المبحث الثالث
العامل الاقتصادي والطبقي والصراع الحزبي
أ- العامل الاقتصادي والطبقي :
إن ارتباط العامل الاقتصادي بالصراع الطبقي في المجتمع يجعل تأثيرهما على الاستقرار السياسي متشابكاً، ومن غير المعقول فصل هذين الجزأين عن بعضهما كونهما شيئاً واحداً، لأن التوازن في الاقتصاد فقط هو الذي يحافظ على الاستقرار السياسي في المجتمع، فزيادة الاقتصاد (الدخل القومي)، أو نقصانه لابد أنه سيؤثر على الصراع الطبقي وبالتالي سيساهم في عدم الاستقرار السياسي في المجتمع.
فسوريا قبل استقلالها لم تكن فيها طبقة عاملة كبيرة بسبب قلة التصنيع، ولم يكن للعمال تشريعات كافية لحمايتهم من البطالة وصيانة حقوقهم، مما جعلهم يعانون مرارة الفقر مثلهم مثل بقية أفراد المجتمع من الطبقة الدنيا( )، وكان بعض البرجوازيين يمانع من انتسابهم لنقابات العمالية، أما الفلاحين فكان المرابين وأصحاب الحوانيت يستغلون حاجتهم بفوائد عالية، وقد يضطرون بسبب سوء الموسم إلى الذهاب للمدينة والعمل فيها، وفي غيابهم كان بعض الملاك يستغلون أرضهم، وقد أحدث ذلك فجوة بين الريف والمدينة حيث أصبح أهل الريف ينظرون إلى أهل المدينة على أنهم مترفين ومستغلين( ) ، رغم أن خصائص أهل المدن كما يؤكد ابن خلدون تختلف عن أهل الريف في كثير من الأشياء، من حيث أحوالهم المعيشية والسكن والبناء وتشبه هذه الحالة ما تنظر إليه شعوب العالم المتخلف إلى شعوب العالم المتحضر، فمنذ العهد العثماني كان النظام الطبقي موجوداً حيث كان هناك ثلاث طبقات هي( ):
1- طبقة الحكام ومعاونيهم ورؤساء الدين والعلماء.
2- طبقة الأسر العريقة وأصحاب المهن اليدوية المختلفة.
3- طبقة العمال والخدم.
وظلت نسبة المشتغلين بالزراعة تشكل حوالي 70% من السكان مقابل 1% في الصناعة، أما الآخرون فكانوا يشتغلون بالمهن الحرة، لكن تقلصت الملكية الكبيرة التي تزيد عن المائة هكتار بعد الاستقلال من 60% إلى 29%،وزادت نسبة الطبقة المتوسطة التي تمتلك عشرة هكتار فما فوق من 19% إلى 33% ، أما الصغيرة فظلت على حالها وهي تقل عن عشرة هكتارات، وقد شجعت السلطات في عهد الانتداب توظيف رؤوس الأموال الأجنبية وتشجيع نمو الرأسمال التجاري بتوظيفه للأموال في كل المجالات، من أجل ربط سوريا بالسوق الأجنبية وبالرأسمالية العالمية، وإغراقها بالمنتجات الأجنبية( )، لكن خلال الحرب العالمية الثانية تطورت الصناعة السورية بسبب نمو حاجة جيوش الحلفاء لها، وزادت قوتها بعد الاستقلال، فتشكلت سبع شركات صناعية مساهمة برأسمال وطني قدره تسعة عشرة مليون ليرة و46 مصنعاً ، وكان تطور الصناعة قد أدى لتطور الزراعة لاعتماد الصناعة على الزراعة، وبذلك كان يعمل النظام بعد الاستقلال على بناء الاقتصاد بشكل منتظم، بالرغم من خروج سوريا بعد الاستقلال مباشرة منهكة اقتصادياً، ورغم ما حدث من تطور صناعي وزراعي إلا أن الأحزاب الراديكالية والصحافة كلفوا الحكومة فوق طاقتها، كما عمل الحوراني على معاداة النظام ورجال الحكومات على أساس أن هدفه تحقيق العدالة الاجتماعية، رغم أنها كانت سائدة إلى حد بعيد باستثناء بعض الحالات الشاذة، حيث وصف الحوراني أعداءه من ملاك الأراضي بالرجعية والعمالة والخيانة، فكان أول من أطلق كلمة رجعية وتقدمية في المجتمع السوري ليحدث شرخاً اجتماعياً في جسم المجتمع بشقيه المدني والعسكري، وكان حثه لمقربيه على الانتساب للجيش ولحزبه بحيث أصبح له مراكز قوة في الجيش يأتمرون بأمره مخالفين بذلك كل الأعراف الدستورية، بما فيها قسم يمين الولاء للدستور، فكان هدفه أن يجعل الجيش سلماً لوصوله إلى السلطة( ).
وبعد الاستقلال سمح النظام للتنظيم النقابي أن يكون ذا شقين مستقلين، إحداهما للعمال وآخر لأرباب العمل، بعد أن كان قبل ذلك مندمجاً مع بعضه عمالاً وأرباب عمل في نفس الوقت، ثم أقر دستور 1950 حق العمل لجميع المواطنين، وألزم الدولة بتوفيره للجميع وضمانه من أجل توجيه الاقتصاد الوطني ونهوضه، كما أقر قانون العمل، مثل الساعات، والتعويض، والتأمين، وغير ذلك، كما أقر الوسيلة المناسبة للمطالبة بحقوقهم، وأقر التنظيم النقابي، معتبراً النقابات شخصية قانونية اعتبارية، لها حق في الاجتماع والتظاهر السلمي، لكن خلال فترة الوحدة مع مصر ضعف دورهم، فصدر مرسوم يقتضي بـ : " لا يجوز للنقابات الاشتعال بالمسائل السياسية والدينية "( ) ، كما صدر مرسوم آخر يقضي، بأنه من حق وزير الشؤون الاجتماعية والعمل حل النقابة في حالة التحريض على قلب نظام الحكم أو كراهيته أو الازدراء به...، ولكن النظام الذي ساد بعد مارس 1963 عمل على دمج هذه النقابات ضمن النظام السياسي، بحيث تصبح مقيدة به وتخضع لقراراته، وربطها بحزب البعث، حيث أن جميع رؤساءها وقياداتها في مختلف المستويات أعضاء عاملين في حزب البعث، وكان لهذه النقابات دور كبير قبل مارس 1963 في النضال ضد الديكتاتوريات العسكرية، ومعظم قياداتها كانت مرتبطة بالأحزاب.
لكن كان هناك عائق ساهم في الشقاق بين الريف والمدينة تمثل بحصول أعيان المدينة في بعض الحالات على مقاعد أهل الريف، من خلال تحالفهم مع أعيان الريف الذين كانوا يعطونهم التنازلات على حساب أبناء مناطقهم، ورغم ذلك كان باستطاعة الفلاحين وصغار الكسبة الضغط على السلطة لإقصائهم عند الضرورة( ) ، بسبب أن السلطة في معظم فترة ما قبل عام 1963 كانت ديمقراطية، لكن محاباتها أحياناً لأصدقاء المسؤولين على حساب الفلاحين وصغار الكسبة، ولد رد فعل عند هؤلاء تمثل بدخولهم في الأحزاب الراديكالية والجيش ليسقطوه وليحلوا محله حكماً ديكتاتورياً صارماً، خاصة بعد انقلاب 23 فبراير 1966، بالرغم من أن هؤلاء الفلاحين كانت تنتشر في مناطقهم نفسها الملكيات الصغيرة والمتوسطة( )، وكانوا في معظمهم من الأقليات الدينية، ويخضع فلاحيهم لأسيادهم من نفس الطائفة في جبل العلويين، أما في المناطق الأخرى التي كانت مملوكة للسنة خاصة، فكانوا يخضعون لهم باعتبارهم جاءوا من مناطقهم للشغل في مناطق أخرى غير مناطقهم، وكان يفضلهم ملاك الأراضي في هذه المناطق ، كما أن رؤساء عشائرهم ومشايخهم من نفس الطائفة كانوا ذوي ملكيات كبيرة، وكانوا يجمعون منهم الضرائب وأجور الزواج والهدايا ويخضعونهم للسخرة، لكن بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في ظل الوحدة، وبعده، حصلوا على أراضي الملاك الكبار ، وكان الهدف من الإصلاح الزراعي في سوريا هو تجريد الطبقات المهيمنة من امتيازاتها الاقتصادية وعزلها سياسياً تمهيداً لتصفيتها، وإقامة علاقة بين النظام ومن سيستفيدون من هذه التجربة (في ظل حكم الوحدة) ( ) ، حيث جعلت سوريا تجربة للإصلاح الزراعي، ولم يحصل مثل هذا الأمر في مصر حيث حدث بشكل تدريجي على عكس سوريا التي أخذت الأرض من أصحابها مباشرة، كما أن نظام الوحدة لم يصفي الإقطاع في مصر، فظل أكثرهم يتمتعون بمراكز مهمة في الدولة، وأعاد لهم أراضيهم بعد هزيمة يونيو 1967، وزادت قوتهم في ظل حكم أنور السادات، لكن في سوريا اعتلى مكانهم طبقة المندوبين الذين شكلوا حاجزاً بين الشعب والنظام الحاكم، بالرغم من أن ملاك الأراضي في سوريا قد حصلوا على أراضيهم خلال العهد العثماني بطرق شرعية، فوزعت عليهم أراضي صغيرة مقابل خدماتهم في إدارات الدولة ليستثمروها، كما وزعت على غيرهم من الفلاحين( ) ، لكن أعيان الدولة زادوا على أراضيهم من خلال شرائهم أراضي من غيرهم من الفلاحين، حتى أن الملاك الكبير منهم كان يملك أكثر من (40) سند طابو، وهذا حق شرعي له، وكان شراءهم لهذه الأراضي بسبب استثمارهم لأراضي الريف، وقد شجعتهم الدولة العثمانية على ذلك من خلال تعاملها مع هؤلاء الملاك في جباية الضرائب، حيث كان من الأسهل لها التعامل مع ذوي الملكيات الكبيرة أكثر من الصغيرة، كما أن الملاك الصغار لم يستطيعوا منافسة الإنتاج الكبير للملاك الكبار، فباعوا أراضيهم بأسعار زهيدة، ثم أخذوا يعملون في خدمة طبقة الملاك الكبار على شكل شراكة، فكان رأس المال كله من أراض وبذار وسماد وضرائب وما إلى ذلك، من المالك أما العمل والحراسة فمن الفلاح لقاء ربع المحصول، حيث كان الفلاح يسمى بالمرابع بالاصطلاح الزراعي ، وكان لكل مالك عدداً كبيراً من المرابعين، أما في مجال الصناعة، فكان عمال الصناعة أيضاً غير قادرين على منافسة المنتجات الأجنبية المستوردة، بسبب رخصها وقلة تكاليفها، فتركوا مشاغلهم الخاصة والتحقوا بسوق العمل عند المستثمرين الصناعيين الذين أحدثوا مع أقرانهم الأرستقراطيين الزراعيين قفزة في مجال سوق العمل والصناعة والزراعة بشكل لم يسبق له مثيل في دول الشرق الأوسط منذ عام 1838 ( ).
لكن عند إصدار قانون الإصلاح الزراعي عام 1959 بضغط الحوراني وأعوانه ممن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والفقيرة، بإلحاحهم على الرئيس عبدالناصر ليصدر هذا القانون، بسبب حسدهم وحقدهم وليس بسبب ميلهم لإنصاف الفلاح وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، والدليل على ذلك أنهم وجهوا الموظفين إلى إعطاء المالك من الأرض ليس كما يختار من الأرض ( كما نص قانون الإصلاح الزراعي نفسه)، وإنما أعطوه حسب ما يريدونه هم، كما صادروا أدواتهم الزراعية وشهروا بهم في الإذاعة ليحطوا من قدرهم، رغم كون أكثرهم من أبطال استقلال سوريا والذين وقفوا في وجه الديكتاتوريات العسكرية، مثل الرئيس الجليل هاشم الأتاسي، ورئيس البرلمان رشدي الكيخيا، وغيرهم، فكان الرئيس هاشم الأتاسي على سبيل المثال يمتلك أراض صخرية، يستصلحها حسب إمكانياته، وكان الخبراء المصريين الذين جاءوا إلى سوريا قبل الوحدة، ومنهم وزير الإصلاح الزراعي المركزي سيد مرعي، قد أكدوا أنه من الخطأ تطبيق الإصلاح الزراعي في سوريا لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها لا يتطلب ذلك، حيث الزراعة في سوريا تشكل الركن الأساسي للاقتصاد السوري، ومعظمها بعلية وليست مروية كمصر، وإن من ضروراتها أن تكون الملكية واسعة، لأن الملكية الصغيرة لا تفي بدخل صاحبها ولا تقوى الاقتصاد القومي، كما أن صاحب الأرض في سوريا يستثمرها ولا يؤجرها مثل الحالة في مصر، فالإنتاج الزراعي لـ 300 هكتار بعلي في سوريا، أقل من إنتاج 80 هكتار مروي في مصر، كما نص قانون الإصلاح الزراعي، في مجال توزيع الأراضي في سوريا ومصر، حتى أن 80 هكتار مروي في سوريا أقل إنتاجية من 80 هكتار مروي في مصر، وإنتاجها لا يعتبر إنتاجاً معتبراً، إضافة إلى أن ما يطرأ على الأراضي من ظروف طبيعية تؤدي إلى تقليص الإنتاج، وإن معظم من أعطيت لهم أراضي من الفلاحين أصبحوا يؤجرونها ، وبذلك أصبحوا مستهلكين بعد أن كانوا منتجين قبل ذلك، كما تملك مهاجرون من خارج البلاد مثل النساطرة والأشوريين، أراض أخذت من العشائر العربية في الجزيرة السورية، وهذا يتنافى مع القومية العربية التي يدعيها النظام.
وقد أدى هذا الإجراء العنيف إلى جعل الملاك يتركون الاستثمار الزراعي، ويتوجهون للاستثمار الصناعي أو التجاري، وهاجر قسم كبير منهم من البلاد إلى الخارج، وأغلبهم من ذوي المؤهلات العالية، ففقدت البلاد خبراتهم، كما أن معظم الأراضي التي أستولي عليها لم توزع على الفلاحين بل بقيت بيد الدولة، التي أهملتها وحولتها إلى أراض قاحلة، ولم تدفع لأحد ممن أخذت أراضيهم أي تعويض خلافاً لما نص عليه قانون الإصلاح الزراعي.
وبعد انقلاب 8 مارس 1963، ازداد مدى الاستيلاء على الأراضي، وقامت حكومة صلاح البيطار( ) بإنشاء سد الفرات مستعينه بالسوفييت في ذلك، رغم أنه لم يكن له أية فائدة للحصول على الكهرباء لأن 90% من كهرباء سوريا معتمدة على النفط، كما لم يكن له أية فائدة في استصلاح الأراضي رغم ما صاحب إنشائه من دعاية واسعة، فقد أتلف 300 ألف هكتار من أجود الأراضي الزراعية مقابل استصلاح 600 ألف هكتار ، التي لا تجدي زراعتها بسبب الملح، ولم تستطع الحكومة التخلص من مشكلة ملوحة التربة، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي أستولي عليها بعد انقلاب مارس 1963، ثم بعد انقلاب فبراير 1966 قد أخذت من الملاك( )، وأعطيت للفلاحين من الأقليات الدينية بشكل خاص، وكذلك المنشآت الصناعية والتجارية، مما كان لذلك آثاراً مدمرة فحدث الصدام الطائفي في عام 1963 في حمص، وفي 1964 في بانياس وحماه ، لكن تجدر الإشارة إلى أن حكومات ما قبل الوحدة كانت تنفذ الإصلاح الزراعي منذ الاستقلال، ولكن بشكل تدريجي على أساس الملكية الصغيرة والمتوسطة، بحيث لا يمضي أكثر من جيلين أي ما يعادل 66 سنة حتى يكون قد اكتمل، بشكله النهائي، وهذا ما أكده دستور 1950 حيث نصت مادته الـ 22 على ما يلي: " لإقامة علاقة اجتماعية عادلة بين المواطنين، يسن تشريع خاص يتضمن حداً أعلى لحيازة الأرض تصرفاً أو استثماراً، بحسب المناطق على أساس تشجيع الملكية الصغيرة والمتوسطة، من دون أن يكون له مفعول رجعي"، ولو ظل هذا القانون يطبق، لما حدثت الرشاوي ولا وسائل الانتقام كما حدث بالفعل نتيجة قانون الإصلاح الزراعي منذ عام 1959.
وكان إصدار قرارات التأميم في يوليو 1961 بتأميم المصارف والشركات الصناعية، بحجة أن هذه الشركات يمتلك أسهمها في مصر سوريون ولبنانيون ويهود وغيرهم، بالرغم من أن النظام كان يؤكد نظرياً أن كل ما هو عربي لا يعد أجنبياً( )، كما أن السوريون جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، والوضع في سوريا يختلف تماماً عن الوضع في مصر، لأن هذه المؤسسات في سوريا مملوكة فقط للسوريين، ويشترك فيها حتى صغار الكسبة من خلال أسهمها، وكان لها دوراً كبيراً في تشجيع الاستثمار الوطني، وزيادة الاقتصاد القومي، وبالنسبة للمصارف فإن رأسمالها مرتبط بالمراكز الرئيسية في الخارج، أما بالنسبة للصحف فكان تأميمها قد عمل على عدم القدرة في إمكانية الكشف عن الأخطاء في الإدارة، وتوعية الشعب وفضح المخالفين، وأصبحت، رهينة بيد الحكومة تعلن ما ترضى عنه السلطة، وكان التأميم الذي اتبع بعد انقلاب 8 مارس 1963، قد توسع ليشمل المؤسسات الصناعية والتجارية الصغيرة، ووصل الحقد بأقطاب البعث إلى تسريح محامي المؤسسات المؤممة، والتشهير بهم في الإذاعة من خلال التهجم عليهم بالتهم الكاذبة، مثل نعيم الانطاكي أحد رموز الوطنية في سوريا، وهرب بنتيجة ذلك أكثر من مليار ليرة سورية من رؤوس الأموال، وزاد التأميم بعد انقلاب 23 فبراير 1966 حتى شمل المعامل الفردية، فازدادت أعداد العاطلين عن العمل، وانخفض الإنتاج بشكل بلغ أقل من عشرين ضعف عما كان قبل ذلك، كما أن ازدياد تخفيض أراضي الملاك عما كان من قبل، جعل الأحقاد المحلية هي قانون الإصلاح الزراعي، فكان حزب البعث أقرب إلى حزب شيوعي مع استعمال كلمة قوميين كادحين بدلاً من البروليتاريا( ).
ويرى البعض أن الطبقة العليا في المجتمع ، والتي يعيش معظم أعضائها في المدن الكبرى بثرواتهم ومراكزهم من خلال سيطرتهم على المال والصناعة والتجارة، واعتمادهم على الملكيات الزراعية الكبيرة، إضافة لتأثرهم بالغرب، وتشكيلهم لمعظم نواب البرلمانات( )، لكن عدم استطاعة هذه الطبقة على ردم الهوة بين طبقتهم والطبقة المتوسطة والدنيا، وبالتالي لم تستطع هذه البرلمانات تحقيق رغبات الشعب السوري بشكل كامل، رغم أن معظمهم هؤلاء النواب من ذوي التاريخ الوطني المشرف، وعلى يدهم تحقق استقلال سوريا، لكن كان نقص خبرتهم وكفاءتهم الإدارية، إضافية لعدم قدرتهم على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وعدم قدرتهم على تحقيق التضامن العربي كبديل لسد عجز نظام حكمهم عن كبح جماح الصهيونية عن فلسطين، مما ولد الأحزاب اليسارية الراديكالية، التي أخذت تنادي بالصراع الطبقي القائم في المجتمع بنظرها، بالرغم من أن كل الدساتير التي سادت خلال هذه الفترة كانت تتضمن حماية العمال وتشجيع الملكيات الصغيرة والمتوسطة، وتعيين حد أعلى لحيازة الأرض، كما أعطت هذه الدساتير حق تأميم كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة، مقابل تعويض عادل، وهذا ما أكده رئيس الحزب الوطني عام 1962 عندما أثار اليساريون من خلال الحوراني موضوع الصراع الطبقي في البرلمان، حيث قال في ذلك :
" يجب إبقاء الطبقة الفوقية حيث هي، لا أن تنزل هذه الطبقة إلى تحت، مع إمكانية الحد من استثمارها بوضع مشاريع وقوانين تفرض قيوداً على الأرباح بضرائب تصاعدية تصل إلى 70، 80، 90 في المائة على الأرباح، لا قيوداً مقيدة توضع على رؤوس الأموال، وهذه الضرائب التصاعدية على الأرباح،لا قيوداً مقيدة توضع على رؤوس الأموال، وهذه الضرائب التصاعدية يمكن إنفاقها على الطبقة التحتية في خدمات عامة كالصحة والتدريس والتعليم، وتكافؤ الفرص ميسوراً بذلك للطبقة التحية، حيث تمشي متدرجة إلى فوق، ويمكن بالتالي أن تكون متدرجة، وئيدة إلى أن تتقارب مع الطبقة الفوقية، لا أن تلتقي هي والأخرى، ولا وجود للإقطاع، كما أن القيود المقيدة للاقتصاد هي ضرر وضرار لعامة البلاد وكافة المواطنين أصحاب رؤوس الأموال، والصناع والعمال أيضاً، ويجب أن يكون الاقتصاد خالصاً من كل قيد يقيده، فالعدل والواجب الوطني، يحتمان بلا تردد إلغاء قوانين التأميم، لأن التأميم قد أضعف القوى الإنتاجية، وأوقف حركة العمل في البلاد، وأبعد الناس عن رغبة الاشتراك أو المساهمة في الصناعة أو التجارة أو الزراعة، ويجب أن يكون التعاون صادقاً ووثيقاً بين صاحب الأرض والفلاح وبين صاحب المال والعامل وبين جميع الطبقات"( ) .
وكان قبل ذلك قد أكد هذا الرأي الرئيس شكري القوتلي في مارس 1943 عندما زار حماه، فقام جماعة الحوراني برفع لافتات ضد ملاك الأراضي والأعيان، مما حذا بالرئيس شكري القوتلي إلى القول:
" في هذه المدينة توجد طبقة يقال لها طبقة الذوات وأنا من هذه الطبقة، أنا من الذوات وعائلتي من أقدم العائلات، وأنا من أصحاب الأملاك وأرباب الأراضي، وهناك طبقة أخرى تقول أنها من الشعب، وأنا أيضاً من الشعب، وقد أمضيت عشرات الأعوام مناضلاً في سبيل الشعب، إنني أعلم معنى الفكرة التي يعتنقها كل ذات من الذوات، كما أعلم ماهية الفكرة التي يعتنقها كل رجل يقول إنه من الشعب، لكن اسمحوا لي أن أضع هذه الأمور في مواضعها، إنني على استعداد لأن أضحي بأولادي وبعائلتي في سبيل الوطن"( ).
ورغم ذلك ظل الحوراني معارضاً لكل الأنظمة التي لا تسعى للإصلاح الزراعي الفوري( )، وقد كسب تأييد وتعاطف بعض الفلاحين، كونه كان ينتمي لحركة الأشقياء الشعبية التي كانت تفرض الخوة على الأثرياء، رغم أن الحزب الشيوعي نفسه لم يكن يدعو للإصلاح الزراعي في ذلك الوقت، كما لم يكن يدعو للتأميم، على أساس أن هدفه هو تشجيع وزيادة الاقتصاد من خلال المشاريع الواسعة، رغم أن الهدف الأساسي من تصريحاته هذه هو وصول بعض أعضائه إلى البرلمان( )، لأنه كان يدرك أن النظام الطبقي من صميم الحياة الاجتماعية السورية في تلك الفترة، مثل اقتصاد جبل العرب، وغيره( )، ولم تكن حركة الشعبيين في جبل العرب عام 1945 ضد آل الأطرش الذين يتولون كافة المناصب السياسية الدرزية، في جبل العرب والتي كانت ثورتهم هذه بعد ثورة العامية عام 1886 سوى دليلاً على الصراع الطبقي، فاعترف آل الأطرش بحق الفلاحين في التملك في أعقاب ثورة العامية، أما في ثورة الشعبيين فقد تنازل آل الأطرش عن المناصب السياسية لصالح الشعبيين الذين شجعهم الرئيس شكري القوتلي، حيث أيدوا فيما بعد انقلاب حسني الزعيم.
كما ظل الحوراني يحرض الفلاحين الأكراد في يونيو عام 1947 ضد زعمائهم من ملاك الأراضي الواسعة، مما أدى إلى مصادمات قتل على إثرها حوالي 30 شخصاً( )، ثم أثار في أكتوبر عام 1948 قضية بين الريف والمدينة، حيث رأى أن القرى التي يسكنها العلويون لا تحظى بالرعاية الكافية مثل بقية المدن السورية، على أمل ولاء هذه الطائفة له، لكن كان لطائفة المراشدة دور في إحداث الإخلال بالأمن من قبل جماعة سليمان المرشد عام 1945، وتواكب نشاطها مع إضراب عمال مرفأ اللاذقية عام 1945 بتشجيع من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، لذلك عمل محافظ اللاذقية آنذاك عادل العظمة على تشكيل جمعية تضم جميع الطوائف وتوزيع أراضي أملاك الدولة والخالية على الفلاحين الذين لا أرض لهم( )، ثم قام الحوراني بعد سقوط سامي الحناوي، بتنظيم كتائب مسلحة مدعومة من الجيش ضد الملاك الكبار( )، وصارت هذه الكتائب تتدخل في كل قضية بين الملاك وفلاحيهم في كل أنحاء سوريا، ثم أصدرت الحكومة عام 1950 قراراً للعمل بالتعرفة الموحدة ( )، مما حذا بأرباب العمل في دمشق إلى إغلاق معاملهم، وهذا أدى بقضاة الدولة كلهم إلى المطالبة برفع أجورهم، وعلى ذلك فكانت الشعلة التي أوقدها الحوراني قد أثرت سلباً على جميع المصالح الاقتصادية في الدولة.
لكن بعد الانقلاب الثاني للشيشكلي عام 1951، عمل على وضع رقابة على خروج الأموال في البلاد وأمم بعض الشركات الأجنبية، وألزم الشركات الأجنبية التي لها فروع في البلاد أن يكون ممثلوها في سوريا من الموظفين ورفع الضريبة على الدخول إلى نسب عالية وصلت إلى 36% لتحطيم قواعد الاقتصاد الحر الذي كان سائداً في سوريا، ثم أصدر في يناير 1952 قانوناً بتحديد الملكية الزراعية في المستقبل، وإعطاء الفلاحين المستأجرين للأراضي نسبة أعلى من المحصول، حيث كان المالك يأخذ 75% من المحصول بينما الفلاح المستأجر يأخذ 25%، فأخذ وفق قانون الشيشكلي، نصف المحصول أي 50% ( ) ، لذلك ازدهرت الزراعة والصناعة بشكل لم يحصل في كل تاريخ سوريا حتى الآن، حين استصلحت الأراضي واستثمر مشروع الغاب، وازدهرت صناعة النسيج، ووضع حجر الأساس لموقع معرض دمشق الدولي، وأمم الحافلات وكهرباء دمشق، وألغى امتياز حصر التبغ والتنباك، وألحقها بوزارة المالية، كما أنشأ شركة سورية مساهمة لإنشاء واستثمار مرفأ اللاذقية، وتوسعت في عهده المدن بشكل كبير( )، لكن في أواخر 1953 ضعف الاقتصاد قليلاً مما قوى من المعارضة، خاصة أن عدد المثقفين زاد في عهده، وتوسع الجيش السوري بشكل كبير، وبسبب وجود الحوراني في المسرح السياسي عمل على عقد الاجتماعات الفلاحية عام 1951، في حلب ، حيث شجعهم على المطالبة بالإصلاح الزراعي الفوري، ثم قام بحملة عنف وإرهاب ضد ملاك الأراضي في يناير عام 1952، وكان يستطيع الاستغناء عن ذلك من خلال استطاعته توطين فقراء الفلاحين في مشاريع الري الخاصة بالدولة، والتي ازدادت في عهد الشيشكلي بشكل كبير، لكنه عمل على منع تشغيل رأس المال هناك، باعتباره كان وزيراً للزراعة، مما منع استفادة الفلاحين المستوطنين هناك من أي فائدة( )، وعمل في يونيو 1951 على مهاجمة حكومة خالد العظم من خلال حزبه الجديد العربي الاشتراكي، على أساس أن الحكومة لم تغير في مشروعها عن الحكومة السابقة، ولم تحقق الإصلاح الزراعي مباشرة، فعمل على التمهيد لإضراب موظفي الدولة في سائر المحافظات السورية ثم حثهم على المطالبة بزيادة الأجور فأسقط الحكومة، بسبب عدم قدرتها على تحمل هذه الأعباء، فكانت ردة فعل ملاك الأراضي على تجاوزات الحوراني، أن قاموا بالاجتماع في معرة النعمان في خريف 1951، وعقدوا مؤتمراً لهم فرد، الحوراني بعقد مؤتمر فلاحي آخر في سبتمبر عام 1951، أخذ ينادي بنزع ملكية أصحاب الأملاك الكبيرة، وألقى خطاباً فيهم جاء فيه : " أيها الاشتراكيون، يا رفاق الجهاد، سنوات عديدة مرت علينا ونحن في جهاد مستميت، نحارب على جبهات عدة، ضد الصهيوني والأجنبي والإقطاعي"( ) ، ثم اختلف الحوراني مع الشيشكلي حول موضوع الإصلاح الزراعي بسبب أن الشيشكلي لم ينفذ الإصلاح الزراعي كما يريده الحوراني، رغم أنه أصدر مرسوم قانون الإصلاح الزراعي رقم 96، الذي قضى بتوزيع خمسة ملايين هكتار من أراضي الدولة على الفلاحين، وتوطين مليون أسرة فلاحية، ثم أصدر مرسوماً آخر حول ذلك جاء فيه : " إذا تبينت أن أملاك الدولة من الأراضي لا تكفي لتنفيذ أهداف القانون الأخير، فإن الحكومة ستلجأ إلى إصدار قانون خاص يقتطع أجزاء من ملكية أصحاب الأراضي الكبيرة لتوزيعها على الفلاحين"( ) ، وكانت هذه الإصلاحات قد توافقت مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة، والتي كانت تأمل تحقيق إصلاحات اجتماعية داخلية، حيث كان الشيشكلي قد وعد السفير الأمريكي بها، وبسبب الخلاف بين الحوراني والشيشكلي، وضع الشيشكلي، الحوراني في الإقامة الجبرية أواخر 1952، وأغلق صحيفة حزبه العربي الاشتراكي، وكانت تسمى الحرية، وبعد سقوط حكم الششيشكلي عام 1954، تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً، خاصة في ظل حكومة سعيد الغزي ( ) عام 1954، مما حذا بعمال الغزل والنسيج للمطالبة بزيادة أجورهم وتحديد ساعات العمل والاعتراف بحقهم في الانتساب للنقابات، مما حذا بأرباب العمل أن قاموا بإضراب شامل في 24 يوليو 1954 استمر يومين، في دمشق وحلب، مما حذا بالبرلمان إلى الموافقة على تعديل قانون 1946 الذي يعطي الحق للبرلمان في إقرار ما إذا كان إضراب العمال شرعياً أم لا، ثم حدث إضراب آخر في 30 يونيو 1954 لتحديد ساعات العمل، فتأجلت الانتخابات نتيجة لذلك شهراً كاملاً، وبسبب إضرابات عمال شركات النفط الإنكليزية العراقية، وأرامكو، زادت هذه الشركات أرباح الحكومة من الخطوط المارة بسوريا.
وفي أغسطس 1956 قام جماعة الحوراني من بعثيي حماه، بالاشتباك مع جماعة الحزب القومي السوري الذي ينتمي إليه بعض الملاك ومنهم آل العظم( )، وبضغط الحوراني، أصدرت حكومة صبري العسلي في أواخر ديسمبر 1956 قانوناً بمنع تهجير الفلاحين من الأراضي التي يشتغلون فيها، رغم أنهم كانوا عمالاً زراعيين ليس أكثر، فكان ذلك تمهيداً للاستيلاء على أراضي الملاك وتوزيعها على الفلاحين وأكثرهم من الأقليات الدينية ، رغم معارضة البرلمان التدخل في أملاك الدولة وتوزيعها على الفلاحين، مما حذا بالبعث في يونيو 1955 إلى التهديد باستقالة النواب من البرلمان( )، ثم نظم اليسار في فبراير 1956 مظاهرات عمالية في حلب، تطالب بإلغاء مرسوم الشيشكلي رقم (243) الذي يمنع العمال من الانتساب للأحزاب السياسية، وأعلنوا الإضراب العام، وأصيب ثلاثة عشر بجراح، ثم وقعت اشتباكات بين أنصار البعث من الفلاحين وكبار الملاك أسفرت عن 32 جريح.
كما قام الحوراني باستغلال عدم الاستقرار السياسي بعد سقوط الشيشكلي منذ عام 1954، لإثارة الفلاحين ضد الملاك، فقام بإقامة مهرجان الشيخ بدر عام 1954، ثم مهرجان آخر في الشيخ بدر نفسها أواخر 1957، وفي كلا الاجتماعين اجتمع أكثر من 20 ألف فلاح معظمهم من الأقليات الدينية( )، تحت رعاية عم أكرم الحوراني الذي كان محافظاً للاذقية، ويدعى مصطفى الحوراني، وكان هدف المهرجان تأكيد قوة حزب البعث، وتوسيع نطاق الانتساب إليه، والدعاية له، أمام منافسيه، سواءاً في انتخابات 1954، أو في الانتخابات البلدية، ثم قام بمهرجان محردة عام 1954 وحضره أكثر من 35 ألف فلاح معظمهم من الأقليات، وحرض فيه الفلاحين على الملاك، ويلاحظ من هذه المهرجانات أنها كلها قد قامت في مناطق الأقليات.
وبسبب إصدار عبدالناصر لقرارات التأميم عام 1961، اعترض وزير الاقتصاد في الإقليم السوري حسني الصواف، على أساس اختلاف الأوضاع في سوريا عن مصر، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى الحد من نشاط القطاع الخاص السوري، مما أدى لإقالته من منصبه ( ) ، كما أدى تأميم المصارف والشركات المساهمة والشركة الخماسية المتعددة النشاطات، إلى أضرار كبيرة بالاقتصاد السوري، كونه يقوم أساساً على التجارة منذ القدم، كما كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي في 27 سبتمبر 1958، واستيلاء الدولة على 586 ألف هكتار من أصل 8.5 مليون هكتار، حيث شمل الإصلاح 3240 مالك يملكون 94 ألف هكتار مروري، ومليون وأربعمائة ألف هكتار بعلي، لكن لم توزع الدولة على الفلاحين سوى (116) ألف هكتار ، وبقى القسم الآخر دون استثمار( )، كما لم يستطع الفلاحين الذين أخذوا الأراضي بموجب الإصلاح الزراعي، من استثمار الأراضي المعطاة لهم، كما لم تستطع الحكومة مساعدتهم، حيث أعطيت لكل واحد مساحة قدرها ثمانية هكتارات مروي أو ثلاثين هكتار بعلي، وكانت نسبة الأراضي التي شملها الإصلاح تشكل 29% بينما الملكيات الصغيرة 15% والمتوسطة 33%، وللدولة 22%، لم يشملها الإصلاح الزراعي، وأثبتت الوقائع العملية أن الإصلاح الزراعي قد أرجع سوريا خطواط كبيرة إلى الوراء، بالرغم من كل ما ادعاه الحوراني عن فوائده، فكان من أهم الآثار السلبية لتطبيقه خلال الوحدة: ( )
1- كان تطبيقه مماثلاً لما تم في مصر، بحيث لم يأخذ خصائص الأوضاع السورية، وخصوبة التربة في سوريا.
2- لم يحصل على الأراضي المستولى عليها سوى ثلث الفلاحين أما الباقين فقد حرموا من هذا الحق.
3- قاطع الملاك لجان مصادرة الأراضي، واتجهوا للمحاكم، وفكوا أجهزة الضخ في الأراضي المروية، وحولوها لأراضي بعلية ليتمكنوا من أن يحتفظوا لأنفسهم بمساحة أكبر من الأراضي، فتقلصت رقعة الأرض المروية في سوريا بشكل كبير، ومن ثم تقلصت رقعة الأرض الزراعية في سوريا كلها بشكل عام.
إضافة لما حدث من جفاف خلال سنوات الوحدة الثلاث، ونزوح الفلاحين للعمل في المدن أو في الدول المجاورة، فكان المواطن السوري لأول مرة يهاجر من سوريا طلباً للرزق منذ الحرب العالمية الأولى، وأصبحت سوريا تستورد ما كانت تصدره من القمح والشعير وغيرها من المنتجات الزراعية، وحلت الاحتكارات المصرية محل شركاء سوريا التجاريين السابقين لبنان والعراق وفرنسا ....، وأصبحت سوريا مضطرة إلى استيراد كميات كبيرة من السلع المصرية الرديئة مقابل صادراتها الجيدة( )، كما استمر السوريون يدفعون رسوم جمركية على صادراتهم من مصر كما كانوا قبل الوحدة، وانخفض سعر الليرة أمام الجنيه المصري، رغم أنها كانت أضعاف قيمته، واستغلال بعض المسؤولين المصريين في سوريا لموارد الإقليم السوري إضافة إلى مساوئ البيروقراطية المصرية العقيمة التي أعاقت تنفيذ القرارات الاتحادية، مما أدى إلى انتشار البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة، وكانت هذه الأشياء من أسباب استقالة الوزراء السوريون من الحكومة المركزية، ويحدد أحد هؤلاء الوزراء وهو أحمد عبدالكريم أن أسباب استقالتهم كانت: ( )
1- قرار تنظيم الاستيراد الذي أقره المجلس التنفيذي السوري ورفض عبدالناصر التوقيع عليه، والتهجم على هذا القرار والمسؤولين السوريين من قبل النظام الحاكم.
2- قانون العمل الموحد الذي يلغي الحرية النقابية، وتسلط المباحث والاتحاد القومي على النقابات.
3- تأخير بعض المشروعات الأخرى كتعديل الاتفاقية مع شركة التايلاين وعرقلة تنفيذ الاتفاقية التنموية الاقتصادية مع الاتحاد السوفياتي.
4- التدخلات في لبنان، وإنفاق الأموال الطائلة على هذا التدخل، دون عرض الموضوع على الوزراء السوريين، وحصر قضايا مشاكل لبنان على عبدالحميد السراج، والذي عين وزيراً للداخلية ومسؤولاً للمخابرات والاتحاد القومي.
5- عدم وجود وزير للصناعة من السوريين، وتركيز منح الرخص بإقامة المصانع الجديدة في القاهرة.
6- عدم إرسال البعثات الدراسية للدول الاشتراكية، واستدعاء من كانوا يدرسون فيها.
7- التمييز بين المعلمين السوريين والمصريين، وتوظيف المعلمين المصريين في سوريا على حساب المعلمين السوريين فيها.
8- عزل سوريا تماماً عن الأقطار المحيطة بها بشكل خاص، وعن العالم بشكل عام، مما أدى لإغلاق الكثير من الأسواق العربية في وجه المنتجات والصناعات السورية، وانقطاع الصلات الفكرية تماماً مع هذه الأقطار.
وقد أدت استقالة الوزراء السوريون في الحكومة المركزية إلى إحداث خللاً في الحكومة بحيث أصبح معدل الوزراء السوريين في الحكومة 1/7 رغم أن عدد سكان سوريا يقترب من ثلث عدد سكان مصر( )، وكان لذلك تأثيراً سيئاً على الشعب السوري ، لذلك بعد وقوع الانفصال بقيادة المقدم عبدالكريم النحلاوي في 28 سبتمبر 1961، أيد الانفصال معظم وجوه المجتمع السوري، وطالبت حكومة معروف الدواليبي علم 1962 بإلغاء قانون الإصلاح الزراعي وإعادة الأراضي المستولى عليها لأصحابها وأيد البرلمان هذا القرار، وبسبب ذلك عمل النظام المصري على تشويه صورة رئيس الحكومة ونعته بالمرتشي من قبل النظام العراقي( ) ، وكان لذلك تأثيره على العقيد عبدالكريم النحلاوي، مما حذا به إلى القيام بانقلابه الثاني في عام 1962، وبعد ذلك تشكلت حكومة بشير العظمة وانقسم أعضاءها بين مؤيد ومعارض للإصلاح الزراعي والتأميم ، الذي تم خلال الوحدة بشرط تعويض المتضررين ( ) ، وبعد تشكيل خالد العظم دعت إلى إبقاء ما تم من إصلاح زراعي وتأميمي مقابل تعويض المتضررين وفتح صفحة جديدة في العلاقات الاجتماعية،ورغم ذلك اشتدت هجمات البعث وطالبوا بتأميم الشركات الصغيرة، مثل ما فعل هاني الفكيكي عضو القيادة القطرية لحزب البعث العراقي حيث قام في عام 1962 بزيارة مدينة السويداء، ودعى لإضراب ضد شركة كهرباء خاصة تعود لصغار المساهمين وتتقاضى أسعاراً معينة مقابل خدماتها، واشترك الطلاب في هذه الإضرابات، مما حذا بالنظام أن يقوم بحملة اعتقالات واسعة( )، ومهما يكن من أمر الإصلاح الزراعي أو التأميم ومهما كانت الأسباب في اللجوء إليهما ، فإن هذا لا يبرر اللجوء إلى وسائل سرقة أموال الناس لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين ومثله في ذلك مثل الوصول والسعي إلى الرقي والتقدم باعتباره غاية شريفة لكن لا يبررها سلك طريق الرشوة والسمسرة، لكن في الأنظمة العسكرية والديكتاتورية يعمدون إلى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وهو مبدأ ميكافيلي، تلجأ إليه هذه النظم سواءاً كانت يمينية كالنازية أو الفاشية أو يسارية كالشيوعية، ولكن تبقى الحقيقة أنه لا يمكن تحقيق الغاية إلا بوسائل شريفة، لأن الوسائل السيئة لن تؤدي إلى غايات شريفة مهما حاول المرء ذلك.
وقد اتبعت حكومة الوحدة الوطنية لخالد العظم عام 1962 والذي سيطر حزب الأكثرية (الشعب) على أكثر الحقائب بالنسبة للأحزاب الأخرى، وبدأ الوضع يستقر خاصة بعد أن حددت الحكومة ماهية الأسس التي سيكون عليها المستقبل الاقتصادي والسياسي والتنموي لسوريا، بعد خطاب رئيس الحكومة خالد العظم في 21 ديسمبر 1962، وإزالة كل العوائق التي تكبل الاقتصاد السوري ونموه، وبالتالي عقدت الفعاليات الاقتصادية مؤتمراً لها في حلب بتاريخ 19 نوفمبر 1962، وأصبح من المأمول فيه عودة رؤوس الأموال التي هربت في زمن الوحدة إلى الخارج، وتحسن الاقتصاد فزاد الدخل القومي 350 مليون ليرة وأصبح في أقل من سنة مليارين وسبعمائة وخمسون مليون ليرة، بسبب ما أصاب الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري من تحسن، وزادت قوة النقد السوري، وحدث استقرار اقتصادي ،لكن ثمة نظرية تقول إن زيادة الدخل القومي في الدولة ستؤدي إلى حدوث عدم استقرار سياسي، وهذا ما حدث بالفعل بعد النشاط الاقتصادي الكثيف قبل انقلاب زياد الحريري في8 مارس 1963، وهذا مما ساهم في الانقلاب نفسه، وخاصة بعد وصول البعث إلى السلطة بعد انقلاب أمين الحافظ في 7 أغسطس 1963، فاتخذ نظام أمين الحافظ مراسيم وقوانين تأميم للشركات المساهمة الصناعية والزراعية التي عادت بعد الانفصال إلى مواقعها، مما أدى لاندلاع إضراب عام واشتباكات دامية، وأصدر النظام أحكاماً بإعدام 400 شخص لكنه لم ينفذ الحكم فيهم بعد تدخل الرئيس أمين الحافظ، ومصادرة ممتلكات اثنين وعشرين تاجراً، وتسعة وستين مخزناً من مخازن سوق الحميدية التي تقدر كل واحدة منها بملايين الليرات، كما عمد النظام إلى إنهاء الإضراب بالقوة بتحطيمه لأقفال المتاجر المغلقة بالمطرقة، ثم عمد النظام إلى تنظيم مظاهرة مؤيدة للتأميم ، وهذا ما يحدث عادة في الأنظمة العسكرية الديكتاتورية، وخطب أمين الحافظ في المظاهرات قائلاً: " سنسحقهم، سنقتلهم باسم الشعب، لقد قتلوا من جنودنا، وجرحوا ضباطاً، وقتلوا من العمال، وسنعمل السيوف قريباً في رقابهم .... ستسحقون هؤلاء المتآمرين بأحذيتكم"( )،وبسبب ما اقترفه النظام بحق الشعب أضرب المحامون في كل أنحاء سوريا، فخطب الرئيس أمين الحافظ موجهاً خطابه لهم : " إنهم سينالون عقاباً حتى يتعلموا كيف يكون الحق، وكيف يكون الوقوف إلى جانب الحق "( ) ، ثم حمل على المواطنين والإخوان المسلمين ووصفهم بالعملاء، فاندلعت الصدامات المسلحة في إبريل 1964 بسبب الاستيلاء على الأراضي وقامت مظاهرات( )، في حلب ودمشق وحمص وحماه، ضد إجراءات النظام، لكن نظام أمين الحافظ أخمد المظاهرات بكل عنف، بعد أن فشل في جميع الخطط الاقتصادية التي اتبعها، وحدث إفلاس اقتصادي كبير، وتقلص الإنتاج الصناعي، وانخفاض قيمة الأسهم، وتسريح عشرات آلاف العمال، وهروب معظم رؤوس الأموال إلى الخارج ويقدر بـ 600 مليون ليرة، بين عامي ( 1963 و 1965)، فاستغل قائد الأركان صلاح جديد هذه التناقضات وعمل للسيطرة على الجيش والحزب، كما دعم زعيم الحزب الشيوعي خالد بكداش هذه الإجراءات، وعندما رأت القيادة القومية لحزب البعث، ما أصاب الاقتصاد السوري بسببها عمدت إلى إلغاء قوانين التأميم والإصلاح الزراعي وتشجيع الاستثمار، والعودة للسوق الحرة، حيث طالب رئيس الوزراء صلاح الدين البيطار بالاشتراكية على النمط الغربي، بدلاً من الشيوعية، مما حذا بالاتجاه اليساري في حزب البعث بالتعاون مع الشيوعيين لتنظيم مظاهرات، احتجاجاً على قرارات الحكومة،وكان لهذا مساهمة في انقلاب صلاح جديد في 23 فبراير 1966، فكانت محاولة العودة بالنظام إلى وضع ما قبل 8 مارس 1963 مستحيلاً بالنسبة له بعد أن فرض الرقابة على رؤوس الأموال، وأغلق المصارف الحرة، وأمم البنوك، ومصارف التأمين الاجتماعي، وتقليص الملكية الزراعية إلى 35 هكتار فقط بعد أن كانت في زمن الوحدة 80 هكتار من الأراضي المروية ، وتأميم الشركات، وقرارات نظام الرقابة على الصرف، تلك الإجراءات التي أدت إلى انخفاض مستوى تطور الاقتصاد الصناعي والزراعي وسوء أوضاع العمال والفلاحين بشكل كبير، وهجرة الفلاحين للمدن من أجل العمل، وانخفاض رواتب العمال، وانتشار البطالة، وتكدس البضائع والمنتوجات في مستودعات التجار لعدم وجود أسواق لها، وتجميد التجارة الداخلية بشكل كبير، وهجرة مائة ألف مواطن إلى خارج البلاد، بحثاً عن العمل، خاصة بعد أن أصدرت حكومة صلاح البيطار قوانين تأميم الشركات الخاصة بكل أنواعها مثل القانون رقم 129 القاضي بحق الدولة تأميم أي مؤسسة تراها مناسبة، وهذا ما يفسر سقوط الحكومات التي شكلها البيطار أو التي تشكلت في ظل حكم الرئيس أمين الحافظ.
وبعد سقوط نظام أمين الحافظ إثر انقلاب صلاح جديد في فبراير 1966، أخذ يدعي أنه سيقوم بخطة تنموية أهدافها معاداة الرأسمالية والإمبريالية العالمية، وتعبئة قوى الشعب الفلاحية والعمالية للقيام بثورة علمية تحل محل الأيديولوجيا القومية أي تطبيق الاشتراكية العلمية الماركسية( )، لكن في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي وجود للسلطة العمالية والفلاحين في ظل هذه الإجراءات، لأن تطور رأسمالية الدولة في ظل هذا النظام اتجه نحو رأسمالية تابعة استنزافية غير تنموية تنهب بلدانها بالتعاون، والتنسيق مع الرأسمالية العالمية في الخارج والتي تكفل استمرارها باعتبارها جزءاً من شروط إعادة إنتاجها على الصعيد المحلي والعالمي، حيث أصبحت السلطة منذ ذلك الوقت سلطة دولة مرسملة، في مجتمع غير رأسمالي تتبع النظام العالمي، وتمنع تقدم المجتمع نحو ثورة رأسمالية تامة على النمط الغربي، كما تمنعه في نفس الوقت من الاتجاه نحو نظام شيوعي على النمط السوفياتي أو الصيني أو الكوبي، فسيطر جزء من الطبقة الوسطى وهي الطبقة العسكرية على المجتمع مسخرة الطبقة البرجوازية لخدمة مصالحها من خلال اندماجها بها، بينما بقيت الطبقة العمالية كما هي وازدادت بشكل كبير، من خلال سيطرة نمط الإنتاج الثانوي التابع عليها، والذي يتحدد إنتاجاها بحاجات نمط الإنتاج العالمي، من خلال سعيه لخلق شروط رأسمالية مناسبة من أجل إعادة إنتاجه في البلدان التابعة له، ومنها سوريا في ظل نظام الأتاسي/ جديد وما بعده، والتي أصبحت ترتبط بنمط إنتاج سياسي كومبرادوري، طبقته السياسية، هي السائدة والمهيمنة على الدولة، وهي نفسها الدولة المرتبطة بالخارج بشكل جذري، وبالتالي فإن هذا النمط من الإنتاج سيعيد إنتاج نفسه مادامت الرأسمالية العالمية بحاجة إليه، وما دامت آليات إعادة إنتاجه موجودة بصورة أساسية، وتخضع لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى، ويكون دور القوانين الاقتصادية فيها ثانوي مساعد فقط ، وعلى هذا الأساس ظهر الصراع بين تيار اللواء صلاح جديد وتيار اللواء حافظ الأسد الذي بدأت قوته بعد تعيينه وزيراً للدفاع وآمراً لسلاح الجو( )، فكان صلاح جديد يرى إعطاء الطبقة الوسطى السياسية الحق في المشاركة ببعض القرارات في السلطة من خلال الهيئات الحزبية المختلفة، لكن رأى الأسد خلاف ذلك على اعتبار أن سوريا في حالة حرب مع إسرائيل لذلك فقد رأى ضرورة بقاء طبقة الدولة العليا هي المقررة للسلطة، ولها وحدها حق اتخاذ القرارات على كافة المستويات، ومهمة الطبقة الوسطى هو تقديم الكوادر المنفذة لقرارات الطبقة العليا، ولا يحق لها الاعتراض عليها مهما كانت صفتها، بالرغم من أن حافظ الأسد وصلاح جديد كلاهما من نفس الطبقة الوسطى التي تحالفت مع الطبقة الوسطى المدينية، وسيطرت على وسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وانفصلت عن مجتمعها وارتبطت بالسلطة، وتحولت لطبقة سياسية سلطوية تدين بدورها وثرواتها، وصعودها للسلطة التي تملكها، لكن هذه السلطة انتمى إليها حافظ الأسد وصلاح جديد من موقفين مختلفين هما:
1- تيار صلاح جديد، ينظر إلى الأصول الاجتماعية التي أتت منها طبقته السياسية، ويحاول إجبار طبقته على الوقوف عند حد التطور الذي وصلت إليه، بحيث يحاول منعها من استكمال تطورها نحو طبقة دولة تمتلك سلطة مرسملة وتابعة بشكل أكبر.
2- تيار حافظ الأسد، يرى ضرورة تطور الطبقة الوسطى السياسية إلى طبقة منفصلة عن الدولة، بمتابعة تطورها إلى طبقة دولة تمتلك سلطة مرسملة وتابعة، من خلال إنتاج جهاز هو جهاز إعادة إنتاجها، وعليه يتوقف استقرارها واستمرارها( ) .
لكن ضغط تيار صلاح جديد للعمل على تغيير هيكلية الإدارة البيروقراطية بحيث تمتلئ من أتباعه فكلف صلاح جديد، أحد المسؤولين في البعث وهو اللواء خالد الجندي ، بتشكيل ما سمي بالكتائب العمالية المسلحة، وهي عبارة عن عناصر عسكرية من اللواء السبعين المدرع، ونزلوا إلى الشوارع رافعين شعار تصفية أعداد الثورة، فعملوا على طرد معظم الموظفين من وظائفهم ، بحجة أنهم برجوازيين، وخطب فيهم خالد الجندي قائلاً: " لقد طردناهم، وحجزنا حريتهم فاضطروا لتقديم استقالاتهم، وقدموا ضمانات بأنهم لن يحاولوا العودة إلى أعمالهم، ومن يخالف فسوف يتعرض لعقوبة الإعدام "( ) ، وكان الهدف من ذلك ملء هذه الشواغر بأتباعه من نفس الطائفة الدينية ( ) ، بعد ازدياد الهجرة من قراهم إلى المدن، مما كان لذلك مضاعفات اقتصادية وديموغرافية سيئة، وناقلة معها التناقضات الاجتماعية والطائفية في الريف، وهذا ما يفسر ارتباط الديمقراطية بالقوى المدينية، وعسكرة المدن بالريفيين الذين وجدوا الانتساب إلى الجيش الطريقة المثلى والأسرع للارتقاء في السلم الاجتماعي والسياسي وللانتقال من العموميات إلى الخصوصيات، رغم أن البرلمانات كانت على الدوام تنقد ذلك النظام الاجتماعي، الذي كان سائداً، وتعتمد على صوت الناخبين المدينيين والريفيين لتصل إلى البرلمان والحكم، لكن الريفي العسكري الذي ادعى أنه يحمل مشروعاً قومياً صادقاً، عمل على حل الديمقراطيات وإبعاد الأحزاب والتنكيل بها، كونه يؤمن بإخضاع الآخر، ولا يرضى بالمجادلة، فألغى المؤسسات الموجودة في النظام القديم، تلك التي كانت تميزها المنافسة الحرة لمستقبل البلاد وموضوعاتها، بصوت عال ومسموع، لكنها أصبحت في ظل حكم الريفي العسكري، ساكنة هادئة، وتفسير ذلك أن الريفي** يحب أن يرى الناس كلهم على شكل ولون وصوت وهدف واحد هو الصوت والهدف واللون والشكل والذي يحدده، مصوراً أن الإقطاع الذي كان يضربهم بالكرباج (رغم أن هذه الحالة كانت نادرة جداً ولم توجد في المجتمع السوري كظاهرة عامة مثل مصر)، يمثل تلك الطبقة.
فأصبح العسكري هو الذي يضرب المدنيين في فروع الأمن والجيش بدون أدنى رحمة، ونسي أن المدينة هي التي قادت البلاد نحو الاستقلال، وأن معظم عملاء فرنسا كانوا من الريفيين، خاصة الأقليات الدينية، الذين كانوا يقمعون الشعب بالتعاون مع سلطات الانتداب، ولم يكن الخراب والفساد الذي أصاب الاقتصاد والإدارة والتعليم والقضاء والجيش سوى بسبب وصول هؤلاء الريفيين إلى السلطة، حتى أن العمل الأدبي تحول في ظل حكمهم إلى شعارات سياسية صيغت لتردد من قبل الجماهيري فقط .
وبعد أن استكمل صلاح جديد تطبيق الإصلاح الزراعي والتأميم حتى شمل المشروعات الفردية والخاصة، حدثت البطالة بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا، وشلت حركة التصنيع والزراعة، ورغم الإدعاء بالاشتراكية إلا أن النظام استمر بمعاملاته التجارية مع الدول الغربية بشكل أكبر بكثير من الدول الشيوعية وعملت السلطة على تشجيع البرجوازية الخدمية الغير منتجة، والغير قادرة على حل مشكلة البطالة، فكانت السلطة يمينية عملياً لكنها يسارية قولاً، بتشجيعها وتعاونها مع البرجوازية الخدمية، ومحاربتها البرجوازية الصناعية والزراعية المنتجة، ومصادرة أملاكها بالرغم من أنها كانت تعمل على خدمة الاقتصاد، والشعب والدولة، وهذا أدى إلى تدني مستوى المعيشة بشكل كبير، وازدياد البطالة، مما حذا بهؤلاء الذين لا عمل لهم إلى الانخراط في العمل داخل أجهزة القمع من جيش وشرطة وغيرها وبالتالي تعزيز سلطة النظام القمعية.
وهكذا تحول التأميم والإصلاح الزراعي إلى سببين لانخفاض إنتاجية الزراعة وتحويل الصناعة من ميزة إلى عبء على كاهل الاقتصاد الوطني، نتيجة للأعباء التي ألقتها على عاتقها الإدارة الجديدة التابعة للدولة، والتي تجهل أصول العمل الإداري ( )، وتعيشه بمعايير سياسية، فتضخم الجهاز الإداري غير المنتج على حساب العمل المنتج من خلال زيادة العلاقات المتشعبة في ظلها بشكل كبير، فكان الهدف من الإصلاح الزراعي والتأميم من خلال هذا التحليل هو الوصول إلى رسملة الدولة، وإعادة بنية المجتمع وفق تمايز طبقي هو إنشاء مجتمعان في الدولة هما : ( )
1- مجتمع سياسي يتكون من السلطة وطبقاتها المحدثة.
2- مجتمع اجتماعي قوامه المجتمع القديم بطبقاته المفككة المفتقرة إلى وعي سياسي خاص بها وتغيرات سياسية متبلورة تمثلها، وهذا أدى إلى احتواء أكبر عدد ممكن في صفوف الدولة، وأجهزتها وإداراتها ومعاملها، لشل حركة القوى التي تهددها، وهي قوى المجتمع الحقيقية وطبقاتها العاملة، فكان الهدف هو تعطيل الطاقات الداخلية، وليس تفعيلها، زد على ذلك إخضاعها لرقابة دائمة ترصد حركاتها وسكناتها، وتبلور وعيها السلطوي المعادي لمجتمعها وترسم دورها بطريقة تخضعها في خدمة قيادة السلطة.
وبعد الحركة التصحيحية بقيادة اللواء حافظ الأسد من خلال عام 1970 ، عمل على تصحيح ما خلفة النظام السابق من مساوء ، لكن ظهرت الطبقة العليا من جديد والتي أصبحت تمثل 3% من السكان أما الطبقة المتوسطة فأصبحت تمثل 50%، والطبقة السفلي 47%، وازدادت الفوارق الطبقية بشكل كبير( ).
ويبقى الصراع الطبقي عاملاً مهماً أثر على الاستقرار السياسي في سوريا منذ الاستقلال وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، رغم أنه في بداية كل عهد ديكتاتوري لابد أن يكون أفضل من المراحل التي تأتي بعد ذلك، فعلى سبيل المثال قام حسني الزعيم بتخفيض أسعار المواد الغذائية، ورفع رواتب العسكريين والمدنيين، لكنه ما أن استقر بالحكم حتى فرض ضرائب جديدة ووضع دخل البلاد في خدمة الجيش( ) .
وتبقى المشكلة الرئيسية للمجتمع السوري للتقليل من الهوة بين الطبقات وتقليل حدة الصراع الطبقي، بإيجاد تنمية اقتصادية حقيقية على أسس موضوعية تراعي خصوصيات المجتمع السوري، ولاشك أن تجربة الديمقراطية قد أثبتت على الدوام نجاعتها في تحقيق هذا الهدف بالرغم مما أصابها من نكسات على أيدي الديكتاتوريات العسكرية حيث سيطرت طبقة تشكل 3% من مجموع السكان على معظم موارد المجتمع، وزادت الطبقة السفلي في المجتمع إلى حدود النصف( )، وهذا ما يفسر ازدياد هجرة أفراد الشعب السوري إلى الخارج في ظل غلاء المعيشة خلال هذا الحكم إلى درجة لم يصلها أي مجتمع آخر، إضافة إلى البطالة التي وصلت إلى درجة كبيرة( ).
2- الحزبية والصراع الحزبي :
ظهرت أول حركة حزبية في سوريا عام 1883 في الكلية اليسوعية في بيروت عام 1883، ثم ظهرت جمعية الإخاء العثماني 1908 في الأستانة، ثم المنتدى الأدبي 1909 في الأستانة، ثم الجمعية العربية الفتاة، والجمعية القحطانية وجمعية بيروت الإصلاحية، ومؤتمر باريس العربي، وجمعية العهد، وكلها في العهد العثماني( )، ثم ظهرت جمعيات أخرى في العهد الفيصلي 1918 مثل جمعية العهد السورية، واللجنة الوطنية العليا، في دمشق 1918، وحزب الاتحاد السوري، وحزب الاستقلال العربي، وغيرها من الأحزاب الكثيرة الأخرى، واتسمت هذه الأحزاب أنها كانت تضم أعضاء من جميع مناطق الهلال الخصيب (سوريا الطبيعية)، وفي عهد الانتداب الفرنسي ظهرت عدة أحزاب أهمها حزب الشعب 1920، والحزب الحديدي 1922، وحزب الوحدة، والكتلة الوطنية في 26 يونيو 1926، وعصبة العمل القومي، والجبهة الوطنية المتحدة 1935، والهيئة الشعبية 1938، فكانت سوريا زاخرة بالتجارب الحزبية بشكل أكبر بكثير من أي منطقة أخرى في الشرق الأوسط، وتميزت السمات الرئيسية لهذه الأحزاب ما قبل الاستقلال، أنها كانت امتداداً للتأثيرات الفكرية التي تأثر بها المثقفون الذين تلقوا علومهم في الغرب، فبعضهم كان يمثل صيغة الديمقراطية الغربية، وأخرى كانت تمثل صيغة الديمقراطية البرجوازية وأخرى كانت تمثل الفاشية أو متأثرة بها أو بالشيوعية، أو الاشتراكية المعتدلة، فمعظمها لم يمثل الواقع الذي انطلقوا منه، بل كان ما تأثروا به هو الأساس، فكان الطابع النسبي المقلد هو الطابع الذي غلب على هذه الأحزاب، وقد مرت دول الهلال الخصيب ومنها سوريا، بموجات متزايدة من الصراع خلال هذه الفترة من متطلبات ومواقف ومصالح مختلفة، وهيمنة الطابع الإقليمي عليها، حيث ركزت على تحقيق الاستقلال السياسي ضمن حدود الدولة التي حددتها اتفاقية سايكس بيكو، لكن ظهر شعور بالتعاطف والتضامن بين الحركات الإقليمية في الدول المجاورة، إضافة إلى تنامي الشعور القومي الذي اقترن بالوعي القومي الأرستقراطي، وسيطرة الطبقة العليا في المجتمع على قيادات الأحزاب والمنظمات السياسية، رغم بروز طبقة وسطى من خلال بعض المثقفين والضباط وغيرهم، فبرز دورهم بشكل أكبر ودعوتهم للتغيير الاجتماعي في ظل إهمال الطبقة العليا لذلك، كما كان للتنوع العرقي والديني في سوريا أثراً في وجود هذه الأحزاب.
ويرى عز الدين دياب في دراسة أجراها على أحد المجتمعات السورية وهو مجتمع مدينة حماه -التي كانت أكثر المدن السورية رفداً للسياسيين والعسكريين الذين ساهموا في عدم الاستقرار في سوريا قبل انقلاب 23 فبراير- أن الحياة السياسية لأعضاء الأحزاب فيها تميزت بعدة سمات هي( ):
1- الانتماء إلى الأحزاب، كان يتم بدوافع وغايات عائلية.
2- أغلب أفراد الأسر والعائلات، كانوا يعطون أصواتهم إلى القائمة الانتخابية التي يختارها وجهاء رؤساء الأسر التي تتكون منها العائلة.
3- الصراع بين المناطق وبين العائلات له تأثير على توجيه الأصوات الانتخابية تجاه الأحزاب، بناء على آلية الصراع بين هذه الاتجاهات وموقع الأحزاب.
4- مصالح العائلات وجاهها وقوتها المعنوية تشكل الخلفية الثقافية للانتماء والولاء معاً.
5- العشائر بكاملها تساند الحزب التي ينتمي إليه المرشح، فإذا اختلف رئيس العشيرة مع رئيس الحزب، فهذا يعني أن سائر أفراد العشيرة يختلفون مع الحزب، ويبتعدون عنه، لذلك كانت تسبق الانتخابات الكثير من المساومات بين الأحزاب، وقادة العشائر في المحافظات التي تتواجد فيها العشائر.
6- الولاءات المذهبية والأثنية، كان لها دورها وتأثيرها في الانتساب للأحزاب.
7- كلما كان النظام مستبداً، كلما تكاثرت ظاهرة الانسحابات الجماعية، على أسس عائلية ومنهجية وجهوية.
8- معارضة شيخ العشيرة أو العائلة أو الحي تقود إلى معارضة العشيرة أو العائلة أو الحي وكل من يتبعها.
ويرى الباحث أن هذه العناصر تنطبق على الأقليات الدينية والمذهبية أكثر مما تنطبق على المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص، بالرغم من تأثير الوجاهة والعائلة على الحياة السياسية فيها.
وأهم الأحزاب السياسية التي ظهرت بعد الاستقلال أو كانت موجودة منذ ما قبل الاستقلال لكنها استمرت بعد الاستقلال خلال فترة الدراسة، ومدى مساهمة كل واحد منها في عدم الاستقرار السياسي في سوريا خلال مدة الدراسة:
1- الحزب الوطني:
تضمنت المادة الثانية من دستوره على توحيد الأقاليم المجزأة عن سوريا( )، وكان قد تشكل في عام 1948 برئاسة نبيه العظمة، بعد انحلال الكتلة الوطنية إلى الحزبين الرئيسيين وهما الشعب والوطن، وقد انتسب إليه معظم سياسي دمشق، دعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع جميع الدول على قدم المساواة، والعمل على تحرير البلاد العربية المستعمرة، وضرورة استثمار مرافق البلاد وزيادة إنتاجها مع الاستفادة من رأس المال الأجنبي والخبرة الأجنبية بحيث لا تمس مصلحة واستقلال الوطن وتقدمه، وكان أهم رموز هذا الحزب الرئيس شكري القوتلي ، ورئيس الحكومة فارس الخوري، ولطفي الحفار، وميخائيل اليان، وغيرهم وكان هذا الحزب يمثل تجار دمشق مقابل حزب الشعب الذي يمثل تجار الشمال خاصة حلب، وقد أيد الحزب تعديل الدستور لإعادة انتخاب الرئيس شكري القوتلي لفترة رئاسية جديدة( ) ، رغم أن الرئيس شكري كان يرفض ذلك، وقد اتهم حسني الزعيم عقب انقلابه بأن هذا الحزب قد فضل مصالح أعضائه على مصالح الشعب، وكان سبباً في عدم الاستقرار الحكومي، وأنه لم يحدث التنمية الاقتصادية المطلوبة في البلاد مما حذا بزعماء الحزب الوطني إلى الموافقة على الإطاحة بحسني الزعيم وتنفيذ اتحاد سوريا والعراق( ) ، حيث أصدر الحزب بعد الانقلاب الذي قام به سامي الحناوي بياناً في العاشر من سبتمبر عام 1949 جاء فيه : " أصبح ثابتاً أن سوريا ليست بمقدورها وحدها أن تقف في وجه الزعازع التي تتهددها، ولابد لها من اتحاد سليم، يضمن السيادة القومية على الوجه الأرقى"( ) ، كما أصدر الحزب قراراً بتعديل منهاج الحزب لتحقيق هذه الوحدة بغض النظر عن شكل الحكم جمهوري أم ملكي فجاء في التعديل من البيان، " يرى الحزب أن نظام الحكم الجمهوري، هو النظام الذي يلائم روح الشعب ويفي بحاجاته، وينسجم مع الأهداف القومية"( ). إلى البيان التالي : " يرى الحزب أن شكل الحكم يترك لاختيار الأمة بحسب ما ترتئ أنه من مصحتها ومصلحة الأمة العربية"( ) ، لكن بعد انقلاب الشيشكلي عام 1949 سحب الحزب تصريحه الداعي للوحدة وعاد ليؤكد إخلاصه للجمهورية( )، ثم عمل عام 1950 على التحالف مع الحزب التعاوني الاشتراكي، ضد حزب الشعب الداعي لوحدة سوريا والعراق، وقاد المظاهرات من أجل ذلك، وألقيت قنبلة في البرلمان في 26 يونيو 1950، اتهم فيها الحزب الوطني، ثم تحالف الحزب الوطني مع حزب البعث ضد حزب الشعب، الذي تشكلت حكومة من خلاله ناظم القدسي عام 1951 ، والتي كانت تدعو للوحدة مع العراق، وقد أيد قرارهم الحزب العربي الاشتراكي، الذي وصف هذه الوحدة بأنها وحدة مع الاستعمار.
وفي اجتماع رئيس الحكومة فارس الخوري وهو عضو في حزب الشعب، مع ممثلي الجامعة العربية في مصر بتاريخ 11 ديسمبر 1954، لم يوافق على إدانة حلف بغداد كما أرادت حكومة القاهرة حيث صرح فارس الخوري قائلاً: " إن الحلف العراقي إذا لم ينفعنا لن يضرنا" ، مما أثار زعماء البعث الذين وصفوا رئيس الحكومة بالعمالة للغرب، والتواطؤ مع نوري السعيد وطالبوا بمحاكمته بتهمة مخالفة الدستور من خلال عدة أمور هي( ):
1- إنكار وزير خارجيته فيضي الأتاسي وجود مقررات مدونة بمؤتمر الجامعة العربية المنعقد في نوفمبر 1954 والذي جمع وزراء الخارجية العرب.
2- إنكار إقرار المؤتمر لمبدأ التعاون مع الغرب.
3- عدم تقيد رئيس الوزراء فارس الخوري بما التزم به أمام لجنة الشؤون الخارجية بمناهضة حلف بغدد.
لكن القوتلي أعلن من منفاه في مصر عن شجبه للأحلاف الغربية والمساعدات العسكرية وحلف بغداد، واتهم حزب الشعب باستغلال الحكم على حساب الحزب الوطني، فاستغل الموقف حزب البعث الذي أغرى عضو الحزب الوطني صبري العسلي على تشكيل حكومة برئاسته، كما عمل على إثارة فتنة بين زعيمي الحزب الوطني في دمشق (صبري العسلي)، وفي حلب (ميخائيل إليان) ، لإضعاف الحزب، ثم عمل على الضغط من خلال الجيش لإسقاط حكومة فارس الخوري، وبعد الاطاحة بها، شكل الحكومة صبري العسلي متحالفاً مع كتلة المستقلين* المؤيدة لليسار في البرلمان بقيادة خالد العظم، وبسبب هذه السياسة للحزب الوطني، أعلن لطفي الحفار وبدوي الجبل وسهيل الخوري الانسحاب من الحزب الوطني، بسبب اعتراضهم على ذلك، وبعد نجاح الرئيس شكري القوتلي بالرئاسة، سلم الرئيس السابق هاشم الأتاسي مقاليد الرئاسة لشكري القوتلي، وطبقاً للتقاليد البرلمانية الدستوري، سقطت حكومة صبري العسلي مقدمة استقالتها للرئيس الجديد( ).
وتجدر الإشارة إلى أن انسحاب الزعماء الثلاث من الحزب الوطني قد ساهم في سقوط حكومة فارس الخوري، حيث استقال منها وزيرين بسبب ذلك بسبب اعتراضهم على قانون العفو العام الذي أقره البرلمان، برفض تنزيل عقوبة الإعدام إلى السجن المؤبد، لأن بعض مؤيديهم كانوا محكومين بها ( ) ، وكان عدم اشتراك حزب الأغلبية (حزب الشعب) ، في حكومة صبري العسلي في 13 فبراير 1955 قد جعلها تسقط في نفس اليوم الذي تشكلت فيه، فشكل الحكومة سعيد الغزي من أكثرية من حزب الشعب، ونالت ثقة البرلمان( )، لكن البعث شكك بها ونظم مظاهرات ضدها، واعتدي على الوزير رزق الله أنطاكي الذي كان وزيراً للاقتصاد، بحجة أن الحكومة باعت قمح لفرنسا التي تحتل الجزائر، رغم أن القمح السوري من النوع القاسي الذي أكثر ما يصلح للمعكرونة أو البسكويت، وباستطاعة فرنسا شراء غيره من دول أخرى، ثم تم الاعتداء على وزير المعارف، فسقطت حكومة سعيد الغزي، مما حذا بالرئيس شكري القوتلي إلى الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة صبري العسلي في يوليو 1956، لكنها لم تستطع تحقيق مطالب اليسار، فسقطت الحكومة، رغم أن اليمين السوري كان يشكل الأكثرية المطلقة في الشارع وفي البرلمان كون طبيعة الشعب السوري ترفض اليسار بشكل مطلق، لكن تتسم هذه الأكثرية بالجمود، بعكس اليسار الذي كان منظماً تنظيماً دقيقاً ومدعوماً من جهات خارجية، وقد كان انقسام الحزب الوطني خلال فترة حكومة فارس الخوري إلى تيارين هما:( )
1- كتلة لطفي الحفار التي تدعو للوحدة مع العراق كمخرج للأزمات السورية.
2- كتلة صبري العسلي التي تؤيد الحياد،
وفي يوليو 1956 سقطت حكومة سعد الغزي بسبب الصراع الحزبي في البرلمان بين التيار اليميني الذي يقوده لطفي الحفار، والتيار اليساري بقيادة البعث( )، فضغط البعث من خلال الجيش على عدم إتاحة الفرصة للطفي الحفار ليشكل الحكومة، فشكلها صبري العسلي وهو من الحزب الوطني ، لكنه أذعن لليسار بحيث سمح لثلاثة من اليسار بكسب حقائب مهمة هي صلاح البيطار للخارجية، وخليل كلاس للاقتصاد، وخالد العظم للدفاع، وبهذه الحكومة انتهت الحقبة الديمقراطية للجمهورية الديمقراطية الثالثة، حيث ألغيت الأحزاب بعد ذلك في عهد الوحدة، ثم عادت بعد انقلاب عبدالكريم النحلاوي، عام 1961، وشارك الحزب الوطني في تلك الحكومات، وكان مؤيداً لإلغاء الإصلاح الزراعي والتأميم، كما صرح رئيس الحزب الوطني بذلك، مما ساهم في عدم الاستقرار الحكومي بسبب تدخل اليسار ضد إلغاء الإصلاح الزراعي والتأميم، وكان لهذا التناقض بين اليمين واليسار أثراً في انقلاب زياد الحريري في 8 مارس 1963، حيث ألغيت الأحزاب السياسية تماماً ماعدا حزب البعث الذي أصبح بعد ذلك الحزب الوحيد ثم الحزب القائد بعد الحركة التصحيحية بقيادة اللواء حافظ الأسد في 16 نوفمبر 1970.
2- حزب الشعب:
أسس في بيروت في شهر أغسطس 1948، وقد دعى في برنامجه إلى الوحدة العربية وبدايتها الوحدة مع العراق، لمجابهة التهديد الخارجي( )، وكان مؤسسي الحزب هما رشدي الكيخيا وناظم القدسي وأيضاً دعى إلى مقاومة النفوذ الأجنبي والفصل بين السلطات وعدم طغيان إحداهما على الأخرى، وضرورة التعامل بالمثل في السياسة الخارجية السورية مع استراتيجية المصلحة المتقابلة، ورفع إنتاجية العامل والفلاح وضمان حقوقهم، وتحديد الملكية وفق تدرج مستقبلي.
وقد شن الحزب في عهد القوتلي عام 1948 حملة قوية ضد الحكومة بسبب تردي أداء الجيش في حرب 1948، وطالب بالوحدة مع العراق والأردن، كما ندد بسوء استعمال السلطة، وطالب بالتحقيق في نتائج حرب 1948 مع الضباط والسياسيين السوريين، وبضرورة تخفيض أسعار المواد الغذائية الأساسية( )، ثم تحالف مع حزب البعث ضد نظام القوتلي حول الفساد الذي طال بعض إدارات الدولة من محسوبية ورشاوي، مثل إنفاق وزير المعارف الدكتور منير العجلاني عدة ملايين من أموال الدولة لتشكيل حزب جديد، وتلاعب الدكتور حسني سبح رئيس الجامعة السورية بأموال الجامعة( )، وتهاون الرئيس شكري القوتلي مع من سرقوا من أموال الإعاشة (التموين) والميرة والدفاع، وعلى هذا الأساس أيد الحزب انقلاب حسني الزعيم( ) ، خاصة بعد أن أبدى حسني الزعيم الرغبة للتقارب مع العراق في بداية عهده، كما عمل الحزب على العمل لإسقاط حكومة جميل مردم بك عام 1946، حيث وقع 65 نائباً في البرلمان على وثيقة لإسقاطها، لكن لم تستطع تحقيق الأغلبية المطلوبة وهو الثلثين، مما أدى إلى فشل المحاولة( ).
لكن بعد أن عمل حسني الزعيم على الابتعاد عن العراق، عمد حزب الشعب إلى التلاقي مع النظام العراقي لتشكيل حكومة مؤقتة يكون مقرها العراق ضد حسني الزعيم، وقد لاقى هذا الموقف تأييد عدداً من ضباط الجيش خاصة بعد أن نشط اليسار ضد حسني الزعيم( )، بعد أن فشلت كل محاولات حزب الشعب لدعوة حسني الزعيم إلى إعادة الأمور إلى سابق عهدها، وانسحاب الجيش إلى ثكناته، والذي كان بنتيجته أن أبعد حسني الزعيم حزب الشعب عن الحياة السياسية، حيث استقال عضو حزب الشعب فيضي الأتاسي من حكومة حسني الزعيم بعد ثلاثة أيام من تشكيلها( )، كل هذه الأمور جعلت الحزب يتعاون مع سامي الحناوي من أجل الوحدة مع العراق، كونه يعتبر أن العراق هو العمق الإستراتيجي لسوريا، وكون حزب الشعب كان يمثل المصالح التجارية الحلبية والشمالية، وإن فصل سوريا عن العراق قد أقام الحواجز التجارية والحدود السياسية التي خنقت سوريا، إضافة لمواجهة التهديدات الخارجية( )، وكان يرى رئيس حزب الشعب رشدي الكيخيا، أن المعاهدة العراقية البريطانية لا تمنع قيام الاتحاد بين سوريا والعراق( )، وبعد تشكيل حكومة هاشم الأتاسي ثم ناظم القدسي عام 1949، وتحديد موعد إقرار بيان الوحدة مع العراق، قام الشيشكلي ليلة يوم التصويت بانقلابه عام 1949، فسقطت حكومة ناظم القدسي، وكان سقوط سامي الحناوي من قيادة الجيش، قد جعل لجيش بقيادة الشيشكلي/ من وراء الستار/ ضد الوحدة مع العراق ، وبسبب ضعف الحكومة أمام الجيش اقترح رئيس الحكومة ناظم القدسي، مشروعاً قدمه للجامعة العربية كان الغرض منه إقامة اتحاد شامل بين الدول العربية، من خلال تطوير نظام جامعة الدول العربية، تمهيداً لاتحاد فعلي بينها( )، وكان من أسباب تقديمه لهذا المشروع أن قادة حزب الشعب كانت لهم آراء مختلفة حول مشروع الهلال الخصيب، فكان زعيمي الحزب على خلاف بإستراتيجية الوحدة مع العراق ، حيث رأى رشدي الكيخيا أن شكل الحكم لا يهم لأن الوحدة أهم، بينما رأى ناظم القدسي ضرورة عدم التضحية بالنظام الجمهوري، مؤكداً على اتحاد جمركي بين البلدين وبرلمان فيدرالي يمثل البلدين( ).
كما عمل حزب الشعب من خلال وزير الخارجية فيضي الأتاسي الذي كان عضواً في حكومة حسن الحكيم، لإسقاط الحكومة، وذلك بالتعاون مع رئيس البرلمان آنذاك ناظم القدسي، كون حزب الشعب هو حزب الأغلبية بعد سقوط شكري القوتلي 1949 وحتى سقوط ناظم القدسي عام 1963، فعمل الحزب على التنديد بالمذكرة التي قدمها قناصل الدول الغربية حول مشروع الدفاع الشرق أوسطي فلم يتح المجال لرئيس الحكومة حسن الحكيم على الرد، كما لم يعرضها وزير الخارجية على الحكومة قبل ذلك لمناقشتها، واتهم رئيس الحكومة أنه يؤيد ضمنياً المذكرة، مما حذا برئيس الحكومة إلى الاستقالة، فحدثت أزمة حكومية استمرت تسعة عشر يوماً، حيث نظم حزب الشعب المظاهرات بالتعاون مع اليسار، فاستقال رشاد برمدا عضو حزب الشعب ووزير الداخلية بسبب تدخل الجيش، ثم اتخذ الحزب في اجتماعه بتاريخ 12 نوفمبر 1950، عدة قرارات هي( ):
1- الموافقة على استقالة وزير الداخلية.
2- الموافقة على استلام الحكم وتحمل مسؤولية السياسة الخارجية والسياسة الداخلية.
3- العمل على البدء باستلام الحكم وتطبيق الدستور نصاً وروحاً.
4- إذا لم يستقل رئيس الحكومة (نهائياً) في موعد أقصاه ظهر ذلك اليوم، يدعو حزب الشعب وزرائه الأربعة للاستقالة.
مما أضطر رئيس الحكومة أن يستقيل بعد الأزمة الحكومية، وكان قبل ذلك قد ساهم حزب الشعب في إسقاط حكومة خالد العظم عام 1950، بعد أن استقال وزير الخارجية فيضي الأتاسي، بسبب عدم التجانس في الحكومة، إضافة إلى تسرب آراء الحكومة وقراراتها إلى الصحف قبل إقرارها( ) ، ثم اتهمتها بالرضى عن النشاط الاستعماري الذي يقوم به بنك سوريا المرتبط بفرنسا، وبتشجيع استغلال الشعب السوري من قبل المستثمرين، ثم عمل على حث 175 ألف موظف حكومي للمطالبة بزيادة أجورهم ورفع مستوى معيشتهم، فتوقفت الاتصالات السلكية واللاسلكية، وانفصلت سوريا عن العالم الخارجي( ).
وعلى إثر سقوط حكومة حسن الحكيم في نوفمبر 1951 كلف الرئيس هاشم الأتاسي، عضو حزب الشعب معروف الدواليبي، بتشكيل الحكومة ونتيجة مواقف هذه الحكومة، قام الشيشكلي بانقلابه عام 1951 وعمل على اعتقال ناظم القدسي في 20 يناير 1952، بعد أن اعتقل معروف الدواليبي، وأعضاء الحكومة، وحل البرلمان( )، وبما أن حزب الشعب يمثل الأغلبية فله تيار شعبي لا يضاهيه به أي حزب آخر ، فرغم أن الشيشكلي حل الأحزاب إلا أنها أصبحت تعمل في الخفاء، حيث اشترك حزب الشعب في 20 يوليو 1963 مع رؤساء الأحزاب وكبار المستقلين، بتقديم بيان إلى الرئيس أديب الشيشكلي بدعوته لإطلاق الحريات وإقامة حياة دستورية في البلاد، ثم عقد مؤتمر حمص في 4 يوليو 1953 برئاسة هاشم الأتاسي( ) ، ضم جميع سياسيي البلاد البارزين، من أجل تلك الأهداف، وأعلن الجميع عدم شرعية انتخاب الشيشكلي ووقعوا بياناً حول ذلك، وعلى إثر ذلك اندلعت المظاهرات الطلابية في المدن السورية، ووزعت المنشورات، وصدرت بيانات تدين التظلم، مما حذا بالشيشكلي في 27 يناير 1954 أن يقوم باعتقالات عديدة شملت أعضاء حزب الشعب، وأهمهم رشدي الكيخيا، والدكتور ناظم القدسي، وفيضي الأتاسي، والدكتورعدنان الأتاسي، ....... وسياسيي الأحزاب الأخرى، ومنهم صبري العسلي، وصلاح البيطار، ميشيل عفلق، وأكرم الحوراني، وحسن الأطرش، والدكتور مصطفى السباعي، ...... وكان الشيشكلي منذ انقلابه الثاني 1951 يتهم حزب الأغلبية المطلقة (الشعب)، أنه المسؤول عن عدم الاستقرار الحكومي والأزمات الوزارية، وأنه لا يمثل الشعب، وأن هدفه القضاء على استقلال سوريا بضمها للعراق، وتحطيم جيشها، بانشاء عرش جديد فيها( )، فكان عداء حزب الشعب للشيشكلي ومعارضة حكمه من أهم الأسباب في سقوط الشيشكلي، خاصة أن من قادة الانقلاب كان فيصل الأتاسي وهو قائد المنطقة الوسطى وقريب للرئيس هاشم الأتاسي وعضواً في حزب الشعب، إضافة لآخرين في المناطق الأخرى، زد على ذلك أن الشيشكلي اتصف بعدائه للتقارب مع العراق بشتى السبل.
وبعد سقوط الشيشكلي عام 1954 حاول عضو حزب الشعب ووزير الدفاع معروف الدواليبي في حكومة صبري العسلي 1954، إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة، لكن البعث استخدم نفوذه في الجيش لمنع ذلك، حيث نظم الإضرابات والمظاهرات الطلابية والعمالية والفلاحية، وأصبح يسيء للمسؤولين السياسيين، ويتدخل في وزارة التموين والإعاشة، فسقطت الحكومة في يونيو 1954( ) ، كما كان سقوط حكومة فارس الخوري بعد ذلك بسبب عدم قدرتها على التوفيق بين الحزبين الرئيسين الوطني والشعب، وخلافاتها مع اليسار( )، مما حذا برئيس حزب الشعب رشدي الكيخيا أن ينقد تصرفات حزب البعث على أساس أنه اكتسب قوته ونفوذه من خلال الجيش، وقد عمل السفير المصري، محمود رياض على إقناع رشدي الكيخيا بلقاء الرئيس عبدالناصر من أجل الوحدة السورية المصرية، كون رشدي الكيخيا ذو ميول قومية وحدوية، وقد أيد في البرلمان الوحدة مع مصر( )، وبعد الوحدة ألغيت جميع الأحزاب السياسية، لكن ظل أعضاء حزب الشعب مؤمنين بمبادئه، حيث أنهم بعد الانفصال عن دولة الوحدة من خلال انقلاب النحلاوي عام 1961، وقيام حكم ما بعد الوحدة، ترشح للرئاسة ناظم القدسي، وكسب حزب الشعب مرة أخرى أغلبية الأصوات في البرلمان الجديد، وقد عمل حزب الشعب على محاولة إلغاء إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، خاصة أنه ظل يمثل التيار المسيطر، لكن بسبب الدعاية المصرية واليسارية لهذه الإجراءات، قبلت الحكومات وآخرها حكومة خالد العظم بهذه الإجراءات، مقابل التعويض العادل، كما ظل الحزب محافظاً على منهجه في الوحدة مع العراق، خاصة بعد اللقاء بين الرئيسين ناظم القدسي وعبدالكريم قاسم، ومحاولة إحياء مشروعا لهلال الخصيب، لكن كان انقلاب 8 مارس 1963 قد فتت جميع الآمال والمشاريع التي كان يسعى إليها حزب الشعب، بعد أن ألغيت الحياة الحزبية في البلاد في ظل سيطرة نظام الحزب الواحد المدعوم بالجيش.
3- حزب الإخوان المسلمين والجبهة الإسلامية:
أسسه الشيخ حسن البنا في مصر عام 1928، وقد دعى إلى العودة لمصادر الإسلام الأساسية ومعاداة المذاهب الأجنبية الأصل، وخاصة الشيوعية وأهم أهدافه هي( ) :
- شرح دعوة القرآن الكريم وعرضها بما يوافق روح العصر.
- تقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية كافة وحسم الخلافات بينها.
- العمل على إقامة الدولة الإسلامية وفقاً لأحكام الإسلام
- المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية والسلام العالمي ومناصرة التعاون العالمي.
- العمل لتحرير المسلمين من النفوذ الأجنبي.
- المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية والسلام العالمي ومناصرة التعاون العالمي.
- العمل لتحرير المسلمين من النفوذ الأجنبي.
وقد انتقلت دعوتهم إلى سوريا عن طريق الدكتور مصطفى السباعي عام 1932 وحددت أهدافها في سوريا عام 1947 بـ :
- تحرير الأمة العربية وتوحيدها والحفاظ على عقيدتها الإسلامية.
- إصلاح المجتمع ومحاربة التفرقة بين الطوائف والأديان.
- إصلاح جهاز الدولة بتنفيذ القوانين دون محاباة.
وقد عمل الحزب على النضال ضد الانتداب الفرنسي، وشكل في حرب فلسطين كتائب الإخوان، كما اعتقلت السلطات الفرنسية مصطفى السباعي عدة مرات ( ) ، وكان من أعضائه البارزين الدكتور معروف الدواليبي الذي تولى الحكومة عدة مرات، وتعتبر دعواتهم هذه رداً على الدعاوي اليهودية الإسرائيلية التي تؤكد أنه لا يوجد في العرف العبري اختلاف بين الأمة والدين حيث الأمة والدين والعقيدة شيئاً واحداً( ) ، كما أكد ذلك ديفيد بن غوريون بقوله: " إن على إسرائيل أن تتمسك بمبادئ أنبياء العبرانيين القدماء"( ) ، وقد أثار
حسني الزعيم لدى انقلابه استياء حزب الإخوان، من خلال دعوته إلى حل ممتلكات الأوقاف، وخيانته لأنطون سعادة التي اعتبرها الحزب لا تتوافق مع تقاليد الإسلام وأخلاقه( )، رغم أن وزير الخارجية في عهد حسني الزعيم وهو الأمير عادل أرسلان قد أيد التيار الإسلامي وخاصة جمعية شباب محمد، وهي فرع من الحزب، باعتبارها تعمل لمصلحة الوطن وعادى الشيوعية التي اعتبرها ضد القومية العربية ودعوة طارئة في المجتمع السوري( )، وبسبب مواقف حسني الزعيم العلمانية المتطرفة، أيد حزب الإخوان انقلاب سامي الحناوي عام 1949، وبنتيجة خلافات الحزب مع الحوراني، استقال الحوراني من حكومة هاشم الأتاسي عام 1949، وبعد الانقلاب الأول للشيشكلي 1949 اشترك الحزب الذي التحم مع الجمعيات الإسلامية مكوناً ما سمي بالجبهة الإسلامية الاشتراكية بزعامة محمد المبارك الذي أصبح وزيراً للزراعة في حكومة حسن الحكيم عام 1950( )، ودعى إلى المظاهرات ضد الحكومة احتجاجاً على مذكرة الدول الغربية التي قدمت إلى مصر حول مشروع الدفاع الشرق أوسطي( )، وفي 12 مارس 1950 صرح الدكتور معروف الدواليبي بتصريح يدعو للابتعاد عن الغرب لتأييده إسرائيل ضد العرب فقال في ذلك : " نعتزم التوجه إلى المعسكر الشرقي، إذا لم ينصفنا الديمقراطيون ...... ونجيب الذين يقولون، إن المعسكر الشرقي هو عدونا،متى كان المعسكر الغربي صديقاً لنا، إننا سنربط أنفسنا بروسيا ولو كانت الشيطان نفسه"( ).
وقد وقف الإخوان المسلمين ضد ديكتاتورية الشيشكلي، وشاركوا في مؤتمر حمص 1953، واعتقل العديد من قيادييهم، وعقب تنازل الرئيس أديب الشيشكلي عن الرئاسة وتولي مأمون الكزبري، تدخلوا ضد النظام الجديد ودخلوا البرلمان وأجبروا رئيس البرلمان سعيد إسحق على حل البرلمان، وهاجموا الإذاعة، فكانت مساهمتهم فعالة في الإطاحة بنظام الشيشكلي.
وإثر محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1954، واتهام جماعة الإخوان المسلمين في مصر بذلك، واضطهادهم، لجأ بعضهم إلى سوريا وعقدوا مؤتمراً ضم مندوبين عن العراق والأردن والسودان، لمقاومة سياسة عبدالناصر، وعبروا عن ذلك في صحيفتهم المنار التي كانت لها عدة فروع، كما أدت أحكام الإعدام التي أصدرها عبدالناصر بحق المتهمين ومنهم زعيم حزب الإخوان في مصر حسن الهضيبي، إلى اندلاع المظاهرات في كل أنحاء سوريا وقد اشترك حزب البعث فيها، لكن أكد الدكتور مصطفى السباعي أن البعث لم يكن مخلصاً في موقفه، وإنما أراد أن يركب الموجة الشعبية فقط، والدليل على ذلك أن أكرم الحوراني كان يعتبر الحركات الدينية هي معادية للشعب وحليفة للاستعمار ويجب تحطيمها بكل السبل( ).
واشترك الحزب في الانتخابات البرلمانية عام1954، وحصل على عدد من المقاعد في البرلمان، وكان يضم بين أعضائه، عدداً من الأقليات منها المسيحيين الذين ترشحوا باسم الحزب مثل رزق الله أنطاكي، ذو التاريخ النضالي الكبير، وهو من الطائفية الأرثوذكسية الأرمنية، لكنهم وقفوا موقفاً محايداً من الوحدة ومن الانفصال( ) ، وظل التيار الإسلامي على مدار تاريخ سوريا ذو شعبية واسعة ( ).
وقد تحالف الإخوان فيما بعد مع المقدم عبدالكريم النحلاوي ذي الميول الإخوانية حيث مهد لهم الطريق للمنافسة على الحكم بعد الانفصال ، من خلال الانتخابات النيابية ، حيث وصل بعضهم إليها في انتخابات 1961( )، حتى أن بعض المناطق المسيحية كانت تصوت لصالح الإخوان، لكن ظل حزب الاشتراكيين العرب وهم جماعة الحوراني الذين انفصلوا عن حزب البعث قد تأثروا بسبب ذلك ، فحدثت اشتباكات بين حزب الإخوان وحزب الاشتراكيين العرب( )، وفي أعقاب انقلاب البعث العراقي في 8 فبراير 1963 استقال الوزراء الإخوان من حكومة خالد العظم بعد أن استقال الوزراء الاشتراكيون ، حيث اشترط الرئيس ناظم القدسي لقبول استقالة الاشتراكيين أن يستقبل الإخوان لتبقى الحكومة حيادية( )، مما أثار الإخوان ضد نظام القدسي، وأيدوا انقلاب النحلاوي الثالث عام 1963، ثم أيدوا انقلاب 8 مارس 1963، مما جعل الرئيس لؤي الأتاسي أن يسمح لجريدة الإخوان (المنار)، بمتابعة الصدور، رغم إلغائه لكافة صحف الأحزاب الأخرى، إضافة للأحزاب ماعدا حزب الإخوان المسلمين، وعلى إثر التوجهات الإلحادية التي بدأ يطلقها النظام خاصة بعد انقلاب جاسم علوان في 18 يوليو 1963 وسيطرة البعث على مقاليد السلطة، حيث بدأ نظام أمين الحافظ يهاجم حزب الإخوان ويعتبره ضد الوحدة العربية وأنه يثير التعصب الديني والطائفية( )، رغم أن العكس هو الصحيح حيث أن صلاح جديد ومحمد عمران أصبحا يستغلان حزب البعث من أجل طائفتهم متحالفين في ذلك مع الأقليات الدينية والطائفية الأخرى لجعلها حصان طروادة يتمكنوا من خلالها للوصول للسلطة، وبسبب ازدراء البعض للمشاعر الإسلامية عام 1964 تدخل حزب الإخوان في حماه ضد نظام أمين الحافظ ( ) ، مما حذا بالنظام إلى ضرب المدينة من خلال الحرس القومي بقيادة حمد عبيد وعزت جديد شقيق صلاح جديد باعتباره رمزاً من رموز الطائفية في سوريا، وعلى إثر أحداث حماه بلغت حصيلة القتلى 40 شخصاً من جماعة مروان حديد، وفي 22 ديسمبر 1965 أعلنت مساجد دمشق رفضها لإجراءات التأميم ودعت للجهاد المقدس ضد النظام ، وبدأ تنظيم طلائع محمد التي يشرف عليها الإخوان المسلمين، وأعلن تجار دمشق الإضراب على إجراءات التأميم تضامناً مع طلائع محمد، مما حذا بالنظام إلى تنظيم مظاهرات اشترك فيها الشيوعيون، ثم قام باعتقالات ضد التجار وتأميم جميع أسواق ومكاتب وشركات التجار الخارجية( ).
وحدث التمييز الطائفي منذ انقلاب صلاح جديد عام 1966( )، رغم أن المجتمع السوري لم يعرف قبل ذلك على الإطلاق حركات إسلامية لم تعترف بالأقليات ولا توافق على منحهم حقوق سياسية ومدنية كثيرة مثلهم مثل الأكثرية، ولا أدل على ذلك، أن أحد رموز الوطنية في سوريا والذي وصل إلى رئاسة الحكومة وهو فارس الخوري الذي ينتمي للمسيحيين أكثر من أي مسؤول آخر، والأمير عادل أرسلان، وهو من الطائفة الدرزية، الذي عهدت له رئاسة الوزراء، وأيضاً عبدالكريم زهر الدين الذي كان قائداً لأركان الجيش السوري وغيرهم من الأقليات، لكن الاضطهاد الذي أصاب الأكثرية السنية في ظل حكم صلاح جديد، جعل أحد قادة حزب الإخوان وهو سعيد حوى يطالب بتنحيتهم عن كل وظائف الدولة في سوريا وهذا ما جعله يجنح إلى الطائفية رداً على طائفية صلاح جديد.
4- الحزب الشيوعي:
كان للشيوعيين الفرنسيين دور كبير في وصول الأفكار الشيوعية إلى سوريا، خلال فترة الانتداب التي تشكل خلالها هذا الحزب في سوريا ولبنان تحت راية حزب واحد، وذلك بعد اندماج حزب سبارتاكوس الذي تشكل عام 1925 وكان حزباً معظمه من الأرمن، مع حزب الشعب اللبناني، فشكلا الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان عام 1928، وكان أول رئيس لهذا الحزب هو فؤاد الشمالي ثم أصبح في عام 1932، خالد بكداش زعيماً لهذا الحزب بعمر لا يتجاوز العشرين سنة( )، وكان شعاره الحرية والخبز، وكان قد تحالف مع الحزب الشيوعي للمستوطنين اليهود في فلسطين، ثم وقف ضد المحور في الحرب العالمية الثانية بعد قرار هتلر باجتياح روسيا عام 1941، لكنه ظل على مدار وجوده في سوريا بعيداً عن صميم الشعب السوري، وقد انشق هذا الحزب إلى جزأين بعد استقلال سوريا ولبنان عام 1943، إحداهما في سوريا والآخر في لبنان( ).
وحدد أهدافه في سوريا بـ ( ) :
1- العمل لاستقلال وسيادة سوريا التامة وتحريرها الكامل.
2- المحافظة على نظامها الجمهوري الديمقراطي.
3- التضامن مع البلاد العربية لاستكمال تحررها وتوثيق الروابط بينها.
4- بسط السيادة الوطنية على المؤسسات الأجنبية.
5- تأمين الحريات الديمقراطية.
6- رفع مستوى البلاد الاقتصادي بحماية المنتجين.
7- معالجة البطالة وحماية العمال بوضع تشريع خاص بهم.
8- تحرير الفلاح من البؤس وتوزيع الضرائب توزيعاً عادلاً.
واتسم الحزب بعدائه للحزب القومي السوري حيث وصفه بالفاشية وبالتعاون مع النازية، وقد حدث تصادم بينهما في 2 نوفمبر 1945، كما اتسم أيضاً بالعداوة لحزب الإخوان المسلمين حيث اتهمه بالعمالة للإنكليز( ) ، كما عمل على التنسيق مع الحزب الكردي الديمقراطي البارتي الذي أسسه الملا مصطفى البرازي في روسيا علم 1945، وأنشأ له فروعاً في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وأخذ ينشر المطبوعات والمجلات الخاصة، وقد نصت المادة 21 من حزب البارتي بما يلي : " السعي لمساندة إخواننا الأكراد أينما كانوا في نضالهم من أجل استكمال حرياتهم وحقوقهم القومية ...." ( ) كما أكد أنهم لا يسعون لأي تقارب مع العرب سوى بقدر التقارب مع الأقليات الأخرى، وهذا ما يفسر تقارب الحزب الشيوعي السوري مع تيار صلاح جديد وخاصة بعد استيلائه على الحكم في فبراير 1966، بالرغم من أن البيان الشيوعي عام 1848 ينص على " إن الدستور والأخلاق والدين، كلها خديعة برجوازية وهي تتستر وراءها من أجل مطامعها"( )، وعلى هذا الأساس أصبح لهم /في عهد صلاح جديد ونور الدين الأتاسي/.
وقد ندد الرئيس حسني الزعيم بالشيوعية واعتبرها مناهضة للقومية العربية حيث قال في ذلك :" إننا قوميون قبل كل شيء "( ) مما حذا بالشيوعيين إلى توزيع منشورات لإسقاط حكم حسني الزعيم، فرد النظام على ذلك باعتقال المئات منهم، وفي أعقاب انقلاب سامي الحناوي وزع الحزب في أكتوبر 1949 منشورات ضد الوحدة بين سوريا والعراق جاء فيها: " يسقط مخطط الوحدة السورية العراقية، مخطط عملاء الإمبريالية ومخطط العبودية والحرب"( ) ، وقد أيد الحوراني ذلك فشن حملة في اللجنة التأسيسية ضد وحدة سوريا والعراق.
ثم نشط الحزب في أعقاب انقلاب أديب الشيشكلي عام 1949 ثم عام 1951 فأخذ يصدر صحيفة نضال الجماهير بشكل سري، ويوزعها على أعضائه، الذين سماهم أنصار السلام، ثم أخذ يصدر صحيفة السلام، وقد عارضوا زيارة وزير المستعمرات البريطانية الجنرال بريان روبرتسون إلى سوريا، وقاموا بتنظيم مظاهرات ضد ذلك، ثم قاموا بتنظيم مظاهرات ضد تقارب حكومة خالد العظم مع الولايات المتحدة الأمريكية، فسقطت الحكومة ( ) ، ثم انضموا إلى مؤتمر حمص للإطاحة بالشيشكلي عام 1953، وشاركوا مع الإخوان المسلمين في مهاجمة البرلمان عقب تولي مأمون الكزبري لمنصب الرئاسة بعد تنازل الرئيس أديب الشيشكلي عنها في 25 فبراير 1954، كما هاجموا معهم الإذاعة، وبالتالي في إسقاط نظام الشيشكلي، وبذلك أصبحت لهم قوة كبيرة بعد سقوط الشيشكلي، رغم أنه كاد ينتهي عام 1947، عندما أيد تقسيم فلسطين ، حيث أثار الرأي العام ضده، فقامت مظاهرات ضده وهاجمت مكاتبه، وهرب بكداش إلى خارج البلاد، وتفسير ذلك أنه يستمد أوامره من الحزب الشيوعي السوفياتي بما يعرف بالشيوعية العالمية (الكومترن).
وقد ظل هذا الحزب حليفاً قوياً لحزب البعث منذ عام 1947 وحتى عام 1957 حث أخذ البعث يبتعد عنه في بداية عام 1958، بنتيجة ازدياد قوة الشيوعيين في سوريا، خاصة بعد أن استغل مع حزب البعث، مقتل عدنان المالكي، والمساهمة الجدية في تصفية الحزب القومي السوري في البرلمان والشارع، بعد صعود أول نائب شيوعي في الشرق الأوسط إلى البرلمان عقب انتخابات 1954 في سوريا، وأخذ يصدر صحيفة النور، وكانت فترته الذهبية بين 1957 وبين 1958، حيث ارتبطت سوريا بالاتحاد السوفياتي بشكل كبير وكان من المقرر أن تجري الانتخابات البلدية في خريف 1957( ) ، ومن المؤكد أن يسيطر عليها الشيوعيون، لكن البعث أخذ يؤجلها أسبوعاً وراء آخر، حتى ألغيت أواخر عام 1957، كما كان الشيوعيون يضغطون لحل البرلمان القائم وانتخاب برلمان جديد في ربيع 1958، بحيث يسيطرون على مقاعده، قبل انتهاء مدة البرلمان القديم بعدة شهور، على أساس أن بعض النواب تركوا البرلمان بنتيجة تورطهم في المؤامرات المختلفة، لكن هدفهم الخفي كان وصولهم للسلطة عن طريق البرلمان، رغم تظاهرهم بالقومية والوطنية والدعوة للانتقام للمالكي، إضافة إلى اثارتهم للمشكلات التافهة، في طريقهم لإرباك البرلمان وحله، مثل اتهام خالد بكداش الحكومة في جلسة 29 مايو 1957 من أن موازنة الدولة لعام 1957 تمثل مصالح الاستعمار، فكان التحالف البعثي الشيوعي سبباً لانهيار كثير من الحكومات في فترة ما بعد الشيشكلي وحتى الوحدة مع مصر عام 1958( ) ، وفي ذلك يقول خالد بكداش عام 1956 "نحن الشيوعيون نمد أيدينا لكل الأحزاب والتيارات السياسية وبشكل خاص حزب البعث "( ).
وفي إطار التحرك الشيوعي في سوريا والشرق الأوسط عموماً رأى وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دلاس ما يلي : ( )
1- إنعاش مفهوم منظمة الدفاع الشرق أوسطي القديم.
2- تسخير عبدالناصر لصالح الغرب من خلال جعله قائد للوطن العربي ولو بشكل نظري، لوقف التوسع الشيوعي وذلك باعطائه الحوافز المادية والمساعدات.
وكانت استراتيجيتهم في ذلك استغلال أخطاء النظام المصري إضافة لعملائهم في مجلس قيادة الثورة المصري، وهذا ما يفسر التدخل المؤيد مع بعض العناصر المشبوهة وخاصة عناصر من حزب البعث الذين ارتبط بعضهم بعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى الاختراق الأمريكي الكبير لمجلس قيادة الثورة المصري، فخلال هذه الفترة وجد البعث نفسه على مفترق طرق هي: ( )
1- الاستسلام للشيوعية وأن تصبح سوريا دولة تدور في فلك السوفييت.
2- الاستسلام لحزب الأغلبية وهو حزب الشعب الذي سيجرها للوحدة مع العراق، وهذا لا يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية ولا مع الاستراتيجية المصرية، إضافة لتخوف عناصر حزب البعث من فقدان مراكزهم في الجيش والدولة، فكان انقلاب اللواء عفيف البرزي بدعم البعث من أجل الوحدة مع مصر، رغم رفض الحزب الشيوعي لهذه الوحدة، حيث تغيب خالد بكداش عن حضور جلسة البرلمان لتأييد الوحدة عام 1958، وسافر خالد بكداش إلى خارج البلاد معلناً رفضه حل الحزب الشيوعي بعد اشتراط عبدالناصر حل جميع الأحزاب ثم صرح بكداش في ذلك : " إننا نرحب بالوحدة، إذا ضمنت حرية الأحزاب، ونلعنها إذا خنقت حريتها في سوريا كما خنقتها في مصر"( ).
وفي ظل الوحدة أصبح أي نقد للنظام ممنوع، وسيؤدي بصاحبه إلى الاتهام بالشيوعية، فعندما قام قائد الجيش الأول الفريق عفيف البرزي بإجراء بعض التنقلات، اتهم أنه شيوعي وأن هدفه تعيين الموالين له ذوي الميول الشيوعية( ) ، وعندما انتقد وزير الصحة في الحكومة المركزية بشير العظمة الحكومة التي جعلت تكاليف الإقليم السوري بالنسبة للجيش أعلى بعدة أضعاف من ميزانية الإقليم المصري، اتهم بالشيوعية أيضاً، وغيرهم من المسؤولين السوريين، كما أنشأ عبدالحميد السراج في الإقليم السوري جهاز مخابرات لمكافحة الحزبية والحزبيين في كل أنحاء سوريا، ثم ابتدأ بالشيوعيين، فاعتقل المئات منهم، وعذب الشيوعيين بشكل كبير ومات بعضهم تحت التعذيب، وأذيب بعضهم بالأسيد، مثل زعيم الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، إضافة إلى بعض اليساريين مثل بيير شدرفيان وهو أرمني من حلب، وهذا ما أثار الرأي العام في سوريا( ) ، وقد اشتد النظام ضدهم بعد خطاب خالد بكداش في بكين بتاريخ 28 سبتمبر 1959 بمناسبة العيد العاشر للثورة الصينية، حيث تهجم على نظام حكم الوحدة بديكتاتوريته وتعسفه وتأثيره السلبي على اقتصاد سوريا في جميع المجالات ، حيث قال في ذلك:
" إن شعب الجمهورية العربية المتحدة، يقاسي اليوم نظاماً ديكتاتورياً إرهابياً، تطبق فيه الأساليب الفاشية ضد جميع القوى الوطنية الديمقراطية، إن في سجون مصر وسوريا اليوم ألوفاً من المواطنين من شيوعيين وديمقراطيين، وشباب، يقاسون ألوان التعذيب الوحشي، ومن بينهم المواطن العربي أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني الرفيق فرج الله الحلو، الذي اختطفته المباحث في دمشق، إن السياسة التي طبقتها طغمة بنك مصر في سوريا منذ الوحدة، أدت إلى خراب الاقتصاد السوري وهبوط الإنتاج الزراعي والصناعي وركود التجارة وانتشار البطالة، وغلاء المعيشة، وتعاني سوريا اليوم نظاماً من الاستبداد والفوضى لم تعرفه في كل تاريخها الحديث، وهذا الذي يجري في سوريا اليوم يريد عبدالناصر تطبيقه في العراق ولبنان، وسائر البلدان العربية، ولكن مصير هذه السياسة هو الفشل المحتوم" ( ).
وبعد سقوط نظام الوحدة عقب انقلاب النحلاوي عام 1961، حاول الحزب الشيوعي استعادة مركزه في الجيش والحياة السياسية، لكن معاداة قائد الانقلاب للشيوعية، جعلته لا يقوى على المنافسة، ولم يستطع الفوز بأي مقعد في انتخابات 1961، لكن في نفس الوقت عمل الشيوعيون على تأييد التيار الاشتراكي المعادي لإلغاء إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، كما ساهموا بعدم استقرار النظام بتوزيعهم للمنشورات وإثارتهم للمظاهرات في ظل حرية التعبير التي سادت خلال فترة حكم الرئيس ناظم القدسي، لكنهم وإن كانوا قد أيدوا حزب البعث بعد استيلائه على الحكم خاصة بعد فشل انقلاب جاسم علوان في يوليو 1963، من خلال إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، حيث اتهموا زعماء حزب البعث في سوريا والعراق بالعمالة للاستعمار، فيؤكد منشور سري للحزب الشيوعي في يناير 1964 على ذلك بقوله: " إن سياسة البعث في سوريا والعراق لم تكن إلا سياسة مدروسة رسمها وخططها عملاء للاستعمار مندسون في قيادة البعث أمثال ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وعلي صالح السعدي وزمرتهم"( ) .
وكما ذكر سابقاً أخذ نظام الأتاسي/جديد يتقارب مع الحزب الشيوعي والاتحاد السوفياتي مستغلاً الأيديولوجية الماركسية، لتثبيت الطائفية في البلاد من خلال إضعاف أي نزعة مذهبية أو عرقية سوى الطائفة النصيرية في الخفاء، وأصبح إشراكهم في الحكم كبيراً، حيث يؤكد الرئيس أمين الحافظ أن صلاح جديد، كان وراءه الشيوعية السوفياتية( )، وأن الحكم الذي ساد بعد سقوط نظام أمين الحافظ كان باتفاق المعسكرين على رأس وعناصر تلك الأنظمة.
5- الحزب القومي السوري :
أسسه أنطون سعادة في بيروت عام 1932، وطالب باستقلال سوريا ووحدة أجزائها المنفصلة، وهي العراق والأردن ولبنان وفلسطين وشبه جزيرة سيناء وقبرص( ) ، إضافة للأجزاء المغتصبة من قبل تركيا وإيران، وذلك تحت راية واحدة هي راية الأمة السورية، وإلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمال، وصيانة مصلحة الأمة والدولة، وإعداد جش قوي يكون ذو قوة في تقرير مصير الأمة والوطن وإيجاد نهضة قوية تكفل تحقيق مبادئه وتؤدي إلى الاستقلال مع إيجاد جبهة عربية واحدة، وقد استمد الكثير من الأحزاب السورية من برنامج وأهداف هذا الحزب في دساتيرهم مثل حزب الشباب الذي أسسه عثمان الحوراني أيضاً ، حزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني عام 1951، بعد أن انفصل عن الحزب القومي السوري عام 1949 عقب انقلاب سامي الحناوي، وتأييده للوحدة مع العراق، حيث وقف الحوراني سداً منيعاً ضد الوحدة مع العراق، والدليل على ذلك أن الحوراني كان حتى 1949 يعمل ضمن أهداف الحزب القومي السوري ، فكان يثير على الدوام قضية لواء الإسكندرونة، ووحدة سوريا الطبيعية، وقد اتهم الحكومة عام 1949 بالتقصير في قضية لواء الإسكندرونة، وأنها قد تخاذلت في حرب فلسطين، كما أنه طالب في البرلمان إبان التصويت للموافقة على جامعة الدول العربية عام 1945، بأن يكون لسوريا حقها في توحيد أجزائها بغض النظر عن انتسابها للجامعة العربية( )، وكان الحوراني لسان هذا الحزب في حماه منذ عام 1936، وحتى انقلاب سامي الحناوي 1949( ).
وحول غاية الحزب فهو يرى أن بعث النهضة القومية الاجتماعية السورية سيكفل تحقيق مبادئه، وسيعيد للأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيتاً لسيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، وقد أسس جريدة النهضة( )، وعملت الحكومة اللبنانية برئاسة رياض الصلح على التآمر على هذا الحزب من خلال حزب الكتائب اللبناني الذي يرأسه بيير الجميل، فهاجم حزب الكتائب مكاتب الحزب، وأحرق مطابعه، مما أعطى الفرصة للحكومة اللبنانية للتدخل ضد الحزب القومي السوري وملاحقة أعضاءه في يونيو 1949، فأيد حسني الزعيم، أنطون سعادة في ثورة ضد النظام اللبناني بهدف إسقاطه، بسبب تخوف حسني الزعيم من رياض الصلح خشية أن يعمل ضده, باعتباره كان صديقاً للقوتلي، وعلى إثر فشل الثورة التي أعلنها أنطون سعادة لجأ أنطون سعادة إلى سوريا، فطالبت الحكومة اللبنانية بتسليمه إليها، كما ضغطت فرنسا ومصر وبريطانيا، على حسني الزعيم لتسليمه، فسلمه إليها، وأعدمته خلال 24 ساعة، مما أثار ضباط الجيش الذين كان قسماً كبيراً منهم أعضاء في الحزب القومي السوري، مثل أديب الشيشكلي وفضل الله أبومنصور، وصلاح الشيشكلي، وزيد الأطرش وغيرهم، رغم أن السلطات السورية ادعت أن السلطات اللبنانية قد اعتقلته داخل الأراضي اللبنانية وليس في سوريا، فتولى زعامة الحزب بعد ذلك جورج عبدالمسيح الذي أقسم بأنه سينتقم من المتآمرين، كما اشتدت نقمة الشعب السوري على جريمة حسني الزعيم هذه، وكان إبعاد بعض أعضاء هذا الحزب من قبل حسني الزعيم عن مناصبهم التي تولوها عقب انقلابه، قد أثار النقمة بشكل أكبر وكان منهم الحوراني والشيشكلي، مما حذا بالحوراني إلى الاتصال بزعيم الدروز حسن الأطرش لتأييد انقلاب ضد حسني الزعيم، خاصة أن بعض ضباط الجيش من الدروز كانوا أعضاء في الحزب القومي السوري، وأن أكرم الحوراني هو أول من سعى لإنشاء خلايا بالجيش لصالح الحزب القومي السوري أولاً، ثم لصالح نفسه وحزبه الجديد العربي الاشتراكي ثانياً، ثم البعث في المرحلة النهائية( ).
وبعد انقلاب الحناوي ،ضغط الحزب القومي السوري على الحناوي لعودة الشيشكلي إلى موقعة العسكري كونه عضواً فيه، وتسليمه قيادة أقوى ألوية الجيش وهو اللواء الأول الذي تحول فيما بعد إلى اللواء السبعين المدرع، إضافة إلى ما كان هناك من صداقة بين آل الحناوي وآل الشيشكلي( )، وقد أيد الحزب سعي الرئيس هاشم الأتاسي لوحدة سوريا والعراق، وبعد انقلاب الشيشكلي عام 1949، استمر الحزب في دعواته الاتحادية حتى قيام الشيشكلي بانقلابه الثاني، وحله لجميع الأحزاب ماعدا الحزب القومي السوري كونه كان ينتمي إليه، رغم أن الشيشكلي عمل على عدم إتاحة الفرصة لهذا الحزب من أن يصل للسلطة، وأسس بدلاً منه حركة التحرير التي جعلها تسيطر على البرلمان الذي أقامه، ولم يمنح هذا الحزب سوى مقعد واحد، وعلى إثر إنشاء الحوراني للحزب العربي الاشتراكي أخذ يحارب منافسيه وخاصة الحزب القومي السوري، فقام بتصادمات كبيرة معه حيث وصف الحوراني هذا الحزب بالنازية والعمالة وأنه يريد تحطيم سوريا( )، بالرغم من التاريخ النضالي لهذا الحزب في عهد الانتداب الفرنسي حيث سجن أنطون سعادة عدة مرات، وحكم عليه غيابياً بالإعدام، ومصادرة السلطات الفرنسية لكتاب " نشوء الأمم " وهو يمثل مبادئ الحزب ولم تفرج عنه حتى تاريخ كتابة هذه السطور،إضافة إلى نضالهم في فلسطين منذ ثورة 1936 وحرب 1948 واستشهاد الكثير منهم، في حرب لبنان 1982حيث كانوا في مقدمة الشهداء مثل (سناء محيدلي، وزهرة ابو عساف، وعمار الأعسر ....) ولم يكن إعدام أنطون سعادة إلا أنه فكر بالأسلوب الثوري لتوحيد سوريا الطبيعية، وهذا لا يتفق مع الإدارة الاستعمارية لأن اتفاقية سايكس بيكو حسب وجهة نظرها، هي أفضل بكثير من مشروعه الذي يتضمن تحرير فلسطين ذاتها( )، كما أن أنطون سعادة نفسه كان أشد السياسيين تمسكاً بالعروبة وفق استراتيجية علمية منطقية فيقول في ذلك : "نحن العرب قبل غيرنا، نحن جبهة العالم العربي، وصدره، وترسه، ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي كله" ( )، كما يقول أيضاً " إن عدو لبنان من يحاول فصله عن أمه سوريا" ، وحول رأيه في العلمانية يقول : " إن القضاء على التعصب الديني، ومحو لغة الحزبية الدينية، يكون بالاتجاه إلى الأرض، وترابط جبالها، وسهولها، بأنهارها، وإلى الشعب بنسيجه الدموي، وتفاعله اليومي، في الحياة مع الأرض، بإدراك أن الحزبية الدينية تصرفنا عن واقع الوطن وتشوه حقيقة الأمة"( ) ، فكان إدراكه للعلمانية ، في عدم إلغاء أو نفي الدين أو التجرد من أحكامه التي ترتفع بالإنسان نحو الكمال، مثل تعلم الصدق والمحبة والأخوة الإنسانية، والصفح عند الإساءة، والعطف على الضعيف والفقير واحترام حقوق الآخرين، ومراعاة القوانين والأنظمة التي تصدرها الدولة، وهذا يتحقق بدون أن تتحكم العقيدة الدينية في سياسة الدولة التي قد تتبدل مع الأيام، ومع الظروف، فإقحام الدين في السياسة يبث روح التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، فالأفضل أن يحتفظ بما للدين من حرمة وقدسية ثابتة الأركان، ويترك للسياسة مجالها الدينوي الواسع المتقلب تبعاً للظروف، وبذلك يجتمع في البلد الواحد الدين والسياسة ويسير كل منهما في مجراه الطبيعي( ).
وهذا ما يفسر دخول بعض الأعضاء المتعصبة التي ترفض الخروج من طائفيتها إلى هذا الحزب بغرض تقويضه من الداخل، مثل غسان جديد، الذي كان يقود تكتلاً طائفياً في الجيش بغض النظر عن انتسابه للحزب، وأيضاً أخوه صلاح جديد الذي كان مهندساً للطائفية في سوريا بعد ذلك ، وبعد تدمير هذا الحزب في سوريا عقب قرار اغتيال المالكي الذي نظمه غسان جديد مع مجموعة طائفية من داخل الحزب ومن ثم اغتياله ، وقد أفاد الحزب القومي السوري أن قرار اغتيال المالكي عام 1955 قد اتخذه غسان جديد دون أخذ رأي الحزب، كما اتهم أحد قادة الحزب وهو عصام المحايري من أن بعض أعضاء الحزب ممن خانوا مبادئ الحزب، هم متورطين في اغتيال المالكي وأنه يشجبها( ) .
وصعد حزب البعث بعد مقتل المالكي في 22 إبريل 1954 حملته على الحزب القومي السوري، مدعياً أنه يخطط للاستيلاء على السلطة وأنه يسعى لإقامة الديكتاتورية العسكرية، وأنه عميل للغرب، فمنعته السلطات في سوريا، وصادرت أملاكه بموجب المرسوم رقم /7 مايو 1955/، وقدم للمحاكمة 75 شخصية مدنية و 25 ضابطاً عسكرياً، وحكم بالإعدام على منفذي العملية وإتهم آخرون حيث حكم بالإعدام على غسان جديد، وبديع مخوف، ويونس عبدالرحيم، وفؤاد جديد، وعبدالمنعم الدبوسي( )، وبعد ذلك انسحب صلاح جديد من الحزب، وكون مع بعض الضباط إبان الوحدة ما سمي باللجنة العسكرية البعثية حيث صار عضواً فيها، ثم أصبح قائدها بعد انقلاب 18 يوليو1963 وأصبح يبث بسموم الطائفية في الجيش إلى أن سيطر على الحكم في عام 1966، وحول بذلك حزب البعث لصالح طائفته.
وقد اشترك الحزب في عملية التيه في أكتوبر 1956 للإطاحة بالنظام، وكان من أهم رموزه صلاح الشيشكلي وجورج عبدالمسيح، حيث كان يعارض التوجهات الشيوعية للنظام، والتقارب مع مصر والابتعاد عن العراق، لكن أدى فشل هذه العملية إلى سيطرة الحوراني وخالد العظم، وعبدالحميد السراج، وخالد بكداش على الحكم، وبعد انقلاب عفيف البرزي عام 1958، رفض الحزب الوحدة السورية المصرية، فقال في جريدته النهار بتاريخ 21 فبراير 1958، " إن الوحدة بين مصر وسوريا، اصطناعية، ووضع الشام المتردي هو الذي أنتج هذه الوحدة، ولن يستطيع البعثيون أن يجدوا فيما أقدموا عليه إنقاذاً لهم"( ) .
وظل المكتب الثاني خلال حقبة ما بعد الشيشكلي وحتى الوحدة يدفع مبلغ 300 ألف ليرة سورية شهرياً، لتقوية ونشر دعاية مناهضة للحزب القومي السوري، رغم انتقال مقر الحزب إلى لبنان بعد مقتل المالكي، لكن ظل له مؤيدين في سوريا، خاصة أن قادته انتقلوا إلى لبنان، وأخذوا يبثون دعواهم ضد نظام الوحدة الذي ساهم في تخريب الاقتصاد السوري والعلاقات السورية مع المجال الحيوي لها( )، لكن بعد الانفصال عاد الحزب القومي السوري إلى نشاطه في سوريا إلى نشاطه في سوريا وفاز عدد من أعضائه في البرلمان ومنهم عصام المحايري، خاصة بعد ارتفاع الآمال بالوحدة السورية العراقية عقب لقاء الرئيس ناظم القدسي مع الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم، لكن انقلابي البعث في كل من سوريا والعراق أعاق ذلك، واتخذ النظام الجديد قراراً بمنع الأحزاب، وما يؤكد أن صلاح جديد وزمرته كانوا أعداء للحزب القومي السوري أنه لم يسمح به على الإطلاق.
6- حزب البعث العربي الاشتراكي :
تشكل في 7 إبريل 1947 حيث عقد مؤتمره التأسيسي برئاسة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وحدد أهدافه بـ [ وحدة حرية اشتراكية ]، ويقول هذا الحزب بأنه حزب قومي وأن شعاره هو أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وأن أهدافه على حسب قوله هي الإيمان بالقومية العربية ووحدة الأمة العربية وحريتها وأن لهذه الأمة شخصيتها الحية القابلة للتجدد والانبعاث ويتميز انبعاثها مع مدى حرية الفرد ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية، وأن للبلاد رسالة خالدة تظهر بأشكال متجددة، ومتكاملة في مراحل التاريخ المختلفة، وهي ترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم، كما أن الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، والاشتراكية ضرورية لأنها من صميم القومية العربية فهي تحقق للعرب إمكاناتهم على أن تكون مستمدة من روح العرب وحاجاتهم الاجتماعية ونهضتهم الحديثة، وضرورة إيجاد نظام اقتصادي عادل ومعقول يحول دون الأحقاد والنزاعات الداخلية، ودون استثمار طبقة لأخرى، بحيث تكون الاشتراكية خادمة للقومية العربية، وعنصراً هاماً من عناصرها، كما أنه حزب انقلابي لا يدعو للإصلاح والتطور كوسيلة لتصحيح الأوضاع الفاسدة في البلاد ، بل بالنضال لتحقيق الانقلاب الشامل ( العسكري، الاقتصادي، الاجتماعي ....) ( ) .
وقد توافقت أيديولوجية الحزب العربي الاشتراكي برئاسة أكرم الحوراني الذي كان عضواً في الحزب القومي السوري وحزب الشباب في نفس الوقت، ثم ترك الحزب القومي السوري كما ذكر سابقاً، في أعقاب انقلاب سامي الحناوي ودعواته الوحدوية مع العراق، فشكل عام 1951، الحزب العربي الاشتراكي الذي التحم مع حزب البعث العربي برئاسة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، تحت راية حزب واحد سمي حزب البعث العربي الاشتراكي ، عام 1952 في لبنان، ويتميز الحوراني بعدة سمات جعلته الشخصية الأولى في إثارة عدم الاستقرار السياسي في سوريا قبل انقلاب 1966 بقيادة صلاح جديد( )، ومن هذه السمات تشكيكه في رموز الاستقلال السوري والوطنية السورية، فكل من يعارض أو لا يؤيد أفكاره هو خائن أو عميل أو مرتشي بنظره، ولم يسلم من عسفه سوى أتباعه المقربين( )، وقد وصفته السفارة الأمريكية في دمشق في تقرير لها بأنه : "انتهازي، صاحب الفتنة، متعطش للسلطة، معد انقلابات، متآمر على النظام" ( ) ، كما يقول أحد أتباعه عنه وهو نخلة كلاس : "طوال عمره النيابي، فإن الحوراني لم يحظ بأكثرية الأصوات في المدينة" وهذا يدل على أن قوته فقط في الريف، كما قال عنه باتريك سيل : "الحوراني لا مبدأ له، يتسم بالعدوانية من أجل السلطة" ويقول عنه أنتوني ناتنج :"لم يكن صاحب مباديء أو ولاءات راسخة، بل هدفه أن يكون مع الجانب الفائز دائماً، وكان يعتمد على الجيش في أي تغيير سياسي في سوريا، حيث كانت علاقته بالجيش منذ 1941" ( ) وهذا ما جعل حزب البعث حزباً تآمرياً قبل كل شيء( ).
وتعتبر الفترة ما بين انفصال الحوراني عن الحزب القومي السوري عام 1949 والتحامه بعد ذلك عام 1951 بالبعث العربي، فترة تتبع بشكل غير مباشر حزب البعث العربي، كون الزعماء الثلاث الحوراني والعفلق والبيطار كانوا ذوي أهداف متناسقة في مجال الحياة السياسية خلال جل فترة الدراسة، وقد تميز البعث بالتناقض بين دستوره ومقرراته وسياساته، فعلى سبيل المثال دعى إلى وحدة اتحادية تستند إلى واقع الفوارق الإقليمية، لكنه أصدر أحكاماً تؤدي إلى زيادة الفوارق الإقليمية وتعميقها، وهذا ما يفسر سياسته منذ نشأته وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما أعلن مجلس النواب الليبي موافقته على قانون دمج ولايات ليبيا الثلاثة، "طرابلس، وبرقة، وفزان"، معاً ضمن دولة مركزية في إبريل 1963، ندد حزب البعث بذلك وقالت صحيفة البعث في عددها الـ 45 بتاريخ 15 إبريل 1963 "ليبيا تعود القهقري للمركزية"( ) فالبعث تمنى ألا يحصل اندماج على أساس بقاء كل جزء له سلطاته الخاصة، معتبراً أن توحيد ليبيا مركزياً هو تقهقراً إلى الوراء، وهذا يفسر معاداته لوحدة سوريا والعراق فيما يسمى بمشروع الهلال الخصيب، ووحدتها مع الأردن فيما يسمى بمشروع سوريا الكبرى، وهو الذي ندد بقرار عبدالكريم قاسم ضم الكويت للعراق عقب استقلالها عن بريطانيا عام 1960 ، ودعمه لحركة ظفار المنادية بالانفصال عن سلطنة عمان، كما أن قادة البعث تميزوا في كل فتراتهم بالطعن في بعضهم البعض متهمين بعضهم بالعمالة للخارج( )، وتميزوا بالفلسفة الغامضة البعيدة عن الموضوعية، والتي لا تحمل أي استراتيجية علمية لكيفية تحقيق الأهداف، إضافة لاحتقارهم للآخرين ممن ليسوا بعثيين، ونعتهم بالخيانة ( ) ، زد على ذلك الانفصال الدائم لأجنحة البعث، مكوناً على الدوام أجنحة متنافرة، مثل جناح عفلق الخيالي الفلسفي الغيبي، وجناح الحوراني الانتهازي الميكافيللي اللاأخلاقي، وجناح صالح السعدي الاندفاعي، وجناح الركابي الدموي، وجناح صلاح البيطار الإصلاحي، ثم انقسامه إلى جناحين يميني عراقي ويساري سوري واليسار السوري انقسم لتيارين يمين اليسار، ويسار اليسار، وهكذا... وكل واحد لا يعترف بشرعية الآخر( ).
ومؤسسي البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار، كانا في باريس بين (1929 – 1934)، يدرسان هناك وقد انتسبا للحزب الشيوعي الفرنسي، وكانا متأثرين بالنزعة الفردية، وعدم الاكتراث بالمبادئ الأخلاقية( )، وبرنامجهم لا يحوي أي ذكر للعقيدة الدينية وخاصة الإسلام الذي كان له الدور الأكبر في بعث الأمة العربية من الانحطاط إلى السيطرة العالمية( )، كما يتسم بتجاهله وجود أي قومية أخرى غير القومية العربية في المجتمع، فهو يعتبر أن الأكراد من أصول عربية على غرار دعوة أتاتورك أن الأكراد من أصول تركية( )، ومنذ نشأته حتى توليه الحكم لم يكن يتجاوز عدد أعضائه 200 عضو أكثرهم من الطلاب( )، وتقول المادة الحادية عشرة من دستوره: "يجلي عن الوطن العربي كل داع إلى تكتل عنصري يناهض العرب أو منضم إليه"( )وحول استراتيجية البعث وعلاقته مع الآخرين يقول ميشيل عفلق: " إن مقاومة الأفكار الهدامة لا تقتصر على مناقشتها، ودحضها، بل تملي تصفية المؤمنين بها والداعين إليها"( ) .
لذلك لم يتقبل الشعب السوري حزب البعث ونفر منه، فلم ينتسب إليه سوى طلاب الأقليات ، ولم تكن تتجاوز أعمارهم الثلاثين، أي أن معظمهم غير ناضج سياسياً ( )، وقد بدأ البعث بتهجمه على نظام الرئيس شكري القوتلي، واتهامه بالرجعية والتهجم عليه بأفظع التهم ثم شدد هجومه قبل انقلاب حسني الزعيم، مما حذا بالنظام إلى اعتقال ميشيل عفلق وسجنه في20 سبتمبر 1948 ثم اشترك البعث في انقلاب حسني الزعيم من خلال التمهيد للانقلاب وقد جعل الرئيس حسني الزعيم، زعيم البعث ميشيل عفلق، أحد مستشاريه( )، ثم أصدر البعث بياناً جاء فيه: " إن الشعب العربي في سوريا، بل وفي أقطار العرب، لا يقنع من الانقلاب أن يكون نهاية عهد أسود، فحسب، بل يريد أن يجد فيه نقطة انطلاق نحو حياة جديدة وديمقراطية" ( ).
لكن بسبب تفضيل حسني الزعيم للأجانب وتقربه من الغرب، وانبهاره به، واتباعه أساليب التغريب، مما ساهم في وجود فجوة بينه وبين البعث ثم اتهمه ( ) بعدم احترام الدستور، وكبت الحريات، وإلغاء الأحزاب، وتوقيع اتفاقيتي التابلاين والنقد مع الغرب، وأصدر بياناً حول ذلك جاء فيه( ):
1- عدم شرعية أي عقد أبرم في هذه الفترة، ولم يكن صادراً عن السلطة التشريعية المنتخبة.
2- معارضته لأي دستور لا يصدر عن مجلس تأسيسي منتخب انتخاباً حراً.
3- مطالبته بتشكيل حكومة ترضى عنها الأحزاب التي مثلت المعارضة في العهد السابق.
مما حذا بالرئيس حسني الزعيم إلى سجن ميشيل عفلق وبعض البعثيين، فقام ميشيل عفلق ببعث رسالة لحسني الزعيم يستجديه فيها ويقرر اعتزال العمل السياسي، معتبر نظام حسني الزعيم هو النظام الأمثل، كما طالب أعضاء الحزب بالانصياع لأوامره وقراراته، كونه يمثل المنهج الأمثل، وبعد انقلاب سامي الحناوي، وإشراقة ضوء الوحدة مع العراق، عارض البعث هذه الوحدة ( )، بحجة تمسكه بالنظام الجمهوري، بالرغم أن دستور البعث عام 1947 قال بالنظام الدستوري النيابي، ولم يعين شكل الحكم، باعتبار أن الوحدة ترتفع على شكل الحكم، ثم بدأ يقدم شروطاً تجعل الوحدة مستحيلة، منها تحقيق الاشتراكية، وإزالة الإقطاع، وتعديل المعاهدة العراقية البريطانية، ولم يدرك البعث أن النظام الجمهوري إذا كان ديكتاتورياً أشد على الشعب من النظام الملكي، كما أن النظام الملكي، إن كان دستورياً وبرلمانياً، أفضل بكثير من نظام جمهوري لا تحدد فيه سلطة الحاكم، وفق برلمان منتخباً انتخاباً حراً، وتبقى الوحدة بين قطرين شقيقين ترتفع وتسمو على أي شكل للحكم لأن الشعب سيبقى ولكن النظام لا يستمر إلى الأبد، وفي ذلك يقول برنارد لويس في كتابه (العرب والشرق الأوسط): " النظام الجمهوري يعني في الشرق الأوسط، دولة لا يحكمها ملك ولا صلة لاصطلاح الجمهورية بالطريقة التي وصل بها رئيس الدولة إلى منصب الرئاسة، ولا بالطريقة التي يخرج منها، ولا علاقة لكلمة جمهورية بنظام حكم تمثيلي نيابي ولا بديمقراطية نيابية"( ) .
ثم عارض البعث مع الحوراني مسودة الدستور الجديد في ديسمبر 1949، بحجة أن النص لم يحدد أن يكون رئيس الدولة هو رئيساً للجمهورية ووصفه المشروع بأنه، رجعي يهدف لوصول وصي العراق عبدالإله إلى عرش سوريا، ثم شكل الحوراني لجنة برلمانية سماها اللجنة البرلمانية الجمهورية، لمعارضة الوحدة مع العراق( ) ، وكان للحوراني الدور الأكبر لتحريض الضباط ضد قائد الجيش سامي الحناوي ولدعم الانقلاب الأول للشيشكلي، لكن الحكومات التي أتت ما بين انقلابي الشيشكلي الأول والثاني كان معظمها يسعى للوحدة مع العراق لذلك سعى الحوراني إلى إثارة عدم الاستقرار فيها، ففي 26 يوليو 1950 ألقيت قنبلة يدوية على مبنى البرلمان ذو الأكثرية من حزب الشعب المؤيد للوحدة مع العراق( ) ، خاصة بعد تشكيل حكومة ناظم القدسي التي لم يدخلها الحوراني، وبعد فشل الحوراني في تدبير انقلاب عسكري في مايو 1950، عمل من خلال أتباعه على إلقاء قنبلة في دار الحكومة ثم دار البرلمان، ثم حدث انفجار في مستودع النفط للشركة البريطانية العراقية، في يوليو 1950 قتل على إثره حوالي 100 شخص سوري، فسقطت حكومة خالد العظم( )، ثم عمل على إثارة الفتنة بين الحزبين الرئيسيين الشعب والوطني، وعندما صرح رئيس الحكومة حسن الحكيم في 4 نوفمبر 1950، بأنه لن يجاري الشارع ولن يعرض سوريا للخطر من أجل شعبية رخيصة، مما حذا بالحوراني إلى تنظيم مظاهرات ضد الحكومة نعتت رئيسها بكلمات نابية، وقد أيده حزب البعث على ذلك ضد البرلمان عام 1950 على أساس أنه امتداداً لحزب الشعب الرجعي بنظرهم، وبعد توتر العلاقات بين الحوراني والشيشكلي بعد انقلابه الثاني عام 1951، بالرغم من أنه أيد الانقلاب في بداية عهده، لكن بسبب تفرد الشيشكلي بالحكم وإبعاده للحوراني عن المسرح السياسي، عمل الحوراني على إسقاط الشيشكلي، وقد أصدر البعث - بعد انتخاب الشيشكلي رئيساً للجمهورية، وتشكيل برلمان جديد – بياناً جاء فيه:( )
- ضرورة إزاحة صاحب الانقلاب وإقصاء الجيش عن السياسة.
- محاربة كل محاولة لعقد الصلح مع إسرائيل.
- إقامة حكم نيابي شعبي سليم.
- مقاومة كل ارتباط مع الاستعمار الغربي والصهيوني، والإصرار لإبقاء البلاد العربية على الحياد في الصراع الدولي الناشيء.
وقد أيد الحوراني ضرورة الاستعانة بالجيش للسيطرة على الحكم، فكان هو حلقة الوصل بين ضباط الانقلاب ضد الشيشكلي وحزب البعث للإطاحة بالشيشكلي( ) ، وكان البعث قد قام قبلاً بتحريض طلاب الجامعة والمدارس الثانوية، في ديسمبر 1953 لإحداث إضرابات ومظاهرات، رداً على عرض مسرحية في مدرسة أمريكية في حلب تؤذي المشاعر العربية، فقمعها النظام بعنف ثم أضرب المحامون وأرسلوا برقيات احتجاج للرئيس أديب الشيشكلي بسبب أعمال الحكومة ضد الطلاب، ثم وزعت منشورات في ديسمبر 1954 في جميع المدن السورية، تدعو لإسقاط الشيشكلي( )، ويؤكد الحوراني أنه لولا اندماج حزب البعث العربي مع حزب العربي الاشتراكي خلال حقبة الشيشكلي، لكان حزب البعث قد انتهى بشكل نهائي، حيث هرب قادة البعث إلى لبنان ودمجوا الحزبين ضمن حزب واحد، وأخذت الصحف اللبنانية تنشر مقالاتهم التي يتهمون فيها الشيشكلي ببيع سوريا وفلسطين، وأنه رمز الديكتاتورية والفساد، كما أخذوا يبعثون أتباعهم لضرب مكاتب حركة التحرير، وهي الحزب الذي شكله الشيشكلي ليتخذ منه متكاءاً لحكمه، وأخذوا يلقون القنابل، ويثيرون عدم الاستقرار في نظام الشيشكلي( ).
وبعد سقوط نظام الشيشكلي في فبراير 1954 عمل البعث على محاولة السيطرة على الحكم، فحاول جعل الحوراني وزيراً للداخلية في حكومة صبري العسلي، لكن رفض الحزب الوطني ذلك( )، مما حذا بالبعث أن يتهم الحكومة بالرجعية وأن الانتخابات التي ستجريها ستكون غير شرعية، ونظم مظاهرات ضدها وضد أي تقارب لها مع العراق، فسقطت الحكومة، وبسبب رغبة الحوراني في استمرار حال عدم الاستقرار الحكومي، رفض تكليف الرئيس هاشم الأتاسي له بتشكيل الحكومة على أساس أن البعث لايمكنه أن يشكل الأغلبية فيها( )، وقد اعترف الحوراني بأن سبب إسقاط البعث لحكومة صبري العسلي عام 1954 هو بسبب تشويهها للبعث على أنه ملحد وكافر وذلك من خلال مؤيديها، فكانت استراتيجية البعث لإسقاطها هو بنعت الحزبين الرئيسيين بالرجعية، وإثارة الفتنة بينهما( ).
ثم عمل البعث لإبعاد شوكت شقير عن قيادة الأركان كونه كان حيادياً ولم يدعمهم، ورفضه لإعدام أعضاء الحزب القومي السوري( )، ثم أتى البعث بقائد أركان جديد هو توفيق نظام الدين، والذي لا طموح سياسي له، وأخذ يدعو للتقارب مع مصر، وحث طلاب الجامعة لتوقيع عريضة وقع عليها 3000 طالب وقدمت إلى البرمان، حيث طالبت هذه الوثيقة حكومة صبري العسلي في يونيو 1956، بالوحدة مع مصر، خاصة بعد أن ساهم البعث في تدمير الحزب القومي السوري بعد مقتل عدنان المالكي، حيث وجه التهم له بالعمالة والخيانة، وكانت المحاكمات التي أجريت ضد أعضاء الحزب القومي السوري من وحي البعث وإلهامه، خاصة بالذين ليس لهم دعوى بذلك( ) ، ثم عمل على إسقاط حكومة سعيد الغزي في يونيو 1956 حيث نظم الطلاب وحثهم على مهاجمة وزارة الاقتصاد، احتجاجاً على تصدير الحبوب لفرنسا، ولم ينسحب الطلاب حتى استقالت الحكومة، ورغم ذلك لم يستطع البعث الوصول إلى السلطة ولم يستطع أن يكسب تأييداً جماهيرياً بين فئات الشعب السوري، لكنه استطاع إسقاط الحكومات ( العسلي، الغزي، الخوري ) عامي 1954- 1955، تحت صراع اليمين واليسار، فكان التقارب مع مصر والوحدة معها استراتيجية من استراتيجيات البعث للسيطرة على الحكم في سوريا( ) بعد فشله في انتخابات 1954 حيث حصل التيار اليميني (التعاوني الاشتراكي والقومي السوري والإخوان المسلمين والشعب والوطني ) على 63 مقعداً، بينما حصل اليسار على 23 مقعداً ويمثله ( البعث والشيوعي ) أما المستقلين فحصلوا على 64 مقعداً( ) ، وهذا يفسر فوز شكري القوتلي الذي يمثل اليمين على مرشح اليسار المستقل خالد العظم، بأغلبية أكثر من ثلثي أعضاء البرلمان، وهذا مما أثار البعث، الذي سعى إلى إسقاط الرئيس شكري القوتلي( ) ، فعمل على تمزيق التحالف اليميني الذي يمثله الشعب والوطني والكتلة الحرة في البرلمان بزعامة الدكتور منير العجلاني( )، فتحالف البعث مع زعيم الكتلة اليسارية خالد العظم، ثم أقنع خالد العظم بأن يسعى لجذب عضوين من الحزب الوطني والانضمام للبعث على أساس تأييده لهم، وبنتيجة ذلك سقطت حكومة سعيد الغزي المحايدة، ثم عمل نواب البعث على الانسحاب من البرلمان بحجة رفضهم لقانون العشائر على اعتبار أنه قانون رجعي، مما حذا بالبرلمان إلى تأجيل البت في هذا الموضوع( )، ورغم كل هذه الجهود ظل اليمين هو المسيطر على الساحة الشعبية مما حذا بالبعث إلى العمل من أجل إقرار الانقلابات العسكرية تمهيداً لأي انقلاب جديد يقومون به، فقد قال صلاح الدين البيطار في إحدى جلسات البرلمان عام 1954:
" متى كان الحكم المستقر مبنياً على أكثرية نيابية، الحكم أيها السادة يقوم على أكثرية شعبية لا أكثرية برلمانية، وإن الانقلابات العسكرية التي حدثت، وكان البرلمان الوزاري قد هاجمها، يجب أن نعلم جميعاً بأنها ليست فقط من فعل المغامرين، وأنها لم تنشأ عن شهوة أو جنون المغامر، لأن أي مغامر كان لا يمكن أن يقلب الأوضاع ما لم يجد في الشعب تجاوباً، وما لم يجد رغبة في التخلص من الحكم الذي أخذ على عاتقه أمر التخلص منه، والانقلاب ظاهرة سلبية للحكم الديمقراطي الأجوف الذي لا نزال نصر على إبقاء البلاد فيه، ليس فيما أقول أية مبالغة، فمن منا لم ينتعش عندما أقدم حسني الزعيم على انقلابه "( )
وقد استغل قادة البعث العدوان الثلاثي على مصر في أغسطس 1956 بعدما أمم عبدالناصر قناة السويس في 26 يوليو 1956، ودعوته للوحدة مع سوريا، لتوثيق العلاقات مع السفير المصري محمود رياض، والابتعاد عن الشيوعية قليلاً( )، وإيقاف الانتخابات البلدية التي كان من المفترض أن تجرى في نوفمبر 1957، وكل ذلك تمهيداً للوحدة مع مصر التي كان البعث يأمل منها الحصول على السلطة في سوريا، بعد فشل عملية التيه التي قادها الشيشكلي عام 1956 لإسقاط النظام، وبالتالي أبعد بموجبها بعض أعضاء البرلمان لتورطهم فيها وكلهم من مؤيدي التقارب مع العراق، وعلى هذا الأساس جرت الانتخابات التكميلية، وعمل الحوراني على الاتفاق مع الشيخ أحمد كفتارو الذي كان يطمح لتولي مركز الإفتاء العام في سوريا، على تأييد مرشح البعث رياض المالكي في هذه الانتخابات ضد مرشح الإخوان المسلمين الدكتور مصطفى السباعي( ).
وبسبب سياسة البعث التقارب مع مصر عام 1956 بعد تخريبه لأنابيب النفط التابعة للشركة البريطانية العراقية المارة بسوريا، وتنظيمه المظاهرات والإضرابات لعمال الشركات الأجنبية السورية، فأدى إلى شل حركة البلاد الاقتصادية، وأنسحب بعض أعضاء حزب البعث منه، وحدثت اشتباكات في السويداء في أغسطس عام 1956 بين أعضاء الحزب القومي السوري بقيادة زيد الأطرش، مع أعضاء من حزب البعث بقيادة قريبه منصور الأطرش ( )، وبسبب زيادة ضغط البعث على البرلمان والحكومة عام 1957، من أجل الوحدة مع مصر، قرر رئيس الحكومة صبري العسلي، الذهاب لمصر في 5 يونيو 1957 لبحث مشروع الوحدة، على أسس مدروسة ، وبعد يومين صرح رئيس البرلمان أكرم الحوراني –حيث وصل لمنصبه بفعل تأييد الجيش- في صحيفة البعث قائلاً: " إن سوريا في خطر وعليها أن تسعى للوحدة مع مصر، لدعم قدرة البلاد في مواجهة الهجوم الوشيك"( ) .
وبسبب وصول الحوراني لرئاسة البرلمان في 14 أكتوبر 1957 رغم أن حزبه لا يمثل الأغلبية، مما حذا بزعيم حزب الأغلبية البرلمانية (حزب الشعب) رشدي الكيخيا، إلى الاستقالة من البرلمان، لكن لم تقبل استقالته، وظلت معلقة( )، وهكذا سيطر اليسار على أركان الدولة مع أنهم لا يشكلون سوى أقلية برلمانية وشعبية وعسكرية، فأصبح الحوراني رئيساً للبرلمان، وصلاح الدين البيطار وزيراً للخارجية، وعفيف البرزي قائداً للأركان، وخالد العظم رئيساً للكتلة اليسارية داخل البرلمان ووزيراً للدفاع، وعبدالحميد السراج رئيساً للمكتب الثاني، وبدأ التحالف اليساري يتصدع بنتيجة الخلافات بين حزبي البعث والشيوعي على إجراء الانتخابات البلدية، وأيضاً خلافاته مع خالد العظم لنفس السبب( )، أيضاً انقسام البعث ضمنياً إلى تيارين تيار عفلق والبيطار وتيار الحوراني( ).
وفي بداية الوحدة التي قامت بفعل تحالف البعث مع السفير محمود المصري رياض والملحق العسكري المصري في السفارة المصرية، عبدالمحسن أبو النور مع قائد الأركان عفيف البرزي وفرضها على الرئيس شكري القوتلي عام 1958، وحل قادة البعث الحزب دون التشاور مع أعضائه، رغم معرفتهم المسبقة أن عبدالناصر سينقل تجربة مصر إلى سوريا بمؤسساته المعروفة، لكن طموحهم لاستلام الحكم في سوريا كان فوق كل شيء، على أساس ظنهم أن عبدالناصر سيوكل إليهم حكم الإقليم السوري، أو سيعهد إليهم برئاسة الاتحاد القومي، كما أنه لولا الوحدة لتمزق حزب البعث العربي الاشتراكي ولانتهى من الساحة السياسية بعد السياسية العقيمة التي نتجت بسبب تدخلاته في الحياة السياسية السورية خلال هذه الفترة مما جعل عدم تأييده من قبل جميع فئات الشعب السوري( )، وبعد الوحدة عمل عبدالناصر على إعطاء البعث خمسة حقائب وزارية وجعل أحدهم وهو أكرم الحوراني نائباً له على الدور الذي قاموا به لإحداث الوحدة بالشروط المصرية، ثم عمل النظام الجديد على نقل تجربة الاتحاد القومي إلى سوريا فنص دستور 1958: " يكون المواطنون اتحادا قومياً للعمل على تحقيق الأهداف القومية ولحث الجهود لبناء الأمة بناءاً سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، وتبين طريقة تكوين هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية "( ) ، وقد أريد من هذا الاتحاد أن يكون بديلاً للأحزاب على غرار حركة التحرير في عهد الشيشكلي، لكنه كان يخضع لمقررات الرئيس، وكان الغرض من إنشائه هو نفي وجود معارضة للحكم، على أساس أنه يضم جميع الطبقات والفئات في المجتمع، فهو يمثل الإدارة المباشرة بين الحاكم والمحكوم، وهو مفتوح للجميع، وقد حصل البعث في انتخابات الاتحاد القومي عام 1959 على 3% من الأصوات فقط ( ) ، وقبل أن يعلن عبدالناصر مرسوم حل الأحزاب والمنظمات السياسية في سوريا في مارس 1958، كان حزب البعث قد نقل مقر قيادته إلى بيروت وأخذ يصدر من هناك صحيفة الصحيفة، وقد انقسم البعث خلال الوحدة إلى ثلاث تيارات هي : ( )
1- الناصريون الذين اعتبروا أن الوحدة هي غاية الحزب.
2- المستقلون عن الحزب وهم الذين تركوا الحزب.
3- الرافضون لقرار حل الحزب، الذين تشكل من بعضهم اللجنة العسكرية البعثية* بسبب إبعاد أعضائها إلى مصر دون عمل ودون مراكز على عكس المصريين الذين جاءوا إلى سوريا، كما عمل صلاح الدين البيطار على إعادة تشكيل الحزب في سوريا بشكل سري عام 1960، والدليل على أن البعث لم يحل نفسه ، أنه قد فصل عبدالله الريماوي من الحزب على أساس علاقته بعبدالحميد السراج، في المؤتمر القومي الثالث، وكان يشغل الريماوي رئاسة القيادة القطرية في الأردن، كما فصل الأمين القطري للحزب في العراق، فؤاد الركابي الذي قام بمحاولة اغتيال لعبدالكريم قاسم، حيث ادعت القيادة عدم إقرارها لذلك ففصلته، وكلاهما فصلا خلال عهد الوحدة( ).
وبسبب عدم إتاحة الفرصة للبعثيين أن تكون لهم اليد الطولى في النظام الجديد، حيث ضعفت قوتهم العسكرية نتيجة نقل عبدالناصر لمعظمهم إلى المناصب المدنية، مما حذا بالبعث إلى إثارة عدم الاستقرار السياسي، بفضح الأخطاء والإجراءات التعسفية للنظام وإثارة النزعة القطرية ما دفع بعبدالناصر أن يتهجم عليهم وقال بأنه سيدوسهم بالأقدام( )، وكان استياء ميشيل عفلق من عبدالناصر بسبب أن زيارته لمصر لم تقابل بحرارة، إضافة إلى اختلافه مع عبدالناصر حول مشروع تحويل نهر الأردن، لذلك عمل على محاولة تدبير انقلاب عسكري ضده من خلال اتفاقه مع مساعد المشير عبدالحكيم عامر وهو العقيد داوود عويس، لكن الخطة كشفت فهرب عفلق إلى لبنان ، ولم يرجع إلا بعد سقوط الوحدة إثر انقلاب عبدالكريم النحلاوي عام 1961، وكان قبل ذلك قد خطط مصطفى حمدون الذي كان أحد أتباع أكرم الحوراني، في نهاية عام 1958 للإطاحة بعبدالناصر، لكن الحوراني رفض ذلك، حيث اقترح الحوراني والبيطار والعفلق على عبدالناصر تشكيل قيادة جماعية، تتألف منهم لأجل حكم الإقليم السوري، لكن عبدالناصر أجابهم: " ليكن معلوماً بأنه لا يمكن تغيير أسلوبي في العمل ..... ولن يسمح لأحد يتجاوز حدوده ....... ومن لا يعجبه فليتقدم بالاستقالة "( ) ، كما كانت نتائج الاتحاد القومي وسقوط البعث فيها بحصوله على أقل النسب، ضمن الانتخابات الفردية، حيث أتهم قادة البعث نظام الوحدة بتزوير الانتخابات( )، كل هذه الأشياء جعلت الوزراء البعثيون يستقيلون من الحكومة المركزية والحكومة القطرية ( الإقليمية )** وهم (عبدالغني قنوت، مصطفى حمدون، جمال الصوفي، صلاح البيطار، رياض المالكي)، ونائبه أكرم الحوراني ( ) الذي كان يلح على عبدالناصر، لعدم إصدار عفو عن السجناء السياسيين السوريين الذين حكموا قبل الوحدة، وهذا ما أكده عبدالناصر نفسه، وعلى هذا الأساس كانت الوحدة ( ) حركة وصولية لإنقاذ الوضع الداخلي لحزب البعث في سوريا بسبب فشله في إكتساب ثقة الجماهير التي أخذت تقاومه قبل الوحدة، ولولا مؤامرة البعث على النظام الديمقراطي في سوريا لما قبل أي حزب أو سياسي بشروط مصر في الوحدة على الاطلاق، فكان البعث سبباً في توريط سوريا بوحدة غير مدروسة هيمنت مصر خلالها على سوريا بشكل كان أشبه بإحتلال دولة لأخرى، وهذا ما حذا بقادة البعث أن يؤيدوا حركة المقدم عبدالكريم النحلاوي في سبتمبر 1961، فوقع الحوراني والبيطار على وثيقة الانفصال وقال عفلق في ذلك "الانفصال شر لابد منه"( ) وكان هناك تنسيق مع قادة الانقلاب( ) وجرت انتخابات برلمانية في سوريا عام 1961، وسقط صلاح الدين البيطار، أمام منافسه عضو الحزب القومي السوري عصام المحايري، مما حذا بالبيطار إلى الإساءة لأهل مدينة دمشق واتهام الانتخابات بأنها مزورة( )، وأخذ البعث يبث الدعايات والمقالات والمنشورات التي تندد بالنظام والحكومات المتعاقبة (بشير العظمة، خالد العظم)، وأصبح البعث يهاجم كل الذين أيدوا الانفصال وخاصة الرئيس ناظم القدسي، رغم أن معظم البعثيين قد أيدوا الانفصال ، وتشكل تيار من خلال البعث لكنه انفصل عنه سمي بالناصريون ( )، الذين دعوا لإعادة الوحدة مع مصر على ما كانت عليه، وقادوا المظاهرات ضد النظام.
وفي المؤتمر الخامس للحزب عام 1962 عمل الحوراني على إبعاد المحامين عن الحزب على أساس أنهم يخططون لإعادة بناء الحزب على أسس جديدة، مما حذا بقيادة الحزب لطرده من الحزب في 22 سبتمبر 1962( )، كما قرر تسليم صلاح جديد قيادة اللجنة العسكرية البعثية بدلاً من محمد عمران، وكان قائد لانقلاب قد سرح ثلاث وستين ضابطاً أكثرهم من جماعة الحوراني، والبعث، بشكل عام، ولم يعترض البرلمان على ذلك، وكان منهم حافظ الأسد، وصلاح جديد، وجاسم علوان، مما حذا بالضباط المسرحيين أن يعدوا العدة للإطاحة بالنظام على أن يكون قائدهم العقيد أمين الحافظ، لكن التحركات المشبوهة له، جعلت النظام يقرر نقله ملحقاً عسكرياً، إلى الأرجنتين، لكن ظل على علاقة معهم وينسق للانقلاب المزمع القيام به، وقد جرى تنسق بين البعث وعبدالناصر على الانقلاب عن طريق، أحد الناصريين وهو سامي الجندي، ووافق عبدالناصر على تنفيذ الانقلاب وعلى بيانه الأول قبل إذاعته، وهذا ما أحدث فيما بعد تمرد جاسم علوان في حلب وبدر الأعسر في حمص ولؤي الأتاسي في دير الزور عام 1962 عقب الانقلاب الثاني لعبدالكريم النحلاوي، والذي بنتيجته عقد مؤتمر حمص.
ورغم انقسام البعث أواخر عام 1962 والذي لم يكن يضم سوى 75 عضواً منهم 25 عضواً في القيادة، قبل انضمام اللجنة العسكرية للتنظيم، ليصبح بعد ذلك تيارين هما:( ) التيار اليميني وهو حليف القيادة القومية ويمثله محمد عمران، والتيار اليساري وهو حلف القيادة القطرية ويمثله صلاح جديد ، لكن كان هناك ثمة انقسامات أخرى موجودة هي: ( )
1- جماعة عفلق والبيطار.
2- جماعة الحوراني الذين سموا أنفسهم بالاشتراكيون العرب مشكلين حزباً جديداً.
3- جماعة الوحدويون الاشتراكيون وسموا أنفسهم بالناصريون على أساس ولاءهم لعبدالناصر.
4- جماعة سامي صوفان.
5- اللجنة العسكرية البعثية بقيادة محمد عمران.
6- الجماعات المتفرقة التي لم تحل نفسها أثناء الوحدة.
ثم عمل البعث الموالي للقيادة القومية على استقطاب العميد زياد الحريري، الذي كان قائداً لقوات الجبهة، والعقيد لؤي الأتاسي، الذي كان ملحقاً عسكرياً في الولايات المتحدة، فقام النظام باعتقال لؤي الأتاسي وزجه بالسجن، ثم استقطبوا العميد محمد الصوفي وكان يشتغل قائد اللواء الخامس، وخططوا لعمليات اغتيالات قبل وبعد الانقلاب، وتخوفاً منهم، من أتباع العقيد عبدالكلايم النحلاوي، عمدوا إلى استقطاب النحلاوي في 11 يناير 1963 واتفقوا معه على انقلاب يقوده هو، لكنهم تخلوا عنه، بل وأفشلوه من خلال تدخل زياد الحريري ضده، مما حذا أن تصبح جماعة النحلاوي في السجن، وبذلك ضمن البعث عدم وجود منافسين له في الجيش( ) ، وقد تواكب ذلك مع قيام الناصريين بإثارة الاضطرابات والمظاهرات قبيل انقلاب زياد الحريري في 8 مارس 1963، معلنين معارضتهم للانتخابات المفترض القيام بها في منتصف 1963 ( ) بعد أن أعلن رئيس الحكومة خالد العظم- بعد نيل حكومته ثقة البرلمان في سبتمبر 1962-، عن حل البرلمان القديم وإجراء انتخابات برلمانية جديدة خلال عام واحد، مع تعويض المالكين للأراضي وأصحاب المصالح الذين تضرروا بالتأميم والإصلاح الزراعي، لكن البعث والناصريين شنوا هجومهم عليها واعتبروها رجعية وضد الحركات الديمقراطية، مما حذا بالحكومات إلى منع نشاط حزب البعث ومنع صحيفته "البعث" من الصدور، وحكم على صلاح البيطار بالسجن لمدة شهر، كما منعت جريدة الوحدة الناطقة باسم الناصريين ذوي الأصول البعثية، وزادت مظاهرات البعث والناصريون مطابين بالوحدة الفورية، مما حذا بالنظام إلى اعتقال البعض منهم، وقد تواكب ذلك مع استقالة الوزراء الاشتراكيين الثلاث مع اثنين من الإخوان المسلمين وواحد من حزب الشعب، عقب انقلاب البعث في العراق( )، وكان ميشيل عفلق والحوراني على علم وتنسيق في هذا الانقلاب، حيث أكد ميشيل عفلق أن اللجنة العسكرية البعثية في سوريا مستعدة لمساعدة الانقلابيين، وأن انقلاب سوريا وشيك،كما أن التشكيلة الوزارية برئاسة البيطار موجودة( )، وبالفعل ما هو إلا شهر واحد حتى قام زياد الحريري بانقلابه مع الضباط الناصريين والمستقلين حيث كان زياد الحريري ولؤي الأتاسي الذي كان في السجن، وحدويان مستقلان، أما محمد الصوفي، وراشد القطني، وفواز محارب وجاسم علوان، ومحمد الجراح فناصريين، و كانوا أساس الانقلاب( ) ، أما ضباط البعث وخاصة اللجنة العسكرية فكان دورها ثانوياً، وقد استغل البعث الخلاف بين المستقلين المحايدين، والناصريين، فانضم أولاً للناصريين الذين انتصروا على المحايدين، ثم قاموا بعد ذلك بتصفية الناصريين إثر انقلاب جاسم علوان في 18 يوليو 1963، حيث فشل الانقلاب، وبذلك أبعد الناصريون والمحايدون المستقلون عن الحكم، وانفرد البعث بالسلطة، ثم انشق البعث إلى تيارين إحداهما يساري ويمثل القيادة القطرية برئاسة حمود الشوفي ويميني وتمثله القيادة القومية، وهذا الانقسام أدى لإتاحة الفرصة لسيطرة بعض الطائفيين من أتباع محمد عمران وصلاح جديد على بعض المراكز المهمة في الحزب والجيش ، على أساس أنهم يمثلون الطبقة الفلاحية، فتحالف هؤلاء بعد ذلك مع بعض ضباط الأقليات الأخرى لتنفيذ انقلاب 23 إبريل 1966، كما ظهرت مع انقلاب 8 مارس 1963 تيارات متعددة كل منها تدعي أحقيتها في قيادة المجتمع والدولة وهذه التيارات هي: ( )
1- القوميون العرب الذين نشأوا في أحضان الجامعة الأمريكية في بيروت التي استغلت عواطفهم لتحقيق مخططات الغرب.
2- الجبهة المتحدة التي تمشي مع التيار المنتصر دائماً.
3- الاتحاد الاشتراكي، وهم عملاء النظام المصري.
إضافة للبعث والناصريون الذين كان معظمهم من الطلاب وصف الضباط الذين لم يكتمل وعيهم السياسي أو الثقافي.
وبعد انقلابي البعث في العراق وسوريا أصدرت القيادة القومية لحزب البعث البيان التالي: " نريد أن نكون في سوريا والعراق الحزب الحاكم لا حزب الحاكم "( ) ، لكن الحوراني عارض النظام الجديد بقيادة حزبه الجديد ، مما حذا بالنظام إلى اعتقاله واتهامه بالجاسوسية.
وكان أول خلاف نشأ بين البعثيين والناصريين عام 1963 في حكومة صلاح البيطار الأولى، حيث كان الخلاف حول عدد المقاعد في الحكومة، فاندلعت المظاهرات ضد البعث ووصلت إلى القصر الجمهوري فقمعهم الرئيس لؤي الأتاسي( )، خاصة بعد أن أصدرت حكومة صلاح الدين البيطارعام 1963 حكماً على 140 مواطناً سورياً بالحرمان من الحقوق المدنية وال سياسية بتهمة مساهمتهم في انقلاب النحلاوي عام 1961 وأهمهم (عبدالكريم النحلاوي، أكرم الحوراني، معروف الدواليبي، مأمون الكزبري .....)( ) ، وعندما شكل سامي الجندي الحكومة في 10 مايو 1963، حدث الخلاف بن الناصريين والبعثيين على عدد المقاعد فسقطت الحكومة بعد ثلاثة أيام من تشكيلها، فعاد البعث وشكلها من خلال صلاح الدين البيطار، وأبعد عنها كل الناصريين، وشغل فيها أمين الحافظ منصب وزير الداخلية ونائب رئيس الحكومة( )، وكان هذا هو سبب انقلاب جاسم علوان في 18 يوليو 1963 ، والذي أتاح للبعث –بعد فشله- الانفراد في السلطة، ثم حاول البعث استقطاب زياد الحريري لضمه للبعث لكنه رفض، لذلك عملوا على بعثه بمهمة للخارج، وبعد خروجه، عملوا على تصفية مؤيديه، فحينما رجع سرحوه من الجيش، وقد أكد محمود رياض أن هدف قيادة البعث في سوريا والعراق كان الوحدة للتخلص من القوى الوحدوية والسيطرة عل كلا القطرين ( ) ، من خلال اعتمادهم أسلوب التصفية تجاه منافسيهم، وبسبب سياسة البعث بحق انقلابيي 18 يوليو 1963، وتنفيذ حكم الإعدام بحق ثلاثين ضابطاً، ندد الرئيس لؤي الأتاسي بذلك، مما حذا بنائبه أمين الحافظ للانقلاب عليه في27 يوليو 1963، وقد تميزت فترة حكم الرئيس أمين الحافظ بالاضطرابات فحدثت صدامات بين طلاب بعثيين وطلاب أكراد في حلب صيف 1964، ثم حدثت صدامات بين طلاب بعثيين وناصريين( )، حيث أصبحت كلمة بعثي في سوريا تعني عند الشعب السوري الوشاة وكتبة التقارير والجلادون والقتلة والخونة والمنافقين والانتهازيين، وأصبح الشعب في عذاب شديد وفقد القدرة على المقاومة بسبب تخوفه من هذا النظام وجبروته، فأي نقد يعني المعاناة والسجن والموت( )، لكن رغم ذلك حدثت مواجهات عديدة بين الشعب والنظام، ففي 7 فبراير 1964 قام طالب بعثي في حماه وكتب على جدار مدرسة عثمان الحوراني" لا حكم إلا للبعث "( )، فشتم طالب آخر البعث وكتب " لا حكم إلا لله "، فاعتقلت السلطات الطالب الآخر، وقام وزير التربية والتعليم شبلي العيسمي بنقل مدرسي الدين من المدرسة، فأضربت المدينة كلها، واشتركت في الإضراب جميع فئات المجتمع، فتدخل الجيش وضرب البيوت والمساجد، وقتل 40 شخص، ولم يتنهي القصف إلا بتدخل الرئيس أمين الحافظ في 16 نوفمبر 1964 وعلى إثر ذلك قال أمين الحافظ: " نحن نقول للمتآمرين ومن خلفهم، ما هي إلا أياماً قليلة حتى نسحقهم ومن معهم، وسيعلم المتآمرون أي منقلب ينقلبون "( ) .
وعلى إثر مشكلة حماه الأولى أعلنت دمشق وحلب وحمص واللاذقية وباقي المدن السورية، الإضراب العام، واستمر الإضراب ثلاثة أيام، فتدخل الحرس القومي بقيادة حمد عبيد وقتل 80 شخصاً في دمشق وحطم أبواب المخازن والحوانيت، وأصدر الرئيس أمين الحافظ خمسة مراسيم في 3 إبريل 1964 فيها الكثير من الظلم والعسف وإحالتهم إلى المحاكم العسكرية، مما حذا بالجبهة الوطنية الديمقراطية التي تشكلت لمعارضة حزب البعث بعد انقلابه وصرحت بما يلي: " إن حزب البعث قد خلق الفتنة الطائفية في البلاد، واستغل جيشه العقائدي بتهديم الجوامع على المصلين وسحق المواطنين الأشراف الذين كانوا دائماً حرباً على المستعمر"( ) .
كما عمل البعث السوري على رفض الوحدة العراقية السورية عام 1963 بعد التقارب السوري العراقي بحجة أنهم يريدون وحدة كلية لجميع الدول العربية، وكان ذلك وسيلة لتمييع قضية الوحدوية وإذابتها في مهدها، فكان لهم ما أرادوا عندما سقط البعث العراقي نهاية عام 1963( ) ، مما حذا برئيس الحرس القومي العراقي علي صالح السعدي إلى القول:" لقد جاء البعث إلى الحكم بقطار أمريكي"( ) ، فكان قبوله الاعتراف بالكويت وترسيم الحدود معها دليلاً على علاقة ذلك بالولايات المتحدة وبريطانيا، وبما أن حزب البعث من سماته الأساسية التناقض الداخلي فقد انقسم إلى 6 كتل متناقضة كل منها يعادي الآخر بطريقة غير مباشرة خلال حكم الرئيس أمين الحافظ وهذه الكتل هي: ( )
1- تكتل القيادة القومية ويمثلها عفلق والبيطار.
2- تكتل صلاح جديد الطائفي وقد أيده بعض الضباط من الأقليات الدينية مثل أحمد المير وعبدالكريم الجندي.
3- تكتل محمد عمران الطائفي العلوي، ويسعى ظاهرياً للوحدة مع مصر على أساس أنه ناصري.
4- تكتل القيادة القطرية ويمثلها نورالدين الأتاسي، ويوسف زعين، وإبراهيم ماخوس وهي مؤيدة لصلاح جديد الذي يتظاهر بالماركسية لتثبيت الطائفية في الحكم.
5- تكتل سليم حاطوم الطائفي الدرزي، ويمثله حمد عبيد، وفهد الشاعر، ومنصور الأطرش، وشبلي العسيمي.
6- تكتل أمين الحافظ الطائفي السني، لكنه يخضع لقرارات القيادة القومية.
وقد حاولت القيادة القطرية استدراج الرئيس أمين الحافظ إلى صفها، لكنه رفض ذلك، وقد طرد الأمين العام للقيادة القطرية لحزب البعث في سوريا حمود الشوفي، ورئيس الحرس القومي العراقي علي صالح السعدي، من الحزب في المؤتمر القومي السادس، ونعتوا بالرجعية والانتهازية( )، لكن ظل الرئيس أمين الحافظ يخضع لقرارات القيادة القومية، بينما صلاح جديد الذي عين قائداً للأركان بعد فشل انقلاب جاسم علوان، ظل يخضع للقيادة القطرية، وعلى ذلك رأى أمين الحافظ ضرورة عدم خوض أي معركة مع إسرائيل بدون الاستعداد عسكرياً ومادياً لذلك، في ظل عدم التوازن معها، لكن صلاح جديد أخذ يبعث فدائيين تابعين لمنظمة فتح الفلسطينية، للقيام بعمليات داخل إسرائيل، بدون علم الرئيس أمين الحافظ، لكن عند علم الرئيس أمين الحافظ بذلك، حدث الصراع بين القيادة القطرية والقيادة القومية، فحلت القيادة القطرية، وشكل الحكومة صلاح الدين البيطار في 22 ديسمبر 1966 وأخرج منها جميع الموالين للقيادة القطرية المنحلة، التي يؤيدها صلاح جديد وهم ( نور الدين الأتاسي، جميل شيا، فايز الجاسم )، لكن انقسام القيادة القومية على نفسها إلى كتل جعلت قراراتها غير مرنة، وهذه الكتل هي( ):
1- جماعة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.
2- جماعة أمين الحافظ العسكريين.
3- جماعة إبراهيم ماخوس المتواطيء مع صلاح جديد والقيادة القطرية المنحلة.
وفي 27 ديسمبر عين الرئيس أمين الحافظ ثلاثة في مجلس الرئاسة التي تشكل كبديل عن اللجنة العسكرية وهم شبلي العيسمي وأحمد الخطيب وعبدالفتاح البوشي، ثم أصدر وزير الدفاع محمد عمران، قراراً بتسريح عدداً من الضباط وهم سليم حاطوم، وعزت جديد، وأحمد سويداني، وإقصاء (30) عضواً بمن فيهم أعضاء القيادة القطرية المنحلة، وأصبح مجلس قيادة الثورة، ذو أكثر يمينية ثم صدر مرسوم بتسريح نسبة كبيرة من الضباط اليساريين وإبعادهم للخارج، ثم صدر مرسوم آخر في 21 فبراير 1966 بنفي كل من سليم حاطوم وعزت جديد وأحمد سويداني إلى خارج البلاد، لكن صلاح جديد رفض ذلك على أساس أنهم من مؤيديه، واتفق مع سليم حاطوم على تنفيذ انقلاب 23 فبراير 1966، فضربوا القصر الجمهوري بالمدافع وكان عدد القتلى والجرحى كبيراً، وبالتالي أصبحت القيادة القطرية المنحلة هي نفسها مجلس قيادة الثورة، وعين نورالدين الأتاسي رئيساً له، ورئيساً للجمهورية كما كلف يوسف زعين بتشكيل الحكومة، وأصبح كل من صلاح جديد وعبدالكريم الجندي، ويوسف زعين، وحافظ الأسد، أعضاء في مجلس قيادة الثورة، وأكد النظام الجديد على الإشتراكية العلمية كمنهج اقتصادي سياسي للنظام، كما أعلن الرئيس نور الدين الأتاسي عن حرب شاملة ضد إسرائيل، مما أدى لعمليات انتقامية من جانب إسرائيل( )، رغم أن مقررات الجامعة العربية عام 1964 دعت إلى تجنب أي عمليات عسكرية تجاه إسرائيل، حتى لا تعطى إسرائيل فرصة لشن هجمات انتقامية ضد الدول العربية، لكن نظام الأتاسي الذي يسيره صلاح جديد من وراء الستار، لم يقبل ذلك وصرح بتصريحات عدائية ودعم العمليات الفدائية ضد إسرائيل من خلال سوريا، وهذا ما تم من خلال تصريحات الرئيس نور الدين الأتاسي ورئيس الحكومة يوسف زعين، مثل التصريح الذي أدلى به الرئيس نور الدين الأتاسي قبل حرب يونيو 1967 وقال فيه: "سنطعم الأسطول السادس لأسماك المتوسط"( ) ويؤكد نائب الرئيس حسني الزعيم وهو بهيج كلاس ، أن هذه الاستراتيجية لصلاح جديد كانت بعد أن اتفق وكلاء صلاح جديد مع وكلاء إسرائيل على تسليم الجولان لإسرائيل( )، وبعد هزيمة النظام في حرب يونيو 1967 عاش النظام انهيار قوته العسكرية، وفر القسم الأكبر من الطبقة الحاكمة من دمشق ونقل احتياطي الذهب والعملات الصعبة، ومقر بعض الصحف إلى حلب، وتوزع المسؤولون في الحزب والدولة على بعض المدن السورية بذريعة تنظيم المقاومة الشعبية، وتعبئة الطاقات لحرب شعبية طويلة الأمد، مما أحدث فراغاً في السلطة وأجهزة الأمن( )، مما حذا بالرئيس نور الدين الأتاسي إلى القول عقب الهزيمة:" إن الهدف الأول للعدوان الاستعماري الصهيوني على الوطن العربي هو التصدي لمسيرة الثورة العربية، وإسقاط الأنظمة التقدمية"( ).
وعمل صلاح جديد من وراء الستارعلى جعل زكي الأرسوزي –وهو من نفس طائفته- الأب الروحي للحزب، رغم أنه يتسم بالإلحاد، ويستشهد أحياناً بالإنجيل، ويعيب على كل إنسان متأثر بالقرآن، ويرى الجاهلية مثله الأعلى ويسميها المرحلة العربية الذهبية، إضافة لتأثره بالفرق الباطنية ، وتفضيله الكلام بالفرنسية ووصفه لكل سياسيي وحكام سوريا بالخونة، باعتباره ذو نزعة هدامة للمجتمع( )، وكان قد ترك العمل السياسي منذ عام 1944، رغم أنه من لواء الإسكندرونة إلا أنه أصبح يتدخل في نسيج المجتمع السوري ليحدث شرخاً في المجتمع، فأخذ يشبه الأكراد بالجرذان، وبذلك خالف ميشيل عفلق الذي اعتبر الأكراد من أصول عربية وإن كل من سكن الوطن العربي فهو عربي ( )، رغم أن عفلق أعلن في 11 مارس 1970، أنه يؤيد الأكراد وضرورة إعادة الاعتبار لهم، ورغم تأييد العراق للبيان إلا أن النظام السوري ندد بالبيان، واعتبره لصالح إقامة إسرائيل ثانية على جزءاً من الأرض العربية، وبعد الانقلاب البعثي الثاني في العراق في 17 يوليو 1968، الذي كان من صنع الولايات المتحدة وبريطانيا، باعتبار أن قادة الانقلاب وهم أحمد حسن البكر وصدام حسين وحردان التكريتي كانوا على اتصال مع السفارة الأمريكية للإطاحة بنظام عبدالرحمن عارف، بسبب محاولته إقامة اتفاقيات نفطية مع فرنسا تحد من الامتيازات الأمريكية والبريطانية( ) وبعد ذلك أصبح النظامان السوري والعراقي على عداء تام، حيث أثبتت نظرية الضد النوعي في تجارب الهلال الخصيب، أنها أفضل الأسلحة لمنع الوحدة وإبعاد خطرها، بعد فشل القوى اليمينية والشيوعية في كل من سوريا والعراق لإعاقة الوحدة، بينما نجحت الحركات القومية، كالبعث والقوميون العرب، الذين تسكن في أعماقهم نظرية المؤامرة، وتواطؤ الآخرين المخالفين لهم ضدهم( )، وهذا ما أكده صلاح الدين البيطار عقب انقلاب صلاح جديد في فبراير 1923 بقوله: " لقد تأكد لنا أنه لم يعد هناك ثورة ولا ثورية، بل الجهالة والجاهلية التي تفهم الثورة على أنها قمع الشعب بالدبابات والمدافع والمخابرات والسجون والضرب والإرهاب والتعذيب"( ) ، كما أكد ذلك أيضاً علي صالح السعدي بعد طرده من الحزب في المؤتمر القومي السادس مع حمود الشوفي، بقوله: " لقد انتهى حزب البعث تاريخياً وموضوعياً "( ) ، إضافة إلى محاولات القيادة القطرية في عهد الرئيس أمين الحافظ التآمر على القيادة القومية، فعمل صلاح جديد على اجتذاب أمين الحافظ لصفهم مما حذا بالرئيس أمين الحافظ إلى الرد عليه قائلاً " أرفض أن أكون واجهة إلا للحزب "( ) ، وهذا يؤكد مقولة أن الحزب كان حزباً تآمرياً وأن قياداته كانت مصلحية وغير جديرة بحكم الشعب، وقد انقسم البعث السوري في ظل حكم نور الدين الأتاسي، إلى تيارين بعد هزيمة حرب 1967( )، فكان التيار الأول يميني ويمثله حافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع خلال هذه الفترة ، والتيار الثاني كان تيار صلاح جديد، اليساري الماركسي، مع استبدال كلمة البروليتاريا بكلمة القوميون، وحدث الصراع بين التيارين، فرأى الأسد ضرورة التقارب مع السعودية ومصر للحصول على الفوائد الاقتصادية والحماية العسكرية خارجياً، وتحويل السلطة إلى أمنية وعسكرية داخلياً، لكن كان رأي صلاح جديد ضرورة توسيع أجهزة الأمن مع إعداد جيش شعبي يعتمد على الفلاحين والعمال، لكن صلاح جديد رأى أن رأي حافظ الأسد سيؤدي لتصفية الحزب، وسيشكل ضرراً للجيش كما سيحرك الشعب ضدهم، وكان صلاح جديد قد ترك الجيش ليتفرغ للحزب، وهذا ما أدى لزيادة قوة الأسد أمام تيار جديد، أيضاً كان الأسد يرى ضرورة قبول قرار الأمم المتحدة رقم (242) ورفض الحرب الشعبية، وإقامة جبهة من الأحزاب المؤيدة للسلطة، والاعتراف بوجودها ولو نظرياً مع إقامة جبهة من الأحزاب الداعمة للسلطة والاعتراف بوجودها ، مع إقامة هيئة تمثيلية مثل مجلس شعب ، وانتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب من خلال الاستفتاء، وإصدار دستور للبلاد ، والتقارب مع الولايات المتحدة، وأولوية تسليح الجيش على التنمية الداخلية، وأولوية الجيش على الحزب باعتباره حامي للنظام ، بحيث يكون الحزب تابعاً للجيش باعتباره سر وجوده،لكن صلاح جديد رفض القرار 242، ورأى ضرورة معاداة الأنظمة الرجعية العربية بنظره أي الغير اشتراكية، وضرورة الحرب الشعبية، والموافقة على إقامة جبهة وطنية تقدمية بشرط رفض الأحزاب اليمينية أو البرجوازية أو الدينية باعتبارهم يمثلون الرجعية، وأولوية الحزب على الجيش على افتراض أن سبب هزيمة 1967 كان بسبب عزل الحزب عن الجيش والشعب، فرأى ضرورة قيادة الحزب للشعب وللجيش أي للدولة بشكل عام، وليس قيادة الجيش للدولة، وبذلك على حسب رأيه يبتعد النظام عن الديكتاتورية، وبسبب هذا الصراع قام حافظ الأسد بانقلابه الأول الذي أبعد فيه رئيس المكتب الثاني عبدالكريم الجندي، ومن ثم أبعد أحمد المير وكلاهما من جماعة صلاح جديد ومؤيديه، ثم تحالف الأسد مع غرف التجارة والصناعة التي أعلنت وقوفها إلى جانبه بعد أن وعدها بإدخالها في السلطة، كما وعد الشيوعيين بإشراكهم بالسلطة من خلال الجبهة الوطنية التقدمية التي سيقيمها، ووعد الناصريين بتوحيد مصر وسوريا، ووعد الإخوان المسلمين بتحسين علاقاته مع الدول الإسلامية ورجال الدين وإدخالهم في السلطة، ووعد السوفييت والأمريكان بأنه سيقبل بقرارات مجلس الأمن وخاصة القرار 242 وسينفذها بشكل كامل، وأنه سيلحق المقاومة الفلسطينية بالجيش السوري لكبح جماحها، كما وعد الشعب السوري والمؤسسات الديمقراطية بأنه سيعيد الحريات السياسية والاقتصادية، وسينهي الطائفية، وعلى هذا الأساس قوبل انقلابه في 16 نوفمبر 1970 بتأييد شعبي كبير، خاصة بعد أن اتجه للوحدة مع مصر وليبيا والسودان، وتقربه من الشيوعيين والإخوان المسلمين والبعثيين من مؤيدي القيادة القومية التي يتبعها الرئيس أمين الحافظ، وتقربه من الدول العربية اليمينية، وإنهائه لعزلة سوريا .......الخ، وتعيينه لأحد البعثيين وهو أحمد الخطيب رئيساً للجمهورية من خلال مجلس الشعب ( ) ، لكن هذا لا ينكر أن مقاليد السلطة كانت بيد رئيس الوزراء حافظ الأسد الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية وأصبح الشخصية الأولى والنهائية في تنفيذ القرار ، وهذا ما أكده وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد بقوله: " إن حافظ الأسد عندما يجتمع مع أعضاء حزب البعث يكون هو الشخصية المسيطرة ويكون القرار النهائي له" ( ).
7- الحزب التعاوني الاشتراكي :
أسسه فيصل العسلي عام 1948 ويهدف إلى الوحدة العربية والإسلامية من خلال تأسيس جيش قوي قادر على ذلك، مع إنشاء المزارع التعاونية، والاهتمام بالتصنيع لرفع المستوى المعاشي للشعب، وتأميم المرافق العامة بما يضمن الفائدة للمالك والدولة بصيانة حق المالك ومصادرة التملك غير المشروع، ومعظم برنامج الحزب مستمد من مبادئ وأهداف الحزب القومي السوري( ).
وقد كان لهذا الحزب دوراً في الحياة السياسية السورية، فقد وجه زعيم الحزب فيصل العسلي ، هجوماً لاذعاً في البرلمان على حسني الزعيم متهماً إياه بالفساد، ونظم حملة لتخفيض رواتب الجيش، مما حذا بحسني الزعيم بعد انقلابه إلى اعتقال فيصل العسلي في سجن المزة، حتى قيام سامي الحناوي بانقلابه، فأطلق سراحه، وقد أيد الحزب الوحدة مع العراق التي دعى إليها حزب الشعب، ونال بعض المقاعد في برلمان 1950، لكن بعد الانقلاب الثاني للشيشكلي 1951، قام باعتقال بعض السياسيين خاصة عام 1953، ومنهم فيصل العسلي، نتيجة معارضته لديكتاتورية الشيشكلي( )، وبعد سقوط الشيشكلي دعى الحزب إلى التقارب مع العراق، لكن أثار ذلك معارضة الحوراني للحزب الذي اتهمه بالفاشية، خاصة أن الحزب اكتسب تأييد الرئيس شكري القوتلي له، وقد نال في انتخابات 1954 مقعدين في البرلمان، أي ضعفي مقاعد الحزب الشيوعي، وهذا يدل على أنه كان ذو تأييد شعبي أكثر بكثير من الحزب الشيوعي، لكن حل الأحزاب بنتيجة الوحدة مع مصر في أعقاب انقلاب عفيف البرزي عام 1958، جعل أعضاء الحزب تتفرق عنه، بعد حله، حتى أنه بعد الانفصال على إثر انقلاب النحلاوي عام 1961، لم يحصل على مقاعد في البرلمان الجديد عام 1961 وانتهى بشكل نهائي في أعقاب قرار مجلس قيادة الثورة بقيادة الرئيس لؤي الأتاسي، بحل جميع الأحزاب السياسية، وبذلك انتهى الحزب وابتعد عن الساحة السياسية، عام 1963.
فتأثير هذا الحزب كان ضعيفاً في إثارة عدم الاستقرار السياسي في سوريا، باستثناء فترة ما قبل انقلاب حسني الزعيم.
8- حركة التحرير العربي:
أسسها الرئيس أديب الشيشكلي ليحكم من خلالها، متخذاً منها سنداً شعبياً لحكمه بعد أن حل جمع الأحزاب في 6 إبريل 1952 في سوريا، وقد نادت بوحدة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، مع احترام حق الملكة الفردية وحق الدولة في تأميم ما تريد عند الضرورة، وضرورة الإصلاح الزراعي من خلال التعاونيات الزراعية مع التعويض العادل، وإتباع استراتيجية الضرائب التصاعدية، وفيما يخص السياسة الخارجية رأت أن تكون المصلحة السورية فوق كل اعتبار مع العمل على تحرير الشعوب العربية، ونبذ كل أشكال الاستعمار، والعمل على تحقيق السلام في العالم( ) ، وقد قال عنها الرئيس أديب الششكلي : " إن حركة التحرير العربي ليست حزباً جديداً يضاف إلى قائمة الأحزاب القديمة ليشوش الأمة، ويجزأ قواها، إنه محاولة صادقة مخلصة لجميع العناصر الطيبة من جميع الأحزاب، والطبقات لصهرهم في قالب واحد قوي، قادر كلياً على استعادة ثقة الأمة، وإعطاء البلد صوتاً يصغى إليه ويحترم"( ) ، ويلاحظ أنها استمدت معظم أفكارها من أفكار الحزب القومي السوري كون أديب الشيشكلي كان عضواً في الحزب القومي السوري، وقد سيطرت على البرلمان الذي شكله الشيشكلي فكانت أغلبية المقاعد من نصيبها بينما لم يمنح الحزب القومي السوري سوى مقعداً واحداً، لكن رغم ذلك ظل الشيشكلي موالياً للحزب القومي السوري، وكان أحد قادة الحزب وهو عصام المحايري من مرافقي الشيشكلي، وقد وعده بأن يجعل من سوريا بروسيا العرب وقلعتهم الفولاذية، التي ستنطلق منها شعلة الحرية لكل أنحاء الوطن العربي، وقد حدثت صدامات بينها وبين حزب البعث الذي أخذ يضرب مكاتبه بالقنابل والمفرقعات إبان حكم الشيشكلي، كما حدثت اشتباكات عديدة بين جماعة الحوراني وأعضاء من حركة التحرير، خلال هذه الفترة، لكن بعد سقوط حكم الشيشكلي عام 1954، سقطت معه هذه الحركة.
وسادت أعضاء هذه الجماعة الكثير من الاضطرابات، بعد الانقسامات التي حدثت في صفوف حكومة صبري العسلي عام 1954، حيث طالبتهم الحكومة برد الرواتب التي تقاضوها خلال فترة حكم الشيشكلي، مما حذا بهؤلاء الأعضاء على تشكيل حركة التحرير مرة أخرى، والضغط على الحكومة، مما كان لذلك أثراً على سقوط الحكومة في يوليو 1954، وبعد ذلك نشأت صدامات بين أعضاء حركة التحرير وأعضاء حزب البعث ( ) في معرة النعمان عام 1954، بنتيجة إثارة حزب البعث للاضطرابات بين عمال النسيج، وقد اعتقل على إثر ذلك 35 شخصاً من الطرفين ، وبعد سقوط الحكم الديمقراطي عقب انقلاب عفيف البرزي عام 1958 حلت حركة التحرير مع باقي الأحزاب، ولم ترجع بعد سقوط حكم الوحدة عام 1961، وبذلك انتهى دورها على الساحة السياسية قبل غيرها( ).
كانت تلك هي الأحزاب الرئيسية التي كان لها تأثيرها على عدم الاستقرار السياسي خلا مدة الدراسة، لكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك أحزاب غيرها بل كانت هناك بعض الأحزاب الصغيرة التي لم يكن لها أي دور في المسرح السياسي، أو كانت أحزاباً مرحلية نشأت وفق ظروف معينة وانتهت بانتهاء هذه الظروف.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق