الانقلاب أن كل الاتفاقيات التي عقدها الزعيم لا تدخل ضمن مصالح بريطانيا في المنطقة، ولكنها ساهمت في إثارة عدم الاستقرار السياسي في سوريا قبل انقلاب حسني الزعيم، لكن إثارتها كانت غير مباشرة، حيث امتنعت شركتها (ABC) العاملة في العراق عن توزيع الكاز والبنزين باعتبار أنه لم تكن ثمة مصفات للنفط في سوريا، وذلك بقصد الضغط على سوريا لقبول تمديد خط كركوك بانياس، والضغط على الجيش السوري إبان حرب 1948 في فلسطين، لمنعه من مساعدة القوات المصرية التي كان الجيش الإسرائيلي يكيل لها الضربات في النقب( )، وكان لذلك أثراً سيئاً على الشعب السوري الذي قام بالمظاهرات التي شملت مختلف المدن السورية، كما لم يثبت أن يكون لها أي دور في انقلاب سامي الحناوي بالرغم من التهم التي وجهت إليها حول ذلك، كونها تعارض مشروع الهلال الخصيب، وأي مشاريع وحدوية أخرى في المنطقة، خاصة أن انقلاب سامي الحناوي دعى للوحدة مع العراق.
لكن بعد انقلاب الشيشكلي عام 1949، أدركت بريطانيا أن وجودها بات مهدداً في المنطقة أمام تعاظم نفوذ الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي فيها، خاصة بعد أن قوبلت زيارة قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط الجنرال بريان روبرتسون، إلى المنطقة بالاستياء، في فبراير 1951( )، حيث قاد اليسار المظاهرات الكبيرة ضد زيارته، وقد صرح روبرتسون خلال زيارته لسوريا بتصريح جاء فيه:
" إن بريطانيا في حاجة إلى سوريا كرباط ودي بين القوات البريطانية المرابطة في قناة السويس، والمراكز الأمامية في العراق المحاذية للحدود السوفياتية"( )، وبعد هذه الزيادة التقى المسؤولون العسكريون البريطانيون، مع نظرائهم الأمريكيون في مالطا، وتبع هذه الزيارة مباشرة، زيارة لمساعد وزير الخارجية الأمريكية، فزاد ضغط اليسار على الحكومة التي يرأسها حسن الحكيم، مما ساهم في سقوطها، فشكل الحكومة خالد العظم عام 1950 وأعلنت الحكومة رفضها لمساعدات النقطة الرابعة، ودعت للحياد، وبسبب أنها لا تمثل الأكثرية البرلمانية سقطت، ثم جاءت حكومات تدعو للوحدة مع العراق، لكن اليسار تدخل ضد هذه الوحدة، بداعي ان هذه الوحدة، ستجعل عبد الإله ملكاً على سوريا، خاصة أن الوصي عبدالإله كان مكروهاً من الشعب السوري، بسبب اعدام المربع الذهبي وهم القادة الأربعة في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، كما أن البعض كان متخوفاً من علاقات نوري السعيد ببريطانيا( ).
وبسبب زيادة قوة الجيش السوري في عهد الشيشكلي، وزيادة الشركات الغربية الاستثمارية في سوريا، عمل الشيشكلي على استقدام مدربين غربيين للتدريس في المدارس العسكرية، إضافة للمدربين العرب( )، وكان من بين هؤلاء المدربين طومسون الذي كان يدرب في مدرسة الطيران ( )، وقد أصبح هذا المدرب فيما بعد وزيراً للشؤون الخارجية في بريطانيا، وكان خلال مدة تدريبه في سوريا مسؤولاً عن هذه المدرسة، وكان له مساعدان هما فهمي سلطان وفيصل ناصيف( ).
وبعد سقوط الشيشكلي في نهاية فبراير 1954، وسيطرة اليسار على الجيش في سوريا، وازدياد التدخل الشيوعي في الشؤون السورية، تخوفت بريطانيا من هذا الوضع في سوريا بإدراكها أن هذه الحمى ستصل العراق حتماً، رغم محاولة الرئيس شكري القوتلي التقليل من مخاوفها. حيث أرسل للسفير البريطاني في دمشق في نوفمبر 1955، يؤكد له أنه مصمم على دحر الشيوعية واليسار والأفكار اليسارية التي يشيعها البعث، وخطته في ذلك تقوم على ما يلي( ):
1- عين مدير المدرسة العسكرية من اليمين الموالي له بغية إبعاد الضباط اليساريين عن الترشيح للمدرسة.
2- زار الجبهة، وأكد أن مهمة الجيش هي الدفاع عن الوطن، وعدم الإنخراط بالسياسة.
3- تحالف مع حزب الشعب.
4- استقل زعيم إتحاد نقابات العمل المعتدل وزملاءه وشجعهم على المزيد من النشاط ضد اليسار.
ورغم ذلك ظلت بريطانيا تشك في قدرة اليمين على التغلب على الشيوعية، مدركة أن اليسار هو المسيطر على الجيش من خلال بعض الضباط وأبرزهم عفيف البزري، وعبدالحميد السراح، ومصطفى حمدون، وغيرهم، لذلك عمدت لإقامة حلف دفاعي يقي العراق من خطر الشيوعية التي تهدد مصالحها في العراق والأردن ومصر، وكان ذلك هو حلف بغداد عام 1954، وكان لهذا الحلف تأثير سلبي على الاستقرار السياسي في سوريا، حيث سقطت حكومة فارس الخوري عام 1954 بسبب عدم إدانتها له، من خلال اليسار الذي تدخل ضدها عبر الجيش، وبالرغم من عدم تأثيره السلبي على المصالح السورية، كونه يدعم اليمين المحافظ أمام الخطر الشيوعي، لكن كان هدف الولايات المتحدة من خلال عملائها تقويض هذا الحلف رغم اشتراكها في لجنته العسكرية، فقام اليسار ممثلاً بالبعث والشيوعي والكتلة اليسارية المستقلة في البرلمان بقيادة خالد العظم، بالتنديد به، كما عمل النظام المصري على التنديد به، على أساس أنه ضد الوحدة العربية، والأهداف القومية، بالرغم من أن النظام المصري أكثر أنظمة العالم التي قاومت فكرة مشروعي الهلال الخصيب وسوريا الكبرى، وضم الكويت للعراق، وغير ذلك من هذه المحاولات، لكن كان لحلف بغداد فيما بعد تأثيراً على النظام العراقي نفسه، حيث أدى إلى تقويضه من خلال حركة عبدالكريم قاسم اليسارية عام 1958، وبذلك انتهت مصالح بريطانيا في العراق بعد مصر عقب تأميم قناة السويس عام 1956، وما سببه عدوانها مع فرنسا وإسرائيل، على تقوية اليسار في سوريا، خاصة في ظل عملية التيه التي اشتركت فيها مع العراق والولايات المتحدة لإسقاط النظام السوري من خلال انقلاب عسكري، مستغلة دعاة الوحدة مع العراق، في نوفمبر 1956 مثل أعضاء من أحزاب الشعب والوطني والقومي السوري، وبعض المستقلين، لكن كشف العملية قبل تنفيذها( ), قد جعل العلاقات شاسعة بينها وبين الحكومات السورية المتعاقبة، خاصة بعد أن نسف عبدالحميد السراج ، أنابيب النفط المارة بسوريا والتابعة للشركة البريطانية، خلال العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956، ولم تعد حكومة صبري العسلي العلاقات مع بريطانيا أو تسمح لها بإعادة تصليح ما خربه الإنفجار إلا بعد موافقتها على عدة شروط هي: ( )
1- تعويض مصر عن خسائرها بنتيجة العدوان الثلاثي على مصر.
2- الاعتراف بحق مصر في تأميم قناة السويس.
3- تسوية جميع المشكلات العالقة.
خاصة أن هذا العدوان، سبب متاعب جمة للنظام بسبب المظاهرات الشعبية ضد العدوان الثلاثي على مصر، وكان إدراك بريطانيا أنها لا تستطيع مجابهة الولايات المتحدة في المنطقة، قد جعلها تؤثر السير وراءها، فكان اشتراكها في المؤامرة البعثية في العراق، لاسقاط عبدالكريم قاسم عام 1963 حيث إعترف النظام الجديد بالكويت، وكان لهذا الانقلاب أثره السيء على سوريا، وتسبب بانقلاب 8 مارس 1963، وقد أكد الرئيس أمين الحافظ في برنامج شاهد على العصر أن بريطانيا بقي لها عملاءها في سوريا( )،والذي كان نتيجته سقوط نظام أمين الحافظ، وعدم الاستقرار بعد ذلك الذي انتهى بوصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا بعد الحركة التصحيحية في نوفمبر 1970.
3: فرنسا
كان لفرنسا أسوء الأثر في تحطيم سوريا، إبان الانتداب الفرنسي على سوريا، والذي ابتدأ منذ سقوط النظام الفيصلي، عام 1920، حيث عملت فرنسا على إقامة ما يسمى بلبنان الكبير مقتطعة أجزاءاً من المحافظات المحيطة بمتصرفيه جبل لبنان، لتقيم ما سمي فيما بعد بدولة لبنان، إضافة إلى إقامتها لدولة جبل العلويين، ودولة جبل الدروز، ودولة حلب التي كان من أجزائها لواء الإسكندرونة الذي حكم بشكل مباشر من قبلها، وهكذا اشتركت فرنسا بتقسيمين لسوريا، فالتقسيم الأول الذي شمل كل منطقة سوريا الطبيعية (الهلال الخصيب)، والتقسيم الثاني، الذي شمل تقسيم سوريا لتقطيعها إلى دويلات قزمية ومنها لبنان، إضافة لتسليمها لواء الموصل لبريطانيا مقابل أخذها لواء ديرالزور، وتسليمها كليكيا لتركيا، لكن تجدر الإشارة إلى أن دولة حلب لم تستمر سوى أربعة سنوات منفصلة عن دمشق، وظلت دولة جبل الدروز حتى عام 1940، بينما جبل العلويين حتى عام 1944، مع استمرار لبنان منفصلاً عن الوطن الأم حتى تاريخ كتابة هذه السطور( )، لكن أخطر إثر إثرته فرنسا على سوريا كان هو تسليمها لواء الإسكندرونة عام 1939، على إثر توقيع المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، حيث ادعت تركيا أن الإدارة التي كانت مفروضة على لواء الإسكندرونة هي لفرنسا حسب قرار عصبة الأمم، وليس لسوريا التي أصبحت لها إدارة مستقلة نظرياً، وبالمقابل رغبت فرنسا في وقوف تركيا إلى جانبهما في الحرب الوشيكة مع المحور، ودفعت لها أموالاً مقابل ذلك أيضاً، وعلى هذا الأساس تنازلت لتركيا عن اللواء، وكان دور بريطانيا في هذه المؤامرة، أنها حثت تركيا على مطالبتها بلواء الإسكندرونة بسبب تخوفها أن يصبح لفرنسا موقع جغرافي استراتيجي (جيوبولوتيكي). على البحر المتوسط ينافس بريطانيا، بالرغم من أن صك الانتداب لا يجيز لها التنازل عن أي أراض سورية، مع تعهدها بالدفاع عنها( ).
وعملت فرنسا على تفتيت الوحدة الوطنية في سوريا بإثارتها للطائفية منذ تعيين جورج بيكو عام 1914 قنصلاً عاماً على متصرفية جبل لبنان( )، إضافة إلى مؤامراتها في ظل الدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر( )، وخلال فترة الانتداب على سوريا أخذت تمنح الأكراد الكثير من الأراضي، رغم أنهم كان الكثير منهم مهاجرين من تركيا بسبب الاضطهاد التركي لهم، وكان سبب إعطائها الأراضي لهم لمقاومة الحركة الاستقلالية في سوريا بقيادة الكتلة الوطنية التي يقودها شكري القوتلي وهاشم الأتاسي( ) ، كما ساهمت فرنسا في تطوير نظام الإقطاع القبلي بدل إدخالها إلى السوق الراسمالية العالمية، فتحول الملاك والتجار إلى وكلاء محليين للبضائع الأجنبية المصنعة، مما أثر سلباً على الحرفيين والصناع الصغار بسبب منافسة المنتجات المستوردة( ) ، ومن تأثيرات الانتداب فيما بعد استقلال سوريا، أنها ولدت عند بعض أبطال استقلال سوريا، الإلتصاق بالمؤسسات الجمهورية، وبعاصمتهم دمشق بعد أن تحول مركز القومية العربية إلى بغداد بعد رحيل الملك فيصل إليها، فتميزت سوريا بذلك عن الممالك المجاورة لها في العراق والأردن( ) ، كما ظل النفوذ الفرنسي قوياً في الأوساط العسكرية السورية، لأن الكثير منهم كان في جيش الشرق المختلط الذي أسسته في ظل الانتداب، فأصحاب الانقلابات العسكرية الأربعة الأولى في سوريا كانوا في هذا الجيش، حتى أن صاحب أول انقلاب عسكري في سوريا والشرق الأوسط حسني الزعيم، كان يفضل التكلم بالفرنسية على العربية، كما كان تجهيز الجيش السوري بالأسلحة الفرنسية، وليس بمقدوره طلب قطع غيار إلا من فرنسا( ).
وقد أيدت فرنسا انقلاب الزعيم وحثت الدول الأخرى على الاعتراف بحكمه، وكان السفير الفرنسي يتصل به يومياً، ووعدت فرنسا بالدفاع عن حكمه لو تعرض للخطر، خاصة بعد أن تعهدت الولايات المتحدة بالاعتراف بحكمه وأنها ضد أي تغيير في خارطة المنطقة ( ) ، وكانت فرنسا من بين الأوساط الغربية التي ضغطت لدفع حسني الزعيم، لتسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية في السابع من يوليو 1949 حيث أعدم بعد أربع وعشرين ساعة، بعد محاكمة صورية، وهذا مما أثار الشعب السوري ( )، زد على ذلك أن فرنسا نفسها قد ساهمت في تهيئة الجو لانقلاب حسني الزعيم، فعملت على تجميد الودائع والأرصدة السورية في البنوك الفرنسية، وعدم إتاحة المجال لاستقلال العملة السورية عن العملة الفرنسية، ما حذا برئيس الحكومة خالد العظم أن يقترح في البرلمان عام 1948، /عند مناقشة ميزانية الدولة/، تخفيض رواتب الضباط وتسريح قسماً منهم، وتخفيض نفقات الجيش( )، كما أنه كان لفرنسا علاقات اقتصادية وثقافية في سوريا استمرت لما بعد الاستقلال، إضافة لعلاقاتها مع السياسيين السوريين، الذين تربوا على الجهاز الإداري الموروث عن الإدارة الفرنسية، وما فيه من قوانين فاسدة، استغلها بعض الانتهازيين لتحطيم هيبة الدولة ( ) ، فكان سقوط حكومة سعدالله الجابري عام 1946، بسبب إثارة أحد عملائها لقضية النقد السوري حيث رفعت ضماناتها عنه، وكان هذا العميل هو عقلة القطامي، الذي كان نائباً لجبل العرب في البرلمان، وكان يلعب بالحكومة وبالجبل معاً( )، كما أنه مما يدل على أن لفرنسا علاقة بانقلاب الزعيم أنه وقع بعد انقلابه مباشرة على اتفاقية النقد مع فرنسا والتي رفضتها الحكومة السابقة( ).
أيضاً عمل الزعيم على السمسرة بتجارة الأسلحة مع فرنسا بواسطة عديله نذير فنصة، وقد استاءت فرنسا من انقلاب سامي الحناوي ودعوته لمشروع الوحدة مع العراق، بسبب مصالحها في لبنان، حيث يعتبرها الكثير من أبناء الطائفة المارونية بأنها الأم الحنون، لذلك عملت لاسقاط سامي الحناوي( ) ، برشوة بعض الصحف لكي لا تتعرض لسياسات فرنسا في وقوفها ضد الوحدة السورية العراقية( ) ، كما عملت على استخدام نفوذها بين ضباط الجيش لإسقاط سامي الحناوي عن قيادة الجيش، فكان قادة الانقلاب ضده من الموالين لها، أيضاً عملت على تأخير الاتفاق الاقتصادي بين سوريا والعراق، والذي كان جاهزاً في البرلمان، من خلال شركة البنك السورية الموالية لها( ) ، واتفقت مع السعودية ومصر لإنجاح خططها وتدخلاتها معهم في سوريا، لأن بلاط الملك فاروق كان مخترقاً من قبل عملائها الذين كانوا يعملون لصالحها ولصالح سياستها، وهذا ما حذا بها لتأييد انقلاب أديب الشيشكلي عام 1949 مباشرة، ومما يدل على أن الشيشكلي والحوراني كانا على اتفاق مع فرنسا هو أن الصحف السورية في إبريل 1951، أصبحت تتحدث عن مساويء السياسة الإنكليزية القديمة، ولم تكن تذكرها من قبل أي في حينها، على اعتبار أنها صارت تذكرها بعد أن أصبح مصرف سوريا ولبنان "الفرنسي" يوزع الرشاوي على الناس باسم فرنسا، كما أن الصحف الفرنسية ( ) أصبحت تصف الشيشكلي بأنه بطل استقلال سوريا، لأنه أوقف الوحدة مع العراق في نفس اليوم الذي كان مقرراً فيه التصويت عليها في البرلمان، وأنه أعاد لها بعض نفوذها( ).
ولم تكتف فرنسا بالمساهمة في اسقاط سامي الحناوي بل عملت على تقويض النظام والحكومات المؤيدة للوحدة مع العراق، من خلال مساهمتها في اسقاط الحكومات التي شكلها حزب الأغلبية المطلقة في البرلمان وهو حزب الشعب، وهذا ما أكده رئيس الحكومة ناظم القدسي عام 1950 باتهامه لفرنسا عن مسؤوليتها في سقوط حكومته بقوله: "
لقد وجدوا أنهم لا يمكن أن يتحملوا كوننا نعمل من أجل الوحدة العربية، وكانوا يخشون أيضاً أن نعمل على انتزاع بنك سوريا ولبنان من سيطرة فرنسا، إن حكومتي هي أول من أمم المشروعات الأجنبية في الشرق الأوسط، لقد استولينا على شركات المياه والكهرباء الافرنسية في حلب، وشركة الكهرباء الافرنسية في حمص، وشركات الكهرباء و النقل الإنكليزية في دمشق، وإدارة حصر التبع الافرنسية، فاعتقد الفرنسيون من ثم أن لدينا بالنسبة للبنك خططاً مماثلة"( ) .
وعندما قام الشيشكلي بانقلابه الثاني في نوفمبر 1951، اعترفت فرنسا وتركيا وبريطانيا مباشرة بالنظام الجديد، وأصبح نظام الشيشكلي يتقارب مع فرنسا( ) ، واخترقت الشركات الفرنسية للاقتصاد السوري، فعلى سبيل المثال في 8 نوفمبر 1951، تحولت شركة حاييم ناثاينيل التي يترأسها أحد اليهود الفرنسيين، إلى شركة سورية باسم شركة الزيدي، بعد أن دفع مديرها للنائب جميل الشماط رشوة حتى يتوسط أكرم الحوراني بعملية التمويل( )، وبسبب تخوف فرنسا من التقارب العراقي السوري بعد لقاء الرئيس أديب الشيشكلي مع رئيس الحكومة العراقية نوري السعيد في يونيو 1952، واجتماع الموفد العراقي لبحث الوحدة بين سوريا والعراق مع وزير الخارجية السوري ظافر الرفاعي، في نفس الشهر، عملت على دعم المناهضين للوحدة العراقية السورية( ).
وبعد سقوط الشيشكلي عام 1954 استمرت فرنسا في سياستها القديمة بوقف أي تقارب سوري عراقي، فعارضت حلف بغداد ( )، كما ساهمت من خلال عملائها بالضغط على سوريا لجعلها ترفضه، وكان لذلك أثراً كبيراً في إثارة تركيا التي حشدت قواتها على الحدود السورية في مارس 1955، كما أن فرنسا رفضت تزويد سوريا بالأسلحة منذ عام 1954 بحجة الدعم السوري للثورة الجزائرية، لكن كان تدخلها في العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 قد أبعد سوريا عنها وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، خاصة بعد خطفها للطائرة التي تقل زعماء الثورة الجزائرية، فاندلعت المظاهرات في سوريا أمام السفارة الفرنسية في دمشق، والقنصلية الفرنسية في حلب، وأحرقت مدرستان كاثوليكيتان، فرنسيتان، ومدرسة علمانية فرنسية أخرى في حلب( ) ، وكان تلكؤ أجهزة الأمن في إيقاف هذه المظاهرات ظاهراً للعيان، لأن هذه الحوادث كانت بتدبير النظام المصري وعملائه، خاصة عبدالحميد السراج الذي أصدر أوامره بعدم التعرض لهذه المظاهرات، رغم أن وزير الداخلية أحمد قنبر أمر بإطلاق النار على المتظاهرين لكن لم يستجب ضباط الأمن لأوامره( ).
وعملت فرنسا إبان الوحدة على تقويض هذه الوحدة بسبب ما أصاب مصالحها في سوريا ولبنان بسببها، وضياع هيبتها في الجزائر ومصر، فإعترفت بحركة عبدالكريم النحلاوي بعد فترة وجيزة من قيامها، رغم أن الجنرال شارل ديغول عمل منذ عام 1958 على تحسين العلاقة بين فرنسا وسوريا وأوقف بيع الأسلحة الفرنسية لإسرائيل، لكن تجدر الإشارة إلى أنها ظلت لها عملاء في سوريا، يعملون لصالحها، وإن كان دورهم قد قل نتيجة إزدياد نفوذ الدولتين العظميين في سوريا، خاصة بعد انقلاب زياد الحريري في 8مارس 1963 لكن كان لفرنسا ( ) دورها في وقف العدوان الإسرائيلي في حرب 1967 فلولاها لكان من الممكن لإسرائيل إحتلال المزيد من الأراضي التي احتلتها( ).
المبحث الثاني
تدخلات المعسكر الشيوعي
الإتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه:
لا يمكن على الإطلاق أن تنفصل السياسة الخارجية للدول الشيوعية الدائرة في فلك الإتحاد السوفياتي السابق عن السياسة الخارجية للإتحاد السوفياتي السابق، فلم تستطع المجر عام 1956 الخروج من هذه الدائرة حيث تم سحق حكومتها من قبل الجيش السوفياتي مباشرة وقتل رئيس حكومتها أمري ناجي، أيضاً تدخل الإتحاد السوفياتي عام 1968 عندما أخذت تشيكوسلوفاكيا تبتعد عن المنهج الشيوعي، فكانت دبابات الجيش السوفياتي لها بالمرصاد، وأعلن إثر ذلك برجنيف عن مبدأه المشهور الذي دعى فيه لإمكانية تدخل الجيش الأحمر في أي دولة تدور في فلكه، فيما لو ابتعدت عن منهجه وسياسته، وهو ما عرف بمبدأ برجنيف، وعلى هذا الأساس فإن تدخلات الإتحاد السوفياتي مترابطة ومتواكبة بشكل مطلق مع تدخل الدول الشيوعية بحق الدول المتخلفة، إضافة لدول المعسكر الآخر، فللكتلة الشيوعية الأثر الأكبر في هجرة اليهود لفلسطين، ونقل الأسلحة لإسرائيل عبر الموانيء اليوغسلافية والرومانية( ) ، كما أن السوفييت كانوا يشجعون التطلعات الكردية، وساعدوا في إقامة جمهورية مهباد إبان إحتلالهم لإيران خلال الحرب العالمية الثانية، ومنذ الثورة الإشتراكية البلشفية في روسيا عام 1917، وحتى سقوط الإتحاد السوفياتي( ) ، كان النظام الروسي ومن بعده السوفياتي يتبع سياسة مؤيدة لإسرائيل، سواءاً بشكل ظاهري أم بشكل غير مباشر، والسبب في ذلك يعود لعدة أمور منها, أنه كان عدد أعضاء اليهود في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سبعة أعضاء من أصل أربع وعشرين عضو، بالرغم من أن عددهم بالنسبة لباقي السكان لا يتجاوز 1.1 بالمائة، كما بلغ عدد الأعضاء اليهود في مجلس المفوضين (الوزراء)، سبعة أعضاء من أصل سبعة وعشرون عضواً، وبلغ عددهم في مجلس السوفييت الأعلى سبع وأربعون عضواً، عام 1947( )، رغم أن اليهودي يظل مؤمناً بيهوديته حتى وإن ادعى الماركسية أو الإلحاد، كما أكد ذلك ديفيد بن غوريون( ).
وفي إطار الحرب الباردة التي كانت بين المعسكرين عشية الحرب الكورية، كان للاتحاد السوفياتي تدخلاته في الشرق الأوسط من خلال الأحزاب الشيوعية الموجود في البلدان الشرق أوسطية( ) ، إضافة لهدفه في القضاء على القوميات، لأن الحزب الشيوعي هو وسيلته لذلك، إضافة لأهدافه في الوصول إلى المياه الدافئة( ) ، لذلك سعى لإنشاء وطن كردي موال له، فقد عاش مصطفى البرزاني ثلاثة عشر سنة في روسيا، حصل خلالها على رتبة جنرال في الجيش الأحمر، ويعتبره أكراد سوريا والعراق قائدهم، بسبب تبنيه للقومية الكردية، لذلك كان السوفييت يدعمون على الدوام التمردات الكردية باسم الإنسانية وتقرير المصير، وقد حاول بعد الحرب العالمية الثانية تحسين صورته ، مع الشعب السوري واللبناني من خلال ممارسته حق الفيتو في مجلس الأمن، بعد أن طلبت الولايات المتحدة خروج القوات الإنكليزية والفرنسية من سوريا، ولبنان، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدون أن تطلب تحديد المدة، حيث طالب الإتحاد السوفياتي بضرورة تحديد تاريخ الجلاء، وهذا ما قررته الأكثرية في مجلس الأمن فتم الجلاء في 16 إبريل 1946 وعن لبنان في 31 ديسمبر 1946( ).
ورغم فقدان شعبية الإتحاد السوفياتي في سوريا، إثر تأييده لتقسيم فلسطين عام 1946، إلا أنه استمر في مراميه، لكسب مناطق نفوذ له في الشرق الأوسط وخاصة سوريا، فكان هذا التدخل إحدى الأسباب الرئيسية لانقلاب حسني الزعيم عام 1949، الذي دعمته الولايات المتحدة لتبعد الخطر السياسي عن سوريا, حيث تعهد الرئيس حسني الزعيم بأنه سيسعى لتدمير أية دعاية شيوعية هدامة، وسيشن حرباً ضدها، فقام باضطهاد الشيوعيين( )، وحذا حذوه فيما بعد الشيشكلي بعد انقلابه الأول، وبنتيجة اندلاع الحرب الكورية عام 1951، أعلن رئيس الحكومة معروف الدواليبي، أن الطريقة الوحيدة لمنع حرب عالمية ثالثة هي بتوقيع ميثاق عدم اعتداء مع الإتحاد السوفياتي، ثم دعى إلى نبذ الأحلاف وإلى استيراد السلاح من الإتحاد السوفياتي، فكانت قراراته هي إحدى أسباب انقلاب الشيشكلي في ديسمبر 1951، كون الشيشكلي موالياً للغرب( ).
وبعد سقوط الشيشكلي في عام 1954 ازداد التدخل السوفياتي في سوريا وازداد تقارب الحكومات مع الإتحاد السوفياتي في سوريا( )، حيث زادت المشتريات السورية من الإتحاد السوفياتي خمسة أضعاف ما كانت علبه قبل ذلك أي خلال سنتي (1954 – 1958)، فقد اشترت سوريا دبابات تشيكية عام 1954، ثم اشترت عام 1955 دبابات (ت52)، حتى وصلت مشترياتها من تشيكوسلوفاكيا وحدها بين عامي (1954-1957)، إلى حوالي 100 مليون جنيه استرليني ( ) ، وقد أكد تقرير أمريكي أن حكومة صبري العسلي عام 1956 قد رهنت سوريا للإتحاد السوفياتي، مقابل السلاح الذي أخذته، باعتبارها لم تدفع ثمنه، رغم ما قاله رئيس المكتب الثاني عبدالحميد السراج أن الحكومة دفعت ثمنه من احتياطي سوريا في الخارج( ) ، ولم تدرك الحكومات التي عملت على التقارب مع الإتحاد السوفياتي، أن الإتحاد السوفياتي قد وافق في ديسمبر 1954 على تصدير النفط لإسرائيل وفق اتفاقية اقتصادية بينهما، رغم أن اليسار كان يريد الابتعاد عن الغرب باعتباره يدعم إسرائيل، ويضغط على الحكومات خاصة حكومة صبري العسلي لهذا السبب( ) ، وما كان ذلك يمكن أن يحصل لولا نفوذ البعث في الجيش، واختلافات الأحزاب المحافظة، وظهور أقلية يسارية في البرلمان، إضافة إلى الدعاية السوفياتية، والشيوعية، حيث سمحت حكومة صبري العسلي عام 1956 بتوزيع الصحف الشيوعية، وعرض أدبيات الفكر الشيوعي علناً، كما دخل الإتحاد السوفياتي عام 1954 في معرض دمشق الدولي، ولم تدخله الولايات المتحدة وبريطانيا، ثم إتبع الإتحاد السوفياتي استراتيجية توثيق صلاته السياسية والاقتصادية والثقافية في سوريا( ) ، تمهيداً لربطها به بشكل مطلق من خلال ما يلي: ( )
1- دعوات موجهة إلى رجال الفكر والسياسة والدين لزيارة الإتحاد السوفياتي.
2- منح أحد كبار رجال الدين في سوريا، جائزة ستالين للسلام.
3- تقديم وزراء الدول الشيوعية في أوربا عروض تجارية مغرية لربط الأوساط التجارية السورية بالاقتصاديات الشيوعية.
4- التركيز السوفياتي الإذاعي على سوريا.
5- مشاركة الإتحاد السوفياتي في معرض دمشق الدولي بأوسع وأضخم الأقسام، لجذب الزائرين، بمعداته الآلية وصناعاته الضخمة، إضافة لآلاف الكتب الشيوعية بجميع اللغات وبأثمان زهيدة.
وقد فاز خالد بكداش في انتخابات عام 1954 كأول شيوعي يصل إلى البرلمان في الشرق الأوسط، ثم عمل الإتحاد السوفياتي على ربط سوريا خلال الفترة (1957-1958) من خلال ما يلي:
1- قروض مالية لا تستطيع وفاءها.
2- صفقات الأسلحة الضخمة ومشاريع عمرانية واقتصادية تنفذ بواسطة خبراء دول شيوعية وعن طريقهم.
3- البعثات العسكرية إلى روسيا.
4- البعثات الثقافية والعلمية والطلابية وغيرها.
5- محاولة فرض اللغة الروسية، كإحدى اللغات الرسمية في المدارس السورية والجيش.
6- انسايق العديد من المثقفين والسياسيين والشباب والفلاحين، خلف الحزب الشيوعي السوري.
وعمل الإتحاد السوفياتي على ركوب الموجة الشعبية في سوريا التي اتسمت بالمد القومي عقب سقوط محمد نجيب وإعتلاء عبدالناصر كرسي الرئاسة عام 1954، رغم إدراكه أن انقلاب محمد نجيب كان من تدبير الولايات المتحدة، فأصدر الحزب الشيوعي بياناً عام 1956، اعتبر فيه القومية العربية أنها حركة تقدمية تاريخية ( )، رغم أن مباديء الماركسية تقول عكس ذلك، وكان قد أصدر بياناً في إبريل 1955، تعهد فيه بالدفاع عن دول الشرق الأوسط التي تتعرض لضغوط من جانب الغرب، تجبرها على الانضمام للتحالفات الغربية، على أساس حرصه على حماية حريتها واستقلالها( ) ، وفي 16 إبريل 1955 دخلت سوريا كتلة عدم الإنحياز وشاركت في مؤتمر باندونغ ووقعت على مبادئه الخمسة، كما أنه اتخذ موقفاً مؤيداً لمصر إبان العدوان الثلاثي على مصر، عندما زاره الرئيس شكري القوتلي، واجتمع مع كبار المسؤولين السوفييت، ومن ضمنهم برجنيف الذي تعهد بالوقوف إلى جانب سوريا ومصر ضد أي تعد عليهما، كما تم الاتفاق مع وزير الدفاع خالد العظم على تزويد سوريا بكل ما تحتاجه من السلاح( ) ، وبالفعل فقد وصل سوريا عدة أسراب من طائرات الميج السوفياتية، وقد صرح الرئيس شكري القوتلي لدى عودته من موسكو في نوفمبر 1956 بتصريح قال فيه : " إن آلاف المسلمين السوفييت قد أعلنوا استعدادهم للمجيء إلى الشرق الأوسط، لكي يخلصوا الأرض المقدسة، من المعتدين والمستعمرين"( ) ولاشك أن هذا التصريح فيه بعض المبالغة، ولكن كان ضرورياً في ذلك الوقت لرفع معنويات الشعب السوري أمام ازدياد الهجمات الغربية والشرقية، وصراع المحاور الإقليمية على سوريا.
كما جاءت برقية من موسكو أذاعتها وكالة رويتر للأنباء تقول أن الإتحاد السوفياتي قرر السماح لمائة ألف مسلم من الإتحاد السوفياتي للتطوع إلى جانب القوات السورية والمصرية، لمواجهة أي عدوان عليهما، وأعلن الماريشال السوفياتي بولغانين تحذيره لفرنسا وبريطانيا، أن عدوانهما على مصر قد يقود إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، كما أكد رئيس الوزراء الصيني شوان لا أن الصين مستعدة لإرسال عشة ملايين صيني لمقاومة العدوان الثلاثي على مصر ، ولاشك أن كل ذلك نوع من الدعايات الشيوعية السوفياتية لكسب مؤيدين لسياسته في سوريا، خاصة وأنه قدم قرضاً لسوريا بمبلغ 400 مليون ليرة سورية، إضافة إلى مساعداته في تطوير صناعة النفط السورية، وبعث ضابطاً كبيراً ليساعده في تنظيم الأجهزة الأمنية( ) ،وزار وزير خارجيته شبيلوف سوريا في يوليو 1956، وأعلن عن دعم الإتحاد السوفياتي لسوريا مادياً (اقتصادياً)، وسياسياً في كل الهيئات الدولية( )، كما وقعت سوريا مع الإتحاد السوفياتي في أغسطس 1956 اتفاقية ثقافية، وفتحت وكالة للأنباء تابعة للسوفييت، في دمشق، في أكتوبر 1956، وازداد حجم الإتفاقيات الاقتصادية بين سوريا والدول الشيوعية، حتى أن الشركات التشيكوسلوفاكية أخذت تزايد على الشركات الغربية في معامل
تكرير البترول، وبدأت شركة تشيكوسلوفاكية بإنشاء مصفاة للنفط في حمص، كما عقد وزير الدفاع خالد العظم اتفاقية مع الإتحاد السوفياتي في موسكو، لإصلاح ميناء اللاذقية وإعداده لرسو السفن الكبيرة( ) ، حتى يقل اعتماد سوريا على الموانيء اللبنانية، إضافة لتعهد الإتحاد السوفياتي بتقديم المساعدات المالية والفنية لاستصلاح مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في الجزيرة السورية، وتزويد سوريا بالجرارات، كما أبدى استعداده لمسانده سوريا، إذا تعرضت لأي اعتداء من جانب تركيا بعد أن رفضت سوريا مبدأ أيزنهاور مما حذا بتركيا بتأييد الولايات المتحدة إلى التهديد باجتياح سوريا، وهذا أدى بالإتحاد السوفياتي إلى التهديد باجتياح تركيا، إذا تعرضت سوريا للخطر، وهدد بضربها بالأسلحة النووية، وبالفعل قامت وحدات الأسطول السوفياتي بزيارة ميناء اللاذقية من 19 سبتمبر وحتى 2 أكتوبر 1957، وأجرت مناورات عسكرية قرب السواحل السورية( ) ، وعلى إثر ذلك تراجعت الولايات المتحدة عن حث تركيا عن تهديداتها لسوريا، وأعلن وزير خارجية الولايات المتحدة جون فوستر دلاس، أنه لا ضرورة لتطبيق مبدأ أيزنهاور على سوريا، وأن الولايات المتحدة ستسلك المسلك الدبلوماسي معها وحين انتهت الأزمة في نهاية سبتمبر 1957، أعلنت مصر في 13 أكتوبر أنها سترسل قوات مصرية لمساعدة سوريا، لمواجهة التهديدات التركية التي تتعرض لها سوريا، لكنها كانت قوات رمزية لا تزيد عن ألفي مقاتل، بينما كانت القوات التركية تزيد عن (35) ألف مقاتل، ولكن هدفت مصر من إرسال هذه القوات لتقوية التيار الموالي لمصر في سوريا، كما قام وزير الدفاع خالد العظم عام 1957 بزيارة موسكو وعقد إتفاقية تركزت على: ( )
1- أن يقوم السوفييت بتقديم قرض طويل الأجل لسوريا من أجل التنمية.
2- شراء الإتحاد السوفياتي لفائض الإنتاج الزراعي السوري، بعد أن قرر الغرب تقليص علاقاته الاقتصادية، مع سوريا، بسبب رفضها مبدأ أيزنهاور، فأعلن الإتحاد السوفياتي أنه سيشتري 300 ألف طن من القمح السوري، كما تدخلت مصر وأقرت إتفاقية اقتصادية مع سوريا وإيطاليا.
3- عقد إتفاقية عسكرية سرية.
مما جعل الولايات المتحدة تعلن عن عدم قدرتها على تحمل وجود تابع سوفياتي في قلب الشرق الأوسط، وفي ظل هذا الوضع أعلن اليسار ممثلاً بالحوراني والعظم، تأييدهم للسوفييت، وأخذ الحزب الشيوعي يعمل على تقويض الأحزاب المحافظة واليمينية، خاصة بعد أن تم تقويض الحزب القومي السوري عام 1955، فهاجم خالد بكداش في يونيو 1957، حزب الشعب في البرلمان، متهماً إياه بالعمالة للغرب، ودافع عن الإتحاد السوفياتي، مما حذا بزعيم حزب الشعب رشدي الكيخيا للرد عليه بأنه ينشر الفوضى والفساد وأنه باع البلاد للسوفييت، كما عمل البعث على تصفية الضباط غير اليساريين من الجيش، فأقيل توفيق نظام الدين الموالي للرئيس شكري القوتلي، وتم تعيين عفيف البرزي اليساري قائداً لاركان بدلاً عنه، ثم تم إحتلال ثلاث نواب يساريين وواحد من العشائر، بعد رفع الحصانة البرلمانة عن أربعة من النواب عقب كشف عملية التيه أو ما تسمى بالانتشار( ).
وكان رد الإتحاد السوفياتي على مشروع أيزنهاور بخطة مضادة سميت بخطة شبيلوف في مارس 1957، تلك الخطة الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفاءها، وتنص على حل سلمي لنزاعات الشرق الأوسط وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه المنطقة، وإلغاء الأحلاف العسكرية، وأي تزويد بالأسلحة ، وتحييد الشرق الأوسط، وتحديد مناطق نفوذ للإتحاد السوفياتي معترف بها من قبل الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة رفضت أن يكون للإتحاد السوفياتي أي مناطق نفوذ في الشرق الأوسط، وعلى إثر ذلك تحولت سوريا إلى دولة شبه تابعة للسوفييت، وبما أن الولايات المتحدة لها عملاء في جميع الأطراف، وخاصة اليسار السوري الممثل بالحوراني والعفلق والسراج وغيرهم، من خلال ولائهم للنظام المصري المخترق من قبل الولايات المتحدة، إضافة لارتباطاتهم السرية معها، لذلك فضلت الولايات المتحدة السيطرة على سوريا وإبعاد الخطر الشيوعي عنها من خلال ربطها بالنظام المصري، وعلى هذا الأساس أيدت الوحدة مع مصر، بعد أن دفعت البعث المسيطر على الجيش من خلال أتباع الحوراني لتأجيل الانتخابات البلدية ومن ثم إلغاءها، وإفساح المجال لانقلاب عفيف البرزي عام 1958، قبل بضعة أشهر من الانتخابات البرلمانية الجديدة، التي كانت ستبعد اليسار البعثي نهائياً عن المشاركة في السلطة( ).
وفي ظل الوحدة مع مصر عام 1958، تضاءلت علاقات سوريا/ التي أصبحت الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة/، مع الإتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية، وأعيد الطلاب الدارسون في البلدان الشيوعية إلى سوريا، ولوحق الشيوعيون في سوريا من خلال مخابرات عبدالحميد السراج، وعذب قسماً منهم حتى الموت، وساءت علاقات عبدالناصر مع الإتحاد السوفياتي، إثر تدخل السراج ضد الجمهورية العراقية برئاسة عبدالكريم قاسم، الذي تقارب مع السوفييت عقب انقلابه على الحكم الملكي في يوليو 1958، كما أنه تقارب مع الحزب الشيوعي العراقي لدعم حكمه في الداخل، ومحاولات السراج تقويض نظام عبدالكريم قاسم في العراق من خلال ثورة عبدالوهاب الشواف عام 1959، إضافة لمحاولة اغتيال عبدالكريم قاسم عدة مرات، وملاحقته الشيوعيين في لبنان، وقتل وتذويب زعيم الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو بالأسيد، وإتهامه للشيوعيين ببيع البلاد للإتحاد السوفياتي، كما نظم السراج المظاهرات الصاخبة ضد عبدالكريم قاسم، وأعلن السراج أنه تلقى آلاف البرقيات التي تدعو لإعلان الجهاد المقدس لتحرير العراق من الشيوعية، ونظم حرب دعائية كبيرة، وسادت اضطرابات كبيرة في سوريا ضد النظام الجديد في بغداد، كل هذه الأشياء جعلت الإتحاد السوفياتي يؤيد انقلاب عبدالكريم النحلاوي في سبتمبر 1961، ويعلن اعترافه بالنظام الجديد في سوريا، حيث عمل في ظل نظام ناظم القدسي على تقوية الدعاية، الشيوعية مرة أخرى لكن لم تجد لها أي تجاوب من قبل الشعب السوري، حتى أن عبدالكريم قاسم في العراق أخذ بعد عام 1961 يبتعد عن الشيوعية، واضطهد الشيوعيين في العراق( ).
وبعد انقلاب زياد الحريري في 8 مارس 1963، ومن ثم انقلاب جاسم علوان في يوليو 1963، وسيطرة البعث على السلطة في سوريا، انقسم البعث بعدها إلى تيارين تيار مؤيد للماركسية وهو الذي تقوده القيادة القطرية لحزب البعث ويؤيدها صلاح جديد، وأمينها حمود الشوفي، وعلى أساسها تشكلت حكومة يوسف زعين في 23 يونيو 1965، حيث أصبح يوسف زعين الأمين القطرى لحزب البعث السوري بعد طرد حمود الشوفي من الحزب في المؤتمر السادس للحزب، وقد طالبت حكومة زعين بالتعاون مع الإتحاد السوفياتي، وقام وزير الدفاع حمد عبيد الموالي لها بتسريح ثلاثة ضباط موالين للتيار اليميني الذي تمثله القيادة القومية والتي ينتمي إليها الرئيس أمين الحافظ، مما حذا بالقيادة القومية إلى عزل القيادة القطرية في 23 دبيسمبر عام 1965، وتشكيل لجنة من أنصار ميشيل عفلق لتقوم بمهام القيادة القطرية مؤقتاً( )، وهذا أدى برئيس الحكومة يوسف زعين إلى الاستقالة إحتجاجاً على ذلك، وكان ذلك من الأسباب التي دفعت صلاح جديد للقيام بانقلابه في 23 فبراير 1966، وقد دعم الإتحاد السوفياتي هذا الانقلاب واعترف بالنظام الجديد مباشرة، وقدم له المساعدات، كما حث وزير الخارجية السوفياتية الجديد كوسجين، عبدالناصر على تأييد النظام الجديد في سوريا( ) ، وأكد الرئيس أمين الحافظ في برنامج شاهد على العصر، الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية، أن صلاح جديد كان وراءه الإتحاد السوفياتي، كما زار رئيس وزراء الصين (شوان لاي) سوريا في صيف 1966، واجتمع مع الرئيس نور الدين الأتاسي، حاثاً إياه على الابتعاد عن الإتحاد السوفياتي ومصر في إطار الخلاف الصيني/السوفياتي( ) ، حيث تعهد بأن الصين ستقدم للنظام الجديد كل ما يحتاجه من مساعدة مقابل ذلك، لكن الأتاسي رفض ذلك العرض واستمر بولائه للسوفييت، ووقع صلاح جديد في أوائل 1967 باعتباره الأمين العام المساعد لحزب البعث السوري، مع عضو المكتب السياسي للجنة المركزية في الإتحاد السوفياتي إتفاقية بين البلدين وأعلنا فيها ما يلي : " يشجب الخربان قطعاً دسائس الإمبريالية والرجعية في الوطن العربي، وسائر الأعمال الهدامة ضد الدول العربية التقدمية، والسياسة العدوانية التي تتبعها الصهيونية، ويعلن الحزبان تأييدهما الكامل لنضال عرب فلسطين من أجل حقوقهم المشروعة التي لا تتجزأ " ( ) ، كما صرح الإتحاد السوفياتي إبان زيارة رئيس الحكومة العراقية عبدالرحمن البزاز له في أغسطس 1967 بما يلي : " يستنكر الإتحاد السوفياتي استفزازات إسرائيل ضد الدول العربية، وخاصة الجمهورية العربية السورية، تلك الاستفزازات التي تكررت في الآونة الأخيرة والتي تشكل خطراً على قضية السلام"( ) .
وعمل الإتحاد السوفياتي على عكس ما صرح به حيث عمل على توريط سوريا ومصر بحرب يونيو 1967، فقد أعلم السفير السوفياتي في القاهرة، الرئيس جمال عبدالناصر، بأن إسرائيل تخطط للهجوم على سوريا، وكان هدفه من ذلك ما يلي( ):
1- أن تسرع مصر بسحب قواتها من اليمن لتحركها بإتجاه إسرائيل، وبالتالي إفساح المجال أمام النفوذ السوفياتي في اليمن الجنوبي.
2- أن تؤدي المساندة المصرية للنظام السوري الجديد (الأتاسي/جديد)، إلى تدعيم موقفه الداخلي، بسبب تصاعد الاضطرابات في سوريا عقب سقوط الرئيس أمين الحافظ، وإشغال الولايات المتحدة بهذه المشكلة، بعد أن بدت خسائرها واضحة في فيتنام، خاصة وأن مصر وسوريا قد وقعتا في نوفمبر 1967 على ميثاق الدفاع المشترك الذي انضمت إليه الأردن والعراق فيما بعد.
وبعد سحب القوات المصرية إلى سيناء، وإغلاق مضائق تيران إثر المزايدات السورية على عبدالناصر،حيث إتهمه النظام السوري بالتقاعس عن حل قضية فلسطين، وحله للممرات المصرية للسفن الإسرائيلية، وبعد ذلك أعلم السفير السوفياتي في القاهرة عبدالناصر بأن إسرائيل لن تكون البادئة في الحرب، رغم أنها هي التي بدأت الحرب في اليوم التالي على كلام السفير السوفياتي، وتقاعس السوفييت عن دعم العرب خلال هذه الحرب، ما حذا بالدول العربية إلى التنديد بالإتحاد السوفياتي كونه لم يف بالتزاماته تجاه العرب( ) ، كما وعد بذلك على أساس أنه سيقف إلى جانب العرب ضد إسرائيل، لذلك عمل السوفييت بعد الحرب على تحسين صورتهم في العالم العربي بتعويض كل من سوريا ومصر عن 80% من خسائرهما خلال الحرب ( )، وتنديدهم بعمليات الإحتلال التي قامت بها إسرائيل، وطردها للسكان العرب من الجولان، مع تأكيده على الاعتراف الكامل بحقها بالوجود، لكن كانت الأسلحة التي قدمها السوفييت لمصر وسوريا، عبارة عن أسلحة دفاعية، وليست هجومية، ورغم ذلك استطاعت أن تكسب ولاء نظامي سوريا ومصر، حتى وصل عدد خبراتها في مصر وحدها إلى 20 ألف خبير، لكنهم جعلوا هذه الأسلحة تحت تصرف خبراءهم، وعملوا على تقليل كميات الذخائر وقطع الغيار التي تحصل عليها مصر وسوريا، حتى لا يتاح لها شن أي حرب هجومية ضد إسرائيل، وعملوا على السعي لإبقاء حالة اللاحرب واللاسلم، لأن ذلك يضمن لهم حالة عدم الاستقرار في المنطقة، بما يضمن ولاء سوريا ومصر والعراق، ويقلل تكاليف الحرب من سلاح وأموال فيما لو حدثت، ويقلل أيضاً من فرصة مواجهة سوفياتية أمريكية بسبب حرب قد تحدث، لهذه الأسباب عملوا على إفشال أي تسوية سياسية في المنطقة، فلم يرحبوا بمبادرة روجرز عام 1969، وسعوا للدعاية ضدها، وضد عبدالناصر بسبب قبوله لها، رغم أنهم كانوا قد قطعوا علاقاتهم مع إسرائيل بعد حرب 1967( )، لكنهم لم يعترفوا بمنظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 1968 ( )، ولم يفتحوا لها مكتباً في الإتحاد السوفياتي، ورفضوا تدريب أتباعهم على أراضيهم، وكانوا عام 1966 قد رفضوا مقابلة أي مسؤول منها، ورغم الهزيمة الساحقة لمصر وسوريا والأردن والعراق، إلا أن هذه الأنظمة أخذت تزايد بشكل غير واقعي لتبرير هزيمتها، فقد خطب عبدالناصر عقب الهزيمة قائلاً: " إن العدو يريد اغتيال الثورة، لقد أخذ الأرض لكن الثورة باقية، .......... كنا ننتظرهم من الغرب فأتوا من الشرق " ( ) ، لكن هذا لا يبرر مسؤولية هذه الأنظمة وخاصة الجانب السوري في هذه الهزيمة وكان هذا من الأسباب التي دفعت وزير الدفاع السوري اللواء حاظ الأسد ليقوم بالحركة التصحيحية ويتبع سياسة خارجية أكثر واقعية .
المبحث الثالث
أثر التدخلات الإقليمية
تركيا ، إسرائيل ، مصر ، السعودية
، العراق ،الأردن ، لبنان
1- تركيــا:
بعد معركة مرج دابق عام 1916، سيطر العثمانيون على معظم أرجاء الوطن العربي، مبعدينه مسافة أربعمائة سنة عن الحضارة الإنسانية، فساد التخلف والجهل وتناقص السكان فيه، في ذات الوقت الذي بدأت الحضارة الأوربية ولادتها معتمدة على ما نقلته من بغداد والشام إبان الغزو الصليبي للمنطقة العربية( )، خاصة بعد سقوط آخر إمارات الأندلس وهي غرناطة عام 1492، وعندما ضعفت الدولة العثمانية وقوى الإتجاه العلماني والقومي في تركيا بسبب تأثره بعصر القوميات في أوربا، الذي بدأ بعد الثورة الفرنسية عام 1789، فقامت في الدولة العثمانية جمعية الإتحاد والترقي في إبريل 1908، ثم نفذت انقلابها على النظام العثماني، وسيطر الإتجاه القومي على أرجاء الامبراطورية، ثم عمل الانقلابيون على تتريك قوميات الامبراطورية من خلال إتجاه جمال باشا، مما كان لذلك ردة فعل عند القوميات الأخرى داخل الامبراطورية، وخاصة العرب الذين يحفلون بتاريخ مجيد يضاهي تاريخ أي امبراطورية عظيمة في العالم، لذلك رؤوا أن الحفاظ على كيانهم وقوميتهم يقوم من خلال اعتراف الدولة بهم كقومية لها كيانها المستقل داخل الدولة العثمانية، فوقفوا أمام النزعة الطورانية التي نادت بأفضلية الترك على العرب، ثم جاء إعدام الشهداء في دمشق وبيروت في السادس من مايو عام 1916، إثر اكتشاف قائد الجيش الرابع العثماني جمال باشا، لوثيقة تدينهم بالتعاون مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية، ومن المعلوم أنه في حالة الحرب تنفذ الأحكام بشكل عرفي، فكان لذلك أثره على الشعب العربي، حيث إهتزت مشاعره لتلك الحادثة، وهذا أدى لاندلاع شرارة الثورة العربية الكبرى عام 1916 بقيادة والي الحجاز الشريف حسين بن علي، الذي كان قد نسق مع بريطانيا من خلال ما عرف بمراسلات حسين مكماهون، الذي كان سفيراً لبريطانيا في مصر، وكانت هذه المراسلات من خلال الجاسوس الإنكليزي توماس لورانس المعروف بلورانس العرب، فوعدته بريطانيا بإقامة الدولة العربية في المشرق العربي كله الذي يشمل شبه الجزيرة العربية، والهلال الخصيب، وأن يكون هو وأولاده من بعده ملوكاً عليها، لكن خيانة الحلفاء للشريف حسين من خلال إتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، قد جعل وعودها في مهب الريح، وعندما عمد الشريف حسين إلى تذكيرها بخيانتها له، عمدت إلى نفيه إلى قبرص عام 1925، وأقامت عرشاً آخر في الجزيرة العربية، ونفذت اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور( ).
والأتراك شعوب فارسية هاجرت من شمال إيران إلى الأناضول منذ حوالي 1000 سنة أي في القرن العاشر الميلادي، ولغتهم خليط من الفارسية 40%، والعربية 40% ولغة خاصة بهم 20%، فلا علاقة لهم بالأرض الموجودين عليها، لكنهم عمدوا منذ القرن التاسع عشر على تغيير الأسس التي تقوم عليها الدولة العثمانية، بمحاولة جعلها دولة قومية، وخاصة بعد صعود مصطفى كمال أتاتورك إلى سدة الرئاسة بعد انقلابه على السلطان العثماني محمد رشاد عام 1924، وقد أيده الحلفاء على ذلك فتواطئ مصطفى كمال أتاتورك مع الجنرال غورو، بأن يهزم جيش غورو أمام أتاتورك، وتسقط كليكيا بيد الأتراك، والدليل على هذا التواطؤ أنه في هذه المعركة لم يحدث أي أسرى أو قتلى في كلا الجيشين، رغم أن قوات غورو تزيد عن المائة ألف، ورغم أن أتاتورك هزم أمام قوات الملك فيصل بقيادة نوري باشا السعيد عام 1918، فسلمت كليكيا للأتراك بعد أن استلمها الفرنسيون من بريطانيا بعد أن حررها نوري السعيد، عداك عن ذلك أنه إثر هزيمة الدولة العثمانية أمام الحلفاء ظلت محتفظة بمناطق تابعة لسوريا مثل عينتاب ومرعش وأضنة وسروح وروم القلق، وبيرة حبك، والزيتونة، ويارزجق، وأندربن، وبيلان، وديار بكر وغيرها من المناطق الأخرى( ).
وعلى إثر الانتداب الفرنسي لسوريا حدثت مشكلة توزيع المياه بين سوريا وتركيا، فوضع بروتوكول منذ عام 1930 حدد فيه قواعد لاستخدام مياه نهر دجلة وضمان حقوق طريق في هذا النهر وفق أسس عادلة( ) ، ثم عقدت اتفاقية ثلاثية بين سوريا والعراق وتركيا لتقاسم مياه نهري دجلة والفرات ( ) ، وبعد ذلك عينت الحدود بين تركيا وسوريا ( ) ، بموجب معاهدة لوزان عام1932، واعتبر لواء الإسكندرونة جزءاً من سوريا، كما أن المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، شملت لواء الإسكندرونة، والتي بموجبها قررت فرنسا منح سوريا استقلالها، لكن تدخلت تركيا ضد ضم لواء الإسكندرونة لسوريا، الذي حدد فرنسا وضعاً خاصاً له بعد عام 1924، أي بعد فصله عن حلب وإنضمام حلب لدمشق، وبناءاً على ذلك تشكلت لجنة من الخبراء داخل عصبة الأمم، وقد وجدت هذه اللجنة أن الأتراك عبارة عن أقلية من السكان، لكن تواطأت فرنسا مع تركيا، فسمحت فرنسا بدخول قوات عسكرية تركية لتشرف على الانتخابات في اللواء، ولتعرض نتائجها على عصبة الأمم للموافقة على ذلك، فكان التآمر البريطاني الفرنسي مع بعض الدول داخل عصبة الأمم، لقبول نتائج الانتخابات التي قامت تحت حراب الأتراك وتآمر الفرنسيين، فقررت عصبة الأمم استقلال الإسكندرونة عام 1937، وتجريده من الصبغة العسكرية، مع ضمانات خاصة للسكان الأتراك فيه، ثم ألفت تركيا معاهدة الصداقة التركية السورية التي أبرمتها مع سوريا عام 1926، لأنها تشمل سوريا بلوائها، وعقدت إتفاقية مع فرنسا في الثالث من يونيو عام 1938، جاء فيها خضوع لواء الإسكندرونة، ثم جرى استفتاء في الخامس من يونيو 1938 تحت سيطرة القوات التركية، فحصل الأتراك على 22 مقعداً مقابل ستة عشر للسوريين، وعلى إثر ذلك أعلنت استقلال اللواء تحت اسم جمهورية هاتاي، وفي الثالث والعشرين من يوليو عام 1939، تم توقيع معاهدة جديدة بين فرنسا وتركيا تم بموجبها ضم لواء الإسكندرونة بصورة نهائية
لتركيا مقابل وقوف تركيا إلى جانب فرنسا في الحرب ضد المحور، وعلى إثر اغتصاب اللواء عام 1939، نزح حوالي خمسون ألف من سكانه إلى سوريا، ليحافظوا على جنسيتهم السورية، تاركين أملاكهم هناك على أمل عودتهم إليها بعد استرجاع اللواء، لكن تضمنت المعاهدة التركية الفرنسية في عام 1939 القاضية بتنازل فرنسا لتركيا عن لواء الإسكندرونة، عن نص في مادتها الرابعة يقوم على إعطاء الأشخاص الذين ينزحون منه مهلة ثمانية عشرة شهراً لتصفية أملاكهم، وألا يحق لهم نقل أثمانها إلا عن طريق البنك التركي، ودفع ثلثها رسوماً للحكومة التركية، ثم عمدوا بطريقة ملتوية لمنع شراء عقارات السوريين، إلى أن إنقضت مهلة الثمانية عشر شهراً، وكانت تركيا قد عمدت إلى نفس الأسلوب في المناطق الأخرى التي ضمتها من قبل، ثم أدخلت هذه الأملاك في عداد أملاك الدولة لتغيب أصحابها عنها وبرغم وجود وكلاء لأصحاب هذه الأراضي، لكن تركيا لم تعترف بهم، ثم جاءت بمستوطنين أتراكاً من الأناضول إلى هذه المناطق، مما حذا بالحكومات السورية المتعاقبة أن تتخذ نفس الأسلوب بحق الأتراك الذين لهم أملاك في سوريا، وتجدر الاشارة إلى أن سبب نزوح بعض سكان اللواء منه إثر ضمه إلى تركيا بسبب ما عرف عن النظام التركي من عمليات تطهير عرقي، فحتى الأكراد اضطهدوا في تركيا، وهاجر قسم كبير منهم إلى سوريا والعراق، إضافة إلى الأرمن، منذ بداية العشرينات، والدليل على ذلك أن تركيا عملت حال ضمها للإسكندرونة إلى اضطهاد أهل اللواء وملئت سجونها بهم بمجرد تكلمهم العربية( ).
وتكمن أهمية اللواء بالنسبة لسوريا والعراق أنه المرفأ الطبيعي لشمال سوريا والعراق على البحر المتوسط، فقد أكدت دائرة المعارف البريطانية حول أهميته بقولها :" إن خليج الإسكندرونة مرفأ العراق الطبيعي "( ) ، وفيه مفاتيح الشرق العربي، حيث شهد التاريخ أعظم معاركه فيه، ويقول رئيس الوزراء البريطاني دزرائيلي حول أهميته : " إن مصير العالم سيقرره يوماً ما مرفأ الإسكندرونة الذي تشير إليه قبرص بأصبعها"( ) .
وقد استمرت المشاكل حول أملاك السوريين في الإسكندرونة وكليكيا، بعد الاستقلال، وتوترت العلاقات التركية السورية عشية الاستقلال فاندلعت المظاهرات في نوفمبر 1946 تطالب بعودة لواء الإسكندرونة، وتدعو الحكومة السورية إلى عرض قضية لواء الإسكندرونة على مجلس الأمن بعد أن أصبحت سوريا عضواً فيه وذلك بعد الحرب العالمية الثاني( )ة، فقام رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد بدور الوساطة بين تركيا وسوريا، لذا عقد اتفاق تركي سوري تم بموجبه موافقة تركيا بعدم إعلان سوريا اعترافها الرسمي باحتلال تركيا للواء الإسكندرونة، مقابل تعهد الحكومة السورية بعدم إثارة مشكلة اللواء( )،كما عملت تركيا على التصويت في الأمم المتحدة في نوفمبر 1947 إلى جانب قرارتقسيم فلسطين واعترفت بإسرائيل في مارس 1949( ) ، وأخذت صحفها تشن حملاتها ضد سوريا بتأثير ارتباطاتها بالصهاينة( )، لأن الحكومات السورية استمرت بالعمل من أجل استرداد لواء الإسكندرونة، وسجلت قضية لواء الإسكندرونة ، كأول قضية من قضايا الوطن العربي في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن عام 1945( )، وكان لهذه الأسباب أثراً في اعتراف تركيا مباشرة بحسني الزعيم عقب انقلابه في مارس 1949، وتحسنت علاقتها معه بشكل كبير، وكان السفير التركي من أوائل السفراء الذين زاروا حسني الزعيم عشية انقلابه( )، متناسياً قضية لواء الإسكندرونة، فقد صرح لجريدة الأهرام المصرية بما يلي: " إن قضية لواء الإسكندرونة، أصبحت قضية ثانوية، وإن بقاء هذه المنطقة في أيدي الأتراك أو إعادتها إلى سوريا أمر ثانوي، مادام الشعبان على أتم إتفاق ومادامت مصالحهما واحدة"( )، وقد أطلع حسني الزعيم لقائد الأركان التركي السابق (أورباني) على أسرار الدولة والجيش عندما عينه مدردباً للجيش السوري( )، على أساس أن مثله الأعلى هو مصطفى كمال أتاتورك( )،رغم أن أتاتورك قد وصف الإسلام بأنه أحكام ونظريات شيخ عربي، وقد تبرأ منه،وجعل الإجازة يوم الأحد بدل الجمعة، وألغى الكتابة بالخط العربي، والحروف العربية، وعمل على استئصال كل ماله صلة بالإسلام شكلاً ومضموناً، لذلك كان رأي حسني الزعيم بأتاتورك قد أثار التيار الديني والقومي ضده( ) ، لكن بعد سقوطه واعتلاء سامي الحناوي قيادة الجيش، ودعمه للوحدة مع العراق، استاءت تركيا، فعملت على التقارب مع الغرب للوقوف ضد التوجهات القومية العربية، فأيدت مشروع ترومان، ثم إنضمت إلى حلف شمال الأطلسي عام 1951، وأيدت مشروع دفاع الشرق الأوسط عام 1950، لهذه الأسباب تقاربت مع أديب الشيشكلي بعد انقلابه الأول والثاني، على اعتبار موالاته للغرب، لكن بسقوطه عام 1954، وازدياد المد القومي في سوريا، ازداد تقارب تركيا مع الغرب بشكل أكبر، فانضمت إلى حلف بغداد عام 1955، وكانت قد وقعت مع إسرائيل معاهدة تعاون عسكري مشترك، يضمن بموجبها عدم اعتداء عليها من أية دولة من دول الشرق الأوسط، والرد عليها إن حدث ذلك، لكن ضغط رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد على تركيا قبل التوقيع على حلف بغداد جعلها تلغي تحالفها مع إسرائيل، ثم أنها أدانت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 باعتبارها موالية للسياسة الأمريكية( ).
وبمناسبة ذكرى اغتصاب لواء الإسكندرونة عام 1959، أضربت جميع المدن السورية، كما اندلعت المظاهرات ضد سياسة الأحلاف والصلح مع إسرائيل، حيث توافقت هذه الحادثة الأليمة على الشعب السوري، مع ذكرى تقسيم فلسطين( ) ، وأمام مواجهة المد القومي في سوريا، عمدت تركيا من خلال ملحقها العسكري في دمشق بمؤامرة لتغيير قائد الأركان السوري شوكت شقير الموالي لمصر والسعودية وتعيين اللواء أنور بنود أو سعيد حبي مكانه( ).
وقد رأت مصر أن حلف بغداد الذي وقعته تركيا والعراق في 25 فبراير 1955 من خلال رئيسي وزراء الدولتين وهما عدنان مندريس ونوري السعيد، سيجر معه الأردن وسوريا ولبنان، وسيعزل مصر، لذلك عملت مصر على التنديد به واتهامه بأنه ضد القومية العربية، وقد ساعدتها السعودية على ذلك خوفاً من التوسع الهاشمي، من خلال اجتماع الجامعة العربية في يناير 1954، لكن سوريا رفضت التنديد به، وهذا ما حذا باليسار لاسقاط الحكومة السورية التي يرأسها فارس الخوري( ) ، وضغط من أجل عقد الميثاق الثلاثي بين سوريا ومصدر والسعودية، وهذا ما أثار تركيا التي وجهت إنذاراً إلى سوريا في الثالث عشر من مارس عام 1955 باعتبارها أن هذا الميثاق هو عمل عدواني( ) ، وإزاء معاداة سوريا لمبدأ أيزنهاور عام 1957، قامت بحشد قواتها على الحدود مع سوريا (حوالي 35ألف جندي)، وذلك بتشجيع من الولايات المتحدة، مما حذا بعبدالحميد السراج أن يقوم في الرابع من مايو من عام 1957 بتشكيل مجلس قيادة ثورة جديد بدل القديم، وجعل قيادة هذا المجلس لقائد الأركان عفيف البرزي وأدخل فيه الحوراني وخالد العظم وأمين النفوري، وأصبح هذا المجلس يتدخل في السياسة الخارجية للحكومة( )، وقد أيدت مصر هذا الإجراء، باعتباره يقود إلى الوحدة مع مصر من خلال سيطرة القيادة المصرية على سوريا، خاصة بعد إرسالها لقواتها الرمزية إلى سوريا، بعد إنتهاء الأزمة والتي لا تزيد عن ألفي مقاتل، في أكتوبر 1957 رغم أن الأزمة انتهت منذ سبتمبر 1957( ) ، وقد أيدت تركيا الوحدة بين سوريا ومصر كونها تبعد سوريا عن الشيوعية، خاصة أن سوريا قد جهزت خلال أزمتها مع تركيا ما سمي بالجيش الشعبي، حيث وزعت آلاف قطع الأسلحة على الشعب، واندلعت المظاهرات المنددة بهذه الحشود، وقدمت سوريا شكوى للأمم المتحدة في 22 أكتوبر 1957، بسبب هذه الحشود، وخلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر ، شكلت تركيا وإيران وإسرائيل منظمة ترايدنت عام 1958 وهي عبارة عن تحالف بين الموساد والسافاك، والمخابرات التركية، وقد أثبتت الملفات بعد حركة روح الله الخميني عام 1978 أن هذه المنظمة قد نفذت عمليات كثيرة في سوريا والعراق ولبنان، فيما عرف بالرمح الثلاثي( )، أيضاً من خلال الوحدة ازدادت مطالبة الشعب السوري بلواء الإسكندرونة، مما حذا برئيس بلدية ولاية الإسكندرونة جمال كوريل إلى التصريح في التاسع والعشرين من يوليو عام 1960 قائلاً: " إن أية محاولة سورية للاندماج مع هاتاي لابد أن تقود إلى الحرب "( ) ، وكانت تركيا قد تأثرت سلباً بالوحدة على أساس أنها حولتها لدولة ثانوية أمام جمهورية أكبر، خاصة أن نظام الوحدة أخذ يلعب بورقة الأكراد في المنطقة، ويشجعهم على مطالبهم الانفصالية، مما كان له تأثير سلبي على النظام التركي ، حيث سقط النظام بانقلاب عسكري عام 1960 وأعدم رئيس الحكومة التركية عدنان مندريس( )، وتخوفاً من زعزعة استقرارها، عملت تركيا على التمهيد لإسقاط الوحدة معتمدة على التناقضات الداخلية في سوريا خلال الوحدة، ثم أيدت انقلاب عبدالكريم النحلاوي في سبتمبر 1961، فكانت الدولة الثانية بعد الأردن التي تعترف بالنظام الجديد، كما أنها حركت أسطولها عشية الانقلاب إلى قرب السواحل السورية لمواجهة أي قوة مصرية
قد تأتي، وكان هذا سبباً لتعزيز العلاقات بين تركيا وسوريا التي ساءت بنتيجة الوحدة بشكل كبير( ) ، لكن لم تلبث العلاقات خلال حكم الرئيس ناظم القدسي أن ساءت أيضاً بعد مطالبة رئيس الحكومة بشير العظمة عام 1962 بضرورة عودة لواء الإسكندرونة إلى سوريا، وعدم الاعتراف بضمه إلى تركيا( ).
وبعد انقلاب زياد الحريري في 8 مارس 1963 ومن ثم وصول البعث إلى السلطة بشكل منفرد بعد فشل انقلاب جاسم علوان في يوليو 1963. تحسنت العلاقات مع تركيا، بسبب تخوف نظام البعث أن تثير تركيا عدم الاستقرار الداخلي في ظل وضع البعث المتردي في السلطة ، وخاصة بعد انقلاب صلاح جديد عام 1966 الذي عمل على التقار مع تركيا رغم أن أطماع تركيا في الأراضي السورية والعراقية ما تزال مستمرة وأكبر دليل على ذلك أن الرئيس التركي سليمان ديميريل، طالب عام 1995، بضم محافظة الموصل العراقية إلى تركيا، إضافة لما قامت به وتقوم به تركيا من إنقاص لمنسوبي دجلة والفرات مخترقة بذلك كل القوانين الدولية حيال ذلك.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق